أقرأ أيضاً
التاريخ: 6-11-2016
2500
التاريخ: 15-8-2019
3427
التاريخ: 5-2-2017
9040
التاريخ: 18-2-2021
1559
|
تعاونت عدة عوامل على خلق العقيدة الدينية ، فمنها الخوف من الموت ، ومنها كذلك الدهشة لما يسبب الحوادث التي تأتي مصادفة ، او الاحداث التي ليس في مقدور الانسان فهمها (1) ، كذلك فأنها نشأت بالأساس عن فطرة الانسان بما فيها من تساؤل لا ينقطع وخوف وقلق وامل وشعور بالعزلة (2) .ولما كان الفكر يحاول الوصول الى حقائق الاشياء من خلال الادراك لذا فقد كان ((على العاقل ان يسلك سبيل السعادة وليست السعادة مقصورة على الدنيا)) (3) .
ولما كان العرب ذوي فطره سليمة فقد كان للقوى القدسية دور ذو تأثير بارز في بناء الفكر العربي قبل الاسلام (4) .
فقد كان الدين ومن خلال الثواب والعقاب يدفع الانسان للبحث في الماضي والنظر الى المستقبل القريب والبعيد لذلك اتجه الانسان الى معرفة الحوادث ومردوداتها وذلك هو الذي ادى الى تكون فكرة التاريخ والبحث في الماضي من اجل المستقبل .
لقد انتشرت الوثنية في جزيرة العرب الى جانب الأحناف – الموحدين - اتباع نبي الله ابراهيم عليه السلام ، والذين كانوا امتداداً طبيعياً لوجود هذه الديانة في جزيرة العرب منذ ان بعث الله نبيه ابراهيم عليه السلام .
ويعد وجود هؤلاء الاتباع في هذه المنطقة بحد ذاته دليلا على ان امة العرب لم تنقطع تاريخيا عن الاصول الحضارية الاولى في الجزيرة والتي كانت المركز الذي انطلقت منه الهجرات الى وادي الرافدين ووادي النيل (5) ، ودليلا اخراً على اهمية الفكر التاريخي عند العرب قبل الاسلام اذ ان عدم التدوين بصورة واسعة في ذلك العصر لا يعد دليلا على عدم وجود الفكر التاريخي عندهم .
ومن المعتقدات الدينية الاخرى في جزيرة العرب اعتقاد بعضهم وايمانهم بوجود الخالق وتكذيبهم للرسل والبعث وقد اطلق على هؤلاء تسمية الدهريين الذين انكروا وجود الخالق فيما بعد وعزوا افعاله الى الدهر .
وفضلا عن ذلك فقد اعتنق بعض العرب اليهودية والمسيحية ، الا اننا سنحاول في هذا المبحث تناول الوثنية والحنيفية والدهريين لبيان عجز الوثنية عن حل مشكلات الناس مما دفع البعض الى عدم الاكتراث بها والى الاندفاع نحو الموحدين .
وكان هذا الصراع تمهيداً من الله سبحانه وتعالى لبعث ديانة التوحيد من جديد ومحاربة الشرك من خلال الدعوة للاله الواحد والقيم الانسانية في ((دورة تاريخية ينتصر فيها خطاب العقل ومنطق المعقول )) (6) .
الوثنيـة (7) :
هي عبادة الاصنام وان اصلها في جزيرة العرب يعود الى عمرو بن لحي الذي غير دين ابراهيم عليه السلام وبدله وبعث العرب على عبادة التماثيل حين خرج الى الشام ورأى قوما يعبدون الاصنام ، فأعطوه منها صنماً فنصبه على الكعبة (8) .
وفي ذلك يقول رجل من جرهم كان على دين الحنيفية (9) :
يا عمر ولا تظلم بمكة انـهـــا بلـــــد حــرام
سـائـل بعـاد أيـن هــم وكـــذلك تخترم الانام
وبني العماليق الذيــن لهم بها كان السّوام
وهذا الرد المتمثل بالشعر على فعلت عمرو بن لحي الوثنية لا يخلو من اشارات تاريخية تتأسى وتعتبر بالأقوام السابقة وما حل بها .
((ولما اكثر عمرو بن لحي من نصب الاصنام حول الكعبة وغلب على العرب عبادتها وانمحت الحنيفية منهم الا لمعاً ، قال في ذلك شحنة بن خلف الجرهمي)) (10) :
يا عمرو انك قد أحدثت الهة شتى بمكة حول البيت انصابا
وكـان للبيت رب واحد ابـدا فقد جعلت له في الناس اربابا
لتـعرفن بـان الله في مهـل سيصطفي دونكم للبيت حجابا
وهذه الابيات تشير اشارة واضحة الى ان ديانة التوحيد كانت معروفة وسائدة عند بعض قبائل العرب في الجزيرة العربية ومما يؤيد ذلك اشارة المسعودي الى عدم خلو جزيرة العرب من الموحدين قبل الاسلام اذ يقول (11) :
((كان بين المسيح ومحمد صلى الله عليهما وعلى آلهما و سلم في الفترة جماعة من اهل التوحيد، ممن يُقرُّ بالبعث ...)) .
وعمرو بن لحي اول من وصل الوصيلة (12) وسيب السائبة (13) وحمى الحام (14) …))(15).
وقد كان العرب في الجاهلية قليلي المبالاة بأصنامهم فهم اذا جاعوا أكلوا اصنامهم اذا كانت من التمر حيناً ويستهزؤون بها حيناً آخر ومن ذلك قول غاوي بن عبد العزى حين رأى ثعلباً يبول على صنم :
أربٌ يبول الثعلبان برأسه لقد ذل من بالت عليه الثعالب (16).
وقد اشار الله سبحانه في محكم كتابة القرآن الكريم الى الشرك في كثير من الآيات القرآنية منها قوله جل وعلا :
((قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ)) (17) .
((أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ)) (18).
وقوله جلّ من قال:
((أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ)) (19) .
وقوله تعالى:
((وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ))(20).
وقوله جل وعلا:
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا)) (21)
وقوله جل في علاه:
((وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ)) (22).
الحنيفيـة (23) :
يعد الاحناف من قدامى الموحدين في جزيرة العرب والحنفاء هم ((الابراهيمية الذين امنوا بإبراهيم عليه السلام و حملوا عنه الصحف التي انز لها الله عليه)) (24) . و ((الحنيف في الجاهلية من كان على دين ابراهيم ، ثم سمي من اختتن وحج البيت حنيفاً لما تناسخت السنون وبقي من يعبد الاوثان من العرب وقالوا : نحن حنفاء على دين ابراهيم ولم يتمسكوا منه الا بحج البيت والختان)) (25) .
ويشير اليعقوبي اليهم بقوله (26) :
((فكانت قريش وعامه ولد معد بن عدنان على بعض دين ابراهيم ، يحجون البيت، ويقيمون المناسك ، ويقرون الضيف ويعظمون الاشهر الحرم ، وينكرون الفواحش ، والتقاطع ، والتظالم ويعاقبون على الجرائم ، فلم يزالوا على ذلك ما كانوا ولاة البيت)) .
وقد اشار اليهم المسعودي عندما تحدث عن اديان العرب قبل الإسلام بقوله (27) :
((منهم الموحد المقر بخالقه، المصدق بالبعث والنشور موقناً بان الله يثيب المطيع، ويعاقب العاصي)).
ويرى جواد علي (28) : ((ان الحنفاء افراد لا تجمعهم رابطة غير اتفاق بعض افكارهم .. مثل رفض الاصنام والدعوة الى الاصلاح .. وانهم لم يكونوا طائفة معينة تسير على شرع ثابت)) .
بينما يحدثنا عمر فروخ عن الحنيفية بوصفهم (29) : ((نفراً من الورعين الذين سلكوا مسلكا دينيا عاقلا ومسلكا اخلاقيا حميدا ودعوا من حولهم الى هجر الاوثان وترك مساؤي الجاهلية من الخمر والميسر والثأر ووأد البنات)) .
الا ان هنالك رواية لليعقوبي عن حلف الاحابيش بين عبد مناف بن قصي وخزاعة وبني الحارث بن عبد مناة تشير الى ان المتحالفين لم يقسموا باي من الاصنام بل اقسموا بالله وحرمه البيت (30) .
وفي هذا دليل على ان الموحدين لم يكونوا افراداً في مجتمع شبه جزيرة العرب اضافة لذلك فان استشهاد الشعراء والخطباء العرب قبل الاسلام في اشعارهم وخطبهم بذكر الله وكونه المتحكم بمصائرهم كما سيأتي ذكره وازدراءهم بأصنامهم .. ان ذلك يعطينا دليلا على ان الوحدانية ذات اثر في تنمية الفكر التاريخي ومحاولاتهم توجيه المجتمع والدعوة للاعتبار بما حلّ بالأقوام السالفة والمدن العامرة ، بعد الاقرار بوحدانية رب البيت سبحانه وتعالى ومن ذلك قول لبيد بن ربيعه العامري (31) :
فاقنع بما قسم المليك فإنما قسم الخلائق بيننا علامها
فبنى لنا بيتاً رفيعاً سمكـة فسما اليه كهلها وغلامها
وكذلك قول عبيد بن الابرص الاسدي (32) :
والله ليـس له شريــك علام ما اخفت القلـوب
وقول الحارث بن حلزة اليشكري (33) :
ام علينا جرى اياد كــما قيل لطسم اخوكم الاباء
واهم ما نذكره هنا عن الحنيفية قول الله جل وعلا :
((فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)) (34).
وقوله تعالى:
((إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)) (35) .
وقوله جل من قال :
((قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)) (36) .
وقوله تعالى:
((وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً)) (37).
ان سلوك بعض الذين رفضوا الوثنية وتأثروا بالوحدانية يبين لنا مدى اثر الوحدانية في تنمية الفكر التاريخي عند العرب قبل الاسلام . وممن نشير اليه هنا ، زيد بن عمرو ابن نفيل(38) . الذي شك في الاوثان ورحل يطلب دين ابراهيم عليه السلام ، وقد كان شكه نتيجة لسفاهتها ، وقد أذاه سفهاء مكة ، فسكن كهفاً بحراء وسار الى الشام ورحل صوب الجزيرة نحو الموصل(39)، وذلك لم يكن ثراء فكريا في ذلك الزمان بل كان حاجة انسانية تبحث عن فكر ارقى من الوعي الذي يجده في مجتمعه ... فكر يبحث عن ماضي الزمان في اماكن هاجر منها وخلالها نبي الله ابراهيم عليها السلام .
لقد كانت رحلة زيد بن عمرو بن نفيل فعلا تاريخيا بأثر من فكر تاريخي يبين لنا ويوثق بان نبي الله ابراهيم عليه السلام كان معروفا عند عرب الجزيرة بانه حامل لواء الدين الحنيف رغم تبدل الازمان .
ومن الموحدين ايضاً ((ابو قيس صرمه بن ابي انس من (الانصار) من بني النجار وكان ترهب ولبس المسوح ، وهجر الاوثان ودخل بيتاً ، واتخذه مسجداً لا تدخله طامث ولا جنب وقال : اعبد ربّ ابراهيم ، فلما قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة اسلم وحسن اسلامه))(40) .
ان هذه الرواية تعطينا بعدا تاريخياً من خلال الربط بين ديانة ابراهيم عليه السلام والاسلام الحنيف اذ ان هذا الموحد قد تخلق بخلق نبي الله ابراهيم عليه السلام وتعاليم دينه التي جاء الاسلام على هديها وما اكد ذلك انتمائه للدين الاسلامي الحنيف (41) .
ومنهم امية بن ابي الصلت الثقفي وكان شاعرا عاقلا وكان يتجر الى الشام ، فتلقاه اهل الكنائس من اليهود النصارى ، وقرأ الكتب ، وكان قد علم ان نبياً يبعث من العرب ، وكان يقول اشعارا عن اراء اهل الديانة يصف فيها السماوات والارض والشمس والقمر والملائكة وذكر الانبياء والبعث (النشور) والجنة والنار ، ويعظم الله عز وجل ويوحده ومن ذلك قوله : الحمد لله ، لا شريك له، من لم يقلها فنفسه ظلما … ولما بلغه ظهور النبي صلى الله عليه وآله وسلم اغتاظ لذلك وتأسف ، وجاء المدينة ليسلم فرده الحسد ، فرجع الى الطائف (42) .
ومما نستدله من هذه الرواية ان امية بن ابي الصلت استفاد من تجارته وإطلاعه على المعلومات التي وجدها في كتب اليهود والنصارى الا انه اثر ان يكون موحدا ، وفي ذلك كله فكر تاريخي واضح .
((وفي الحجاز قام عدد من الحكماء في الجاهلية ، منهم امية بن عوف الكناني ، وكان من الحنيفية ويدعو الى ترك الالهة والتمسك باله واحد ، وكان يعض العرب في
فناء البيت … )) (43).
ومن حكماء العرب اكثم بن صيفي الذي سمع بظهور الدين الجديد – الاسلام – وداعيته وحامل لوائه الرسول الكريم محمد صلى الله عليه واله وسلم . فما كان منه الا حث ابناء قومه– المشركين – على اتباع الدين الجديد الذي حُدِّث به من قبل (44) ، ودعا الى اتباعه فان كان ديناً سماوياً فقد فاز القوم ، وان كانت الدعوة بشرية فهي تقوم على اسس اخلاقية احرى بالقوم اتباع داعيتها (45) .
ومن ذلك نجد رؤية ناقدة للوضع الاجتماعي الذي كان سائدا تقوم على رؤية تاريخية احيطت بما كان لدى اكثم بن صيفي من معلومات تاريخية نستدل عليها عند قراءة خطبه وامثاله كما مرّ بنا .
((وممن كان يقر بالخالق والابتداء والاعادة والثواب والعقاب عبد المطلب بن هاشم، وزيد بن عمرو بن نفيل ، وقس بن ساعده ، وعامر بن الضرب )) (46) .
وكان بعض من العرب يؤمنون بالحشر فاذا حضر احدهم الموت يقول لولده ادفنوا معي راحلتي حتى أحشر عليها ، فاذا لم تفعلوا حشرت على رجلي . قال خزيمة بن الاشج في الجاهلية – وحضره الموت – يوصي ابنه سعدا :
يا سعـــــــد اما اهلكـن فإنني اوصيك – ان اخا الوصاة الاقرب
لا تتركن ابـــــاك يعثر راجـلا في الحشــر يصرع لليدين وينكـب
واحمل اباك على بعير صالح ولا تقــــي الخطية، انه هو اقرب (47).
والملاحظ هنا وجود رؤية تختلف عما لدى المصريين القدماء الذين كانوا يعتقدون ان الآخرة استمرار للحياة الدنيا ، اذ كانوا يدفنون معهم معظم امتعتهم ، ولكن الشاعر الجاهلي هنا يتحدث عن المصير الذي ينتظره ويعتقد انه ذو طريق طويل لا تعينه ارجله على الوصول الى نهايته فهو لذلك بحاجة الى راحلته .
الدهريـون (48) :
وهم الذين قالوا انه ((لا اله ولا صانع وان هذه الاشياء كانت بلا مكون)) (49) .
اشار الخوارزمي (50) الى انهم يقولون بقدم الدهر الا انه يرى بانهم عبدة اوثان وانهم من اصحاب التناسخ ويرجع اصل وجودهم الى الصابئين والحرنانيين وبقاياهم في حران والعراق – في زمانه - .
وقد ("روي عن النبي صلى الله عليه واله " انه قال : لا تسبوا الدهر ، فان الدهر هو الله) وقد ذكر قوم في تأويل هذا الخبر ان المراد به لا تسبوا الدهر ، فانه لا فعل له ، وان الله مصرفه ومدبره ، فحذف من الكلام ذكر المصرف والمدبر وقال (هو الدهر) وفي هذا الخبر وجه هو احسن من ذلك الذي حكيناه ، وهو ان الملحدين ، ومن نفى الصانع جلت عظمته ، يذمون الدهر ويسبونه في كثير من الاحوال من حيث اعتقدوا انه الفاعل بهم هذه الافعال فنهاهم النبي صلى الله عليه واله وسلم عن ذلك وقال لهم :
لا تسبوا من فعل بكم هذه الافعال ممن تعتقدون انه هو الدهر ، فان الله تعالى هو الفاعل لها – وانما قال : ان الله هو الدهر من حيث نسبوا الى الدهر ، افعال الله (51) .
ومما تقدم نجد ان الدهريين قوم مالوا عن طريق الوحدانية بعد ان كذبوا الرسل والبعث وامسوا ملاحدة اذ اعتقدوا بان الدهر من حيث كونه توالي الازمنة هو الذي يتحكم بمصائرهم وليس الله تعالى الذي هو موجد الدهر والمتحكم فيه ، ومن ذلك قول لبيد (52) :
في قوم سادة من قومه نظر الدهر اليهم فابتهـل
الا اننا نجد ان بعضا من اهل الحكمة والدراية من العرب قبل الاسلام استخدموا لفظة الدهر للدلالة على الزمن وتوالي السنوات ليس الا ، كما هو الحال عند ذي الاصبع العدواني الذي قال (53) :
اذا ما الدهر جر على اناس كــلا كلــــه انـــــاخ باخرينا
فقل للشـــامتين بنا افيقــوا سيلقى الشامتون كما لقيـنا
ومــا ان طبنا جبن ولكــنا منـــــايـا ودولــة اخـريــنا
كذاك الدهر دولته سجــال تكــــر صروفه حيـنا فحيـنا
ولطرفه بن العبد البكري بيتاً شعرياً يصف فيه الدهر اذ يقول (54) :
ارى المال كنزاً ناقصاً كل ليلة وما تنقص الايام والدهر ينفد
ومما تقدم نجد ان الشاعر العربي قبل الاسلام يصور الدهر على انه ((اشمل من القدر وارهب واكثر واقعية وقرباً من جوهر الفكر المطلق ، قياساً على مفهوم الزمان ، وفيه من القضاء ، وتغييره لأحوال الكائنات ، وفيه من القدر غموض المصدر ، ومفاجآت الصدفة ولا معقولية التسلسل في الاسباب والنتائج ، وفي توزيع السعادة او الالم)) (55) .
ان حيرة الشاعر الجاهلي المعبر عن رؤى ابناء جلدته والمعبر عن مشاعرهم ، بمدى احاطه الدهر بالقدر من حيث كونه اشمل ، وكذلك البحث عن المصير ، كل ذلك كان مخاضاً فكرياً اجاب عنه الاحناف حينها ، واجاب عنه الاسلام فيما بعد ، اذ اعطى اطاراً شاملاً يتصف بالواقعية التي لا تفصل بين المادة والروح ، بين الدنيا والاخرة ، بين القدر المحتوم والامل الانساني وبذلك تبين لنا مدى الترابط الفكري القائم بين العرب في فترة ما قبل الاسلام وما بعده في رؤيتهم لمادة التاريخ .
وقد وردت اشارات في القرآن الكريم الى الدهريين اذ جاء في قوله تعالى :
((وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ)) (56).
وقوله جل وعلا:
((أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ)) (57) .
وفضلا عن ذلك فقد كان هنالك ((من العرب من يعبدون الملائكة ويزعمون انها بنات الله؛ فكانوا يعبدونها لتشفع لهم الى الله)) (58) .
وقد اشار المسعودي الى ان هؤلاء ((هم الذين اخبر الله عز وجل عنهم بقوله تعالى : ((وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ)) (59) ، وقوله تعالى: ((أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى (60) ))(61) .
ويشير السهيلي الى ان اهل الجاهلية لم تكن تعرف جبريل عليه السلام ولذلك سألت عنه السيدة خديجة الكبرى رضي الله عنها اهل الكتاب عندما اوحي الى النبي صلى الله عليه واله وسلم (62) .
((ولا بد انهم – المشركون – اعتقدوا في الملائكة … التقرب من الله وان في امكانها – الملائكة –ان تحقق لهم عنده اكثر مما يحقق باقي انواع الجن)) (63) .
____________________
(1) ينظر : ديوارنت ، ول : قصة الحضارة ، ترجمة د. زكي نجيب محمود ، لجنة التأليف والترجمة والنشر (القاهرة ، 1949) ج1 ، ص100 .
(2) ينظر : ديوارنت ، ول : قصة الحضارة ، ج1 ، ص117 .
(3) الغزالي ، محمد بن احمد (ت 505هـ/1111م) : المنقذ من الضلال ، تحقيق د. جميل صليبا وكامل عياد، دار الاندلس (بغداد ، لا ت) ص29 .
(4) ينظر: محمد، د. فاضل زكي: الفكر السياسي العربي بين ماضيه وحاضره، ص23.
(5) ينظر: باقر ، طه : مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة ، ج1 ، ص65 .
(6) زيادة، د. معن : معالم على طريق تحديث الفكر العربي ، سلسلة عالم المعرفة (الكويت،1987) ص100.
(7) ينظر : ابن الكلبي ، ابو المنذر هشام بن محمد بن السائب (ت 204هـ/819م) الاصنام ، تحقيق احمد زكي (القاهرة،1914) ص6-9 ، 53 ؛ اليعقوبي : تاريخ اليعقوبي ، ج1 ، ص217 ؛ الصولي ، ابو بكر محمد بن عيسى (ت 336هـ/974م) : ادب الكتاب ، تحقيق محمد بهجت الاثري (القاهرة ، 1341هـ) ص214 ؛ المسعودي : مروج الذهب ،ج2 ، ص126 ؛ ابن الجوزي ، جمال الدين ابو الفرج عبد الرحمن (ت 597هـ/1200م) : تلبيس ابليس ، دار الكتب العلمية ، ط2 (بيروت ، 1368هـ) ص53-61 .
(8) ينظر : السجستاني : كتاب المعمرين من العرب ، ص36 ؛ المسعودي : مروج الذهب ، ج2 ، ص56 .
(9) ينظر : المسعودي : مروج الذهب ، ج2 ، ص56-57 .
(10) ينظر : المسعودي : مروج الذهب ، ج2 ، ص56-57 .
(11) المسعودي : مروج الذهب ، ج1 ، ص65 .
(12) الوصيلة : الشاه تلد سبعة ابطن فاذا كان السابع ذكر او انثى قالوا وصلت اخاها فلا تذبح وتكون منافعها للرجال دون النساء فاذا ماتت اشترك بها الرجال والنساء . ينظر : ابن الجوزي : تلبيس ابليس ، ص64 .
(13) السائبة : من الانعام كانوا يسيبونها ولا يركبون لها ظهرا ولا يحلبون لها لبناً . ينظر : ابن الجوزي : تلبيس ابليس ، ص64 .
(14) الحام : الفحل ينتج من ظهره عشرة ابطن فيقولون قد حمى ظهره فيسيبونه لاصنامهم لا يحمل عليه . ينظر : ابن الجوزي : تلبيس ابليس ، ص64 .
(15) ابن الجوزي : تلبيس ابليس ، ص55 .
(16) ينظر : الميداني : مجمع الامثال ، ج2 ، ص181 ، فروخ ، عمر : تاريخ الفكر العربي الى ايام ابن خلدون ، دار العلم للملايين ط3 (بيروت ، 1972) ص159 .
(17) سورة يونس ، الاية 34 .
(18) سورة الزمر ، الاية 3 .
(19) سورة الزمر ، الاية 43 .
(20) سورة الانعام ، الاية 22 .
(21) سورة التوبة ، الاية 28 .
(22) سورة يونس ، الاية 18 .
(23) ينظر : ابو عبيدة : معمر بن المثنى (ت 211هـ/826م) : مجاز القرآن ، تحقيق محمد فؤاد سزكين ، مطبعة السعادة (مصر ، 1954) ج1 ، ص58 ؛ المسعودي : مروج الذهب ، ج2 ،ص126 ؛ ابن النديم ، محمد بن اسحاق الوراق (ت حوالي 385هـ/999م) : الفهرست (القاهرة ، لا ت) ص38 .
(24) ابن النديم: الفهرست، ص38.
(25) ابو عبيدة : مجاز القرآن ، ج1 ، ص58 .
(26) اليعقوبي : تاريخ اليعقوبي ، ج1 ، ص217 .
(27) المسعودي : مروج الذهب ، ج2 ص126 .
(28) علي ، د. جواد : المفصل في تاريخ العرب قبل الاسلام ، ج6 ، ص34 .
(29) فروخ ، عمر : تاريخ الفكر العربي .. ، ص158 .
(30) ينظر : اليعقوبي : تاريخ اليعقوبي ، ج1 ، ص206 .
(31) الجبوري ، د. يحيى : لبيد بن ربيعه العامري ،مكتبة الاندلس (بغداد ، 1970) ص343 ؛ الزوزني : شرح المعلقات السبع ، ص124 .
(32) الزوزني : شرح المعلقات السبع ، ص209 .
(33) الحارث بن حلزة اليشكري : الديوان ، ص13 .
(34) سورة ال عمران ، الاية 95 .
(35) سورة النحل ، الاية 120 .
(36) سورة الانعام ، الاية 161 .
(37) سورة النساء ، الاية 125 .
(38) ينظر : ابن هشام ، عبد الملك المعافري (ت 218هـ/833م) : السيرة النبوية ، تحقيق مصطفى السقا واخرون ، دار احياء التراث العربي ، ط3 (بيروت ، 2000) ج1 ، ص259-261 ؛ المسعودي : مروج الذهب ، ج1 ، ص70 .
(39) ينظر : ابن هشام : السيرة النبوية ، ج1 ، ص267-268 .
(40) المسعودي : مروج الذهب ، ج1 ، ص74 .
(41) ينظر : ابن عبد البر ، ابو عمر يوسف النمري القرطبي (ت 463هـ/1070م) : الاستيعاب في معرفة الاصحاب ، بهامش كتاب الاصابة في تمييز الصحابة ، دار احياء التراث العربي (بيروت ، 1328هـ) ج2 ، ص202 ؛ ابن حجر العسقلاني ، شهاب الدين ابو الفضل احمد بن علي (ت 852هـ/1448م) : الاصابة في تميز الصحابة ، دار احياء التراث العربي (بيروت ، 1328هـ) ج2 ، ص182-183 .
(42) ينظر : المسعودي / مروج الذهب ، ج1 ، ص70-71 .
(43) ينظر : السجستاني : كتاب المعمرين من العرب ، ص100-101 .
(44) ينظر : السجستاني : كتاب المعمرين من العرب ، ص67-78 ؛ الميداني : مجمع الامثال ، ج2 ، ص367؛ مال الله ، علي محسن : اكثم بن صيفي ، حياته ، خطبه ، امثاله ، شعره ، مطبعة الرشاد
(بغداد ، 1989) ، ص76 .
(45) ينظر : السجستاني : كتاب المعمرين من العرب ، ص9-20 .
(46) ابن الجوزي : تلبيس ابليس ، ص63-64 .
(47) ينظر : فروخ ، عمر : تاريخ الفكر العربي ، ص163 نقلا عن صاعد الاندلسي : طبقات الامم ، ص44؛ ابن الجوزي : تلبيس ابليس ، ص64 ، اذ يشير ابن الجوزي الى ان بعض العرب كانت تربط الناقة على قبر الميت حتى تموت ليحشر عليها .
(48) ينظر : المسعودي : مروج الذهب ، ج2 ، ص126 ؛ الخوارزمي ، محمد بن احمد بن يوسف (ت 386هـ/996م): مفاتيح العلوم، مطبعة الشرق (القاهرة، 1342هـ) ص25-27؛
الشريف المرتضى: الأمالي ، ج1 ، ص127 ؛ الغزالي : المنقذ من الضلال ، ص96-97 ؛ ابن الجوزي: تلبيس ابليس ، ص41-42 .
(49) ابن الجوزي : تلبيس ابليس ، ص41 .
(50) ينظر: الخوارزمي: مفاتيح العلوم، ص25.
(51) الشريف المرتضى : الامالي ، ج1 ، ص127 .
(52) الشريف المرتضى : الامالي ، ج1 ، ص127 .
(53) ذو الاصبع العدواني (حرثان بن محرث) : الديوان ، تحقيق عبد الوهاب محمد علي العدواني ومحمد نايف الدليمي ، مطبعة الجمهور ( الموصل ، 1973) ص83 .
(54) طرفه بن العبد: الديوان، ص32.
(55) الصفدي : موسوعة الشعر العربي ، ج1 ، ص15 .
(56) سورة الجاثية ، الاية 24 .
(57) سورة المؤمنون ، الاية 115 .
(58) المسعودي : مروج الذهب ، ج2 ، ص126-127 .
(59) سورة النحل ، الاية 57 ، ينظر : الطبري ، محمد بن جرير (ت 310 هـ/923م) : جامع البيان عن تأويل أي القرآن ، مطبعة مصطفى البابي الحلبي واولاده ، ط2 (مصر ، 1954) ج23 ، ص106 .
(60) سورة النجم ، الاية 19-22 .
(61) المسعودي : مروج الذهب ، ج2 ، ص127 .
(62) ينظر : السهيلي ، عبد الرحمن (ت 581هـ/1185م) : الروض الانف في شرح السيرة النبوية
لابن هشام، تحقيق عبد الرحمن الوكيل، دار الكتب الحديثة (مصر، 1967) ج2، ص244.
(63) جياووك ، د. مصطفى عبد اللطيف : الحياة والموت في الشعر الجاهلي ، وزارة الاعلام (بغداد ، 1977) ص32 .
|
|
5 علامات تحذيرية قد تدل على "مشكل خطير" في الكبد
|
|
|
|
|
تستخدم لأول مرة... مستشفى الإمام زين العابدين (ع) التابع للعتبة الحسينية يعتمد تقنيات حديثة في تثبيت الكسور المعقدة
|
|
|