x
هدف البحث
بحث في العناوين
بحث في اسماء الكتب
بحث في اسماء المؤلفين
اختر القسم
موافق
الأدب
الشعر
العصر الجاهلي
العصر الاسلامي
العصر العباسي
العصر الاندلسي
العصور المتأخرة
العصر الحديث
النثر
النقد
النقد الحديث
النقد القديم
البلاغة
المعاني
البيان
البديع
العروض
تراجم الادباء و الشعراء و الكتاب
عبد الله فكري
المؤلف: عمر الدسوقي
المصدر: نشأة النثر الحديث و تطوره
الجزء والصفحة: ص: 99-103
4-8-2018
2010
ولعل شيخ الكتّاب في هذا الباب-أدب الرسائل- وصاحب الأثر المشهور فيه هو عبد الله فكري، إذ كان ديوانيًا بالنشأة والمربى، وعلى يديه نقل الديوان في مصر من التركية إلى العربية، وقد سن للكتاب طريقة الكتابة التي تصدر عن مختلف فروع الديوان، ومن حسن الحظ أنه كان أديبا بالطبع وله ذوق شاعر، ولذا قاد مدرسة ابن العميد، ولم يلجأ إلى تقليد العصور المتأخرة، فأتت رسائله قصيرة الفواصل، عليها طلاوة شعرية، وفيها سجع مقبول، محلاة ببعض الخيال والبديع.
ومن النماذج التي وضعها لكتاب الديوان قوله في رسالة، وجهها إليهم حتى في السودان: "صدر هذا الفرمان المطاع الواجب له القبول والاتباع، خطابا إلى الحاكم والعلماء والقضاة والأعيان، والوجوه والعمد ومشايخ البلدان، وعموم الأهالي المتوطنين في محافظة كذا بجهات السودان: ليكن معلومًا لديكم بوصول هذا المنشور إليكم، أنه قد اقتضت إرادتنا تنصيب فلان محافظًا عليكم، لما توسمنا فيه من الدراية والاستعداد، والسلوك في طريق الرشاد، وبذل الهمة في أمور المصلحة، ومزيد الاجتهاد".
وقد أفاد هذا الأسلوب كتاب الديوان من بعده، وصار لهم قدوة، ولكنه آخر تخلص النثر من طريقة هذه المدرسة الديوانية حتى أوائل عصرنا الحاضر؛ لأن أرباب هذا الأسلوب شغلوا المناصب الرفيعة، فظن الشادون في الأدب أنهم لو قادوهم لوصلوا إلى ما وصلوا إليه، فتمسكوا بأسلوبهم هذا أمد غير يسير، لقد استطاع عبد الله فكري أن يسترد بأسلوبه الديواني هذا للغة العربية مكانتها في المراسلات الديوانية، تلك المكانة التي فقدتها عدة قرون, وأن يزيح التركية من طريقها.
أما رسائله الإخوانية فقد بلغت حدًا كبيرًا من الجودة، وتذكرنا فعلًا بأسلوب مدرسة ابن العميد، والصاحب بن عباد والخوارزمي والصولي، من ذلك قوله معزيًا:
"يعز على أن أكاتب سيدي معزيًا، أو آلم به في ملمة مسليًا، ولكنه أمر الله الذي لا يقابل بغير التسليم، وقضاؤه الذي ليس له عدة سوى الصبر الكريم، وقد علم مولاي "أجمل الله صبره، ولا أراه من بعده إلا ما سره، وشرح صدره"، أن الله -جل ثناؤه وتباركت آلاؤه- إذا امتحن عبده فصبر آجره وعوضه بكرمه، كما أنه إذا أنعم عليه فشكره زاده وضاعف له نعمه، وقد عرف من حال سيدي في الشكر على السراء، ما يستوجب المزيد منها، والظن بحزمه وعلمه أن يكون حاله في الصبر على الضراء ما يستجلب الأجر والتعويض عنها!!.
ونلاحظ ما تخلل هذه الرسائل من الجمل الاعتراضية، والدعائية كما كان يفعل أرباب الرسائل في مدرسة ابن العميد، وإن كان أحيانًا يقلد بعض كتاب الدولة الأيوبية كالقاضي الفاضل، فتطول جمله قليلًا، ولكن الأعم الأغلب في رسائله طريقة ابن العميد، وقد يضمن الرسالة بعض الوصف الفني كقوله يصف حديقة: "ثم خرجت إلى حجرات خالية، أعدت فيها فرش عالية، وأدوات غالية، وسطعت بها روائح الطيب، والغالية، وقد أكملت وجود تحسينها، وأتمت أسباب تزيينها، وهي على حديقة ذات أفنان، وأنواع من الزهور وألوان، وثمرات حسان وقد فاح الطيب من محاجر أزهارها، وصالح الخطيب العندليب على منابر أشجارها.
رياض كديباج الخدود نواضر ... وماء كسلسال الرضاب برود
فجعلت أجيل فيها النظر، وأتأمل محاسن الروض غب المطر، وأطالع ما رقمه الطل في صحائف الغدران، وأرى خواتم الزهر حين تسقط من أنامل الأغصان.
من قبل أن ترشف شمس الضحى ... ريق الغواني من ثغور الأقاح
ويذكرنا هذا الوصف ببعض كتابات ابن زيدون، ولسان الدين بن الخطيب، ومن رسائله الوصفية قوله وهو بالاستانة يصف يومًا اشتد برده وغزر مطره، وكثف ضبابه، واسود إهابه فقال:
"كتبت إليك والأمطار ساجمة بطلبها ووبلها، وعساكر البرد والبرد هاجمة بخيلها ورجلها، والسماء متلفعة بأذيال السحاب، وكأن الشمس خافت من الطل فتوارت بالحجاب، والجو مسكي الرداء، عنبري الأرجاء، وكأنه وعليه ثوب الغيم مزرور، وقد وجل من صولة البرد فلبس فروة السمور، وأناخ الغمام على الأفق بكلاكله، وهز من البقر بيض مناصله، ونشر في الجو طرائق مطارفه، وجاد على الأرض بتليده وطارفه، وثقل على كاهل الهواء كالطير بل جناحه بالماء، وقرب حتى كاد يمسك باليدين ويعتصر بالراحتين، أو كأنه مرآة مذهبة تبدو وتخفى، أو جذوة ملتهبة توقد وتطفى، والرعد يهدر بزواجر زماجره السحائب فيبكيها، والطير يتلو سطور الندى في طروس الثرى فيمليها ... ".
ونلحظ على هذه القطعة أنه يتعمد ألوانًا خاصة من البديع كالطباق في ظلها وويلها، وخيلها ورجلها، وتليده وطارفه، والجناس غير التام في عساكر البرد والبرد هاجمة، إلخ، ويكثر من الاستعارات تأتي قوية أحيانًا، ومتكلفة أحيانًا، وتطور السجعات آونة حتى تأتي الكلمة المكملة المسجعة كقوله: "كأنه وعليه ثوب الغيم مزرور، وقد وجل من صولة البرد، فلبس فروة السمور"، ويعمد إلى الصورة القديمة الموروثة فالغمام ينيخ بكلاكله، والبرق يهز بيض مناصله، أما قربه حتى كاد يمسك باليدين فقديمًا قال عبيد بن الأبرص في وصف الغمام:
دان مسف فويق الأرض هيدبه ... يكاد يمسكه من قام بالراح
وأما أن البرق قد نشر طرائق طرائفه في الجو، فهو مأخوذ كذلك من قول عبيد في نفس القصيدة:
كأن ما بين أعلاه وأسفله ... ربط منشرة أو ضوء مصباح
وإن دل هذا النثر على شيء، فهو يدل على أنه قد حل محل الشعر في الوصف، وكثرة الأخيلة وضروب المجازات، وأن صاحبه واسع الاطلاع على الأدب القديم، قدير على إيراد السجعات، ومختلف ألوان البديع والاستعارات، وذلك لا ريب مقبول في النثر الأدبي كهذه الرسالة ما لم يأت متكلفًا، على أن عبد الله فكري يكون في أحسن حالاته حين يتوخى الفقرات القصيرة الفواصل، فنشعر أن سجعه طبيعي وأن له رنة مستساغة في الآذان كقوله من رسالة يرد بها على صديق: "سيدي سلمك الله وحياك، وأسعدني برؤية محياك، وزاد عزك وعلياك، وحرص دينك ودنياك، وجمعني على بساط المسرة وإياك، ولا حرمني دوام لقياك، ولا برح الدهر مبتسم الثغر بمحاسن معاليك، ومباهيا اعصار الأوائل بأيامك ولياليك، محليًا أجياد المفاخر بزواهر لآليك - ورد على كتابك الكريم، مورد الإعزاز والتكريم ... إلخ".
وما من أديب أو مستأدب في هذه الفترة حتى أخريات القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين إلا واهتم بكتابة الرسائل، يظهر فيه أدبه ويشهر براعته، وإذا كانت المقالة قد اتخذت طابعًا آخر، وجنحت إلى الأسلوب المرسل غالبًا، فقد ظلت الرسائل موضع احتفاء الكتاب، وتأنقهم وكان شيخهم في ذلك جميعًا عبد الله فكري، وقد وضع النموذج لهم بمحاكاته لكتاب القرنين الثالث، والرابع فنسجوا على منواله في مختلف رسائلهم، وها هو ذا الشيخ محمد عبده يسجل له الشيخ رشيد رضا أكثر من أربعين رسالة، ولنكتف منها بقوله من رسالة للشيخ إبراهيم اليازجي.
"وصل كتابك يحمل من العذر مقبوله، ويرتاد من الرضا مبذوله، ولقد كنت تعلم أني ما أردتك إلا لنفسك، فالحمد لله إذ أرجعك إليها، وله الشكر على ما عطفك عليها، وما أنا بالمقصر بك عما سألت، ولا الذاهب بك إلى خلاف ما طلبت، وغاية قولي لا تثريب عليك اليوم يغفر الله لك، وهو أرحم الراحمين، حياتنا شح روحها المحبة، والمحبة شبح الإخلاص، فما أسعد وقتًا ترى فيه حياتك منتعشة بروحها زاهرة بسر الإخلاص فيها، وليس بذاهب عنك أنك كما تكون يكون الناس لك، وأسأل الله أن ينفي عنك خواطر السوء، ويزيح عن روحك الطيبة وساوس الغرور، ويمن علي برؤيتك عند الغاية التي أحب لك، وسلامي عليك وحدك من بين أهلك، ولتكن مواصلتك دائمة السلام".
ونلاحظ على هذا الكتاب أنه بقلم رجل الدين المتأدب، فيه شيء من غلبة الفكرة على العاطفة، وفيه استشهاد بالقرآن، والحكمة، وفيه طبع رجل الدين الذي يؤثر الموعظة والهداية، وهذه ظاهرة نلمسها في معظم رسائله، وقد مرت بنا إحداهما من قبل حين كان سجينًا في أعقاب الثورة العرابية.
ومن رسائله التي يجدر أن ننوه بها لاتصالها بما نحن فيه تلك الرسالة، التي أرسلها إلى الشاعر حافظ إبراهيم حين أهداه ترجمته للجزء الأول من كتاب "البؤساء"، وقد كتب إليه حافظ يقول:
"إنك موئل البائس، ومرجع البائس، وهذا الكتاب - أيدك الله- قد ألم بعيش البائسين، وحياة البائسين وضعه صاحبه تذكرة لولاة الأمور، وسماه كتاب البؤساء، وجعله بيتًا لهذه الكلمة الجامعة، وتلك الحكمة البالغة "الرحمة فوق العدل".
وقد عنيت بتعريبه لما بين عيشي، وعيش أولئك البؤساء من صلة النسب، وتصرفت فيه بعض التصرف، واختصرت بعض الاختصار، ورأيت أن أرفعه إلى مقامك الأسنى، ورأيك الأعلى، لأجمع في ذلك بين خلال ثلاث: أولها التيمن باسمك، والتشرف بالانتماء إليك، وثانيها ارتياح النفس وسرور اليراع برفع ذلك الكتاب إلى الرجل الذي يعرف مهر الكلام، ومقدار كد الأفهام، وثالثها امتداد الصلة بين الحكمة الغربية، والحكمة الشرقية بإهداء ما وضعه حكيم المغرب إلى حكيم المشرق، فليتقدم سيدي إلى فتاة بقبوله، والله المسئول أن يحفظه للدنيا والدين، وأن يساعدني على إتمام تعريبه للقارئين.