أقرأ أيضاً
التاريخ: 5-11-2014
2742
التاريخ: 20-09-2014
2033
التاريخ: 5-11-2014
3333
التاريخ: 5-11-2014
2020
|
هو جانب خطير من إعجاز القرآن البياني ، لَمَسته العرب منذ أوّل يومها فبهرتهم روعته ودهشتهم رنّته ، فأخضعهم للاعتراف في النهاية بأنّه كلام يفوق طوع البشر وأنّه كلام الله .
إنّه جانب ( اتّساق نظمه وتناسب نغمه ) وإيقاعاته الموسيقية الساطية على الأحاسيس ، والآخذة بمجامع القلوب ، وهذا الجمال التوقيعي للقرآن يبدو جلياً لكلّ مَن يستمع إلى آياته تُتلى عليه ، حتى ولو كان من غير العرب ، فكيف بالعرب أنفسهم ، وأوّل شيء تحسّه الآذان عند سماع القرآن هو ذا نظامه الصوتيّ البديع ، الذي قُسّمت فيه الحركات والسكونات تقسيماً متنوّعاً ومتوزّعاً على على الألحان الموسيقية الرقيقة ، فيُنوِّع ويُجدِّد نشاطَ السامع عند سماعه ، ووُزّعت في تضاعيفه حروف المدّ والغنّة توزيعاً بالقسط ، يُساعد على ترجيع الصوت به ، وتهاوى النَفَس فيه آناً بعد آن ، إلى أن يصل قمّتها في الفاصلة ، فيجد عندها راحته الكبرى ، على ما فصّله أساتذة الترتيل .
وربّما استمع الإنسان إلى قصيدة ، وهي تتشابه أهواؤها وتتساوق أنغامها ، ولكنّه لا يلبث أن يملّها ، ولا سيّما إذا أُعيدت عليه وكُرّرت بتوقيع واحد ، بينما الإنسان من القرآن في لحن متنوّع ونغم متجدّد ، ينتقل فيه بين أسباب وأوتاد وفواصل (1) ، على أوضاع مختلفة ، يأخذ منها كل وَتر من أوتار القلب نصيبه بسواء ، فلا يعرو الإنسان على كثرة ترداده مَلال أو سأم ، بل لا يفتأ يطلب منه المزيد ... .
وأحياناً كان العرب تعمد إلى ما يقرب من هذا النحو من التنظيم الصوتي في أشعارها لكنّها تذهب مذهب الإسراف والاستهواء المُملّ في الأغلب ، ولا سيّما عند التكرير ، أمّا في منثور كلامها ، سواء المرسل منه أو المسجوع ، فلم تكن عَهِدته قطّ ولا كان يتهيّأ لها بتلك السهولة والمرونة والعذوبة التي في القرآن الكريم ، بل ربّما كان يقع لها في أجود منثورها عيوب تغضّ من سلاسة تركيبه ، بما لا يمكن معها من إجادة ترتيله ، إلاّ بتعمل يبدو عليه أثر التكلّف والتعسّف الأمر الذي كان يحطّ من شأن الكلام .
فلا عجب إذاً أن يكون أدنى الألقاب إلى القرآن ـ في خيال العرب ـ أنّه شعر ، وإذا لم يكن بشعر فهو سحر ، وهذا يكشف عن مدى بهر العرب وحيرتهم تجاه هذا النوع من الكلام المُنضّد البديع ، كان له من النثر جلاله وروعته ، ومن الشعر جماله ومتعته !!
قال الأُستاذ درّاز : ويجد الإنسان لذّةً بل وتعتريه نشوة إذا ما طَرق سمعه جواهر حروف القرآن ، خارجةً من مخارجها الشحيحة ، من نظم تلك الحروف ورصفها وترتيب أوضاعها فيما بينها : هذا ينقر ، وذاك يصفر، وثالث يهمس ، ورابع يجهر ، وآخر ينزلق عليه النَفَس ، وآخر يحتبس عنده النَفَس ، فترى الجمال النغمي ماثلاً بين يديك في مجموعة مختلفة ولكنّها مؤتلفة لا كركرة ولا ثرثرة ، ولا رخاوة ولا مُعاظَلَة ، ولا تناكر ولا تنافر ، وهكذا ترى كلاماً ليس بالبَدَويّ الجافي ولا بالحضريّ الفاتر ، بل هو ممزوج مؤلّف من جزالة ذاك ورقّة هذا ، مزيجاً كأنّه عصارة اللغتين وسلالة اللهجتين .
نعم من هذا الثوب القشيب يتألّف جمال القرآن اللفظي ، وليس الشأن في هذا الغلاف إلاّ كشأن الأصداف ، تتضمّن لآلي نفيسة ، وتحتضن جواهر ثمينة ، فإن لم يُلهك جمال الغطاء عمّا تحته من الكنز الدفين ، ولم تحجبك بهجة الستار عمّا وراءه من السرّ المصون ، ففُليت القشرة عن لبّها ، وكشفت الصدفة عن دُرّها ، فنفذت من هذا النظام اللفظي إلى تلك الفخامة المعنوية ، تجلّى لك ما هو أبهى وأبهر ، ولقيت منه ما هو أبدع وأروع ، تلك روح القرآن وحقيقته ، وجذوة موسى التي جذبته إلى نار الشجرة في شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة ، فهناك نسمة الروح القدسية : {إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص : 30] (2) .
وذكر سيّد قطب عن الإيقاع الموسيقي في القرآن أنّه من إشعاع نظمه الخاص ، وتابع لانسجام الحروف في الكلمة ، ولانسجام الألفاظ في الفاصلة الواحدة ؛ وبذلك قد جمع القرآن بين مزايا النثر وخصائص الشعر معاً ، فقد أعفى التعبير من قيود القافية الموحّدة والتفعيلات التامّة ، فنال بذلك حرية التعبير الكاملة عن جميع أغراضه العامّة ، وأخذ في الوقت ذاته من خصائص الشعر الموسيقي الداخلية ، والفواصل المتقاربة في الوزن التي تُغني عن التفاعيل والتقفية التي تُغني عن القوافي ، فشأنه شأن النثر والنظم جميعاً .
وحيثما تلا الإنسان القرآن أحسّ بذلك الإيقاع الداخلي في سياقه ، يبرز بروزاً واضحاً في السور القصار ، والفواصل السريعة ، ومواضع التصوير والتشخيص بصفة عامة ، يتوارى قليلاً أو كثيراً في السور الطوال ، لكنّه على كل حال ملحوظ دائماً في بناء النظم القرآني .
ثمّ أخذ في ضرب المثال ، قال : وها نحن أُولاء نتلو سورة النجم مثلاً .
{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى *عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى *وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى* عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى * أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى *وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى * أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} [النجم : 1 - 22].
هذه فواصل متساوية في الوزن تقريباً ـ على نظام غير نظام الشعر العربي ـ متّحدة في حرف التقفية تماماً ، ذات إيقاع موسيقي متّحد تبعاً لهذا وذلك ، وتبعاً لأمر آخر لا يظهر ظهور الوزن والقافية ؛ لأنّه ينبعث من تآلف الحروف في الكلمات ، وتناسق الكلمات في الجمل ، ومردّه إلى الحسّ الداخلي والإدراك الموسيقي ، الذي يَفرق بين إيقاع موسيقي ، وإيقاعٍ ولو اتّحدت الفواصل والأوزان .
والإيقاع الموسيقي هنا متوسط الزمن تبعاً لتوسط الجملة الموسيقية في الطول ، متّحد تبعاً لتوحّد الأُسلوب الموسيقي ، مسترسل الرويّ كجوّ الحديث الذي يشبه التسلسل القصصي ، وهذا كله ملحوظ ، وفي بعض الفواصل يبدو ذلك جلياً مثل : {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم : 19، 20] ، فلو أنّك قلت : أفرأيتم اللات والعزّى الثالثة لاختلت القافية ، ولتأثر الإيقاع ، ولو قلت : افرأيتم اللات والعزّى ومَناة ومَناة الأُخرى فالوزن يختل ، وكذلك في قوله : { أَفَرَأَيْتُمُ اللاّتَ وَالْعُزّى * وَمَنَاةَ الثّالِثَةَ الأُخْرَى } فلو قلت : ألكم الذكر وله الأُنثى تلك قسمةٌ ضيزى لاختلّ المستقيم بكلمة ( إذاً ) .
ولا يعني هذا أنّ كلمة ( الأُخرى ) أو كلمة ( الثالثة ) أو كلمة ( إذاً ) زائدة لمجرّد القافية أو الوزن ، فهي ضرورية في السياق لنكت معنوية خاصّة ، وتلك ميزة فنّية أُخرى أن تأتي لتؤدّي معنى في السياق ، وتؤدّي تناسباً في الإيقاع ، دون أن يطغى هذا على ذلك ، أو يخضع النظم للضرورات .
ملاحظة اتّزان الإيقاع في الآيات والفواصل تبدو واضحة في كل موضع على نحو ما ذكرنا أو قريباً من هذه الدقّة الكبرى . ودليل ذلك أن يعدّل في التعبير عن الصورة القياسية للكلمة إلى صورة خاصّة ، أو أن يُبنى النسق عل نحو يختلّ إذا قدّمت أو أُخّرت فيه أو عدلت في النظم أيّ تعديل .
مثال الحالة الأُولى حكاية قول إبراهيم :
{قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ *الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ *وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ } [الشعراء : 75 - 82].
فقد خُطفت ياء المتكلّم في ( يهدين ويسقين ويشفين ويحيين ) محافظة على حرف القافية مع ( تعبدون ، والأقدمون ، والدين... ) ومثله خَطف الياء الأصلية في الكلمة : نحو {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ * هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} [الفجر : 1 - 5]، فياء ( يسر ) حذفت قصداً للانسجام مع ( الفجر ، وعشر ، والوتر ، وحجر ... ) .
ومثل {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ * مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ } [القمر : 6-7] فإذا أنت لم تخطف الياء في ( الداع ) أحسست ما يشبه الكسر في وزن الشعر .
ومثله : {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} [الكهف : 64] فلو مددت ياء نبغي ـ كما هو القياس ـ لاختلّ الوزن نوعاً من الاختلال .
ومثل هذا يقع عند زيادة هاء السكت على ياء الكلمة أو ياء المتكلّم في مثل : {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ} [القارعة : 8 - 11] ، ومثل : {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ } [الحاقة : 19 - 21] .
ومثال الحالة الثانية : أن لا يكون هناك عدول عن صيغة قياسية ، ومع ذلك تُلحظ الموسيقى الكامنة في التركيب ، والتي تختلّ لو غَيّرت نظامه مثل : {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا *قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} [مريم : 2 - 4] فلو حاولت مثلاً أن تُغيّر فقط وضع كلمة ( منّي ) فتجعلها سابقة لكلمة ( العظم ) : قال ربي إني وهن مني العظم ، لأحسست بما يشبه الكسر في وزن الشعر ؛ ذلك أنّها تتوازن مع ( إنّي ) في صدر الفقرة هكذا : ( قال ربّ إنّي ) ( وهن العظمُ منّي ) ، على أنّ هناك نوعاً من الموسيقى الداخلية يُلحظ ولا يشرح ـ كما أسلفنا ـ وهو كامن في نسيج اللفظة المفردة وتركيب الجملة الواحدة ، وهو يُدرك بحاسّة خفية وهبة لدُنية .
وهكذا تتبدّى تلك الموسيقى الداخلية في بناء التعبير القرآني ، موزونة بميزان شديد الحسّاسية ، تُميله أخفّ الحركات والاهتزازات ، ولو لم يكن شعراً ، ولو لم يتقيد بقيود الشعر الكثيرة ، التي تحدّ من الحرّية الكاملة في التعبير الدقيق عن القصد المطلوب (3) .
وقال الرافعي : كان العرب يتساجلون الكلام ويتقارضون الشعر ، وكان أُسلوب الكلام عندهم واحداً : حرّاً في المنطق وجزلاً في الخطاب ، في فصاحة كانت تؤاتيهم الفطرة وتمدّهم الطبيعة ، فلمّا ورد عليهم أُسلوب القرآن رَأوا ألفاظهم بأعيانها متساوقة ، ليس فيها إعنات ولا مُعاياة ، ووجوه تركيبه ونسق حروفه ونظم جمله وعبائره ، ما أذهلهم هيبةً وروعةً ، حتى أحسّوا بضعف الفطرة وتخلّف المَلَكة ، ورأى بلغاؤهم جنساً من الكلام غير ما هم فيه ، رأوا حروفه في كلماته ، وكلماته في جمله ، ألحاناً نغمية رائعة ، كأنّها لائتلافها وتناسقها قطعة واحدة ، قراءتها هي توقيعها ، فلمْ يفتهم هذا المعنى وكان أبين لعجزهم .
وكل الذين يُدركون أسرار الموسيقى وفلسفتها النفسية يرون أن ليس في الفنّ العربي بجملته شيء يعدل هذا التناسب الطبيعي في ألفاظ القرآن وأصوات حروفه ، وما أحد يستطيع أن يغتمز في ذلك حرفاً واحداً ، والقرآن يعلو على الموسيقى إنّه مع هذه الخاصّة العجيبة ليس من الموسيقى .
إنّ مادة الصوت هي مظهر الانفعال النفسي في الأنغام الموسيقية ، بسبب تنويع الصوت مدّاً وغنّةً وليناً وشدّةً وما يتهيّأ له من حركات مختلفة ، وبمقدار ما يكسبه من الحَدرة والارتفاع والاهتزاز ممّا هو بلاغة الصوت في لغة الموسيقى .
فلو اعتبرنا ذلك في تلاوة القرآن لرأيناه أبلغ ما تبلغ إليه اللغات كلها ، في هزّ الشعور واستثارة الوجد النفسي ، ومن هذه الجهة تراه يغلب على طبع كل عربيّ أو عجميّ ، وبذلك يؤوّل ما ورد من الحثّ على تحسين الصوت عند قراءة القرآن .
وما هذه الفواصل التي تنتهي بها آيات القرآن إلاّ صوراً تامّة للأبعاد التي تنتهي بها جمل الموسيقى ، وهي متّفقة مع آياتها في قرارات الصوت اتّفاقاً عجيباً يُلاءم نوع الصوت ، والوجه الذي يُساق عليه ، بما ليس وراءه من العجب مذهب ، وتراها أكثر ما تنتهي بالنون والميم ، وهما الحرفان الطبيعيان في الموسيقى نفسها ، أو المدّ ، وهو كذلك طبيعيّ في القرآن (4) .
وقال بعض أهل الفنّ : كثر في القرآن ختم الفواصل بحروف المدّ واللين وإلحاق النون ، وحكمة وجودها التمكّن من التطريب بذلك ، كما قال سيبويه : إنّهم ـ أي العرب ـ إذا ترنّموا يُلحقون الألف والياء والنون ؛ لأنّهم أرادوا مدّ الصوت ، ويتركون ذلك إذا لم يترنّموا ، وجاء في القرآن على أسهل موقف وأعذب مقطع .
فإن لم تنتِه بواحدة من هذه ـ كأن انتهت بسكون حرف ـ كان ذلك متابعة لصوت الجملة وتقطيع كلماتها ، ومناسبة للون المنطق بما هو أشبه وأليق بموضعه ، وأكثر ما يكون في الجمل القصار ، ولا يكون إلاّ بحرف قويّ يستتبع القلقلة أو الصفير أو نحوهما ممّا هو موصوف بضروب أُخرى من النظم الموسيقي .
وهذه هي طريقة الاستهواء الصوتي في اللغة ، وأثرها طبيعيّ في كل نفس ، فهي تشبه في القرآن الكريم أن تكون صوت إعجازه الذي يُخاطب به كل نفس ، سواء كانت تفهمه أو لا تفهمه .
فقد تألّفت كلماته من حروف ، لو سقط واحد منها أو أُبدل بغيره أو أُقحم معه حرف آخر لكان ذلك خللاً بيّناً ، أو ضعفاً ظاهراً في نسق الوزن وفي جرس النغمة ، وفي حسّ السمع وذوق اللسان ، وفي انسجام العبارة وبراعة المخرج ، وتساند الحروف وإفضاء بعضها إلى بعض ، ولرأيت لذلك هُجنة في السمع .
قالوا : إنّ مردّ هذا الإعجاز في القرآن بالدرجة الأُولى هو ما يستثيره في القلب من إحساس غامض لمجرّد أن تصطفّ الحروف في السمع بهذا النمط الفريد ، ذلك العزف بلا آلات وبلا قوافٍ وبلا بحور وبلا أوزان .
حينما نصغي إلى ما يقوله زكريّا لربّه ـ فيما اقتصّ من القرآن ـ :
{رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} [مريم : 4] .
أَو نستمع إلى كلام المسيح في المهد صبيّاً : {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} [مريم : 30، 31].
أو تلك الجملة الموسيقية التي تتحدث عن خشوع الرسل :
{إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا } [مريم : 58] .
أو تلك النغمة الرهيبة التي تصف اللقاء بالله يوم القيامة :
{وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} [طه : 111] أو ذلك الإيقاع الرحماني الذي يُخاطب الله به نبيه محمّداً ( صلّى الله عليه وآله ) في موسيقى عذبة تملك شَغَاف القلب :
{طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى * تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى * وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } [طه : 1 - 8].
أمّا إذا تحوّل القرآن إلى الحديث عن المجرمين وما أُنزل بهم من عذاب ، تحوّلت الموسيقى إلى أصوات نحاسية تصكّ الأُذن وتحوّلت الكلمة إلى جلاميد صخر وكأنّها رجم :
{إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ * تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ } [القمر : 19، 20].
فإذا سبّحت الملائكة طالبة من الله المغفرة للمؤمنين سالت الكلمات كأنّها سبائك ذهب :
{رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} [غافر : 7].
فإذا جاء الإنذار بالساعة فإنّ الهول والشؤم يَطلّ من الكلمات المتوتّرة والعبارات المشدودة :
{وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ } [غافر : 18]. ثمّ العتاب ، وأيّ عتاب حينما لا ينفع العتاب :
{يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار : 6 - 8].
والبشرى ، حينما تُبشّر الملائكة مريم بميلاد المسيح :
{يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [آل عمران : 45].
ثمّ ذلك الصراخ في الأُذن بتلك الكلمة العجيبة التي تشبه السكّين :
{فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } [عبس : 33 - 37].
وبعد ، فهذا التشكيل والسبك والتلوين في الحروف والعبارات في معمار القرآن هو نسيج وحده ، بلا شبيه ـ من قبلُ أو من بعدُ ـ كل ذلك يتمّ في يسر شديد ، لا يبدو فيه أثر اعتمال وافتعال واعتساف ، وإنّما تسيل الكلمات في بساطة شديدة لتدخل القلب فتثير ذلك الإحساس الغامض بالخشوع ، مِن قبل أن يَتيقّظ العقل فيُحلّل ويُفكّر ويتأمّل ، مجرّد قرع الكلمة للأُذن وملامستها للقلب تُثير ذلك الشيء الذي لا نجد له تفسيراً .
هذه الصفة في العبارة القرآنية إلى جانب كل الصفات الأُخرى مجتمعة ، هي التي تجعل من القرآن ظاهرة لا تفسير لها فيما نعرف من مصادر الكلام المألوف (5) .
______________________________
(1) من مصطلحات الأفنان الموسيقية : ( الحرف المتحرك إذا تلاه حرف ساكن ، يقال له : سببٌ خفيف ، والحرفان المتحركان لا يتلوهما ساكن : سببٌ ثقيل ، والمتحركات يتلوهما ساكن : وَتدٌ مجموع ، وإذا توسّطهما ساكن : وتدٌ مفروق . وثلاثة أحرف متحركة : فاصلة صغيرة ، وأربعة أحرف متحركة يعقبها ساكن : فاصلةٌ كبيرة ) وهكذا ... ( النبأ العظيم : ص95 ) .
ولعلّ القارئ النبيه يعذرنا في الاقتصار على النقل هنا ، بعد أن كان موضوع البحث من الفنون الخارجة عن اختصاصنا !
(2) النبأ العظيم : ص94 ـ 99 ، والآية 30 من سورة القصص .
(3) التصوير الفني : ص80 ـ 83 .
(4) إعجاز القرآن : ص188 و216 .
(5) محاولة لفهم عصري للقرآن : ص245 ـ 247 .
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
المجمع العلمي للقرآن الكريم يقيم جلسة حوارية لطلبة جامعة الكوفة
|
|
|