أقرأ أيضاً
التاريخ: 5-11-2014
9984
التاريخ: 5-11-2014
3234
التاريخ: 14-06-2015
2884
التاريخ: 2-12-2015
11571
|
الترابط والتناسق المعنوي :
لا شك أنّ حسن الكلام إنّما هو بالتناسب القائم بين أجزائه ، من مفتتح لطيف وختام منيف ومقاصد شريفة احتضنها الكلام الواحد ، وهكذا كان التناسب بين آيات الذكر الحكيم أنيقاً ، والترابط بين جمله وتراكيبه وثيقاً .
وهذا التناسب والترابط بين أجزاء كلامه تعالى قد يُلحظ في ذات آية واحدة من صدر وذيل هي فاصلتها ، أو في آيات جمعتها مناسبةٌ واحدة هي التي استدعت نزولهنّ دفعة واحدة في مجموعة آيات يختلف عددهنّ ، خمساً أو عشراً أو أقل أو أكثر .
وقد يُلحظ في مجموعة آيات سورة كاملة ؛ باعتبارها مجموعة واحدة ذات هدف واحد أو أهداف متضامّة بعضها إلى بعض ، هي التي شكّلت الهيكل العظمي للسورة ، ذات العدد الخاصّ من الآيات ، فإذا ما اكتمل الهدف وتمّ المقصود اكتملت السورة وتمّت أعداد آيها ، الأمر الذي يرتبط مع الهدف المقصود ؛ ومِن ثَمّ يختلف عدد آيات السور من قصار وطوال .
وهناك مناسبة زعموها قائمة بين خاتمة كل سورة وفاتحة السورة التالية لها وقد تكلّفها البعض بغير طائل .
ولننظر في كل هذه المناسبات :
تناسب الآيات مع بعضها
كان القرآن نزل نجوماً ، وفي فترات لمناسبات قد يختلف بعضها عن بعض ، وكان كل مجموعة من الآيات تنزل لمناسبة تخصّها ، تستدعي وجود رابط بينها بالذات ، وهو الذي يُشكل سياق الآية في مصطلحهم .
والمناسبة القائمة بين كل مجموعة من الآيات ممّا لا يكاد يخفى ، حتى ولو كانت هي مناسبة التضاد ، كما أفاده الإمام الزركشي في عدّة من السور جاء فيها ذلك ... قال :
وعادة القرآن إذا ذَكر أحكاماً ذكر بعدها وعداً ووعيداً ؛ ليكون ذلك باعثاً على العمل ، ثُمّ يَذكر آيات التوحيد والتنزيه ؛ ليُعلم عِظَم الآمر والناهي ، قال : وتأمّل سور البقرة والنساء والمائدة وأمثالها تجده كذلك (1) ، هذا ما ظهر وجه التناسب فيه .
لكن قد يخفى وجه التناسب ، فتقع الحاجة إلى تأمّل وتدقيق للوقوف على الجهة الرابطة ؛ لأنّه كلام الحكيم ، وقد تحدّى به ، فلابدّ أنّه عن حكمة بالغة .
* من ذلك قوله تعالى : {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا } [البقرة : 189] ، فقد يقال : أيّ رابط بين أحكام الأهلّة وبين حكم إتيان البيوت من ظهورها ؟
قيل : إنّه من باب الاستطراد ـ وهو الانتقال من مقصد إلى آخر لأدنى مناسبة يراه المتكلّم أَولى بالقصد ـ وكأنّه جعل مبدأ كلامه ذريعةً لهذا الانتقال ، ولكن بلطف وبراعة ، وهو من بديع البيان (2) .
قال الزمخشري : لمّا ذَكر أنّها مواقيت للحج عمد إلى التعرّض لمسألة كانت أهمّ بالعلاج ، وهي عادة جاهلية كانت بدعةً رذيلةً ، كان أحدهما إذا أحرم لا يدخل حائطاً ولا داراً ولا فسطاطاً ، فإن كان من أهل المَدر نقب في مؤخّرة بيته فيدخل ويخرج منه ، وإن كان من أهل الوَبر جعل خلف خبائه مدخله ومخرجه ، ولم يدخلوا من الباب ... بدعة جاهلية مقيتة لا مبرّر لها ... فلمّا وقع سؤالهم عن الأهلّة ـ وهي مواقيت للناس في شؤون حياتهم ، وللحجّ بالذات ، ولم يكن كبير فائدة في مثل هذا السؤال ـ استغلّه تعالى فرصة مناسبة للتعرّض إلى موضع أهم ، كان الأجدر هو السؤال عنه ، بغية تركه ... على عكس ما كانوا يرونه برّاً ، وهو عملٌ تافهٌ مستقبح (3) .
* وقوله تعالى : {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء : 1] وعقبه بقوله : {وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} [الإسراء : 2] ، فقد يقال : أيّ رابط بين حادث الإسراء وإتيان موسى الكتاب والتعرّض لحياة بني إسرائيل ؟!
وهو أيضاً من الاستطراد البديع ، كان المقصود الأقصى تذكير بني إسرائيل بسوء تصرّفاتهم في الحياة ، وهم في أشرف بقاع الأرض ، وفي متناولهم أفضل وسائل الهداية ، فبدأ بالكلام عن الإسراء من مكة المكرّمة إلى القدس الشريف ؛ وبذلك ناسب الكلام عن هتك هذا التحريم المقدّس على يد أبنائه والذين فُضلوا بالتشرّف فيه ؛ تأنيباً وليتذكروا .
وهو من حُسن المدخل ولُطف المستهلّ من أروع البديع .
* وقوله تعالى : { لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [القيامة : 16] ، إذ لا تناسب لها ظاهراً مع سياق السورة الواردة في أحوال القيامة وأهوالها ، قال جلال الدين السيوطي : وجه مناسبتها لأَوّل السورة وآخرها عسر جدّاً (4) .
وفي تفسير الرازي وجوه لبيان التناسب ، وقد تعسّف فيها ، وبهت قدماء الإمامية أنّهم قالوا بأنّ القرآن قد غيّر وبدّل وزيد فيه ونقص عنه ، والآية من ذلك (5) .
لكن نزول القرآن مُنجّماً وفي فترات متلاحقة يدفع الإشكال برأسه ، ولا موجب لارتكاب التأويل ، ولا سيّما مع هذا التعسّف الباهت الذي ارتكبه شيخ المتشكّكين .
* وقوله تعالى : {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء : 3]
لكن لمّا كانت الآية السابقة عليها حديثاً عن إيتاء اليتامى أموالهم ، والنهي عن تبدّل الخبيث بالطيّب ، وأن لا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنّه كان حوباً كبيراً ، فربّما كان المتكفّلون لأمر اليتامى يتحرّجون التصرّف في أموالهم خشية اختلاطه بأموال أنفسهم فيكون حيفاً لمال اليتيم أحياناً ، فكانت قضية الاحتياط في الدين التجنّب عن مقاربة أموال اليتامى رأساً ، الأمر الذي كان يوجب اختلالاً بشأن اليتامى فلا يتكفّلهم المؤمنون الصالحون .
هذا إلى جنب وفرة اليتيم في ظلّ الحروب التي شنّتها خصوم الإسلام طول التاريخ ، فكان تكفّل أمر اليتيم ضرورة إيمانية . إذاً فما المَخرج من هذا المأزق ؟! والآية فنزلت لتُري وجهاً من وجوه المخلص .
ولأجل هذا التحرّج جاء السؤال التالي : {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى } [البقرة : 220].
فكان الجواب : {قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ } [البقرة : 220] . أي هذا واجب فرض ، وكل أحد يمكنه المواظبة على ترك الحرام ، وأخيراً فلو تعنّتم لأخذناكم بتكليف أشقّ وأعنت .
إذاً فاسترسلوا في أمركم وشاركوهم في أموالهم كما تشاركون سائر إخوانكم ، مع المواظبة على غبطة مصلحة الشريك ، فهذا هو خير يعود عليكم نفعُه أيضاً .
وأمّا إذا كانت اليتامى نسوة فطريق المخلص بشأن مخالطة أموالهم أسهل ، {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ } [النساء : 127] .
ففي الآية السابقة ترخيص لنكاحهنّ {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ } [النساء : 3] والآية بعد ذلك تستطرد في شؤون شتّى ، كما هو دأب القرآن .
وعلى أية حال ، فالتزويج بهنّ هي إحدى طرق التخلّص من مأزق التحرّج في مال اليتيم ؛ إذ المرأة تغضّ طرفها عن المُداقّة في مالها المختلط مع مال زوجها المرافق لها الكافل لشؤونها .
وهذا خامس الوجوه التي ذكرها الطبرسي في توجيه مناسبة الآية (6) وهو أحسن الوجوه ، وأكثر انسجاماً مع سياق الآية ، والله العالم .
* وقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال : 24] .
قيل : ما هي المناسبة بين الأمر باستجابة الرسول فيما إذا دعاهم إلى الحياة والتهديد بالحيلولة بين المرء وقلبه ؟
وقد أخذت الأشاعرة ـ وفي مقدّمتهم شيخ المتشكّكين الإمام الرازي (7) ـ من هذه الآية ـ نظراً إلى الذيل ـ دليلاً على القول بالجبر بأنّ الله هو الذي يجعل المؤمن مؤمناً والكافر كافراً { يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [النحل : 93] .
وذهب عنهم أنّ الدعوة في صدر الآية دليل على الاختيار ، وحاشا القرآن أن يتناقض كلامُه في آية واحدة .
وحاول العلماء تفسير الآية بوجوه أدقّ وأوفى ، منها : أنّ في القلب نقطة تحوّلات مفاجئة ، قد يتحوّل الإنسان من حالة إلى أُخرى في مصادفة مباغتة ، فينقلب الشقيُّ سعيداً أو السعيدُ شقيّاً ؛ لمواجهة غير مترقّبة عارضت مسيرته التي كان عليها ، زاعماً عكوفه عليها مرّة حياته ، ولكن رغم مزعومه أخذ في التراجع والانعطاف إلى خلاف مسيره .
وهذا ، لخلق الخوف والرجاء ، وطرد اليأس والغرور .
وهذا من أعظم التربية للنفوس البشرية ، فلا يأخذها القنوط واليأس إن هي أسرفت في التمرّد والعصيان ، ولا يسطو عليها العجب والاغترار إن هي بلغت مدارج الكمال .
ومنها : أنّ الإسلام دعوة إلى الحياة العُليا والسعادة القصوى ، كما أنّ في رفضها والتمرّد عن تعاليمها إماتة للقلوب ، وبذلك تموت معالم الإنسانية في النفوس وتذهب كرامتها أدراج الرياح ، وإذا بهذا الإنسان دابّة ، فبدلاً من أن يمشي على أربع ، يمشي على رجلين لا أكثر من ذلك ، وفي ذلك هبوط من قمّة الشموخ إلى حضيض الهمجية والابتذال .
{وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ } [الأعراف : 176].
{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر : 19].
ووجوهٌ أُخر ذكرناها في فصل المتشابهات من الآيات (8) .
قال سيّد قطب : من ألوان التناسق الفنّي هو ذلك التسلسل المعنوي بين الأغراض في سياق الآيات ، والتناسب في الانتقال من غرض إلى غرض ، وبعضهم يتمحّل لهذا التناسق تمحّلاً لا ضرورة له ، حتى ليصل إلى حدّ التكلّف ليس القرآن بحاجة إلى شيء منه (9) .
وقال الأُستاذ درّاز : إنّ هذه النقطة غفل عنها جميع المستشرقين ، فضلاً عن بعض علماء المسلمين ، فعند ما لاحظ بعضهم بنظرته السطحية عدم توافر التجانس والربط الطبيعي بين المواد التي تتناولها السور لم يرَ القرآن إلاّ أشتاتاً من الأفكار المتنوّعة ، عُولجت بطريقة غير منظّمة ، بينما رأى الآخر أنّ علّة هذا التشتيت المزعوم ترجع إلى الحاجة لتخفيف الملل الناتج من رتابة الأُسلوب .
وهناك فريق آخر لم يرَ في الوحدة الأدبية لكل سورة ـ وما لا يستحيل نقله في أيّة ترجمة ـ إلاّ نوعاً من التعويض لهذا النقص الجوهري في وحدة المعنى ، وفريق آخر يضمّ غالبية المستشرقين ، رأى أنّ هذا العيب يرجع إلى الصحابة الذين جمعوا القرآن ، وقاموا بهذا الخلط عندما جمعوا أجزاءه ورتّبوها على شكل سور .
قال : إنّ هذه التفسيرات لا تبدو صالحة للأخذ بها ؛ إذ من المتّفق عليه أنّ السور كانت بالشكل الذي نقرأها به اليوم ، وبتركيبها الحالي ، منذ حياة الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) .
قال : ولقد اتّضح أنّ هناك تخطيطاً واضحاً ومحدّداً للسورة ، يتكوّن من ديباجة وموضوع وخاتمة ، ولا جدال في أنّ طريقة القرآن هذه ليس لها مثيل على الإطلاق في أيّ كتاب في الأدب أو في أيّ مجال آخر ، يمكن أن يكون قد تمّ تأليفه على هذا النحو ، وإذا كانت السور القرآنية من نتاج ظروف النزول تكون وحدتها المنطقية والأدبية معجزة المعجزات (10) .
________________
(1) البرهان : ج1 ص40 .
(2) قال الأمير العلوي : عليه أكثر القرآن . ( الطراز : ج3 ص14 ) .
(3) الكشّاف : ج1 ص234 نقلاً بالمعنى .
(4) الإتقان : ج3 ص328 .
(5) التفسير الكبير : ج30 ص222 .
(6) مجمع البيان : ج3 ص6 .
(7) التفسير الكبير : ج15 ص147 ـ 148 و181 ـ 182 .
(8) راجع التمهيد في علوم القرآن : ج3 ص239 ـ 252 تحت رقم 80 الطبعة الثانية .
(9) التصوير الفنّي في القرآن لسيد قطب : ص69 .
(10) المدخل إلى القرآن الكريم ( أهداف كل سورة ، عبد الله محمود شحاته : 5 ـ 6 ) .
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
الأمين العام للعتبة العسكرية المقدسة يستقبل شيوخ ووجهاء عشيرة البو بدري في مدينة سامراء
|
|
|