أقرأ أيضاً
التاريخ: 7-11-2016
34125
التاريخ: 3-2-2021
1790
التاريخ: 15-8-2019
3522
التاريخ: 2023-12-19
929
|
لم تدرس طبيعة أرض جزيرة العرب دراسة علمية مستفيضة لشاملة، بالرغم من قيام الشركات الأجنبية بالبحث، في أنحاء منها، عن طبيعة تربتها للتوصل بذاك إلى اكتشاف ما في باطنها من ثروات. فأرض جزيرة العرب، أرض واسعة، تغطي الرمال اكثر مساحاتها، فليس من السهل البحث فيها بحثاً علمياً عميقاً عن تركيبها وعن تطورها في كل أنحائها، لهذا كان علمنا بهذه النواحي من البحث ضحلا" مختصراً في الغالب.
يتألف ثلثا الأقسام الشرقية من أرض المملكة العربية السعودية، من طبقات رسوبية يقال لها في علم طبقات الأرض "Sedimentry"، تكون نوعاً من الصخور يتأثر ببعض المؤثرات الأرضية، فتكون من أحسن الأماكن الملائمة للبترول والفحم. وتتألف هذه الطبقات الرسوبية في الدرجة الأولى من الحجارة الكلسية وتتكون أرض منطقة أبار البترول عند "الظهران" والمناطق الأخرى التي أصابت شركة البترول العربية السعودية الأمريكية فيها البترول، من هذا النوع من الصخور.
وتوجد آثار طبقات رسوبية في المناطق الغربية من جزيرة العرب المطلة على البحر الأحمر عند جزر "فرسان" و "جيزان" و "صعبيا" و "أملج" و "المويلح" الواقع على مقربة من راس خليج العقبة، و "ضبا"، وحجارة رملية في العلا في القسم الشمالي الغربي من الجزيرة بكميات واسعة، وحجارة بركانية ولا سيما في مناطق الحرار. وصخور تكونت بفعل الترسبات المتأثرة بالضغط والحرارة، وهي التي يقال لها: "Metamorpic Formation"، وتساعد على تكوين المعادن. وقد وجدت في هذه المنطقة، خامات المعادن ولكنها لم تستغل حتى ألان استغلالاً تجارياً، كما إن هذه الخامات والأرضين لم تفحص فحصاً فنيا لمعرفة النسب المعدنية فيها.
وتوجد الصخور الرملية في عسير وفي وادي الدواسر، وتشاهد في منطقة هذا الوادي تلال تتجه من الشمال إلى الجنوب، تقع إلى جنوب "الخماسين" وعلى ارتفاع "2200" قدم، يظهر أنها تكونت من الصخور "الأيولينية" "Aelian Sandstone" ومن حجارة "الكوارتس" الضخمة، وقد حوت مقداراَ من "اكاسيد الحديد" أعطت هذه السلسلة لوناً أحمر غامقاً. ويتكون فتات هذه الحجارة على هيأة ألواح صلبة، وعند قطعها يلاحظ أنها تتكون من طبقات، ويمكن فصلها على أشكال ألواح، وقد تكونت على حافات هشة السلسلة وجوانبها أشكال طبيعية مدهشة أخاذة بتأثر فعل الرياح والرمال فيها. وتتكون أرض "قرية" من صخور كلسية، وهناك آبار قديمة تبلغ أعماقها تسعين قدماً، حفرت في طبقات أرضية مؤلفة من حجارة الكلس، تتخللها طبقات من الحجارة الرملية غير أنها ليست ثخينة. أما أرض "بئر حما" التي يبلغ ارتفاعها زهاء أربعة آلاف قدم فوق سطح البحر، وتقع على الحافات الغربية للربع الخالي، فإنها مؤلفة من الحجارة الرملية الأيولينية الحمراء، وعلى مسافة "35" ميلاّ إلى الجنوب الغربي من "حما" موضع يقال له "بئر الحسينية" فيه بئر يبلغ عمقها "129" قدماَ، وقد حفرت في أرض فيها طبقات ثخينة من "الغرانيت". و تتألف اكثر الأرضين التي تمتد من هذا الموضع إلى نجران من حجارة "غرانيتية". وتظهر الحجارة الرملية في القسم الجنوبي والغربي من هذه المنطقة التي ترتفع زهاء "1500" قدم عن مستوى سطح الوادي الموصل إلى نجران، والذي يرتفع هو نفسه زهاء أربعة آلاف قدم عن سطح البحر. وتتألف مناطق واسعة من اليمن من حجارة رملية ومن الطبقات المترسبة "Sediments".
قلت: إن هنالك مناطق في الحجاز مكونة من طبقات مترسبة تعد من أحسن الصخور والطبقات الأرضية، ملائمة للنفط والفحم، إن هنالك مناطق فيها صخور بركانية ونارية: وقد تكوّ ن أكرها بعد تغييرات كبيرة وممليات طويلة من ضغط هذه السلسلة الجبلية الطويلة التي تكون العمود الفقري لجزيرة العرب. وترتفع زهاء "9000 - 11000" قدم عن مستوى سطح البحر في اليمن على ما تحتها من طبقات.
ونجد مناطق واسعة من "اللابات" مبعثرة على طول هذه السلسلة، منها ما هو حديث التكوين. ويشاهد في الزمن الحاضر لسان بارز من "اللابة" في شرقي "أبي عريش" يمتد حتى يتاخم حدود اليمن، كما نشاهد مناطق أخرى مؤلفة من هذه الحجارة في مواضع عديدة بين "شقيق" و "خور البرك" مثلاً حيث تصل "اللابة" إلى البحر الأحمر فتدخل فيه. وكذلك في شمالي "شقيق" عند "جهمة" حيث توجد بقايا بركان يكوّن جزيرة في البحر مقابل هذا الموضع.
وعلى مسافة اثني عشر ميلاَ من مكة جبل، يقال له جبل النورة، حيث تحرق حجارة الكلس المكونة له، لاستخراج النورة واستعمالها في البناء. وهذه الحجارة الكلسية هي من الطبقات المترسبة المتحولة. وهناك أماكن أخرى تكونت من هذه الحجارة، يشاهدها المار من جدّة إلى موضع "مهد الذهب"، الذي تستغل ألان مناجمه، لاستخراج الذهب، وتتكون تلال مهد الذهب من الحجارة المترسبة التي تعرضت لتغيرات طبيعية عديدة، عليها طبقات من حجارة "البازلت" "Basalt".وفي حجارة المناجم خامات معادن متعددة، وتوجد حجارة "الكوارتس" "Quartz". وتوجد في منطقة الطائف صور "الغرانيت"، وفي نهاية هذه السلسلة الجبلية الطويلة التي تنتهي في اليمن تشاهد "لابات" الحرِار وبقايا الحرار التي كانت تزعج اليمانيين، إذ هي قد تقذفهم حممها في يوم من الأيام فتسومهم سوء العذاب.
وفي أرض، اليمن عدد كبير من الحِرار، ذكر السياح بعضها، مثل حرة "أرحب"، وتقع شمالي "صنعاء" ولها لابة استخرج منها الناس حجارة سوداً لبناء البيوت. وعلى مقربة من "ذمار" تكون الأرض بركانية. وتوجد الحرار في القسم الشمالي من "وادي أبرد"، وفي الوادي بين "صرواح" و "مأرب". وقد حمل بعض المستشرقين وجود الحرار في اليمن بهذه الكرة وعلى مقربة من المدن القديمة، على تفسير هلاك بعضَ المدن كراب "مأرب" و "حقة" و "شبوة" بتأثير هياج البراكين.
كذلك توجد مناطق حرار في العربية. الجنوبية، في عدن وحضرموت و عُمان وفي الربع الخالي، وقد استعمل القدماء حجارة البراكين في البناء، ولا يزال الناس يستعملونها في البناء حتى اليوم، وقد وجد بين الحجارة المكتوبة عدد من صخور البراكين. وقد استغل الجاهليون بعض الحِوار لاستخراج الكبريت منها، وذكر "نيبور" إن أهل اليمن كانوا يستخرجون الكبريت من جيل يقع في شرقي ذمار، ويظهر إن هذا الجبل بركان قديم.
وتتكون بعض هضاب اليمن من الصخور المتبلورة التي مرت في أدوار طويلة. ويرى العلماء أنها كانت في الأصل تحت سطح البحر، ثم ترسبت عليها طبقات ثخينة من المواد الرسوبية حتى تبلورت و تصخرت. وقد استعملها الجاهليون ولا تزال تستعمل في النوافذ، لتقوم مقام الزجاج. وهناك طبقة طباشيرية وطبقات من صخور رملية غذت المناطق المنخفضة، وهي تهائم اليمن، بالرمال. وكذلك المنطقة التي يقال لها الرمله. وتتكون التربة في تهامة وفي سهل صنعاء من المواد الصلصالية التي تعود إلى الأزمنة "الجيولوجية"، المتأخرة، ومن المتكونات "الأيولينية" التي حصلت بتأثير فعل الرياح في الصخور الرملية. ويكثر وجود الصخور المتبلورة في الحجاز وفي العربية الجنوبية كذلك. وتوجد الصخور والطبقات الرسوبية في اليمن وفي حضرموت وعمان، وقد وجدت في هذه المناطق علائم وجود البترول.
والسواحل الشرقية لجزيرة العرب، أي السواحل الواقعة على الخليج، هي سهول، ولكنها سهول من الرمال في الغالب، ولهذا قلت فيها الزراعة، إلا في المواضع التي تتوافر فيها المياه الجوفية، وتتفجر عيوناً، مثل الأحساء والقطيف. وهناك سباخ ومستنقعات ناتجة من انخفاض الأرض، جوّها غير صحي. والبترول في القرن العشرين، هو الذي أغاث أهل هذه ا الأرض، وجلب لهم الثراء والمال الوافر والسيارات الفارهة وآلات التبريد ووسائل الترف والرفاهية، وبعث فيها الحياة بعد إن كانت خامدة خاملة.
وقد كانت حال هذه السواحل قبل الإسلام أحسن بكثير من حالها في القرن التاسع عشر إلى يوم استنباط البترول في القرن العشرين، بدليل ما نقروه في الموارد التاريخية من أسماء مواضع كانت مأهولة، زالت واندثرت، وأسماء قبائل كانت تنزل بها، اضطرتها أحوال قاهرة متعددة متنوعة إلى هجرها، فقل عدد سكانها بالتدريج.
وتعد البحرين من أكثف المناطق في جزيرة العرب. فان نسبة عدد سكانها بالقياس إلى مساحة أرضها عالية نسبياً قبل الإسلام وفي الإسلام. وسبب ذلك هو توافر الماء فيها، واعتمادها على استخراج اللؤلؤ من البحر و على صيد السمك الذي يقدم للأهلين المادة الأولى للمعيشة. و الماء غير عميق عن سطح الأرض وقد مون عيونا في بعض الأماكن و لهذه المميزات صارت موطنا للحضر قبل الإسلام بزمن طويل.
وفي جزيرة العرب خامات معادن، و من الممكن استغلال بعضها استغلالا اقتصاديا، و من هذه المعادن الذهب، و قد ذكر الجغرافيون العرب أسماء و مواضع عرفت بوجود خام الذهب بها، مثل موضع "بيشة" أو "بيش"، و قد كان به معدن غزير من التبر. و المنطقة التي بين القنفذة و "مرسي حلج".
و يظهر من المؤلفات اليونانية و من الكتب العربية أن المنطقة التي بين القنفذة و "عتود"، كانت معروفة بوجود التبر فيها، فكان الناس يشتغلون هناك باستخلاص الذهب منه، و لهذا رأى "موريتس" أن هذه المنطقة هي منطقة "أوفير" "Ophir" التي ورد ذكرها في التوراة على إنها تصدر الذهب.
و يشاهد في وداي تثليث على مقربة من "حمضة" و على مسافة 183 ميلا من نجران أثار التبر، ويظهر انه كان من المواضع التي استغلت قديماً لاستخراج الذهب منها. وقد اشتهرت ديار بني سليم بوجود المعادن فيها، وفي جملتها معدن الذهب، ويستغل اليوم الموضع الذي يقال له "مهد الذهب"، ويقع إلى الشمال من المدينة باستخراج الذهب منه، وتقوم بذلك شركة تستعمل الوسائل الحديثة، تحرّت في مواضع عديدة من الحجاز الذهب والفضة ومعادن أخرى، فوجدت أماكن عديدة، استغلت قديماً لاستخراج "التبر" منها، ولكنها تركتها لعدم يمكنها من الحصول على الذهب منها بصورة تجارية، تأتيها بأرياح حسنة، واكتفت بتوسيع عملها في "مهد الذهب"، لأنه من أغزر تلك الأماكن بخام الذهب، وظلت تنقب به إلى إن تركت العمل فيه، وحلت نفسها، وتركت كل شغل لها بالتعدين.
وقد ذكر الكتبة اليونان إن الذهب يستخرج في مواضع من جزيرة العرب خالصاً نقيأَ، لا يعالج بالنار لاستخلاصه من الشوائب الغريبة ولا يصهر لتنقيته. قالوا ولهذا قيل له "ابيرون" "Apyron". وقد ذهب "شرنكر" إلى إن العبرانيين أخذوا لفظة "أوفير" من هذه الكلمة.
وقد عثرت الشركة في أثناء بحثها عن الذهب في "مهد الذهب" على أدوات استعملها الأولون قبل الإسلام في استخراج الذهب واستخلاصه من شوائبه، مثل رحى وأدوات تنظيف وِمدقات ومصابيح، وشاهدت آثار القوم في حفر العروق التي تكوّن الذهب، وأمثال ذلك مما يدل على إن هذا المكان كان منجماً للذهب قبل الإسلام بزمن طويل، ولعله من المناجم التي أرسلت الذهب إلى "سليمان"، فأضيف إلى كنوزه، على نحو ما هو مذكور في التوراة.
ويظن بعض الباحثين إن منجم "مهد الذهب" هو المنجم الذي كان لبني سليم، فعرف باسمهم وقيل له: "مدن بني سلُيم"، وقد وهبه الرسول إلى بلال بن الحارث.
وعرفت "أرض مدين" وما والاها من الأرضين في شمال "وادي الحمض"، بوجود التبر فيها. واستخراج الناس له هناك قبل الجلاد بمئات من السنين. وتوجد آثار المناجم التي كانت تستغل مبعثرة في مواضع عديدة حتى اليوم.
وتوجد خامات معادن أخرى فيء الحجاز منها الكبريت والنحاس والقصدير والحديد، وتستخرج الأملاح من الصخور الملحية التي في الحجاز وفي عسير عند جيزان، ويستخرج الأهلون منها مسحوقاً لاستعماله في عمل المفرقعات كما إن هنالك مثل هذه الصخور المحلية في السلف من اليمن. ويمكن الاستفادة من هذه الأملاح فائدة كبيرة من الوجهة الاقتصادية حيث تدخل في كثير من الصناعات.
وفي منطقة "راج" توجد رواسب "البارايت" "Barite"، وتدل البعوث الأولية على أنه من الممكن استخراج عشرة آلاف طن من "البارايت" في كل عام. وتدل الدلائل على إن هنالك منجماً قديماً في منطقة "رابغ" كان يستغل لاستخراج "الكالينه" "Galena"، غير إن النماذج التي فحصت فحصاً أولياً دلت على إن هذه الماسة قليلة فيها. ويظهر إن هناك كميات كبيرة من تراب الحديد في "العقيق" على مقربة من "مهد الذهب" كما شوهدت خامات المعادن في موضع "برم" جنوب الطائف وفي موضع "نفى"، ولا يستبعد العثور على البترول في الحجاز في المواضع المتكونة من الطبقات المترسبة "Sedimentary Formation"، وتوجد في الحجاز الرمال التي تصلح لصنع الزجاج.
وتستغل أرض الأحساء في استخراج "البترول"، ويكثر وجود البترول في العروض حيث حفرت الآبار في الكويت والبحرين، وتدل الدلائل على وجوده في قطر لومان، كذلك دلت التحريات على وجوده في حضرموت في منطقة "شبوة" وفي المناطق وراء شبوة إلى داخل جزيرة العرب، حيث يحتمل العثور على مناجم للذهب كذلك. ويجري البحث عن البترول في محمية "عدن" وفي اليمن.
ودلت التقارير الأولية على وجود الفحم في حضرموت في منطقة "شبوة"، وتوجد الصخور المحلية مترسبة في بطن طبقات الأرض يقتطعها الأهلون، وتستغل في الأعمال التجارية، كذلك توجد هذه الصخور الملحية في اليمن، وقد تكونت بفعل العوامل "البيولوجية" والضغط المتواصل، فتحجرت بمرور آلاف السنين عليها، وتكمن تحت سطح الأرض في بعض الأماكن حيث تحفر جوانب التلال للوصول إلى قلب مناجم الملح المتحجرة، وقد يفتت باستعمال المواد المتفجرة "الديناميت"، وتستخرج صخوره من بعض المناجم صافيه بيضاء كأنها البلور. مثل الملح المستخرج من "جبل الملح" بمأرب، فإن ملحه كما يقال صاف كالبلور. وتشتهر "السلف" بوجود مناجم ملح فيها، تقع على مسافة أربعين ميلا إلى الشمال من الحديدة. وتوجد في جزيرة "قمران" المقابلة هذا الموضع مناجم ملح، وكذلك في "اللحية".
وإلى وجود مثل هذه الصخور الملحية في كثير من أنحاء جزيرة العرب، يجب أن يعزى ظهور قصص بناء القصور من الملح المنتشرة في كتب التأريخ و الأدب.
ولما كانت أرض اليمن وأكثر الأنحاء الأخرى من الجزيرة، لم تفحص حتى الآن فحصاً فنياً، ولم تطأها أقدام الخبراء، فمن الصعب التحدث عن مواطن المعادن فيها، وعن أنواع التربة، وأثرها في الحضارة الجاهلية.
وقد وجدت مصنوعات حديد في اليمن، عثر عليها في الخرائب والآثار والأماكن العادية، كما اشتهرت اليمن بسيوفها، في الجاهلية وفي الإسلام، غير أننا لا نعرف الآن المواطن التي كانت تستغل لاستخراج الحديد منها، وقد ذكر الرحالة "نيبور" انه كان في " صعدة" منجم، يستخرج منه الحديد، وأن أماكن أخرى كانت تستغل لإنتاج هذه المادة.
وذكر "الهمداني" من معادن اليمن الذهب والفضة، وقال: انه كان يستخرج من "الرضواض" ولا نظير لفضه، والحديد، وكان يستخرج من "نقم" و "غمدان" و "فصوص البقران"، وتستخرج من جبل أنس. و "فصوص السعوانية" وتستخرج من "وادي سعوان" جنب صنعاء، وهو فص أسود فيه عرق أبيض ومعدنه بشهارة وعيشان من بلد حاشد إلى جنب هنوم وظليمة والجمش من شرف همدان، وحجر "العشاري"، وهو الحجر العشاري من عشار بالقرب من صنعاء، والبلور، والمسنى الذي تعمل منه أنصاب السكاكين والعقيق الأحمر، والعقيق الأصفر من الهان والجزع الموشى والمسر، والشزب تعمل منه ألواح وصفائح وقوائم سيوف وأنصاب سكاكين ومداهن وقحفة وغير ذلك. وعرفت اليمن بعقيقها الذي يقال له "عقيق يماني" و "حجر يماني" وهو "الجزع" "Onyx".
وقد بقيت بعض المواضع المذكورة تستغل معادنها في الإسلام، إلا إن تغير الوضع في جزيرة العرب في الإسلام وهجرة كثير من القبائل إلى البلاد المفتوحة، ووجود صناعات فيها ومعادن أثمانها أرخص من أثمان معادن الجزيرة، ثم تقدم العالم بعد ذلك وظهور الثورة الصناعية، كل هذا وأمثاله أثر في وضع التعدين وفي صناعة المعادن في جزيرة العرب، فدثرها، أو تركها مشلولة لا تعمل إلا في حدود مرسومة ضيقة وفي مجال محلي.
وليست دولة الحيوان في جزيرة العرب دولة ضخمة عظيمة، وكيف تكون ضخمة وأكثر أرض الجزيرة عدو للحيوان ولكل ذي روح? والجمل هو الحيوان الأليف الوحيد الذي استطاع بعناده وبصلابته على السير بجبروت و بتبختر فوق رمال الصحارى، غير عابئ بالرياح العاتية التي تذرو الرمال في الأعين، وتنقل أكواما منها معها، تكفي لدفن الجمل ومن عليه أو من معه ومع ذلك فإن هذا الحيوان للصبور العنيد. لم يتوفق أيضاً في تحطيم جبروت البوادي في كل مكان، فظل ت بعضها أرضاً حراماً عليه وعلى السابلة، تحطم من يريد التجاوز عليها والاعتداء على استقلالها، بأن تميته عطشاً، فتفتح ذرات رملها الناعم، وعندئذ تغوص قوائم الجمل فيها فيبقى في مكانه حتى ينفق.
والجمل، هو أيضاً من اقدم الحيوانات التي سمعنا بها عند العرب، وأعزّها. وقد صوّر في النصوص الاشورية، عند ذكر معركة "قرقر" ومعارك أخرى، وقعت بين العرب والآشوريين. و طبيعي إن يقرن الجمل بالبادية، وأن يجعل رمزاً لها، فليسن لحيوان آخر القدرة على اجتياز البوادي واختراقها ونحمل مشقاتها وعطشها مثل الجمل. ثم انه مركب العرب، يحملهم، ومحمل تجارتهم وماءهم، وهو ممولهم بالوبر لصنع البيوت حتى قيل للأعراب "أهل الوبر" ومنه يصنعون أكسية عديدة. ولبن الإبل، هو لبن أهل البادية، وإذا احتاجوا إلى لحم، ذبحوا الجمل، فأكلوه، وأفادوا من جلده.
والجمل ثروة، والثري العربي هو من يملك عدداً كبيراً من الإبل، وتقدر ثروته بقدر ما يملكه منها. وقد كان الجمل مقام "النقد"، أي مقام الدينار والدرهم في الغالب، فبعدد من الإبل يقدر مهر الفتاة، وبعدد من الإبل تفض الديّات والخصومات. وهكذا يتعامل به كما نتعامل اليوم بالنقود.
ويرى العلماء إن الإنسان ذلل الجمل حتى صيره أليفاً مطيعاً له في الألف الثانية قبل الميلاد. وقد ذهب بعضهم إلى إن العربية الشرقية كانت الموطن الذي ذلّل فيه هذا الحيوان في الشرق الأدنى، استدلوا على ذلك بإطلاق العراقيين القدماء على الجمل اسم "حمار البحر"، وقالوا إن قصدهم من "البحر" الخليج، وأن لفظة "الجمل" "جملو" "كَمَلو" في "الأكادية" إنما وردت من بادية الشام، ومعظم سكان البادية هم من العرب، وقد كانوا يستعملون الجمل استعمال الناس للسيارات ولوسائل الركوب في هذا الزمن. وقد استعملوه في الألف الثانية قبل الميلاد، فدخوله من البوادي إلى العراق هو دليل على إن العرب كانوا قد استخدموه أولاً ومنهم انتقل إلى العراق والبلاد الأخرى.
ويرى "البريت" إن البداوة الحقيقية على في ما نعرفها اليوم من السكنى في البوادي والتنقل فيها من مكان إلى مكان، لم تظهر في جزيرة العرب إلا في أواخر النصف الثاني من الألف الثانية قبل الميلاد، وذلك بتذليل الإنسان للجمل وبترويضه له لخدمة أغراضه، ففتح له بذلك أبواب البوادي، وتمكن من التوغل فيها واجتيازها بفضل جمله خادمه المطيع. أما ما قبل الجمل، فقد كان العربي لا يستطيع اجتياز البوادي واختراقها لأن حماره الذي كان واسطة الركوب عنده، لا يتحمل ولوج البادية، ولا يستطيع إن يعيش فيها، وأن يصبر عن شرب الماء أو الأكل صبر الجمل، لذلك كان عرب الجزيرة في الألف الثانية، وقبل وقت تذليل الجمل رعاة في الغالب، وسائط ركوبهم الحمير، ولم يكونوا قد طرقوا البوادي أو توغلوا فيها توغل العرب أصحاب الوبر فيما بعد.
فالجمل أذن هو الذي فتح لأهل جزيرة العرب آفاق البوادي، ووسع البداوة عندهم، حتى جعلها عالماً خاصاً يقابل عالم الحضارة في الجزيرة. وهو الذي صار لهم واسطة لنقل الأموال بالطرق البرية الطويلة التي تربط أجزاء الجزيرة بعضها ببعض، و تربط طرق الجزيرة مع الطرق الخارجية. و بفضل الجمل القادر على تحمل العطش و الصبر على الجوع، و على تحمل الصعاب صار في امكان العرب التنقل إلى مسافات بعيدة من الجزيرة و حمل أثقاله معه. فأستخدم العرب له هو في الواقع ثورة كبيرة في ذلك العهد بالنسبة إلى وسائط النقل و الحمل و في عالم التجارة و الاقتصاد. و من حق العربي إذا ما عبّر عن الغنى إن يعبر بكثرة ما عند الإنسان من إبل.
وقد عرف الجمل بوجود غزيرة الانتقام فيه، و بعدم نسيانه أذى من يؤذيه، لذلك زعم أنه يبقى حاقدا على المسيء إليه حتى ينتقم من و لو بعد زمن طويل, و يظن بأنها من فعل "كَمَلَ" "جَمَلَ" "كامل" "جامل"، أي انتقم، مع أنها تعني "حَمَلَ" أيضا. و قالوا إن معنى " الجمل" "المنتقم" وقالوا إنه سمي بذاك لأنه حيوان منتقم. ومن ثم وصف "أرسطو" و "أربان"، الجمل بأنه حيوان لا ينسى الأذى، سريع الانتقام. وقد يكون لأقوالهما ولأقوال غيرهما في الجمل دخل في تكوّن هذه الفكرة عنه عند الناس حتى اليوم.
الجمل المعروفة في جزيرة العرب، هو الجمل ذو السنام الواحد. وهناك نوع من الجمال يقال للواحد منها "الهجين"، وهو الجمل المضرب، ويكون أصغر حجماً من الجمل العربي الأصيل، إلا أنه أسرع عدواً منه. وقد عدّ الجمل عند العبرانيين من موارد الثروة والغنى كذاك، ولذلك عدّ "أيوب" من أغنياء زمانه لأنه كان يملك ألفي جمل، وعد "المديانيون" "أهل مدين" وهم من العرب، أغنياء، لأنهم كانوا يملكون عدداً كبيراً من الجمال.
وللجمل في العربية أسماء كثرة. أما في العبرانية وفي اللغات السامية الأخرى، فلا نجد فيها مثل هد الكثرة. ويقال للجمل "كمل" و "بكرة". ويراد ب "كمل" الجمل. أما "بكرة" فالجمل الصغر. والجمل من أقدم الحيوانات المذكورة في التوراة، وذكر أنه كان لإبراهيم عدد كبير من الجمال. وبالرغم من اشتهار جزيرة العرب بجمال خيلها، وبتربيتها لأحسن الخيل، وبتصديرها لها. فإن الخيل في جزيرة العرب إنما هي من الحيوانات الهجينة الدخيلة الواردة عليها من الخارج، ولا ترتقي أيام وصولها إلى الجزيرة إلى ما قبل الميلاد بكثير. قيل إنها وردت إليها من العراق. ومن بلاد الشام، أو من مصر، وإن وطنها الأصلي الأول هو منطقة "بحر قزوين". وهذا لا تجد في الكتابات الآشورية، أو في "للعهد القدم" أو في المؤلفات "الكلاسيكية"، إشارات إلى تربية الخيل في جزيرة العرب، أو استعمال العرب لها في حلهم وترحالهم وفي حروبهم.
وقد بقي العرب إلى ما بعد الميلاد، بل إلى ظهور الإسلام، لا يملكون عدساً كبيراً من الخيل. وفي غزوات النبي ومعاركه مع المشركين، كان عدد الخيل التي اشتركت في المعارك محدوداً معدوداً، مع أنها كانت مهمة جداً وعدة حاسمة في إحراز النصر. وذلك بسبب قلتها إذ ذاك، وعدم تمكن كل الناس من اقتنائها، إلا من كان موسراً منهم، أو في حال حسنة. فقد كانت تكاليف الخيل، كثيرة لا يتحملها إلا ذوو الدخل الحسن، فالخيل في حاجة إلى عناية ورعاية، وطعامها للمحافظة على صحتها يكلف باهظاً. فلا بد من تقديم الحشائش والحبوب لها ثم إن مجال استعمالها في البادية محدود لأنها لا تستطيع تحمل جوع الصحراء وعطشها تحمل الجمل، كما أنها لا تستطيع السير في رمال البوادي المهلكة المتعبة مسافات بعيدة هذا لم يقبل الأعرابي العادي على شرائها أو تربيتها في تلك الأيام، فصارت من نصيب أهل اليسر والحال الحسنة، يمتلكها ويعتني بها من يملك السيارات في هذه الأيام. كثرتها عند الرجل علامة على ثراء ووجاهته بين الناس.
ونظراً لسرعة الخيل وخفتها في الكر والفر، صارت أهم سلاح لنجاح الغرو وإلحاق الأذى بالعدو، يغير عليها المغير فيباغت خصمه بهجوم سريع خاطف، فيربكه، وهذا أخذت القبائل، ولا سيما القبائل الساكنة في مضارب قريبة من الأرياف ومن الحضر، تشتري الخيل وتعتني بها للمحافظة على حياتها في الدفاع والهجوم. وعدّت القبائل القوية، هي التي تملك عدداً كيرا من الخيل، وصار للفارس مقام خطير في ذلك الزمن، لشجاعته وصبره في الدفاع عن مواطنيه، فهو بمثابة "الكومندو" في هذه الأيام.
واستعملت الخيل للتسلية واللهو واللعب، فتسابق على ظهورها الفرسان في حلبات السباق، وتراهن الناس على السابق، ولعب الفرسان بعض الألعاب: ألعاب الفروسية وخرجوا على ظهورها للصيد، فالصياد للراكب، أقدر من الصياد الراجل على مطاردة الصيد.
وفي القرآن ذكر للخيل كمصدر من مصادر القوة، يرهب بها المسلمون أعداءهم ومصدر من مصادر الثروة، ومصدر من مصادر الزينة وبهجة الحياة الدنيا. وفي الحديث ذكر لها كذلك وثناء عليها. وعُدّت الخيول من الحيوانات الشريفة الرفيعة في التوراة، وصورت على شكل خيول من نار فيها، تهبط على أعداء الرب لتنزل بهم الهلاك والدمار.
أما البغال، فإنها من الحيوانات المعروفة بتحملها للمشقات، وقدرتها على السير في المناطق الوعرة، مثل الهضاب والأرضين المتموجة والجبال. وقد استعملت في الحمل وفي الركوب، وهي تؤدي خدمات في هذه المناطق يعسر على الجمل القيام بها، وقد يعجز عنها. أما هي، فإن من الصعب عليها العمل في البوادي ذات الرمال، كما أنها لا تستطيع الصبر صبر الجمل على تحمل الجوع والعطش أياماً متوالية عديدة، لذلك لم يقبل عليها آهل البادية، ولم يعتنوا بها.
وقد حرم قدماء العبرانيين على أنفسهم تربية البغال، و أول من أباح ذلك وجوز لهم استعمالها هو "داوود"، ومنذ ذلك الحين، أقبلوا على تربيتها والاستفادة منها في أرض فلسطين. ويظهر إن قدماء العبرانيين لم يكونوا يعرفون البغال، فلما وجدوها عند أمم وثنية غريبة عنهم، كرهوا استعمالها فحرموها على أنفسهم، حتى انتبه "داوود" لفائدتها ومنافعها، فاستعملها، ثم قلده في ذلك بقية العبرانيين بالتدريج.
ويظهر إن البغال لم تكن كثيرة الاستعمال في جزيرة العرب حتى ظهور الإسلام. فقد ورد في كتب السهر إن "دلدلاً"، بغلة النبي، "أول بغلة رئيت في الإسلام أهداها له المقوقس، وأهدى معها حماراً يقال له عُفير". وورد أيضاً: "أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بغلة شهباء فهي أول شهباء كانت في الإسلام". وورد: "أهدي فروة بن عمرو إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، بغلة يقال لها فضة".
وورد في القرآن الكريم: "والخيل والبغال والحمر لتركبوها وزينة.."، مما يدل على إن من الناس من استعمل البغال للركوب وللزينة. قد كان من الأشراف والوجهاء من يتخذ البغال للركوب في الطرق الوعرة. أما من هم دونهم في المنزلة، فكانوا يتخذون الحمير.
وقد ورد في شعر ل "بشر بن أبي خازم الأسدي" ما يفيد إن البغال كانت معروفة في بعض المواضع، وأن أبولها كانت تترك وقيعاً أي أثراً على الأرض. والظاهر انه قصد بعض الأرضين الوعرة التي كان من الصعب على غير البغال السير بها، وذلك مثل بلاد اليمن التي كانت تستعمل البغال للركوب وترفع الأثقال.
والحمير هي أول واسطة للركوب وللحل عند الحضر وأهمها، هي للحضري مثل الجمال للبدوي، وهي مركب مربح لا يسبب ازعاجاً، ولا سيما إذا كان اتاناً، لأنها أهدأ وآمنْ من العثار. هذا، إلى أنها صبورٌ تتحمل المشقات، ولعلّ صبرها وتحملها وسكوتها عند ضربها، قد حمل كل الناس على وسمها بالبلادة. فشبه البليد بالحمار، فإذا أريد تعبير شخص بالبلادة وعدم الفهم قيل إنه "حمار". ليس ذلك عند العرب وحدهم، بل عند غيرهم من الشعوب القريبة منهم مثل العبرانيين، والبعيدة عنهم فشهرة الحمار بالبلادة شهرة عالية. ويقال للحمار "حامور" "Hamor" في العبرانية. أما الأنثى، فإنها "أتون" "Athon" أي "أتان" في العربية. و أما الحمار الصغير، وهو ما يقال له "الكر" أو "الجحش"، فإنه "عير" "Ayir" في العبر انية.
ويظهر من ملاحظات بعض الباحثين إن الحمار في جزيرة العرب هو اقدم عهداً من الجمل ومن الخيل والبغال، إذ كان واسطة الركوب والتنقل في اوائل الألف الثانية قبل الميلاد. فلما حل الجمل محله خفف من واجباته وأعماله، وصار عند العرب في منزلة هي دون منزلة الجمل بكثير.
والبقر من الحيوانات القديمة في بلاد العرب، وهي من الحيوانات الملازمة لأهل الحضر في الغالب، ولا سيما لأهل الريف، أما الأعراب فإن استفادتهم منها غير ممكنة وتكاليفها كثيرة بالنسبة إليهم، ثم إنها لا تستطيع تحمل طبيعة البادية، لذلك لم يقبلوا عليها، ولم يعتنوا بتربيتها، بل ربما نظروا إلى أصحابها نظرة ازدراء وعدم احترام. و يستفاد من ألبانها ومن لحومها وجلودها، كما يستفاد منها في حرث الأرض، وفي سحب الماء من الآبار، وفي جر العربات. وقد عثر على ألواح مكتوبة بالمسند وعليها صور ثيران تقوم بحراثة التربة لتهيئتها للزرع.
والأغنام، هي المادة الرئيسية لتموين الناس باللحوم والصوف. تربى في كل أنحاء جزيرة العرب، ويستفاد من ألبانها كذلك. أما "المعز" فيربى في المناطق المتموجة، أي ذات التلال، وفي الأرضين الجبلية بصورة خاصة. ويستفاد منها مادة للحوم وللحليب وللجلود، ويستعمل شعرها للخيام السود المصنوعة من شعرها في تلك الأزمنة. ولكن هذه الأنواع من الماشية، لا تستطيع العيش في البادية، لذلك كانت من نصيب أهل المدن وحدهم. أما أهل الوبر الضاريون في البادية فإن ماشيتهم الوحيدة الإبل.
وعرفت جزيرة العرب الأسد، الذي قلّ وجوده فيها في الإسلام، ويظهر من كثرة أسمائه في اللغة ومن ورود اسمه في الشعر الجاهلي، أنه كان كثيراً فيها، وقد اشتهرت أماكن خاصة منها بكثره أسودها حتى قيل لها "مآسد" والواحدة "مأسدة". ومن هذه الأماكن "عثّر"، واليها نسبت "أسود عثر"، و "عتود" وهي قرية نسبت إليها الأسود كذلك. وقد عرف الأسد بشدة بطشه وبقوته وبسيادته على سائر مملكة الحيوان في القوة، ولهذا لقبوا الشجاع الذي لا يقهر أسداً.
أما بقية الحيوانات المعروفة باسم الحيوانات الوحشية، أي التي لم تألف الإنسان، فمنها النمر والفهد والثعلب والذئب والقط الوحشي والضبع والبقر الوحشي، أو الرئم والحمار الوحشي، وقد كان الجاهليون يصطادونه ويأكلونه عند الحاجة، حتى حرمه الإسلام، والنعامة والغزال والضَبّ، وله ذنب معقد، و يأكله الأعراب. والورل والوزغ، واليربوع، والقنفد. ولا تزال مواضع من اليمن والحجاز وحضرموت تحتضن قردة تتيه وحدها على الجبال والمرتفعات، فخورة بأنها من نسل تلك القرود التي عاشت قبل الإسلام بأمد طويل.
وعرف العقاب والبازي والنسر والصقر والبوم من بين الكواسر التي تنقض على الطيور الضعيفة والهوام فتعيش عليها، والغراب بأنواعه معروف في جزيرة العرب وله قصص في الأساطير العربية، وهذا الطائر قصص في الآداب الأعجمية كذلك، لها علاقة كما هي عند العرب بالتفاؤل والتشاؤم بصورة خاصة وكان من الحيوانات التي تركت آثرا في أساطير الشعوب القديمة وما برح الناس يتطيرون من نعيبه. والهدهد المذكور في القرآن الكريم، من الطيور الجميلة المحبوبة، وهناك أنواع عديدة من الحمام والعصافير والقطط والعنادل، وغيرها من الطيور الجميلة ولبعضها أصوات جميلة أخاذة ساحرة، كما إن لبعضها ألوانا زاهية.
والجراد، وان كان طعاما شهياً لكثير من البدو، بلاء على أهل الحضر يأكل زرعهم ويأتي على ما غرسوه فتحل. بهم المجاعة، ويزيد في قساوة الطبيعة على الإنسان. ولذلك عد نقمة توجهها الآلهة على البشر، وتعبيراً عن الغضب الإلهي على الخارجين على طاعة الآلهة، ولما كان يحدثه من أضرار بالزرع والأثمار و الأشجار.
والعقارب ذات أحجام وألوان، وهي تلغ من تصيبه فتؤذيه وتؤلمه إيلاماً شديداً، وهي مثال الحقد واللؤم عند العرب. يضرب المثل بطبيعتها، على عكس الأفاعي والحيّات، مع أنها مؤذية كذلك، وقد تميت من تلدغه. والسبب في ذلك أنها أكبر حجماً من العقرب، وفي استطاعة الإنسان رؤيتها وتجنبها، ثم إنها لا تقدم على الإنسان ولا تلدغه إلا إذا شعرت أنها في وضع حرج مخيف بالنسبة إليها. ولهذا ورد في الأمثال: "نحو العقرب لا تقرب، نحو الحية افرش ونم "، وزعم إن العقرب عمياء مع أنها ترى مثل سائر الحيوانات. ولكن صغر حجمها ولونها الذي يقرب من لون التراب، وكثرة وجودها في البيوت، هي عوامل تجعل الإنسان لا يميزها بسهولة، ولا يشعر بها إلا وقدمه عندها أو فوقها، فتلدغه عندئذ دفاعاً عن نفسها، كما يفعل أي حيوان آخر باستعمال ما عنده من وسائل الدفاع عن النفس.
وقد تركت الأفاعي والحيّات أثراً كبيراً في القصص العربي ولما كان بعضها كبير الحجم، يقفز على من يهاجمه بسرعة خاطفه، أفزع الناس في البوادي والأودية، وترك في مخيلاتهم باقية لا تنسى. جعلهم يربطون بين الحيات والأفاعي والعفاريت، وبين الجن "الجان"، بأن جعلت فصائل منها.
وتعيش في الرمال وفى الغابات وبين الصخور، فصائل من الحيات مختلفة الأحجام، بعضها صغير، يقفز قفز بعض السمك فوق سطح البحر، أو الهوام وبعض الحشرات فوق سطح الأرض. فلا يشعر المار إلا وأمامه حية قافزة تفزعه وترعبه. وقد طار صيتها وانتشر خبرها خارج حدود جزيرة العرب، فوصفت بلاد العرب بكثرة الحيات الطائرة، حتى زعم إن لبعضها أجنحة، وأنها ذات ألوان متعددة، وكوّن وجودها قصصا في مخيلة الآشوريين واليونان والرومان، نرى أثره فيما ذكره "هيرودتس" و "سترابو" عن تلك الحيات.
وقد فزع جيش "أسر حدون" في أثناء اختراقه البادية من كثرة الثعابين والحيات التي كانت تثور عليهم وتقفز أمامهم كما يقول نص "أسر حدون". وذكر إن من بينها ثعابين ذات رأسين، وأن من بينها ما له جناح فيطير. ولما مرّ الجيش بأرض "بوزو" "بازو" "Bozu" "Bazu"، وجد الأرض مغطاة بالثعابين والعقارب، وهي في كثرتها مثل الذباب والبعوض. والظاهر إن البوادي كانت منازل طيبة للثعابين. وقد تذمر الاسرائيليون من "الثعابين الطائرة" وفزعوا منها عندما كانوا يقطعون البوادي والفيافي في طريقهم إلى فلسطين. وقد أفزعت السياح المحدثين والمستشرقين، ومنهم "لورنس" الذي هاله ما رأى من كثرة الثعابين في الأماكن التي نزل بها وفي جملتها "وادي السرحان".
والسمك هو من أهم مواد. العيش لسكان سواحل الجزيرة، يعيشون عليه ويبيعونه لحماً جافاً ويصدرونه إلى الأماكن البعيدة ويحملون الطري منه إلى الأماكن التي لا تبعد كثيراً عن الساحل. ويجفف ويدق ليكون طعاماً عند الحاجة إليه، كما يكون صعاما لحيواناتهم كذلك. ولا يزال سكان السواحل يصيدون السمك بالطرق التي تعوّد آهل الجاهلية استعمالها في السمك. ويأتي سمك "السردين" أي السمك الصغير في مواسم الشتاء إلى السواحل بكثرة، فيصاد بسهولة وتغذى به الحيوانات. وطالما تنبعث الروائح الكريهة ويتراكم الذباب بدرجة منفرة من تكدس الأسماك المعرضة للشمس لتجفيفها، فتكون من شر الأماكن لمن لم يتعود دخولها.
ومن أنواع السمك الكبر الذي يوجد في البحر الأحمر و في البحر العربي و الخليج، نوع يقال له "القرش"، يحتاج صيده إلى مهارة و براعة ، و يحمل لبيع لحمه مقطعا في الأسواق.
و قد اشتهرت اليمن و الطائف في الحجاز و مواضع أهل الخضر الأخرى بدباغة الجلود و معالجتها لتحويلها إلى مادة نافعة لصنع الأحذية أو الدلاء أو القُرَب و ما شابه ذلك. و قد تصدَّر الجلود مدبوغة، إلى العراق أو إلى بلاد الشام لبيعها هناك.
و ليست لدينا في الزمن الحاضر دراسات علمية دقيقة عن أنواع الحيوانات التي عاشت في جزيرة العرب في العصور السحيقة لما قبل الإسلام. فما عثر عليه من بقايا عظام قديم، أو أصداف و محار، هو قليل لا يكفي لإعطاء أحكام علمية عن حيوانات جزيرة العرب في العصور البرنزية و الحديدية و الحجرية، أو ما قبل هذه العصور التأريخية. فليس لنا إلا الانتظار، حتى تأتي الفرص الملائمة التي يقوم فيها العلماء المتخصصون بالتجوال في مختلف المناطق بحثا عن آثار عظام وهياكل، تكشف القناع عن ذلك العالم الحي، الذي عاش في هذه البقاع قبل آلاف السنين.
وإذا كان الجمل، هو رمز جزيرة العرب، لالتصاقه بها، فإن النخيل هي رمز آخر لها، وكناية عن أهم حاصل و منتوج زراعي تصدره تلك البلاد، ولهذا صارت رمزاً لها. وصار "التمر"، عند كثير من المسلمين من أهم ما يتناولونه في شهر رمضان، للإفطار به، لأنه رمز الإسلام ورمز المدينة التي عاش وتوفي فيها الرسول.
وكما أفاد الجمل أهله الفوائد المذكورة المعلومة، من ناحية حمله ولحمه وجلده ووبره، كذلك أفادت النخلة سكان جزيرة العرب فوائد عديدة، حية وميتة، أفادتهم في تقديم ثمرة صارت إداماً للعرب، وطبّاً يستطبون بها لمعالجة عدد من الأمراض. ومادة استخرجوا منها دبساً وخمراً وشراباً، وأفادهم كل جزء من أجزائها، حتى أنهم لم يتركوا شيئاً من النخلة يذهب عبثاً. فهي إذن رمز الخير والبركة بكل جدارة وحق لأهل جزيرة العرب، لا يدانيها في ذلك أي نوع من أنواع النباتات النامية في هذه البلاد.
وكائن له هذه الفوائد والمنفعة، ينمو ويثمر بسهولة ويسر، لا بد إن يثمن ويقدر، ويميز على غيره. وهذا صارت النخلة سيدة الشجر، لا عند العرب وحدهم بل عند قدماء الساميين أيضاً، وأحيطت عندهم بهالة من التقديس والتعظيم. وزخرفت معابدهم بصورها واستعمل سعفها الأخضر في استقبال الأعياد والأبطال والملوك وكبار الضيوف، لأنه علامة اليُمن والبركة والسعادة والفرح. ولا يزال السعف زينة تزين بها الشوارع في المناسبات العامة المهمة حتى اليوم. وقد عثر على صورها وصور سعفها على النقود القديمة وفي جملتها نقود العبرانيين الدين يحترمون النخلة احتراما لا يقل عن احترام العرب لها، وهذا ورد ذكرها في مواضع عديدة من، التوراة والتلمود.
والنخيل، هي مثل الجمال ثروة ورأس مال يسر على صاحبه ربحاً وافراً. ومن كان له نخل وافر كان غنياً ثرياً. وقد ربح يهود الحجاز أرباحاً طائلة من اشتغالهم بزراعة النخيل هناك. فالتمر هو مادة ضرورية للأعرابي يعيش عليها ويأتدم بها، و إذ هو لم يكن يفلح ولا يزرع، كان يشتريه مقايضة في الغالب من تجار التمور، فيكسب أصحاب النخيل أرباحا طائلة من بيعهم التمور. ولا يوجد مكان في جزيرة العرب فيه ماء، إلا والنخلة هي سيدة المزروعات فيه، بل تكاد تكون النبات المتفرد بالزرع في أكثر تلك الأمكنة. لا يزاحمها نبات آخر من النبات.
والنخلة هي من أقدم الأشجار التي احتضنها الساميون، وللفوائد التي حصل الساميون عليها من هذه الشجرة.، هي التي حملتهم على تقديسها وعدّها من الأشجار المقدسة، فنجد النخلة مقدسة. عند قدماء السامين وعدّوا ثمرها وهو التمر من الثمار المقدسة التي تنفع الناس.
أما الكروم، فقد غرست في مناطق من الجزيرة اشتهرت وعرفت بها مثل الطائف واليمن. و أما الأشجار المثمرة الأخرى مثل الرمان والتفاح والمشمش وأمثالها، فقد غرست في مناطق عرفت بالخصب، وبتوافر الماء فيها، ويميل أهلها إلى الزراعة والاستقرار، مثل مدينة "الطائف" مصيف أهل مكة منذ الجاهلية، واليمن. وقد ذكر إن الكروم دخلت إلى بعض المناطق حديثاً، فورد أنها دخلت إلى "مسقط" مثلاً في القرن السادس عشر للميلاد، على أيدي البرتغاليين، ودخلت إلى الحجاز في القرن الرابع بعد الميلاد غريبة من بلاد الشام. ويرى بعض الباحثين إن النبط واليهود كانوا الوسطاء في نقل الأشجار المثمرة إلى الحجاز.
ما أشجار ضخمة تمد الناس بالخشب على نحو ما تجده في. الهند أو في إفريقية، فلجفاف الجزيرة لا نجد فيها مثل تلك الأشجار. لذلك استورد العرب خشب سفنهم ومعابدهم وبيوتهم من الخارج في الغالب، من إفريقية ومن الهند، خلا الأمكنة القريبة من الجبال والمرتفعات التي يصيبها المطر، وتصطدم بها الرطوبة، فقد نبتت فيها أشجار كونت غابات وأيكات، أفادت من في جوارها، إذ أمدتهم بما احتاجوا إليه من خشب لاستعماله في مختلف الأغراض. وقد كانت منطقة "حسمى" و أعالي الحجاز ذات غابات، وقد تعبّد أهلها لإله اسمه "ذو غابة"، إلهَ الغابات، كما كست الأحراج الطبيعية والغابات جبال اليمن وجبال حضرموت وعُمان.
وما زال أهل العروض ولا سيما سكان الخط، يستوردون أخشاب سفنهم من الهند، لعدم وجود الخشب الصالح لبناء السفن عندهم أو في أماكن قريبة منهم. وهم في ذلك على سنة أجدادهم الذين عاشوا قبل الإسلام بل قبل الميلاد، يذهبون بسفنهم الشراعية إلى سواحل الهند وسيلان تحمل إليها التمور وحاصلات جزيرة العرب والعراق وتعود بهم محملة بحاصلات الهند ومنها الخشب الثمين للاستفادة منه في بناء السفن ولاستعماله في المعابد الضخمة المهمة وفي قصور الملوك.
والسدر من الأشجار المعروفة في جزيرة العرب، وترتفع شجرته أمتاراً عن سطح الأرض، وتكوّن ظلا يقي من يجلس تحته لهيب الشمس ووهجها المحرق. وتكون له ساق قوية متينة. وهو لا يحتاج إلى سقي دائم، لأن جذوره تمتد عميقة في باطن الأرض، فتمتص الرطوبة، ويعطي ثمراً هو "النبق"، ويستعمل ورقه استعمال الصابون في تنظيف الجسم.
وأشجار مثل السدر ذات ارتفاع وظل، وهي أشجار ذات نفع كبير لأهل البلاد التي تغلب عليها طبيعة الجفاف، لا يمكن إن يقدر أهميتها وفائدتها إلا من ركب الصحراء في يوم حار، ثم جاء فجأة فجلس تحت ظل شجرة تقيه وتقي حيوانه من لهب الشمس، سيرى نفسه في جنة وسط جهنم. فلا عجب إذا ما عبد بعض العرب وبعض الساميين مثل هذه الأشجار، وتقربوا إليها بالنذور والقرابين، وتوسلوا إليها، أو عدّوها من الأشجار المقدسة، من الأشجار المباركة، من أشجار طوبى، الأشجار التي وعد بها المتقون في الجنة.
وقد عبد قدماء العبرانيين بعض الأشجار المثمرة، وعدّوها إلاهة أنثى، لا إلهاً ذكراً، وذلك لخاصية الحمل التي فيها. وقد تصوروا إن للقمر أثراً في حمل تلك الأشجار، أي في إعطاء الثمرة.
وُقد ذكرت أسماء بعض الفواكه والأثمار والأشجار في القرآن الكريم، ويدل ذلك على وجودها في الحجاز، واستعمال الناس لها، ووقوفهم عليها، مثل التين والزيتون والأعناب والطلح والسدر والرمان وعلى وجودها وزرعها في الحجاز، قبل الإسلام بأمد. ولم يكن الحجاز مثل اليمن وحضرموت في كثرة الأشجار والفواكه، وذلك لجفافه بالقياس إلى جو العربية الجنوبية الذي ساعد على نموّ الأشجار.
والأثل والأدراك والغضى الذي يستخرج منه الفحم، والمعروف بجمره، و "السنط"، والسمح، و "الصعتر"، وأمثالها، هي من الأشجار التي لا تزال تنمو وتعيش في مواضع متعددة من الجزيرة، وبعضها في الأقسام الغربية والجنوبية حيث تنمو وتنبت على المرتفعات، يستخرج منها الناس وقوداً، أو ثمراً بريا يأكلونه، وقد يستفيدون من ورقه فيجففونه ويسحقونه فيبيعونه.
و أما الحبوب والخضر والبقول، فتحتاج كلها إلى سقي، لهذا انحصرت زراعتها في الأماكن التي تتوافر فيها المياه أو تتساقط عليها الأمطار في المواسم المناسبة. لذلك نجدها في الحجاز وفي اليمن وفي العربية الجنوبية وفي مواضع المياه من نجد والعروض. والحبوب هي الحنطة والشعر والذرة والأرز، وسأتحدث عنها وعن بقيتها في باب الزراعة عند الجاهليين. وبعض الخضر، مستورد من الخارج، أدخل من العراق أو من بلاد الشام أو من إفريقية والهند، فالبطيخ مثلا المعروف بع "الخربز" عند أهل المدينة مستورد كما يدل عليه اسمه الفارسي من العراق: استورد قبل الإسلام بأمد. ويمكن الاستدلال من أسماء الأثمار والخضر، ومن دراسة توزيعها وأماكن وجودها، على الأماكن التي جاءت منها، فدخلت جزيرة العرب قبل الإسلام.
أما "البخور" واللبان - بترول العالم في ذلك الزمان - والصموغ والمرّ والمنتوجات الزراعية الأخرى التي اشتهرت بها العربية الجنوبية، وكانت مصدر رخائها، ومصدر تنافس الدول الكبرى عليها في ذلك الزمان، فقد زالت أهميتها بالتدريج، وذهب أثر سحرها بتبدل الأيام. و "ظفار" والمناطق الأخرى" وان كانت لا تزال ترى أشجار البخور تنبت على الفطرة حتى اليوم، قد زالت دولتها الآن، فلا تأتي للسكان بالذهب والفضة، فقد تغير ذوق العالم، وتبدلت تجارته، وصار يفتش عن الذهب الأسود، منتوج الطبيعة في باطن الأرض.
وفي هذه المواضيع من العربية الجنوبية وفي الأودية وحافات الهضاب والجبال التي كانت تنبت بها تلك المواد الثمينة، والتي لا تزال تنبت على الطبيعة، تشاهد كهوف ومغاور غريبة وآبار وكتابات جاهلية بالمسند، وآثار مقابر تتحدث كلها عن قوم كانوا قد استوطنوا هذه الأماكن قبل الإسلام بزمان طويل. أما الان، فهي خرائب، ترجو من الأحياء توجيه نظرهم إليها لإحيائها ولاستنطاق آثارها وكنوزها لتحدثهم عن ماضيها القديم.
وقد حبت الطبيعة اليمن بمزية جعلتها تحتضن كل النباتات المذكورة، وتنبت اكثر أنواع المزروعات، وذلك بأنعامها عليها بجبال وبمرتفعات وبمنخفضات حارة رطبة، هيأت لها ثلاثة جواء، تنتج محصولات ثلاثة أنواع من المناخ: منتوج المناخ المرتفع البارد، ومنتوج المناطق المعتدلة، ومنتوج المناطق الحارة.
وقد عرف أهل اليمن الأذكياء كيف يستغلون تربتهم، فعملوا مدارج على سفوح جبالهم وعلى المرتفعات، أصلحوا تربتها، وذلك لحصر مياه المطر عند نزوله، ضماناً لدخوله التربة وإروائها، وزرعوا تلك المدارج أو السلالم العريضة بمختلف المزروعات وذلك قبل الإسلام بأمد طويل، فأمنوا بذلك خيراً وافراً لهم، جعل اليمن من أسعد بلاد جزيرة العرب، فهي العربية السعيدة والعربية الخضراء بكل جدارة، وهي موطن الحضارة وأرقى مكان نعرفه في الجزيرة في أيام ما قبل الإسلام.
ومن النبات ما هو دخبل استورد من الخارج، من العراق أو من بلاد الشام، وقد احتفظ قسم منه باسمه الأعجمي القديم. ويظهر إن بعضه قد دخل بعد الميلاد. وقد يكون من المفيد دراسة نبات جزيرة العرب قبل الإسلام، لمعرفة الدخيل منه وكيفية وصوله إلى الجزيرة، كما يستحسن دراسة الكتابات الجاهلية لاستخراج ما ورد فيها من أسماء النبات.
و أما البوادي فإن ظروف الخصب و النماء فيها محدودة، تركزت في مواضع المياه و في الأماكن الرطبة التي تكون المياه الجوفية فيها على حافة القشرة، و في أعقاب الأمطار، حيث تخضر الأرض و تلبس حلة سندسية جميلة، لكن لبسها لا يدوم طويلا، فسرعان ما تمزقها الرياح الجافة و الاهوية الحارة ، فتقضي عليها وتظهر حقيقة ما تحتها من تربة جافة عبوس، لا مكان للنبات فيها ولا مجال لزرع فيها في مثل هذه الظروف.
والواحات ومواضع الآبار والمياه في البوادي، هي رحمة للإنسان حمّاً، ومنظر تقرّ به العين. فالواحة في البادية، لؤلؤة وكنز وجنة وسط جحيم، لا يدرك جمالها ولا يعرف قدرها إلا من اضطر إلى ركوب البوادي وتعرض لرياح السموم ووهج الشمس وعواصف الرمال تستقبل الأوجه بذرات الرمل الناعمة، تهاجم العيون والأنوف والأفواه، وتضطر حتى الجمل إلى البطء في سيره والى التوقف، ثم تأتي على ما لدى الإنسان من ماء حرص على حمل أكبر كمية يستطيع حملها للوصول إلى مكانه المقصود لضمان حياته في هذه البادية وحياة حيوانه الذي هو فيها جزء من حياته أيضا. ولولا الآبار والواحات في هذه البوادي، لما كان من الممكن طرقها وسلوكها، وإلا كان الدمار والهلاك.
وفي هذه المواضع التي حبت مما الطبيعة ب "إكسير الحياة" يستعيد المسافر نشاطه ويتجدد أمله، ويسترد قواه، يعطيه ماؤها قوة تعيد إليه كبرياءه وعظمته وجبروته، ثم تنسيه كل ما تعرض له من مصاعب ومشقات، وما أبداه من عجز وضعف تجاه القوى الخفية القادرة المهيمنة على الصحراء. وعندئذ يتذكر حكمة:(وجعلنا من الماء كل شيء حي). ويشعر ببحر الماء والخضراء، يسحر هذه الأشجار والشجيرات والأعشاب النامية في هذه التربة بفضل "إكسير الحياة". ومهما كان الإنسان في هذا المكان من السذاجة والبلادة والجهل، فلا بد إن يستولي عليه شعور من حيث لا يشعر بعظمة سحر هذا المكان.
أما الغرباء الذين يعجبون من تقاتل العرب فيما بينهم على موضع صغير فيه بئر أو بركة ماء أو عشب، فإنهم سيدركون سر هذا التقاتل في حياة أهل البادية لو كلفوا أنفسهم يوماً اجتياز تلك البوادي الواسعة العابسة. عندئذ فقط، يدركون إن ذلك القتال الذي وسم أهل البادية بسمة حب الغزو والغارات لم يكن سببه فردية وأنانية، وإنما غريزة إنسانية تغلبت في كل إنسان متى عاش في هذه الظروف القاسية العابسة الفقيرة. إنها غريزة المحافظة على الحياة.
ولا غرابة بعدُ إذا ما تغنى العربي. بمواضع المياه والبادية بعد نزول الغيث عليها، و إذا ما أظهر الحنين إليها، وتوجع في شعره وفي غنائه على الليالي المقمرة يقضيها في باديته يناجي سماءه الصافية ونور قمره الساطع يغازله وبوحي إليه، ويرسل أليه النسمات العليلة، والى جانبه حبيبته. يذكر حسه هذا في شعره وفي غنائه وفي موسيقاه، حتى ليبدو للغريب، وكأن ما يقوله العربي ويحس به نغمة واحدة ساذجة مكررة تعاد وتعاد من غير معنى ولا سبب. ولكن حسه هذا حس الصحراء، وليس في الصحراء غير نغم واحد، تترنم به الطبيعة، فإما هدوء شامل، و أما نسمة واحدة عليلة مشمره، و أما عواصف رملية، إذا هدأت عاد إلى الصحراء هدوؤها المعهود.
ومناخ جزيرة العرب - على العموم - حار شديد الحرارة، جاف، إلا على السواحل، ولا سيما في التهائم، فإن الرطوبة تكون عالية فيها، ولهذا يتضايق الناس من أثر الحر فيهم، مع إن الحرارة ذاتها فيها لا تكون عالية كثيرا، و إنما مبعث هذا التضايق هو من الرطوبة المصحوبة بالحرارة، ولهذا صار بعض مواضع التهائم من شر الأمكنة على وجه هذه الأرض.
ولهذا الجو الرطب الحار أثر في حالة الناس، في صحتهم وفي نشاطهم. فانتشرت الأمراض في الأماكن التي تكثر فيها السباخ والمستنقعات، وفتكت بالناس، وتكدس فيها الذباب وتجمعت الحشرات لملاءمة مثل هذه الأجواء لمعيشة هذه المخلوقات.
ولهذا السبب المذكور، عاشت في هذه الأرضين ونمت النباتات التي تألف المناطق الحارة الرطبة، والأعشاب التي تعيش على المستنقعات وفي الأرض الرطبة، من حشائش وقصب وأعشاب.
أما في الداخل، فإن الحرارة فيها تكون جافة، ولهذا فإنها لا تكون حديدة الطبع، على نحو حر السواحل. ويتلطف الجو في الليالي في النجاد، فيكون الليل رحمة للناس ينسيهم قسوة النهار وشدة حرارته، وفقر الحياة، لا، سيما إذا كمل القمر، وصار قرصاً يسحر الناظرين. فإن سحره يكون عاماً، يشمل الغني والفقير، ويبعث في النفوس الرقة والحنان، ويثير فيها عواطف الشجن المنبعثة من قسوة الحياة وشحها وفقر الأرض، فتأخذ النفوس الرقيقة في مناجاته بقيثارة بسيطة ذات ثقوب، ينفخ فيها لتخرج منها أصواتا تسع القمر فعل سحره في نفس الإنسان المعذب في النهار المحروم من طيب الحياة التي ينعم بها أهل الأرضين الآخرون، أو بآلات بسيطة أخرى صنعوها بأيديهم لتعبر أناملهم وأوتار آلاتهم الساذجة عن إحساسهم الحزين، ثم لا يكتفي أصحاب هذه النفوس الرقيقة في الغالب بإِرسال نغمات الحس العميق من آلة، بل يقرنون تلك النغمات الحزينة بنغمات بشرية تنطق بما في قلب الإنسان من حس وألم دفين، يوحيه إليه ألم الحرمان، ودغدغة النسيم العليل، وسحر القمر وتلألؤ مصابيح السماء. فتخرج نغمات شجية حزينة، تعاد وتكرر، لتسبح السماء على هذا الجمال الساحر، ولتفسر للسامع نوع الحياة في هذه البقاع التي وهبتها الطبيعة عاطفة عميقة، وسحراً فاتناً في الليل، وحرمتها خيرات الدنيا في أثناء النهار، ولتخبره بهذه النغمات المعادة إن الحياة هنا بسيطة لا تعقيد فيها ولا التواء وأنبا معدودة محدودة، وعودة وتكرار.
وقد يعجب الغريب من تغزل العرب ب "ريح الصبا"، ومن مسحهم لها إلى حد يبلغ الإفراط، فليس في أشعار العالم، ولا في نثرهم، شعر أو نثر فيه هذا القدر من التغزل بريح من الرياح. وقد لا يفهم الغريب أي تعليل يقدم إليه ولا يقبله، وخير جواب يقدم إليه هو حضوره بنفسه إلى جزيرة العرب للاستمتاع بلذة "الصبا" في ليلة مقمرة من ليالي الجزيرة، وسيعرف عندئذ سحر دلال "الصبا" وسحر تغزل العرب بها، على عكس "السموم"، التي تشوي الوجوه، وتعمي العيون، فتجعل الشعراء يلعنونها، والناس يتذاكرون ثقلها وشدتها عليهم وما ألحقته بهم من مهالك وأضرار.
والمطر هو غوث ورحمة لسكان جزيرة العرب، يبعث الحياة للأرض، فتنبت العشب والكلأ والكمأة والأزهار، ويحول وجهها العابس الكئيب إلى وجه مشرق ضحوك، فيفرح الناس وتفرح معهم ماشيتهم، ويخرج أهل الحضر إلى البادية للتمتع برؤية البساط الأخضر المطرز بالأزهار، وللاستمتاع بالمنظر الساحر الذي كسا الربيع به وجوه البوادي، ولصيد الغزلان والحيوانات الأخرى التي جاءت هي أيضاً من مأويها لتشارك الطبيعة في فرحتها، ولتشبع نفسها بعد جوع وعطش. وتفرح الإبل، ويدر لبنها، ويكثر نسلها، وتتضاعف بذلك ثروة أصحابها، ويسير الجمل متبختراً فخوراً بنفسه معتزاً، بطراً لا يقضم منها إلا ما يعتقد أنه طعام لذيذ له، يقضم من موضع ثم يتركه بطراً إلى موضع آخر، وقد كان قبل ذلك من جوعه يأكل كل ما يقع بصره عليه ويراه. أفليس من حق العرب أذن إن تسمي المطر "غيثاً" ? وأن تفزع وتتوجع من انحباسه، وأن تفزع إلى آلهتها تتوسل إليها لإرسال سحب المطر إليها، وتتقرب إليها بالدعاء وبصلوات "الاستسقاء" و "الاستمطار"، لترسل إليها غيثاً يغيثها ويفرج كربتها يدرأ عنها مصيبة تنزل بها إن انحبس المطر ? لذلك كان انحباس "الغيث" عنه العرب كارثة يتألم منها الناس، ويكابد من فداحتها الحيوان.
والجفاف هو الصفة الغالبة على جوّ جزيرة العرب، فالأمطار قليلة والرطوبة منخفضة في الداخل إلا التهائم والسواحل، فإنها تنتفع فيها كما ذكرنا. ولكن الطبيعة رأفت بحال بعض المناطق، فجعلت لها مواسم تنزل فيها الغيث، لإغاثة كل حي، وأهمها اليمن. أما عمان، فينزل فيها مقدار منه، ينفع الناس ويعينهم على تصريف أمورهم. و أما باقي الأقسام، فإن أكثرها حظوة ونصيبا من المطر، هي النفوذ الشمالي، وجبل شمر، فتنزل بها الأمطار في الشتاء، فتنبت أعشاب الربيع. و أما الصحارى الجنوبية فلا يصبها من المطر إلا رذاذ، وقد تبخل الطبيعة عليها حتى بهذا الرذاذ.
وينهمر المطر أحياناً من السماء وكأنه أفواه قرب قد تفتحت، فيكوّن سيولاً عارمة جارفة تكتسح كل ما تراه أمامها، وتسبل إلى الأودية فتحولها إلى أنهار سريعة الجريان. وقد لاقت "مكة" من السيول مصاعب كثيرة، وكذلك المدينة والمواضع الأخرى وقد يهلك فيها خلق من الناس، وتسيل مياه السيول إلى مسافات هي تصب في البحر، وقد تبتلعها الرمال فتغوص فيها وتجري في باطن الأرض مكونة مجاري جوفية، تقترب وتبتعد عن قشرة الأرض على حسب قربها أو بعدها منها، وعلى حسب قرارة المكان الذي تسيل عليه. وقد تبلغ البحر فتدفق عيوناً في قاعه، كالذي نشاهده في الخليد بين الساحل والبحرين. وقد استفاد أهل اليمن بصورة خاصة وأهل حضرموت والحجاز من السيول بأن بنوا سدوداً للسيطرة عليها، ولحبسها إلى حين الحاجة. وسد "مأرب" الشهر هو خير تلك السدود شهرة وصيتاً، وقد غذى بإكسير الحياة مساحات واسعة من أرض سبأ. وقد وجد السياح آثار سدود قديمة في نواحي من الحجاز وتجد والعربية الجنوبية تعود إلى ما قبل الإسلام، بنيت في مواضع ممتازة تصلح جيدا لمنع السيول من الذهاب عبثا، حتى إن المهندسين المحدثين رأوا انشاء سدود جديدة في هذه الامكنة للاستفادة من مياه السيول لإحياء ارضين موات في الزمان الحاضر، يمكن قلبها إلى زارع وجنان حضر.
إن ارض اليمن التي صادقتها الطبيعة فأحسنت اليها ووهبتها تحسدها المناطق الاخرى عليها، وهبتها امطارا موسمية ووهبتها جوا حاراً رطبا في تهامة اليمن، معتدلا في المرتفعات، وجوا لطيفا في الجبال، ووهبتها نباتات كثيرة تتباين تنوع هوائها وحيوانات عديدة كثيرة، ومعادن متنوعة.
السكان:
تعتبر اليمن أرض ذات حظ بعدد سكانها، فإنها حتى اليوم من أكثف مناطق جزيرة العرب وأكثرها سكانا. وسكانها ثروة مهجة ومصنع غذى بلاد العرب والبلاد الإسلامية بموجات من القبائل، نشرت الإسلام والثقافة العربية في البلاد المفتوحة، كما أنه موّن العراق وبلاد الشام في الجاهلية بقبائل، استوطنت هناك، فكوّنت حكومات مثل حكومة الحيرة وحكومة الغساسنة، ونسب المناذرة ونسب الغساسنة يرجع إلى اليمن. ولا تزال اليمن تقذف بالألوف من أبنائها كل عام، تقذف بهم في شتى الأنحاء إلى سواحل إفريقية المقابلة، حتى بلغ بعضهم الولايات المتحدة وإنكلترة، فكونوا فيها جاليات يمانية. ويعيش اليوم زْهاء مليون يماني خارج اليمن، هاجروا من بلادهم لظروف مختلفة لا مجال للبحث فيها في هذا المكان. وقد سبقهم أجدادهم قبل الإسلام، فطفروا حدود جزيرة العرب وذهبوا إلى مصر والى بعض جزر اليونان.
ويعد سكان "الجبل الأخضر" سعداء حقاً بالقياس إلى سكان جزيرة العرب الساكنين في العربية الشرقية أو في البوادي الواقعة في جنوب المملكة العربية السعودية، فإن الغيوم المثقلة بالأبخرة تصطدم بمرتفعات هذا الجبل فتضطر إلى تفريغ شحنتها عليه. وهذا توافرت المياه فيها، فاستغلها السكان وزرعوا عليها. وصارت الأودية من مواطن الحضارة القديمة التي تعود إلى ما قبل الإسلام بزمان طويل، كما صارت سفوح الجبال والمرتفعات موارد رزق للزراع، يستهلكون من الحاصل ما يحتاجون إليه، ويصدرون الباقي لمن يحتاج إليه من أهل بقبة جزيرة العرب. وما زال أهل البلاد يزرعون على سنة آبائهم وأجدادهم الأقدمين. وقد شاهد السياح آثار سدود في هذه المناطق شيدها الأقدمون للتحكم في الأمطار التي تسقط بغزارة وتجري سيولاً.
وفي مثل هشة الأمكنة نجد كتابات دونها أصحابها شكراٌ لآلهتهم على إنعامها عليهم بالغلة الوافرة وبالحصاد الغزير، أو لا نعامها عليهم بأرض حصبة ولمساعدتها أباهم على حفر بئر زودتهم بماء للسقي وللزرع، ووجود هذه الكتابات دليل ناطق على وجود الحضارة فيها في تلك الأيام.
أما مواطن الحضارة، فقد وزعتها الطبيعة بيدها، وما برح هذا التوزيع معترفاً به. وزعتها عليها توزيعها للنبات والمعادن والماء. ففي المحلات ذوات الحظ للتي أحبها الماء، فطهر فيها واحاتٍ وعيوناً واحساءً أو رطوبات أو نهيرات أو مطرا موسمياً، ظهر الاستقرار، وتولدت الحضارة على قدر إسعاف الماء ومقدار استعداده لوضع نفسه في خدمة الأهلين وفي خدمة حيواناتهم وزراعتهم لا فرق بين إن يكون الماء في باطن الجزيرة أو في الأودية أو في السواحل، ولو إن لموقعه دخلاّ في ازدياد ثروة أصحابه وفي تمكينهم من الاتصال بالخارج، فتنفتح عندئذ لهم أبواب العالم، كأن يكون الموضع على طريق، أو على مفترق طرق، أو على ساحل أو مرفأ بحري، أو على مقربة من بلد متحضر مثل العراق أو بلاد الشام. أما إذا كان واحة منعزلة ومحلاً نائي اً، فإن الحضارة لا يمكن إن تظهر بالطبع فيه ظهورها في الأماكن المذكورة.
ومن هنا نرى الحضارة والاستقرار والميل إلى الاستقرار في بلاد اليمن وحضرموت أظهر وابرز من أي مكان آخر، نرى فيها حكومات بارز المفهوم من الحكومة قبل الميلاد بأمد طويل، ونرى فيها مدناً عامرة مسوّرة لها حصون وقلاع وتنظيمات وتشكيلات حكومية، ونرى فيها مؤسسات دينية ترعى المسائل الروحية والروابط التي تربط بين البشر وخالقهم، ونرى أنظمة وقوانين مكتوبة وسدوداً وأبنية عالية مرتفعة وفناً ما زالت جذوره ومظاهره خالدة باقية في دم الناس. ثم نرى مثل ذلك أو قريباً منه في أعالي الحجاز وفي الأرضين الداخلة في هذا اليوم في المملكة الأردنية الهاشمية. اما الواحات والعيون والآبار، فقد صارت مستوطنات لتموين المستقر والقادم بالماء والتمر وبشيء من الحبوب والخضر، واذا كانت على طريق صارت مأوى للقوافل، ولهذا لم يكن من الممكن قيام حكومات كبيرة بها، لعدم توفر الشروط اللازمة لإنشاء الحكومات الكبيرة بها، واضطرت إلى توثيق علاقاتها بأهل البادية، وإلى الارتباط بهم بروابط العهود والمواثيق ودفع الإتاوة لمنعهم من التعرض لهم بسوء.
فالحياة في جزيرة العرب، هي هبة الماء، ولهذا انحصرت في هذه الأماكن المذكورة، وصار فرضاً على رجال القوافل وأصحاب التجارات المرور بها، وهو أي الماء، الذي رسم لأصحاب الجمال خطوط سيرهم إلى المواضع التي يربدون السير إليها، وحدد لهم معالم الطرق. وأقام لهم أماكن الراحة، وما زال الأعراب والتجار يسلكون تلك الطرق، للوصول إلى الأماكَن النائبة بالوسائل القديمة التي استعملها سكان الجزيرة قبل الإسلام، وبالمركب القديم، بطوله وبعرضه وهو الجمل. ولكن وسائط النقل الحديثة التي نافسته وأحلته مكرما على التقاعد واضطرته إلى الانسحاب من بعض الطرق، لا تزال تطارده وتنافسه في الطرق الأخرى، وعندئذ لا بد من حدوث مشكلات بالنسبة إلى تربية هذا الحيوان الصحراوي القديم الذي أخلص للبادية، وبقي على إخلاصه لها، ولكن الأمر ليس بيد البادية، وإنما هو بأيدي قاهر البوادي والأرضين والجواء، السيد الإنسان.
أما السواحل، فخلقت من سكانها رجال بحر، يحبوّن ركوب البحر واستخراج ما فيه للتعيش به ولبيعه وتصريفه في الأسواق، كما جعلتهم أصحاب ضيافة، يقدمون الماء وما عندهم من طعام إلى السفن القادمة إليهم، ويعرضون ما عندهم من سلع فائضة لبيعها لهم، ويشترون من أصحاب تك السفن ما عندهم من بضاعة نافعة، فتحولت إلى أسواق للبيع والشراء، المعاملون بها مزيج من القادمين إليها من أنحاء الجزيرة ومن الوافدين الأجانب القادمين إليها من الخارج، وقد اجتذبت هذه الأمكنة إليها الغرباء، فسكنوا بها، واختلطوا بسكانها، وتولدت بها أجيال مختلطة ممتزجة السماء، كلما كانت قريبة من ساحل مقابل، كان مظهر الاختلاط والامتزاج أظهر وأكثر، وهذا احتضنت تهامة والسواحل العربية الجنوبية عدداً كبيرا من الإفريقيين، هاجروا إليها من السواحل الإفريقية المقابلة واستقروا فيها بكثرة، واختلطوا بأصحاب البلاد الأصليين. أما سواحل عمان والخليج، فقد اجتذبت إليها الهنود والفرس، وقد عُثر في مواضع من سواحل عمان على بقايا عظام بشرية اتضح إنها من بقايا الهنود "الدراوديين"، سكان الهند القدماء. ولم بنس البحارة وأصحاب السفن اليونان سواحل جزيرة العرب، فأقاموا مستعمرات يونانية في مواضع متعددة منها سيأتي الكلام عليها فيما بعد.
وقذفت الطبيعة بالأعراب في كل مكان من أمكنة الجزيرة، حتى زاد عددهم على الحضر. والصفة الغالبة علهم، أنهم لا يرتبطون بالأرض ارتباط المزارع بأرضه، ولا يستقرون في مكان ألا إذا وجدوا فيه الكلأ والماء، فإذا جفّ الكلأ وقلّ الماء، ارتحلوا إلى مواضع جديدة. وهكذا حياتهم حياة تنقل وعدم استقرار، لا يحترفون الحرف على شاكلة أهل الحضر، ولذلك صارت حياتهم حياة قاسية، يتمثل مجتمعهم في القبيلة. فالقبيلة هي الحكومة والقومية في نظر البدوي.
وإن حياة على هذا الشكل والطراز، حياة لا تعرف الراحة والاستقرار، ولا تعترف إلا بمنطق القوة، حياة جلبت المشقة لأصحابها، والمشتقة لمن يقيم على مقربة منهم من الحضر. فهم في نزاع دائم فيما بينهم، ثم هم في نزاع مع الحضر، وهذا كان خطر البداوة على العرب، يوازي خطر الغرباء البعداء عليهم، وصارت البداوة مشكلة عويصة لكل حكومة، ولا تزال مشكلة حتى اليوم. ولن تحل إلا بأقناع الأعراب بان حياة الاستقرار خير لهم وأفضل من حياتهم التي يحيونها، وذلك بوسائل لا يدخل الكلام عليها في حيز هذا الكتاب.
الطرق للبرية:
من نتائج غلبة الطبيعة الصحراوية على أرض جزيرة العرب، إن انحصر امتداد شرايين المواصلات فيها في أماكن خططتها الطبيعة نفسها للإنسان، فجعلتها تسير بمحاذاة الأودية ومواضع المياه والآبار، وهي السبل الوحيدة التي يستطيع المسافر ورجال القوافل إن يستريحوا في مواضع منها ويحملوا منها الماء. وتنتهي رؤوس هذه الطرق بالعراق وببلاد الشام في الشمال وبالعربية الجنوبية وبموانئها في الجنوب، وهناك طرق أخرى امتدت من العربية الشرقية إلى العربية الغربية، ولها مراكز اتصال بالطرق الطولية الممتدة من الشمال إلى الجنوب في الغالب. وقد أقيمت في مواضع من هذه الطرق مواضع سكنى ذات مياه من عيون أو آبار، عاشت ونمت بفضل منة مائها عليها، فصارت منازل مريحة لرجال القوافل يحمدون آلهتهم عليها، ويحمد أصحاب ذلك الماء آلهتهم على منتها عليهم بإعطائهم ذلك الكنز العظيم الذي أعانهم على العيش وجلب لهم كرم التجار.
وفي العقد الحساسة من هذه الطرق نشأت المستوطنات، ومواطن السكنى القديمة انتشرت في أماكن متباعد بعضها عن بعض في الغالب، فكان لهذا التوزيع آثر كبير في الحياة الاجتماعية والحياة السياسية والعسكرية، ولا شك. وما الطرق الحالية التي يسلكها الناس اليوم إلا بقية من بقايا تلك الطرق القديمة التي ربطت أجزاء الجزيرة بعضها ببعض، كما ربطت الجزيرة بالعالم الخارجي. ونجد في مخلفات تلك المستوطنات مواد مستوردة من مواضع بعيدة، هي دليل بالطبع على إن الإنسان كان يقطع الطرق قبل الميلاد بمئات من السنين ليتاجر ويبيع ويشتري دون إن يبالي ببعد المسافة وطول الشقة وصعوبة الحصول على وسائل النقل وما يتعرض له، وهو في طريقه إلى هدفه، من مخاطر وأهوال.
وتعد "نجران" من أهم المواضع المهمة الحساسة في شبكة المواصلات البرية قبل الإسلام، ففيها تلتقي طرق المواصلات الممتدة في الجنوب، وفيها يتصل الطريق البري التجاري المهم الممتد إلى بلاد الشام، فيلتقي بطريق العربية الجنوبية ومنها يسير الطريق المار إلى "الدواسر" فالأفلاج فاليمامة أو ساحل الخليج ومنه إلى العراق.
ولم تموّن الطرق البرية المارة بالعربية الشرقية أي "ساحل الخليج" العراق بتجارة جزيرة العرب وبالمواد المستوردة إليها من الهند، بل موّنتها بموجات من البشر منذ آلاف السنين قبل الميلاد. فقد كانت القبائل العربية النازحة من الجنوب لأسباب متعددة تحطّ رحالها على هذا الساحل، انتهازاً لفرصة ملائمة ترحل خلالها إلى العراق لتستقر فيه. وقد سلكت أكثر القبائل العربية التي استوطنت العراق هذا السبيل حينما هاجرت إليه قبل الميلاد وبعده أيضاً
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|