1

المرجع الالكتروني للمعلوماتية

النحو

اقسام الكلام

الكلام وما يتالف منه

الجمل وانواعها

اقسام الفعل وعلاماته

المعرب والمبني

أنواع الإعراب

علامات الاسم

الأسماء الستة

النكرة والمعرفة

الأفعال الخمسة

المثنى

جمع المذكر السالم

جمع المؤنث السالم

العلم

الضمائر

اسم الإشارة

الاسم الموصول

المعرف بـ (ال)

المبتدا والخبر

كان وأخواتها

المشبهات بـ(ليس)

كاد واخواتها (أفعال المقاربة)

إن وأخواتها

لا النافية للجنس

ظن وأخواتها

الافعال الناصبة لثلاثة مفاعيل

الأفعال الناصبة لمفعولين

الفاعل

نائب الفاعل

تعدي الفعل ولزومه

العامل والمعمول واشتغالهما

التنازع والاشتغال

المفعول المطلق

المفعول فيه

المفعول لأجله

المفعول به

المفعول معه

الاستثناء

الحال

التمييز

الحروف وأنواعها

الإضافة

المصدر وانواعه

اسم الفاعل

اسم المفعول

صيغة المبالغة

الصفة المشبهة بالفعل

اسم التفضيل

التعجب

أفعال المدح والذم

النعت (الصفة)

التوكيد

العطف

البدل

النداء

الاستفهام

الاستغاثة

الندبة

الترخيم

الاختصاص

الإغراء والتحذير

أسماء الأفعال وأسماء الأصوات

نون التوكيد

الممنوع من الصرف

الفعل المضارع وأحواله

القسم

أدوات الجزم

العدد

الحكاية

الشرط وجوابه

الصرف

موضوع علم الصرف وميدانه

تعريف علم الصرف

بين الصرف والنحو

فائدة علم الصرف

الميزان الصرفي

الفعل المجرد وأبوابه

الفعل المزيد وأبوابه

أحرف الزيادة ومعانيها (معاني صيغ الزيادة)

اسناد الفعل الى الضمائر

توكيد الفعل

تصريف الاسماء

الفعل المبني للمجهول

المقصور والممدود والمنقوص

جمع التكسير

المصادر وابنيتها

اسم الفاعل

صيغة المبالغة

اسم المفعول

الصفة المشبهة

اسم التفضيل

اسما الزمان والمكان

اسم المرة

اسم الآلة

اسم الهيئة

المصدر الميمي

النسب

التصغير

الابدال

الاعلال

الفعل الصحيح والمعتل

الفعل الجامد والمتصرف

الإمالة

الوقف

الادغام

القلب المكاني

الحذف

المدارس النحوية

النحو ونشأته

دوافع نشأة النحو العربي

اراء حول النحو العربي واصالته

النحو العربي و واضعه

أوائل النحويين

المدرسة البصرية

بيئة البصرة ومراكز الثقافة فيها

نشأة النحو في البصرة وطابعه

أهم نحاة المدرسة البصرية

جهود علماء المدرسة البصرية

كتاب سيبويه

جهود الخليل بن احمد الفراهيدي

كتاب المقتضب - للمبرد

المدرسة الكوفية

بيئة الكوفة ومراكز الثقافة فيها

نشأة النحو في الكوفة وطابعه

أهم نحاة المدرسة الكوفية

جهود علماء المدرسة الكوفية

جهود الكسائي

الفراء وكتاب (معاني القرآن)

الخلاف بين البصريين والكوفيين

الخلاف اسبابه ونتائجه

الخلاف في المصطلح

الخلاف في المنهج

الخلاف في المسائل النحوية

المدرسة البغدادية

بيئة بغداد ومراكز الثقافة فيها

نشأة النحو في بغداد وطابعه

أهم نحاة المدرسة البغدادية

جهود علماء المدرسة البغدادية

المفصل للزمخشري

شرح الرضي على الكافية

جهود الزجاجي

جهود السيرافي

جهود ابن جني

جهود ابو البركات ابن الانباري

المدرسة المصرية

بيئة مصر ومراكز الثقافة فيها

نشأة النحو المصري وطابعه

أهم نحاة المدرسة المصرية

جهود علماء المدرسة المصرية

كتاب شرح الاشموني على الفية ابن مالك

جهود ابن هشام الانصاري

جهود السيوطي

شرح ابن عقيل لالفية ابن مالك

المدرسة الاندلسية

بيئة الاندلس ومراكز الثقافة فيها

نشأة النحو في الاندلس وطابعه

أهم نحاة المدرسة الاندلسية

جهود علماء المدرسة الاندلسية

كتاب الرد على النحاة

جهود ابن مالك

اللغة العربية

لمحة عامة عن اللغة العربية

العربية الشمالية (العربية البائدة والعربية الباقية)

العربية الجنوبية (العربية اليمنية)

اللغة المشتركة (الفصحى)

فقه اللغة

مصطلح فقه اللغة ومفهومه

اهداف فقه اللغة وموضوعاته

بين فقه اللغة وعلم اللغة

جهود القدامى والمحدثين ومؤلفاتهم في فقه اللغة

جهود القدامى

جهود المحدثين

اللغة ونظريات نشأتها

حول اللغة ونظريات نشأتها

نظرية التوقيف والإلهام

نظرية التواضع والاصطلاح

نظرية التوفيق بين التوقيف والاصطلاح

نظرية محاكات أصوات الطبيعة

نظرية الغريزة والانفعال

نظرية محاكات الاصوات معانيها

نظرية الاستجابة الصوتية للحركات العضلية

نظريات تقسيم اللغات

تقسيم ماكس مولر

تقسيم شليجل

فصائل اللغات الجزرية (السامية - الحامية)

لمحة تاريخية عن اللغات الجزرية

موطن الساميين الاول

خصائص اللغات الجزرية المشتركة

اوجه الاختلاف في اللغات الجزرية

تقسيم اللغات السامية (المشجر السامي)

اللغات الشرقية

اللغات الغربية

اللهجات العربية

معنى اللهجة

اهمية دراسة اللهجات العربية

أشهر اللهجات العربية وخصائصها

كيف تتكون اللهجات

اللهجات الشاذة والقابها

خصائص اللغة العربية

الترادف

الاشتراك اللفظي

التضاد

الاشتقاق

مقدمة حول الاشتقاق

الاشتقاق الصغير

الاشتقاق الكبير

الاشتقاق الاكبر

اشتقاق الكبار - النحت

التعرب - الدخيل

الإعراب

مناسبة الحروف لمعانيها

صيغ اوزان العربية

الخط العربي

الخط العربي وأصله، اعجامه

الكتابة قبل الاسلام

الكتابة بعد الاسلام

عيوب الخط العربي ومحاولات اصلاحه

أصوات اللغة العربية

الأصوات اللغوية

جهود العرب القدامى في علم الصوت

اعضاء الجهاز النطقي

مخارج الاصوات العربية

صفات الاصوات العربية

المعاجم العربية

علم اللغة

مدخل إلى علم اللغة

ماهية علم اللغة

الجهود اللغوية عند العرب

الجهود اللغوية عند غير العرب

مناهج البحث في اللغة

المنهج الوصفي

المنهج التوليدي

المنهج النحوي

المنهج الصرفي

منهج الدلالة

منهج الدراسات الانسانية

منهج التشكيل الصوتي

علم اللغة والعلوم الأخرى

علم اللغة وعلم النفس

علم اللغة وعلم الاجتماع

علم اللغة والانثروبولوجيا

علم اللغة و الجغرافية

مستويات علم اللغة

المستوى الصوتي

المستوى الصرفي

المستوى الدلالي

المستوى النحوي

وظيفة اللغة

اللغة والكتابة

اللغة والكلام

تكون اللغات الانسانية

اللغة واللغات

اللهجات

اللغات المشتركة

القرابة اللغوية

احتكاك اللغات

قضايا لغوية أخرى

علم الدلالة

ماهية علم الدلالة وتعريفه

نشأة علم الدلالة

مفهوم الدلالة

جهود القدامى في الدراسات الدلالية

جهود الجاحظ

جهود الجرجاني

جهود الآمدي

جهود اخرى

جهود ابن جني

مقدمة حول جهود العرب

التطور الدلالي

ماهية التطور الدلالي

اسباب التطور الدلالي

تخصيص الدلالة

تعميم الدلالة

انتقال الدلالة

رقي الدلالة

انحطاط الدلالة

اسباب التغير الدلالي

التحول نحو المعاني المتضادة

الدال و المدلول

الدلالة والمجاز

تحليل المعنى

المشكلات الدلالية

ماهية المشكلات الدلالية

التضاد

المشترك اللفظي

غموض المعنى

تغير المعنى

قضايا دلالية اخرى

نظريات علم الدلالة الحديثة

نظرية السياق

نظرية الحقول الدلالية

النظرية التصورية

النظرية التحليلية

نظريات اخرى

النظرية الاشارية

مقدمة حول النظريات الدلالية

أخرى

علوم اللغة العربية : المدارس النحوية : اللغة العربية : اللغة المشتركة (الفصحى) :

مقايیس اللغة الفصحى

المؤلف:  د. صبحي الصالح

المصدر:  مباحث في فقه اللغة

الجزء والصفحة:  ص109- 116

2-8-2016

2377

بعد أن عرضنا للفروق بين لهجتي تميم وقريش -وهما اللهجتان الرئيستان بين لهجات العربية- أصبح يسيرًا علينا أن نتصور نوع الخصائص التي تمتاز بها لغتنا الأدبية المثالية عن أخواتها من اللغات السامية بوجه خاص، وعن كثير من اللغات الأجنبية بوجه عام؛ فإن هذه الخصائص لا تميز لغة قريش لذاتها، بل لتمثلها خير ما في اللهجات العربية الصحيحة بالتوليد والاشتقاق, وخير ما في اللغات الأجنبية بالنقل والتعريف.
ذلك بأن العرب حين استصفوا لهجة قريش وجعلوها لغتهم الأدبية المشتركة أثَّروا فيها مثلما تأثروا بها؛ فصدَقَ على لهجة قريش ما يصدق على كل اللغات من قوانين التأثر والتأثير، وهي قوانين لا تكاد تتخلف إذا درسنا اللغة على أنها ظاهرة إنسانية
(1).

ص109

وينبغي ألّا ننسى أن لغة قريش كانت -كما قال ابن خلدون: "بعيدة عن بلاد العجم من جميع جهاتها"(2)، وإن كنا نعترف بأن بعدها عنها لم يحل دون تسرب الألفاظ الفارسية والرومية إليها.
ولكننا عند الحديث عن التعريب، سنرى أن مقدرة لغةٍ ما على تمثل الكلام الأجنبي، تعد مزية وخصيصة لها إذا هي صاغته على أوزانها، وصبّته في قوالبها، ونفخت فيه من روحها.
وكما رَدَدْنَا إلى تميم اعتبارها بدراسة أبرز خصائصها، لن نستنكف عن رد الاعتبار إلى لهجة كل قبيلة لم تطرأ العجمة على ألسنتها، ولم تلابس اللكنة الدخيلة ملاحنها، فمثل هذه اللهجات جديرة أن تستنبط منها مزايا لغتنا، وأن يكتشف لديها مدلول مفرداتنا وتراكيبنا.
ومنهج الأقدمين في جمع اللغة علميّ دقيق, يعول على الملاحظة والاستقراء، والإفراط في الحيطة أحيانًا، حتى لنستطيع أن نكون مطمئنين إلى أكثر ما استنتجوه من خصائص لغتنا التي تجنبوا أخذها عَمَّن تشوب عربيتهم أية شائبة؛ فقد اقتصر أخذهم اللغة على عرب البادية، وعلى فصحائهم بشكل خاصٍ
(3). وكثيرًا ما كان سيبويه يشير إلى تشدده في تصويب الاستعمال اللغوي بردّه إلى العرب الذين تُرْضَى عربيتهم(4)، أو العرب الموثوق بهم(5)، أو بعربيتهم(6), ولكن سيبويه نفسه كان يرى أن هؤلاء العرب الموثوق بعربيتهم هم عرب الحجاز، فيجنح غالبًا إلى ترجيح لغة الحجاز إذا اختلف اللهجات(7).

ص110

ولِمَ لا تكون لغة الحجاز مقياسًا للفصاحة وقد بلغت من الرقي داخل الجزيرة العربية ما أوضحناه في الفصل السابق، حين خلت من مستقبح اللغات ومستهجن الألفاظ؟
إن الباحث يكاد يرى هذا المقياس صحيحًا لا مغمز فيه، بل بديهيًا لا مسوّغ لرده؛ ثم يبدو له أن يتساءل: إن كان الأقدمون قد اقتصروا في شواهدهم على عرب البادية، فلماذا رجحوا لغة قريش وما هي من البداوة في شيء؟ إنها على العكس من ذلك، لغة الحضارة بين العرب قاطبة!
نحسب أننا لا يسعنا، للإجابة عن هذه الشبهة، أن ننكر حضرية قريش, ولا أن نجحد تأثرها بفارس والروم أمتي الحضارة في تلك الحقبة من التاريخ, ونحسب أنه ليس من البحث الموضوعي في شيء أن نرى في استصفاء لغة قريش أن القرآن نزل بها، ففي القرآن من لهجات العرب الأخرى ألفاظ غير قليلة
(8), ولغة القرآن بعد هذا، حين يقال: إنها لغة الحجاز أو قريش، هي اللغة نفسها التي نقلت بها إلينا أشعار العرب وخطبهم وأسجاعهم, ولقد صادق القرآن هذه اللغة الراقية المهذبة، فزاد من ترقيتها وتهذيبها, فهذا معنى نزوله بلغة قريش.
لكن الناس -في أكثر بقاع الأرض- يملأ القديم قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم، فيحيطونه بهالة من التقديس: وذلك كان موقف العرب من لهجة قريش؛ فقد تقادم عهدها وهم يعظمونها ويعظمون أهلها، ويعرفون لهم فضلهم، إذ جعل الله قريشًا "قُطّانَ حرمه، وجيرانَ

ص111

بيته الحرام، وولاته, فكانت وفود العرب من حجّاجها, وغيرهم يفدون إلى مكة للحج، ويتحاكمون إلى قريش في أمورهم(9)".
ومن السنن الاجتماعية المسلّمة أن اللغة إذا تقادم عهدها بالغ الناس في تقديسها, فلا تعجب إذا رأيت في آثار الباحثين في القرن الماضي، أن مقياس الكمال في اللغات ارتدادها إلى ماضٍ أشد إيغالًا في القدم، حتى ليمكن القول -في ضوء المقياس: إن اللغة الكاملة المطردة النقية لم تعرف إلّا في العصر البدائي، وإن لغاتنا الحديثة المتطورة عن تلك الأصول البدائية ليست إلّا تحريفًا وفسادًا
(10).
ولهجة قريش -فوق الذي أحيطت به من مظاهر التقديس- انفردت حقًّا بمزايا حفظت لها شخصيتها، وأتاحت لها من أسباب التكامل ما لم يتح لغيره، فبعدها الذي وصفه ابن خلدون عن بلاد العجم من جميع جهاتها, كان حاجزًا طبيعيًّا دون كثرة اتصالها بالأجانب، فلم يدخلها من لكنة الأعاجم ما داخل القبائل المتطرفة التي كانت على اتصال وثيق بمن حولها من غير العرب. قال أبو نصر الفارابي
(11) في أول كتابه المسمى "بالألفاظ والحروف": "كانت قريش أجود العرب انتقاءً للأفصح من الألفاظ، وأسهلها على اللسان عند النطق، وأحسنها مسموعًا، وأبينها إبانة عمَّا في النفس.
والذين عنهم نُقِلَتِ اللغة العربية، وبهم اقْتُدِيَ، وعنهم أُخِذَ

ص112

اللسان العربي من قبائل العرب هم: قيس وتميم وأسد؛ فإن هؤلاء هم الذين عنهم أكثر ما أُخِذَ ومعظمه، وعليهم اتكل في الغريب وفي الإعراب والتصريف؛ ثم هذيل، وبعض كنانة، وبعض الطائيين, ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم.
وبالجملة، فإنه لم يؤخذ عن حضري قط، ولا عن سكان البراري ممن كان يسكن أطراف بلادهم المجاورة لسائر الأمم الذين حولهم، فإنه لم يؤخذ لا من لَخْمِ، ولا من جذام, لمجاورتهم أهل الشام، وأكثرهم نصارى يقرءون بالعبرانية، ولا من تغلب واليمن، فإنهم كانوا بالجزيرة مجاورين لليونان، ولا من بكر، لمجاورتهم للنبط والفرس، ولا من عبد القيس وأزد عمان؛ لأنهم كانوا بالبحرين مخالطين للهند والفرس، ولا من أهل اليمن لمخالطتهم للهند والحبشة، ولا من بني حنيفة وسكان اليمامة، ولا من ثقيف وأهل الطائف، لمخالطتهم تجار اليمن المقيمين عندهم، ولا من حاضرة الحجاز؛ لأن الذين نقلوا اللغة صادفوهم حين ابتدؤوا ينقلون لغة العرب, قد خالطوا غيرهم من الأمم، وفسدت ألسنتهم ... "
(12).
وليس لهذه الحَيْطة في أخذ اللغة، على النحو الذي وصفه أبو نصر الفارابي، إلّا تفسير واحد, هو الحيلولة دون تسرب الدخيل إلى العربية, ما لم يطبع بطابع الفصحى تبعًا لأساليب تعريبها؛ لأن مثل هذا التسرب غير الإرادي وغير المقصود يفسد على الباحثين فهمهم أصالة اللغة وشخصيتها، فقد يستنبط منه خطأ أن من خصائصها أوجهًا لا تلزمها، أو صيغًا لم تجيء على أبينيتها؛ لأنه لما تنبثق عنها، وإنما انتقلت إليها

ص113

عن طريق العدوى اللغوية بسبب القرب والجوار, وما أكثر صورها، وأشد أخطارها!
ولذلك عَدَّل ابن جني امتناعهم من الأخذ عن أهل المدر -كما أخذوا عن أهل الوبر- بـ"ما عرض للغات الحاضرة وأهل المدر من الاختلال والفساد والخطل". ولو عُلِمَ أن أهل مدينة باقون على فصاحتهم ولم يعترض شيء من الفساد للغتهم، لوجب الأخذ عنهم كما يؤخذ عن أهل الوبر"
(13).
على أن فرض ابن جني هذا كتب عليه أن يظل فرضًا، لا يزيد على ذلك شيئًا، فما علمنا بأهل مدينة باقين على فصاحتهم، بل رأينا أهل المدن أكثر تعرضًا للحن وفساد اللغة من البدو، ورأينا من البدو الفصحاء أنفسهم من ينتقل لسانه إلى لغة فاسدة؛ فينكر العلماء عليه لغته ولا يأخذون بها, ومن ذلك ما يُحْكَى من أن أبا عمرو استضعف فصاحة أبي خَيْرَةَ، لما سأله فقال: كيف تقول: استأصل الله عِرْقَاتِهِمْ"؟ ففتح أبو خيرة التاء، فقال له أبو عمرو: هيهات أبا خيرة لان جِلْدُكَ(14)"!
ومذ شاع في البدو اضطراب الألسنة وخبالها, أصبح العلماء يتوجسون خيفة من الذين يدعون الفصاحة، فلا ينخدعون بالبدوي فيحكموا له بالفصاحة إذا آنسوها منه في وضوح نطقه ورشاقة لفظه فقط، وما كان للبيان وحده أن يكون مقياس الفصاحة, إن لم يرتد إلى أصل ينمّ عليه، أو قياس يسوغه, وهل تظن ادعاء الفصاحة البدوية والتباعد عن الضعفة الحضرية، أمرين عسيرين على رجل يقضي معظم وقته في البادية، ولا يأتي الحاضرة إلّا لمامًا؟

ص114

لم يكن العلماء -مع ذلك- لينخدعوا بمثل هذا البدوي، أو يظلوا عاكفين على كلامه يتلقونه بالقبول، فما أسرع ما كان يفجؤهم منه ما ينال من فصاحته، ويغض من بيانه ويقدح فيه، فإذا هم يرفضون لغته ويمتنعون من التلقي عنه.
ولقد طرأ على ابن جني أحد من يدعي هذه الفصاحة، فميّزَ كلامه أول الأمر تمييزًا حَسَّنَ موقعه في نفسه، إلى أن أنشده يومًا شعرًا له يقول في بعض قوافيه "أشأؤها وأد أوها"
(15) فجمع بين الهمزتين، واستأنف من ذلك ما لا أصل له، ولا قياس يسوغه، وأبدل إلى الهمز حرفًا لا حظَّ في الهمز له، مع أنه "لو التقت همزتان عن وجوب صنعة للزم تغير إحداهما، فكيف أن يقلب إلى الهمز قلبًا ساذجًا عن غير صنعة ما لا حظَّ له في الهمز، ثم يحقق الهمزتين جميعًا؟! هذا ما لا يبيحه قياس، ولا ورد بمثله سماع! "(16).
ومع هذا التشدد في مقياس الفصاحة، واصطنع العرب لغة قريش للتفنن في القول، والإبانة في التعبير، فدلّ استصفاؤهم أياها على أنها اختارت من كلام العرب أبينه، وراعت أرشقه، واعتمدت أصفاه؛ فكان حقًّا ما ذهب إليه الباحثون من المستشرقين وغيرهم, من أن أهم مزية للعربية حفظت لها شخصيتها بين أخواتها الساميات إنما هي عزلتها عن الشعوب الأعجمية، واكتفاؤها بمقدرتها الذاتية على التعبير، وعلى التمثل والتوليد، وعلى التخير والانتفاء، في موطنها عينه، وبيئتها نفسها، وبين شقيقاتها اللهجات الفصحى التي تبادلت معها التأثر والتأثير، بينما كانت الساميات يتفرقن عن موطن السامية الأم، ويبتعدون في الوقت

ص115

نفسه عن الأصالة والصفاء.
ولقد كان لتلك الغزلة نتائج حسنة في محافظة العربية على ظاهرة الإعراب الكامل، ومناسبة حروفها لمعانيها، وثبات أصواتها مع سعة مدرجها، وتنوع صرفها واشتقاقها، وتعدد أبنيتها وصيغها، وكثيرة مصادرها، وغنى مفرداتها بالاشتراك والترادف والتضاد، واستعدادها الذاتي للنحت والتوليد والتعريب.

ص116

________________

(1) قارن بفندريس 336.

(2) مقدمة ابن خلدون "ط. القاهرة سنة 1329هـ" ص635.
(3) كتاب سيبويه 1/ 477، 2/ 52ط. سنة 1316هـ.
(4) نفسه 2/ 423.
(5) نفسه 1/ 198، 2/ 290.
(6) نفسه 2/ 264.
(7) نفسه 2/ 424.

(8) وقد بلغ أبو بكر الواسطي، الحافظ المعمر، بتعداد هذه اللهجات في القرآن أربعين في كتابه "الإرشاد في القراءات العشر". وانظر في "الإتقان في علوم القرآن للسيوطي 1/ 230".
وقارن بـ"مباحث في علوم القرآن" للمؤلف ص105. "الطبعة الخامسة". (9) الصاحبي 23.
(10) قارن بفندريس 419.
(11) هو اللغوي المشهور، صاحب "الصحاح" المطبوع في4 مجلدات, واسمه: إسماعيل بن حماد، المعروف بالجوهري, أصله من فاراب، وإليها ينسب أحيانًا, فيقال: "الفارابي", له كتاب في العروض، ومقدمة في النحو. ونقل السيوطي من كتابه "الألفاظ والحروف" في المزهر والاقتراح, ويقال: إنه أول من حاول الطيران ومات في سبيله 393 هـ, وفي إنباه الرواة "1/ 194" أن وفاته 398هـ, "وقارن بمعجم الأدباء 2/ 269".

(12) المزهر 1/ 211-212 وقارن بالاقتراح 22 "المعارف بحيدر آباد سنة 1310هـ", وراجع ما ذكرناه ص28. وارجع إلى تفصيل هذا كله في "أصول النحو ص17 وما بعدها".

(13) الخصائص 1/ 405.
(14) الخصائص 1/ 413.

(15) بوزن أشععها وأدععها، والصواب: أشآها، وهو مضارع شأى القوم: سبقهم، وصواب الأخرى، أدآها، وهومضارع دأوت للصيد إذا ختلته.
(16) الخصائص 1/ 406.

EN

تصفح الموقع بالشكل العمودي