أقرأ أيضاً
التاريخ: 17-7-2016
1175
التاريخ: 17-7-2016
27791
التاريخ: 17-7-2016
5665
التاريخ: 17-7-2016
16113
|
بعد أن عرضنا للفروق بين لهجتي تميم وقريش -وهما اللهجتان الرئيستان بين لهجات العربية- أصبح يسيرًا علينا أن نتصور نوع الخصائص التي تمتاز بها لغتنا الأدبية المثالية عن أخواتها من اللغات السامية بوجه خاص، وعن كثير من اللغات الأجنبية بوجه عام؛ فإن هذه الخصائص لا تميز لغة قريش لذاتها، بل لتمثلها خير ما في اللهجات العربية الصحيحة بالتوليد والاشتقاق, وخير ما في اللغات الأجنبية بالنقل والتعريف.
ذلك بأن العرب حين استصفوا لهجة قريش وجعلوها لغتهم الأدبية المشتركة أثَّروا فيها مثلما تأثروا بها؛ فصدَقَ على لهجة قريش ما يصدق على كل اللغات من قوانين التأثر والتأثير، وهي قوانين لا تكاد تتخلف إذا درسنا اللغة على أنها ظاهرة إنسانية(1).
ص109
وينبغي ألّا ننسى أن لغة قريش كانت -كما قال ابن خلدون: "بعيدة عن بلاد العجم من جميع جهاتها"(2)، وإن كنا نعترف بأن بعدها عنها لم يحل دون تسرب الألفاظ الفارسية والرومية إليها.
ولكننا عند الحديث عن التعريب، سنرى أن مقدرة لغةٍ ما على تمثل الكلام الأجنبي، تعد مزية وخصيصة لها إذا هي صاغته على أوزانها، وصبّته في قوالبها، ونفخت فيه من روحها.
وكما رَدَدْنَا إلى تميم اعتبارها بدراسة أبرز خصائصها، لن نستنكف عن رد الاعتبار إلى لهجة كل قبيلة لم تطرأ العجمة على ألسنتها، ولم تلابس اللكنة الدخيلة ملاحنها، فمثل هذه اللهجات جديرة أن تستنبط منها مزايا لغتنا، وأن يكتشف لديها مدلول مفرداتنا وتراكيبنا.
ومنهج الأقدمين في جمع اللغة علميّ دقيق, يعول على الملاحظة والاستقراء، والإفراط في الحيطة أحيانًا، حتى لنستطيع أن نكون مطمئنين إلى أكثر ما استنتجوه من خصائص لغتنا التي تجنبوا أخذها عَمَّن تشوب عربيتهم أية شائبة؛ فقد اقتصر أخذهم اللغة على عرب البادية، وعلى فصحائهم بشكل خاصٍ(3). وكثيرًا ما كان سيبويه يشير إلى تشدده في تصويب الاستعمال اللغوي بردّه إلى العرب الذين تُرْضَى عربيتهم(4)، أو العرب الموثوق بهم(5)، أو بعربيتهم(6), ولكن سيبويه نفسه كان يرى أن هؤلاء العرب الموثوق بعربيتهم هم عرب الحجاز، فيجنح غالبًا إلى ترجيح لغة الحجاز إذا اختلف اللهجات(7).
ص110
ولِمَ لا تكون لغة الحجاز مقياسًا للفصاحة وقد بلغت من الرقي داخل الجزيرة العربية ما أوضحناه في الفصل السابق، حين خلت من مستقبح اللغات ومستهجن الألفاظ؟
إن الباحث يكاد يرى هذا المقياس صحيحًا لا مغمز فيه، بل بديهيًا لا مسوّغ لرده؛ ثم يبدو له أن يتساءل: إن كان الأقدمون قد اقتصروا في شواهدهم على عرب البادية، فلماذا رجحوا لغة قريش وما هي من البداوة في شيء؟ إنها على العكس من ذلك، لغة الحضارة بين العرب قاطبة!
نحسب أننا لا يسعنا، للإجابة عن هذه الشبهة، أن ننكر حضرية قريش, ولا أن نجحد تأثرها بفارس والروم أمتي الحضارة في تلك الحقبة من التاريخ, ونحسب أنه ليس من البحث الموضوعي في شيء أن نرى في استصفاء لغة قريش أن القرآن نزل بها، ففي القرآن من لهجات العرب الأخرى ألفاظ غير قليلة(8), ولغة القرآن بعد هذا، حين يقال: إنها لغة الحجاز أو قريش، هي اللغة نفسها التي نقلت بها إلينا أشعار العرب وخطبهم وأسجاعهم, ولقد صادق القرآن هذه اللغة الراقية المهذبة، فزاد من ترقيتها وتهذيبها, فهذا معنى نزوله بلغة قريش.
لكن الناس -في أكثر بقاع الأرض- يملأ القديم قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم، فيحيطونه بهالة من التقديس: وذلك كان موقف العرب من لهجة قريش؛ فقد تقادم عهدها وهم يعظمونها ويعظمون أهلها، ويعرفون لهم فضلهم، إذ جعل الله قريشًا "قُطّانَ حرمه، وجيرانَ
ص111
بيته الحرام، وولاته, فكانت وفود العرب من حجّاجها, وغيرهم يفدون إلى مكة للحج، ويتحاكمون إلى قريش في أمورهم(9)".
ومن السنن الاجتماعية المسلّمة أن اللغة إذا تقادم عهدها بالغ الناس في تقديسها, فلا تعجب إذا رأيت في آثار الباحثين في القرن الماضي، أن مقياس الكمال في اللغات ارتدادها إلى ماضٍ أشد إيغالًا في القدم، حتى ليمكن القول -في ضوء المقياس: إن اللغة الكاملة المطردة النقية لم تعرف إلّا في العصر البدائي، وإن لغاتنا الحديثة المتطورة عن تلك الأصول البدائية ليست إلّا تحريفًا وفسادًا(10).
ولهجة قريش -فوق الذي أحيطت به من مظاهر التقديس- انفردت حقًّا بمزايا حفظت لها شخصيتها، وأتاحت لها من أسباب التكامل ما لم يتح لغيره، فبعدها الذي وصفه ابن خلدون عن بلاد العجم من جميع جهاتها, كان حاجزًا طبيعيًّا دون كثرة اتصالها بالأجانب، فلم يدخلها من لكنة الأعاجم ما داخل القبائل المتطرفة التي كانت على اتصال وثيق بمن حولها من غير العرب. قال أبو نصر الفارابي(11) في أول كتابه المسمى "بالألفاظ والحروف": "كانت قريش أجود العرب انتقاءً للأفصح من الألفاظ، وأسهلها على اللسان عند النطق، وأحسنها مسموعًا، وأبينها إبانة عمَّا في النفس.
والذين عنهم نُقِلَتِ اللغة العربية، وبهم اقْتُدِيَ، وعنهم أُخِذَ
ص112
اللسان العربي من قبائل العرب هم: قيس وتميم وأسد؛ فإن هؤلاء هم الذين عنهم أكثر ما أُخِذَ ومعظمه، وعليهم اتكل في الغريب وفي الإعراب والتصريف؛ ثم هذيل، وبعض كنانة، وبعض الطائيين, ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم.
وبالجملة، فإنه لم يؤخذ عن حضري قط، ولا عن سكان البراري ممن كان يسكن أطراف بلادهم المجاورة لسائر الأمم الذين حولهم، فإنه لم يؤخذ لا من لَخْمِ، ولا من جذام, لمجاورتهم أهل الشام، وأكثرهم نصارى يقرءون بالعبرانية، ولا من تغلب واليمن، فإنهم كانوا بالجزيرة مجاورين لليونان، ولا من بكر، لمجاورتهم للنبط والفرس، ولا من عبد القيس وأزد عمان؛ لأنهم كانوا بالبحرين مخالطين للهند والفرس، ولا من أهل اليمن لمخالطتهم للهند والحبشة، ولا من بني حنيفة وسكان اليمامة، ولا من ثقيف وأهل الطائف، لمخالطتهم تجار اليمن المقيمين عندهم، ولا من حاضرة الحجاز؛ لأن الذين نقلوا اللغة صادفوهم حين ابتدؤوا ينقلون لغة العرب, قد خالطوا غيرهم من الأمم، وفسدت ألسنتهم ... "(12).
وليس لهذه الحَيْطة في أخذ اللغة، على النحو الذي وصفه أبو نصر الفارابي، إلّا تفسير واحد, هو الحيلولة دون تسرب الدخيل إلى العربية, ما لم يطبع بطابع الفصحى تبعًا لأساليب تعريبها؛ لأن مثل هذا التسرب غير الإرادي وغير المقصود يفسد على الباحثين فهمهم أصالة اللغة وشخصيتها، فقد يستنبط منه خطأ أن من خصائصها أوجهًا لا تلزمها، أو صيغًا لم تجيء على أبينيتها؛ لأنه لما تنبثق عنها، وإنما انتقلت إليها
ص113
عن طريق العدوى اللغوية بسبب القرب والجوار, وما أكثر صورها، وأشد أخطارها!
ولذلك عَدَّل ابن جني امتناعهم من الأخذ عن أهل المدر -كما أخذوا عن أهل الوبر- بـ"ما عرض للغات الحاضرة وأهل المدر من الاختلال والفساد والخطل". ولو عُلِمَ أن أهل مدينة باقون على فصاحتهم ولم يعترض شيء من الفساد للغتهم، لوجب الأخذ عنهم كما يؤخذ عن أهل الوبر"(13).
على أن فرض ابن جني هذا كتب عليه أن يظل فرضًا، لا يزيد على ذلك شيئًا، فما علمنا بأهل مدينة باقين على فصاحتهم، بل رأينا أهل المدن أكثر تعرضًا للحن وفساد اللغة من البدو، ورأينا من البدو الفصحاء أنفسهم من ينتقل لسانه إلى لغة فاسدة؛ فينكر العلماء عليه لغته ولا يأخذون بها, ومن ذلك ما يُحْكَى من أن أبا عمرو استضعف فصاحة أبي خَيْرَةَ، لما سأله فقال: كيف تقول: استأصل الله عِرْقَاتِهِمْ"؟ ففتح أبو خيرة التاء، فقال له أبو عمرو: هيهات أبا خيرة لان جِلْدُكَ(14)"!
ومذ شاع في البدو اضطراب الألسنة وخبالها, أصبح العلماء يتوجسون خيفة من الذين يدعون الفصاحة، فلا ينخدعون بالبدوي فيحكموا له بالفصاحة إذا آنسوها منه في وضوح نطقه ورشاقة لفظه فقط، وما كان للبيان وحده أن يكون مقياس الفصاحة, إن لم يرتد إلى أصل ينمّ عليه، أو قياس يسوغه, وهل تظن ادعاء الفصاحة البدوية والتباعد عن الضعفة الحضرية، أمرين عسيرين على رجل يقضي معظم وقته في البادية، ولا يأتي الحاضرة إلّا لمامًا؟
ص114
لم يكن العلماء -مع ذلك- لينخدعوا بمثل هذا البدوي، أو يظلوا عاكفين على كلامه يتلقونه بالقبول، فما أسرع ما كان يفجؤهم منه ما ينال من فصاحته، ويغض من بيانه ويقدح فيه، فإذا هم يرفضون لغته ويمتنعون من التلقي عنه.
ولقد طرأ على ابن جني أحد من يدعي هذه الفصاحة، فميّزَ كلامه أول الأمر تمييزًا حَسَّنَ موقعه في نفسه، إلى أن أنشده يومًا شعرًا له يقول في بعض قوافيه "أشأؤها وأد أوها"(15) فجمع بين الهمزتين، واستأنف من ذلك ما لا أصل له، ولا قياس يسوغه، وأبدل إلى الهمز حرفًا لا حظَّ في الهمز له، مع أنه "لو التقت همزتان عن وجوب صنعة للزم تغير إحداهما، فكيف أن يقلب إلى الهمز قلبًا ساذجًا عن غير صنعة ما لا حظَّ له في الهمز، ثم يحقق الهمزتين جميعًا؟! هذا ما لا يبيحه قياس، ولا ورد بمثله سماع! "(16).
ومع هذا التشدد في مقياس الفصاحة، واصطنع العرب لغة قريش للتفنن في القول، والإبانة في التعبير، فدلّ استصفاؤهم أياها على أنها اختارت من كلام العرب أبينه، وراعت أرشقه، واعتمدت أصفاه؛ فكان حقًّا ما ذهب إليه الباحثون من المستشرقين وغيرهم, من أن أهم مزية للعربية حفظت لها شخصيتها بين أخواتها الساميات إنما هي عزلتها عن الشعوب الأعجمية، واكتفاؤها بمقدرتها الذاتية على التعبير، وعلى التمثل والتوليد، وعلى التخير والانتفاء، في موطنها عينه، وبيئتها نفسها، وبين شقيقاتها اللهجات الفصحى التي تبادلت معها التأثر والتأثير، بينما كانت الساميات يتفرقن عن موطن السامية الأم، ويبتعدون في الوقت
ص115
نفسه عن الأصالة والصفاء.
ولقد كان لتلك الغزلة نتائج حسنة في محافظة العربية على ظاهرة الإعراب الكامل، ومناسبة حروفها لمعانيها، وثبات أصواتها مع سعة مدرجها، وتنوع صرفها واشتقاقها، وتعدد أبنيتها وصيغها، وكثيرة مصادرها، وغنى مفرداتها بالاشتراك والترادف والتضاد، واستعدادها الذاتي للنحت والتوليد والتعريب.
ص116
________________
(1) قارن بفندريس 336.
(2) مقدمة ابن خلدون "ط. القاهرة سنة 1329هـ" ص635.
(3) كتاب سيبويه 1/ 477، 2/ 52ط. سنة 1316هـ.
(4) نفسه 2/ 423.
(5) نفسه 1/ 198، 2/ 290.
(6) نفسه 2/ 264.
(7) نفسه 2/ 424.
(8) وقد بلغ أبو بكر الواسطي، الحافظ المعمر، بتعداد هذه اللهجات في القرآن أربعين في كتابه "الإرشاد في القراءات العشر". وانظر في "الإتقان في علوم القرآن للسيوطي 1/ 230".
وقارن بـ"مباحث في علوم القرآن" للمؤلف ص105. "الطبعة الخامسة". (9) الصاحبي 23.
(10) قارن بفندريس 419.
(11) هو اللغوي المشهور، صاحب "الصحاح" المطبوع في4 مجلدات, واسمه: إسماعيل بن حماد، المعروف بالجوهري, أصله من فاراب، وإليها ينسب أحيانًا, فيقال: "الفارابي", له كتاب في العروض، ومقدمة في النحو. ونقل السيوطي من كتابه "الألفاظ والحروف" في المزهر والاقتراح, ويقال: إنه أول من حاول الطيران ومات في سبيله 393 هـ, وفي إنباه الرواة "1/ 194" أن وفاته 398هـ, "وقارن بمعجم الأدباء 2/ 269".
(12) المزهر 1/ 211-212 وقارن بالاقتراح 22 "المعارف بحيدر آباد سنة 1310هـ", وراجع ما ذكرناه ص28. وارجع إلى تفصيل هذا كله في "أصول النحو ص17 وما بعدها".
(13) الخصائص 1/ 405.
(14) الخصائص 1/ 413.
(15) بوزن أشععها وأدععها، والصواب: أشآها، وهو مضارع شأى القوم: سبقهم، وصواب الأخرى، أدآها، وهومضارع دأوت للصيد إذا ختلته.
(16) الخصائص 1/ 406.
|
|
مخاطر خفية لمكون شائع في مشروبات الطاقة والمكملات الغذائية
|
|
|
|
|
"آبل" تشغّل نظامها الجديد للذكاء الاصطناعي على أجهزتها
|
|
|
|
|
تستخدم لأول مرة... مستشفى الإمام زين العابدين (ع) التابع للعتبة الحسينية يعتمد تقنيات حديثة في تثبيت الكسور المعقدة
|
|
|