أقرأ أيضاً
التاريخ: 9-9-2018
1772
التاريخ: 26-6-2019
1666
التاريخ: 17-6-2021
3350
التاريخ: 18-7-2019
1510
|
قال ابن مسعود: لما دنا فراق رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)جمعنا في بيت فنظر إلينا فدمعت عيناه ثم قال (صلى الله عليه وآله): مرحباً بكم، حياكم اللّه، حفظكم اللّه، نصركم اللّه، نفعكم اللّه، هداكم اللّه، وفّقكم اللّه، سلمكم اللّه، قبلكم اللّه، رزقكم اللّه، رفعكم اللّه، اُوصيكم بتقوى اللّه، واُوصي اللّه بكم(1)، اني لكم نذير مبين أن لا تعلوا على اللّه في عباده وبلاده، فإن اللّه تعالى قال لي ولكم: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83] (2). وقال سبحانه: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} [العنكبوت: 68] (3).
قلنا: متى يا رسول اللّه أجلك؟
قال (صلى الله عليه وآله): دنا الأجل والمنقلب إلى اللّه وإلى سدرة المنتهى، وجنّة المأوى والعرش الأعلى، والكأس الأوفى، والعيش الأهنأ.
قلنا: فمن يغسّلك؟ قال (صلى الله عليه وآله): أخي.
من كلمات الوداع:
قال علي (عليه السلام): بينما نحن عند النبي (صلى الله عليه وآله)وهو يجود بنفسه وهو مسجّى بثوب وملاءة خفيفة على وجهه، فمكث ما شاء اللّه أن يمكث ونحن حوله بين باكٍ ومسترجع إذ تكلّم (صلى الله عليه وآله)وقال: (ابيضّت وجوه، واسودّت وجوه، وسعد أقوام، وشقي آخرون، أصحاب الكساء الخمسة أنا سيّدهم ولا فخر، عترتي أهل بيتي السابقون المقرّبون، يسعد من اتّبعهم وشايعهم على ديني ودين آبائي، أنجزتَ مواعيدك يا رب إلى يوم القيامة في أهل بيتي).
الأولى حتى من جبرئيل:
وعن علي (عليه السلام) انه قال: دخلت على رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)في شكاته فإذا رأسه في حجر رجل أحسن ما رأيت من الخلق، والنبي (صلى الله عليه وآله)نائم، فلما دخلت التفت إليّ ذلك الرجل وقال لي: ادن إلى ابن عمك فأنت أحقّ به منّي، فدنوتُ منهما، فقام الرجل وجلست مكانه ووضعتُ رأس النبي (صلى الله عليه وآله)في حجري كما كان في حجر الرجل، فمكث ساعة، ثم استيقظ النبي (صلى الله عليه وآله)فقال: يا علي أين الرجل الذي كان رأسي في حجره؟
قلت: يا رسول اللّه إنّي لما دخلت دعاني إليك ثم قال: ادن إلى ابن عمك فأنت أحقّ به منّي، ثم قام فجلستُ مكانه.
فقال النبي (صلى الله عليه وآله): فهل تدري من الرجل؟ ذاك جبرئيل كان يحدّثني حتى خفّ عني وجعي، ونمت ورأسي في حجره.
قال عمار: لما حضر رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)أمر اللّه دعا بعلي (عليه السلام) فسارّه طويلاً ثم قال له: يا علي أنت وصيّي ووارثي، قد أعطاك اللّه علمي وفهمي، فإذا متّ ظهرت لك ضغائن في صدور قوم، وغصبت على حقك.
فبكت فاطمة (عليها السلام) وبكى الحسن والحسين (عليهما السلام).
فقال (صلى الله عليه وآله)لفاطمة: يا سيّدة النسوان ممّ بكاؤك؟
قالت (عليه السلام) : يا أبة أخشى الضيعة بعدك.
فقال (صلى الله عليه وآله): أبشري يا فاطمة فإنك أول من يلحقني من أهل بيتي، لا تبكي ولا تحزني، فإنّك سيدة نساء أهل الجنّة، وأباك سيد الأنبياء، وابن عمك سيد الأوصياء، وابناك سيدا شباب أهل الجنّة، ومن صلب الحسين (عليه السلام) يخرج اللّه الأئمّة التسعة مطهّرون معصومون، ومنك مهدي هذه الاُمّة.
جبرئيل وكتاب الوصيّة:
قال علي (عليه السلام): دعاني رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)عند ارتحاله من هذه الدنيا وأخرج من كان عنده في البيت غيري، والبيت فيه جبرئيل والملائكة معه، فأخذ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)كتاب الوصية من يد جبرئيل مختومة، فدفعها إليّ وأمرني أن أفضّها، ففعلت، وأمرني أن أقرأها فقرأتها، فإذا فيها كل ما كان رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)يوصيني به شيئاً شيئاً ما تغادر حرفاً.
قال موسى بن جعفر (عليه السلام): قلت لأبي عبداللّه (عليه السلام): أليس كان أمير المؤمنين(عليه السلام) كاتب الوصية ورسول اللّه (صلى الله عليه وآله) المملي عليه وجبرئيل والملائكة المقرّبون شهود؟
فقال (عليه السلام): قد كان ما قلت، ولكن حين نزل برسول اللّه (صلى الله عليه وآله)الأمر نزلت الوصية من عند اللّه كتاباً مسجّلاً، نزل به جبرئيل مع اُمناء اللّه تبارك وتعالى من الملائكة، فقال جبرئيل: يا محمد مر بإخراج من عندك إلاّ وصيّك ليقبضها منا، وتشهدنا بدفعك إياها إليه.
ففعل رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)ذلك وأشهدهم عليه وقال: يا علي تفي بما فيها مِن موالاة مَن والى اللّه ورسوله، والعداوة لمن عادى اللّه ورسوله والبراءة منهم، على الصبر منك، وعلى كظم الغيظ، وعلى ذهاب حقّك، وغصب خمسك، وانتهاك حرمتك.
فقال: نعم يا رسول اللّه.
فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة لقد سمعت جبرئيل يقول للنبي (صلى الله عليه وآله): يا محمد عرّفه انه ينتهك الحرمة وهي حرمة اللّه وحرمة رسول اللّه (صلى الله عليه وآله).
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): فصعقت حين فهمت الكلمة من الأمين جبرئيل حتى سقطت على وجهي وقلت: نعم قبلت ورضيت وإن انتهكت الحرمة.
ثم دعا رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)فاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) وأعلمهم مثل ما أعلم أمير المؤمنين (عليه السلام) فقالوا مثل قوله، فختمت الوصية ودفعت إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) وخرج جبرئيل والملائكة معه إلى السماء.
ثم عرض على رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)ضعف شديد، فلما أفاق دخلت عليه النساء يبكين وارتفعت الأصوات وضجّ الناس بالباب من المهاجرين والأنصار.
وديعة اللّه ووديعة رسوله:
قال موسى بن جعفر (عليه السلام): فقلت لأبي (عليه السلام): فما كان بعد خروج الملائكة عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) ؟
فقال (عليه السلام): ثم دعا (صلى الله عليه وآله)علياً وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) وقال لمن في بيته: اخرجوا عني، وقال لاُم سلمة: كوني على الباب فلا يقربه أحد، ثم التفت إلى علي (عليه السلام) وقال له: يا علي ادن مني، فدنا منه، فأخذ بيد فاطمة (عليها السلام) فوضعها على صدره طويلاً، وأخذ بيد علي (عليه السلام) بيده الاُخرى، فلما أراد رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)الكلام غلبته العبرة فلم يقدر على الكلام.
فبكت فاطمة (عليها السلام) بكاءاً شديداً وأكبّت على وجهه تقبّله، وبكى علي والحسن والحسين (عليهم السلام) لبكاء رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)ثم أكبّوا على وجهه.
فرفع رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)رأسه إليهم ويدها في يده، فوضعها في يد علي (عليه السلام) وقال له: يا أبا الحسن هذه وديعة اللّه ووديعة رسوله محمد عندك فاحفظ اللّه واحفظني فيها، وانك لفاعل هذا يا علي، هذه واللّه سيّدة نساء أهل الجنّة من الأوّلين والآخرين، هذه واللّه مريم الكبرى، أما واللّه ما بلغت نفسي هذا الموضع حتى سألت اللّه لها ولكم، فأعطاني ما سألته، يا علي أنفذ لما أمرتك به فاطمة، فقد أمرتها بأشياء أمر بها جبرئيل، وأمرتها أن تلقيها إليك، فأنفذها، فهي الصادقة الصدوقة، واعلم يا علي اني راضٍ عمّن رضيَت عنه ابنتي فاطمة، وكذلك ربي وملائكته، يا علي ويل لمن ظلمها، وويل لمن ابتزّها حقها، وويل لمن هتك حرمتها، وويل لمن أحرق بابها، وويل لمن آذى حليلها، وويل لمن شاقّها وبارزها، اللّهم اني منهم بريء، وهم مني براء، ثم سماهم رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)وضمّ فاطمة إليه وعلياً والحسن والحسين (عليهم السلام) الحديث.
الإقرار بقبول الوصيّة:
قال أبو عبداللّه الصادق (عليه السلام): ثم انّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)قال لعلي (عليه السلام) بعد أن دفع إليه الوصية وأشهد على ذلك جبرئيل ومن معه من الملائكة: يا علي أضمنت دَيْني تقضيه عنّي؟
قال (عليه السلام): نعم، الحديث.
حنوط من الجنة:
قال علي (عليه السلام): ثم انه كان في الوصية أن يدفع إليَّ الحنوط، فدعاني رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)قبل ارتحاله عن الدنيا بقليل وقال: يا علي ويا فاطمة هذا حنوطي من الجنة، وكان وزنه أربعين درهماً، قد دفعه إليَّ جبرئيل، وهو يقرئكما السلام ويقول لكما: اقسماه وأعزلا منه لي ولكما.
قالت فاطمة (عليه السلام): لك يا أبه ثلثه، وليكن الناظر في الباقي علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فبكى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)وضمّها إليه وقال: موفقة رشيدة، مهدية ملهمة، يا علي قل في الباقي.
قال (عليه السلام): نصف ما بقي لها، ونصف لمن ترى يا رسول اللّه.
قال (صلى الله عليه وآله): هو لك فاقبضه
النبي (صلى الله عليه وآله)يستدعي أخاه:
ولما ثقل رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)وحجب الناس عنه كان أمير المؤمنين (عليه السلام) لا يفارقه إلا لضرورة، فقام (عليه السلام) في بعض شؤونه، فأفاق رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)إفاقة فافتقد علياً (عليه السلام) فقال وأزواجه حوله: (ادعوا لي أخي وصاحبي) وعاوده الضعف فصمت.
فدُعي له غير علي (عليه السلام)، فلما فتح (صلى الله عليه وآله)عينه ونظر إليه أعرض عنه بوجهه.
فقالت اُمّ سلمة: اُدعوا له علياً (عليه السلام)، فإنه لا يريد غيره.
فدعي أمير المؤمنين (عليه السلام) فلما دنا منه أومأ (صلى الله عليه وآله)إليه، فأكبّ عليه فناجاه رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)طويلاً، ثم قام فجلس ناحية، فقال له الناس بعد ذلك: ما الذي أوعز إليك يا أبا الحسن؟
فقال (عليه السلام): علّمني ألف باب من العلم، يفتح لي في كل باب ألف باب، وأوصاني بما أنا قائم به إن شاء اللّه تعالى.
وفي رواية انه قال (عليه السلام): علّمني رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)ألف باب من الحلال والحرام، وما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة، كل باب منها يفتح ألف باب، فذلك ألف ألف باب، حتى علمت علم المنايا والبلايا وفصل الخطاب.
وفي رواية في المستدرك: ألف ألف باب يفتح لي من كلّ باب ألف باب.
بين الحبيب وحبيبه:
ثم انّ اُم سلمة استأذنت على رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)فقال لها: ادعي لي حبيبتي وقرّة عيني وثمرة فؤادي فاطمة المظلومة بعدي، فدعتها، فأقبلت وهي تبكي، فاعتنقها رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)وضمها إلى صدره، فناجاها فرفعت رأسها وعيناها تهملان دموعاً، ثم ناجاها وأسرّ إليها شيئاً تهلّل وجهها له، ولما سئلت بعد ذلك عن بكائها وعن تهلّل وجهها؟
قالت (عليه السلام) : نعى إليّ نفسه فبكيت، ثم أخبرني بأني أول أهل بيته لحوقاً به، وانه لن تطول المدّة لي بعده حتى أدركه، وأخبرني أني سيدة نساء أهل الجنّة، وابناي سيدا شباب أهل الجنة وان الأئمة الإثني عشر خلفاؤه هم بعلي ووُلدي: علي (عليه السلام) أبوهم وأولهم، والمهدي ابني آخرهم، فتهلّل وجهي لذلك.
ثم انه (صلى الله عليه وآله)دعا الحسن والحسين وقبّلهما وشمّهما وجعل يترشفهما وعيناه تهملان وأخبر (صلى الله عليه وآله)بأنهما سيُظلمان بعده ويقتلان ظلماً، ولعن قاتلهما.
قال ابن عباس: ثم قالت فاطمة (عليها السلام) للنبي (صلى الله عليه وآله)وهو في لحظاته الأخيرة: يا أبة أنا لا أصبر عنك ساعة من الدنيا، فأين الميعاد غداً؟
قال (صلى الله عليه وآله): أما انك أول أهلي لحوقاً بي ـ وكان كذلك فقد لحقت بأبيها بعد خمسة وسبعين يوماً مظلومة شهيدة(4) ـ والميعاد على جسر جهنّم.
قالت (عليها السلام) : يا أبة أليس قد حرّم اللّه عزّوجل جسمك ولحمك على النار؟
قال (صلى الله عليه وآله): بلى، ولكني قائم حتى تجوز اُمتي.
قالت (عليها السلام): فإن لم أرك هناك ؟
قال (صلى الله عليه وآله): تريني عند القنطرة السابعة من قناطر جهنّم، أستوهب الظالم من المظلوم.
قالت (عليها السلام): فإن لم أرك هناك؟
قال (صلى الله عليه وآله): تريني في مقام الشفاعة وأنا أشفع لاُمّتي.
قالت (عليها السلام): فإن لم أرك هناك؟
قال (صلى الله عليه وآله): تريني عند الميزان وأنا أسأل لاُمتي الخلاص من النار.
قالت: فإن لم أرك هناك؟
قال (صلى الله عليه وآله): تريني عند الحوض، حوضي عرضه ما بين ايله إلى صنعاء، على حوضي ألف غلام(5) بألف كأس كاللؤلؤ المنظوم، وكالبيض المكنون، من تناول منه شربة فشربها لم يظمأ بعدها أبداً، وجعل يكرّرها.
النبي (صلى الله عليه وآله)حياً وميتاً:
ثم ان رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)ثقل وهو (صلى الله عليه وآله)في بيت فاطمة (عليها السلام) فأشار إلى علي (عليه السلام) فدنا منه، فقال له وهو في لحظاته الأخيرة: (ضع يا علي رأسي في حجرك، فقد جاء أمر اللّه تعالى، فإذا فاضت نفسي فتناولها بيدك وامسح بها وجهك، ثمّ وجّهني إلى القبلة وتولّ أمري، فاستق لي ست قرب من ماء بئر غرس، فغسّلني وكفّني وحنّطني، فإذا فرغت فخذ بمجامع كفني واجلسني ثم سلني عما شئت، فو اللّه لا تسألني عن شيء إلا أجبتك، وصلِّ عليّ أول الناس، ولا تفارقني حتى تواريني في رمسي، يا علي ادفنّي في هذا المكان فإنّ بيتي قبري، وارفع قبري من الأرض أربع أصابع، وفي رواية: قدر شبر وأربع أصابع، وفي رواية: واجعل حول قبري حائطاً، ورش عليه من الماء واستعن باللّه تعالى).
فأخذ علي (عليه السلام) رأس رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)فوضعه في حجره وقد انقطع عن الكلام لما نزل به، فأكبت فاطمة (عليها السلام) تنظر في وجهه وتندبه وتبكي وتقول:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه *** ثمال اليتامى عصمة للأرامل
ففتح رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)عينه وقال بصوت ضئيل: يا بنية هذا قول عمك أبي طالب، لا تقوليه، ولكن قولي: { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران: 144] (6).
على مشارف الآخرة:
ولما كان صباح يوم الاثنين لليلتين بقيتا من شهر صفر سنة إحدى عشرة من الهجرة النبوية المباركة استأذن على رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)ملك الموت، وهو (صلى الله عليه وآله) في بيت فاطمة (عليها السلام) وعمر رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)إذ ذاك ثلاث وستّون سنة.
قال ابن عباس: فلما طرق الباب قالت فاطمة (عليه السلام): من ذا؟
قال: أنا غريب أتيت رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)فهل تأذنون لي في الدخول عليه؟
فأجابت: امضِ رحمك اللّه لحاجتك، فرسول اللّه (صلى الله عليه وآله)عنك مشغول.
فمضى ثم رجع فدقّ الباب وقال: غريب يستأذن على رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)فهل تأذنون للغرباء؟
فأفاق رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)وقال: يا فاطمة ان هذا مفرق الجماعات، ومنغّص اللذّات، هذا ملك الموت، ما استأذن واللّه على أحد قبلي، ولا يستأذن على أحد بعدي، استأذن عليَّ لكرامتي على اللّه، ائذني له.
فقالت (عليه السلام) : اُدخل رحمك اللّه، فلما اُذن له دخل كريح هفّافة وقال: السلام عليك يا رسول اللّه وعلى أهل بيتك.
قال (صلى الله عليه وآله): وعليك السلام يا ملك الموت.
فقال: انّ ربك أرسلني إليك وهو يقرؤك السلام ويخيّرك بين لقائه والرجوع إلى الدنيا.
فاستمهله (صلى الله عليه وآله)حتى ينزل جبرئيل ويستشيره، فخرج ملك الموت من عنده وجاء جبرئيل فقال: السلام عليك يا أبا القاسم.
قال (صلى الله عليه وآله): وعليك السلام يا حبيبي جبرائيل.
فقال: يا رسول اللّه انّ ربك إليك مشتاق، وما استأذن ملك الموت على أحد قبلك، ولا يستأذن على أحد بعدك.
قال (صلى الله عليه وآله): يا حبيبي جبرئيل ان ملك الموت قد خيّرني عن ربّي بين لقائه وبين الرجوع إلى الدنيا، فما الذي ترى؟
فقال: يا رسول اللّه {لَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 4، 5] (7).
قال (صلى الله عليه وآله): نعم، لقاء ربي خير لي، لا تبرح يا حبيبي جبرئيل حتى ينزل ملك الموت، فنزل ملك الموت فقال له رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): امضِ لما اُمرت له.
وفي رواية: قال جبرئيل: يا رسول اللّه أتريد الرجوع إلى الدنيا؟
قال (صلى الله عليه وآله): لا، وقد بلّغت.
ثم قال ثانية: يا رسول اللّه أتريد الرجوع إلى الدنيا؟
قال (صلى الله عليه وآله): لا، الرفيق الأعلى.
فقال جبرائيل: يا رسول اللّه هذا آخر يوم أهبط فيه إلى الأرض(8) انما كنت حاجتي من الدنيا.
فقال له رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): يا حبيبي جبرئيل ادن مني، فدنا منه، فكان جبرئيل عن يمينه، وميكائيل عن شماله، وملك الموت قابضاً لروحه (صلى الله عليه وآله).
ثم مدّ (صلى الله عليه وآله)يده إلى علي (عليه السلام) فجذبه إليه وهو يقول: ادن مني يا أخي فقد جاء أمر اللّه، فدنا (عليه السلام) منه حتى أدخله تحت ثوبه الذي كان عليه، ووضع فاه في اُذنه وجعل يناجيه طويلاً حتى فارقت روحه الدنيا، صلوات اللّه عليه وآله، ويد أمير المؤمنين (عليه السلام) اليمنى تحت حنكه، ففاضت نفسه فيها، فرفعها (عليه السلام) إلى وجهه فمسحه بها.
ثم انسل علي (عليه السلام) من تحت ثيابه، وقال: أعظم اللّه اُجوركم في نبيّكم، فقد قبضه اللّه إليه ثم مدّ عليه ازاره، وقال: إنّا للّه وإنّا إليه راجعون، يا لها من مصيبة خصت الأقربين وعمت المؤمنين، لما يصابوا بمثلها قط، ولا عاينوا مثلها.
فارتفعت عندها الأصوات بالضجّة والبكاء. فصاحت فاطمة (عليها السلام) وصاح المسلمون، وصاروا يضعون التراب على رؤوسهم، وفاطمة (عليها السلام) تقول: يا أبتاه إلى جبرئيل ننعاه، يا أبتاه من ربّه ما أدناه، يا أبتاه جنان الفردوس مأواه، يا أبتاه أجاب ربّاً دعاه، واجتمعت نسوة بني هاشم وجعلن يذكرن النبي (صلى الله عليه وآله). وقالت اُم سلمة: وضعت يدي على صدر رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)يوم قبض فمرّت بي أيام وأسابيع آكل وأتوضأ ما تذهب رائحة المسك من يدي.
أعظم المصائب:
وكان رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)قد قال لعلي (عليه السلام): يا علي من اُصيب بمصيبة فليذكر مصيبته بي، فإنها من أعظم المصائب، وإلى هذا المعنى يشير ما جاء في الديوان المنسوب إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) من انه كان يقول:
ما غاض دمعي عند نائبة *** إلا جعـــلتــك للبكــا سببــــاً
وإذا ذكــرتك سامحتك به *** مني الجفون ففاض وانسكبا
وأنشأ أمير المؤمنين (عليه السلام) أيضاً يقول:
الموت لا والداً أبقى ولا ولداً *** هذا السبيل إلى أن لا ترى أحداً
هذا النبي ولم يخلد لاُمته *** لو خلّد اللّه خلقاً قبله خُلدا
للموت فينا سهام غير خاطئة *** من فاته اليوم سهم لم يفته غداً
وأنشأت الزهراء (عليها السلام) تقول:
إذا مات يوماً ميّت قلّ ذكره *** وذكر أبي طول الدُنى في تزيّد
تذكرت لما فرّق الموت بيننا *** فعزّيت نفســي بالنبـــي محمـد
فقلت لها:
إن الممات سبيلنا ومن لم *** يمت في يومه مات في غد
......
المعصوم لا يليه إلا معصوم:
قال ابن مسعود: قلت للنبي (صلى الله عليه وآله)وهو في شكاته: يا رسول اللّه من يغسّلك إذا حدث بك حادث؟
قال (صلى الله عليه وآله): يغسّل كل نبي وصيّه.
قلت: فمن يا رسول اللّه وصيّك؟
قال (صلى الله عليه وآله): علي بن أبي طالب.
وقال سلمان: أتيت علياً (عليه السلام) وهو يغسّل رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)وكان قد أوصى (صلى الله عليه وآله)أن لا يغسّله غير علي (عليه السلام)، وأخبر انه لا يريد أن يقلّب منه عضواً إلا قُلب له.
وقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام) لرسول اللّه (صلى الله عليه وآله): من يعينني على غسلك يا رسول اللّه؟
قال (صلى الله عليه وآله): جبرئيل.
فلما غسّله وكفّنه وحنّطه أدخلني وأدخل أبا ذر والمقداد وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) فتقدّم وصففنا خلفه وصلّى عليه، ثم أدخل عشرة من المهاجرين وعشرة من الأنصار، فيصلّون ويخرجون، حتى لم يبق أحد من المهاجرين والأنصار إلاّ صلّى عليه.
وفي رواية: ثم أدخل عليه عشرة فداروا حوله، ثم وقف أمير المؤمنين (عليه السلام) في وسطهم، فقال: (إنّ اللّه وملائكته يصلّون على النبيّ يا أيّها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلّموا تسليماً) فيقول القوم كما يقول، حتى صلّى عليه (صلى الله عليه وآله)أهل المدينة وأهل العوالي كلهم.
انقطاع النبوّة أكبر فجيعة للأرض
قال ابن عباس: لما قبض رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)تولّى غسله علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فلما فرغ من غسله كشف الازار عن وجهه ثم قال (عليه السلام): (بأبي أنت واُمّي طبت حياً وطبت ميتاً، لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت أحد ممّن سواك من النبوّة والأنباء، وأخبار السماء، خصصت حتى صرت مسلّياً عمّن سواك، وعممت حتى صار الناس فيك سواء، ولولا انك أمرتَ بالصبر ونهيت عن الجزع لأنفدْنا عليك ماء الشؤن، ولكان الداء مماطلاً، والكمد مخالفاً، وقلاّ لك، ولكنه ما لا يملك ردّه ولا يستطاع دفعه، بأبي أنت واُمّي اذكرنا عند ربّك، واجعلنا من همّك)، ثم أكبّ (عليه السلام) عليه (صلى الله عليه وآله)فقبّل وجهه.
وفي نهج البلاغة: (ولقد قُبِض رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)وانّ رأسه لعلى صدري، وقد سالتْ نفسه في كفّي، فأمررتها على وجهي، ولقد ولّيت غسله (صلى الله عليه وآله)والملائكة أعواني، فضجّت الدار والأفنية، ملأ يهبط، وملأ يعرج، وما فارقت سمعي هينمة منهم يصلّون عليه، حتى واريناه في ضريحه، فمن ذا أحق به منّي حياً وميّتاً؟)(9).
وفي النهج أيضاً: (إلاّ انّ لي في التآسي بعظيم فرقتك، وفادح مصيبتك موضع تعزٍّ، فلقد وسّدتك في ملحودة قبرك، وفاضت بين نحري وصدري نفسك، فإنّا للّه وإنّا إليه راجعون)(10).
النبي (صلى الله عليه وآله)في مثواه الأخير
ولما فرغ المسلمون من الصلاة على رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)ـ وقد صلّوا عليه فوجاً فوجاً ـ خاضوا في موضع دفنه فقال بعضهم في البقيع، وقال آخرون: في صحن المسجد.
فقال علي (عليه السلام): انّ اللّه سبحانه لم يقبض نبياً في مكان إلا وارتضاه لرمسه فيه، واني دافنه في حجرته التي قبض فيها، وهي بيت فاطمة (عليه السلام) فرضي المسلمون بذلك.
فلما تهيّأ القبر وضع علي (عليه السلام) رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)على يديه ثم دلاّه في حفرته، ثم نزل علي (عليه السلام) في القبر فكشف عن وجهه، ووضع خدّه على الأرض موجّهاً إلى القبلة على يمينه، ثم وضع عليه اللبن وأهال عليه التراب..
فإنّا للّه وإنّا إليه راجعون.
(السلام عليك يا رسول اللّه، السلام عليك يا محمد بن عبداللّه، السلام عليك يا خيرة اللّه، السلام عليك يا حبيب اللّه، السلام عليك يا صفوة اللّه، السلام عليك يا أمين اللّه، أشهد أنّك رسول اللّه، وأشهد أنّك محمد بن عبداللّه، وأشهد أنّك قد نصحت لاُمّتك، وجاهدت في سبيل ربِّك، وعبدته حتى أتاك اليقين، فجزاك اللّه يا رسول اللّه أفضل ما جزى نبياً عن اُمَّته، اللّهمّ صلّ على محمد وآل محمد أفضل ما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم انّك حميد مجيد)(11).
_________
(1) أي: أطلب من الله سبحانه أن يتفضل بالمزيد عليكم ولفظ (اوصي) من باب المشاكلة مثل قوله تعالى: (تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك).
(2) القصص: 83.
(3) الزمر: 60.
(4) أو بعد خمسة وتسعين يوماً, على اختلاف الروايات.
(5) هذا مثال الزيادة, لا العدد, فهو من قبيل قوله تعالى: (وإن تستغفر لهم سبعين مرة) [التوبة: 80].
(6) آل عمران: 144,
(7) الضحى: 4 ـ 5.
(8) أي آخر هبوط على رسول الله (صلى الله عليه وآله)لأجل إبلاغ الوحي وإلاّ فقد نزل جبرائيل بعده, في قصص مختلفة لا لأجل الوحي.
(9) نهج البلاغة: الخطبة 197.
(10) نهج البلاغة: الخطبة 202.
(11) وهذا مروي عن البيزنطي قال: قلت للرضا (عليه السلام): كيف الصلاة على رسول الله... وكيف السلام عليه؟ فقال (عليه السلام): (تقول: ...).
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|