المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية


Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
{افان مات او قتل انقلبتم على اعقابكم}
2024-11-24
العبرة من السابقين
2024-11-24
تدارك الذنوب
2024-11-24
الإصرار على الذنب
2024-11-24
معنى قوله تعالى زين للناس حب الشهوات من النساء
2024-11-24
مسألتان في طلب المغفرة من الله
2024-11-24

مسؤولية الأم الصعبة
12-1-2016
السياسة
10-6-2021
إنفلونزا الطيور - أسبابها وطرق الوقاية منها
17-4-2016
معنى كلمة فصم‌
10-12-2015
الخبر بين الصحافة الاذاعية.. والصحافة المطبوعة- ثالثا: فرصة السبق الصحفي
27-4-2021
فصاحته و بلاغته
23-01-2015


شعراء الاستنفار و الاستصراخ  
  
9410   12:05 مساءاً   التاريخ: 4-7-2016
المؤلف : شوقي ضيف
الكتاب أو المصدر : عصر الدول و الإمارات ،الأندلس
الجزء والصفحة : ص378-385
القسم : الأدب الــعربــي / الأدب / الشعر / العصر الاندلسي /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 29-5-2022 2031
التاريخ: 8/9/2022 1665
التاريخ: 2024-01-07 786
التاريخ: 2023-02-04 1209

أخذت قصائد الاستنفار و الاستصراخ و طلب الغوث و العون تتكاثر في الأندلس منذ عصر أمراء الطوائف، إذ انقسمت الأندلس الشامخة في عصر الدولة الأموية إلى أندلسيات و دول و إمارات كثيرة، و أخذ أولئك الأمراء يعيشون للهو و القصف، و قلما فكروا في مصير الأندلس، و كثير منهم كانوا يحملون السلاح و يسدّدونه إلى صدور جيرانهم الأندلسيين و ما يلبثون أن يغمدوه حين يشهر الحرب على أحد هؤلاء الجيران أعداؤهم من نصارى الشمال. و أكثر من ذلك كانوا يفدون أنفسهم و إماراتهم منهم بإتاوات سنوية يدفعونها لهم راغمين. و انتهز أولئك النصارى الفرصة و هذه الفرقة بين أمراء الطوائف فتنادوا باسترداد الأندلس، و كان أول ما حاولوا استرداده حصن بربشتر سنة 456 الواقع بين مدينتي لاردة و سرقسطة ركني الثغور الشمالية، فقد حاصره النورمانديون و استولوا عليه و نكّلوا بأهله و نسائه و فتياته تنكيلا بشعا، زلزل الأندلس و أطار من أهلها الأفئدة، و كان ممن أفزعه هذا الحادث الجلل، فقيه طليطلة الزاهد عبد اللّه العسال، فنظم قصيدة ملتهبة يستصرخ بها أهل الأندلس و فيها يقول )1):

و لقد رمانا المشركون بأسهم     لم تخط لكن شأنها الإصماء (2)
كم موضع غنموه لم يرحم به        طفل و لا شيخ و لا عذراء
و لكم رضيع فرّقوه من أمّه         فله إليها ضجّة و بغاء ) 3)
و لربّ مولود أبوه مجدّل         فوق التّراب و فرشه البيداء
و مصونة في خدرها محجوبة     قد أبرزوها ما لها استخفاء
و هو يقول إن المشركين رمونا بأسهم قاتلة، و غنموا مغانم ضخمة، لا تأخذهم شفقة و لا رحمة على طفل و لا على فتاة و لا على رضيع ينشد أمه و يصيح بها، و لقد هتكت الحرم و نهبت الفتيات، و الدماء هناك مطلولة، و قد روّع سرب اللّه و فلّ غربه، و إن العين لتدمع و إن النفس لتتقطع. و كان ممن استثارتهم هذه النكبة و أقضّت مضاجعهم الفقيه أبو حفص عمر بن الحسن الهوزني ترب المعتضد أمير إشبيلية و رفيقه في شبابه، فكتب إليه يستصرخه (4)، ليرأب الصدع و يداوي الجروح، و نظم أشعارا يحض فيها الأندلسيين على جهاد العدو قبل أن يستفحل الخطب و يعضل الداء من مثل قوله(5):

بيّت الشرّ فلا يستزلّ      طرق النّوّام سمع أزلّ (6)
فثبوا و اخشوشنوا و احزئلّوا        كلّ ما رزء سوى الدّين قلّ
بدء صعق الأرض نشء و طلّ             و رياح ثم غيم أبلّ (7)
يدنا العليا، و هم-ويك-شلّ       فلم استرعى الأعزّ الأذلّ (8)
عجب الأيام ليث صملّ     ذعرته نعجة إذ تصلّ (9)

    و هو يصرخ في كل أندلسي أن يعزم-بقوة-على الشر، فقد صكّ مسامع النوام ذئب فاتك. و عليهم أن يثبوا بأعدائهم و يخشوشنوا و يتجمعوا لهم حتى يضربوهم الضربة القاضية. و إنه لينذر قومه فبدء الصواعق سحاب ينشأ و طل خفيف و رياح لينة، ثم غيم كثيف و رعود و بروق و عواصف مدمرة. و يحاول أن يملأ روح الأندلسيين حماسة ملتهبة، فيقول إننا كثرة غالبة و لنا العز و البأس و المنعة، و أعداؤنا قلة ذليلة، فكيف دهى الأذلاء الأعزاء و استباحوا ديارهم، و يعجب أشد العجب من أن تفزع نعجة لا حول لها و لا قوة بصوتها اللين الرخيم أسدا ضاريا بالغ الصلابة مفرط القوة. و استطاع أبو حفص الهوزني و أضرابه من شعراء الأندلس أن يملئوا نفوس أهل سرقسطة غضبا لإخوانهم من أهل بربشتر، فلم يدر عام حتى انقضّوا على النورمانديين و نكلّوا بهم، و استرجعوا بربشتر، و غسلوها من وضرهم و رجسهم.

و كان فردناند ملك قشتالة قسم دولته بين أولاده الثلاثة: شانجه بقشتالة و ألفونس بليون و أشتوريش و غرسية بجليقية و البرتغال، و اختصم شانجه و ألفونس و انتصر شانجه ففر ألفونس إلى دير، ثم لجأ إلى المأمون بن ذي النون صاحب طليطلة، و بدلا من أن ينتهز الفرصة التي أمكنته من عدوه أنزله ببلده في قصر و أكرمه لمدة تسعة شهور، درس فيها طليطلة و مداخلها و مخارجها. و اغتيل شانجه، و استدعى القشتاليون ألفونس و أصبح ملكا عليهم و على ليون و جليقية و البرتغال. و كان أول ما أهمّه الاستيلاء على طليطلة حتى يردّ الدّين الذي في عنقه لبنى ذي النون! يقول ابن الخطيب: «و سكناه بطليطلة و اطلاعه على عوراتها هو الذى أوجب تملك النصارى لها (10)» . و لم يلبث أن استولى عليها-كما مر بنا في غير هذا الموضع-سنة 4٧٨ و استولى على جميع المدن و القرى التابعة لها من وادي الحجارة إلى طلبيرة و شنتمرية، و كان لذلك زلزلة ضخمة في نفوس الأندلسيين، إذ استولى ألفونس لا على مدينة بل على قلعة ضخمة من أكبر قلاعهم، و انبرى شاعر كبير يحرض الأندلسيين على الأخذ بالثأر و استرداد تلك الجوهرة الكبيرة، بقصيدة تقطر غضبا و موجدة، و فيها يقول(11):

طليطلة أباح الكفر منها      حماها إنّ ذا نبأ كبير
أ لم تك معقلا للدّين صعبا      فذلّله-كما شاء-القدير
فعادت دار كفر مصطفاة           قد اضطربت بأهليها الأمور
مساجدها كنائس أي قلب      على هذا يقرّ و لا يطير؟ !
أذيلت قاصرات الطّرف        كانت مصونات مساكنها القصور (12)
و النزعة الدينية قوية في القصيدة، إذ كانت حرب الشماليين فعلا حربا صليبية، و الشاعر جزع أن يسقط هذا المعقل الكبير للدين الحنيف، و لا يهبّ أبناؤه لحمايته و استعادته، حتى لقد أصبح دار كفر بعد أن كان دار إيمان و هداية. و لم يوف ألفونس بما عاهد عليه بني ذي النون أمراءها و أهلها من الإبقاء على مساجدهم و احترام شعائرهم الدينية، فقد أحال مسجدها الكبير كنيسة. و يستثير الشاعر حمية المسلمين لا للدين الحنيف فحسب، بل أيضا للعرض الذى طالما سلّت السيوف من أجله و أذيقت الحتوف، فقد امتهنت النساء العفيفات ربات القصور الحسان ذوات الجمال، و تحوّلن إلى خادمات في بيوت العلوج، و إنه لحري أن يغلى لذلك دم كل مسلم و أن يمتشق الحسام للثأر و الفتك بأعداء الإسلام، يقول:

خذوا ثأر الديانة و انصروها    فقد حامت على القتلى النّسور
و لا تهنوا و سلوّا كلّ عضب     تهاب مضاربا منه النّحور (13)
و موتوا كلّكم فالموت أولى     بكم من أن تجاروا أو تخوروا (14)
و نرجو أن يتيح اللّه نصرا         عليهم إنّه نعم النّصير
و هو يقول للأندلسيين جميعا و لأمراء الطوائف: هبوا من نومكم للأخذ بثأر دينكم و لا تهنوا بل جالدوا أعداءه مجالدة ضارية، حتى تذيقوهم و بال عدوانهم الأثيم، و إنه لعار ما بعده عار أن تسالموهم و تقبلوا إجارتهم و حمايتهم لكم فإن في ذلك هوانا لكم ما بعده هوان. و يستصرخ كل أندلسي أن ينازلهم حتى الذماء الأخير، عسى أن يجبر العظم الكسير. و مع روعة القصيدة و امتدادها إلى نحو ستين بيتا لم يذكر معها اسم ناظمها، و أكبر الظن أنها لزاهد طليطلة أبي محمد عبد اللّه العسّال، و مرّ بنا آنفا شعره حين استولى العدو على بربشتر، و لا يعقل أن يستولى ألفونس على طليطلة بلده و لا ينظم فيها قصيدة حارة يستنفر بها الأندلسيين لاستردادها، و نظن ظنا أنه نظم في نجدتها لا هذه القصيدة فحسب، بل قصائد مختلفة يستثير بها مواطنيه كي ينقذوها من أيدى القشتاليين.

و كان يوسف بن تاشفين-كما مر بنا-حين استولى على إمارات أمراء الطوائف رأى أن يدع سرقسطة في أقصى الشمال لأمرائها من بني هود لاستبسالهم المستمر في حمايتها أمام ملوك أراجون، حتى إذا خلفه ابنه علي زيّن له الملتفّون حوله من الفقهاء و رجال دولته أن يأخذها من أيدي بني هود، فأجبرهم على التنازل عنها، و سرعان ما أزفت الآزفة إذ حاصرها ملك أراجون سنة 5١٢ و استولى عليها من يد المرابطين.

و كان ذلك نذير شؤم، فقد استولى النصارى بعدها على الثغور المجاورة، استولوا على كتنده جنوبيها سنة 5١4 و على تطيلة و طرسونة غربيها سنة 5٢4. و في سنة 5٣٩ انحسر ظل دولة المرابطين عن الأندلس، و انتهز الفرصة كثيرون من شخصياتها فسيطروا على بعض بلدانها، و سيطر من بينهم ابن همشك على جيّان و اتخذ وزيرا له أبا جعفر الوقّشى أحد رجالات الأندلس النابهين و كان شاعرا، و ما زال يقنع ابن همشك بالدخول في طاعة الموحدين حتى ارتضى رأيه سنة 56٢ فأرسل به إلى يوسف بن عبد المؤمن في عاصمته مراكش ليعلن إليه دخوله في طاعته، و أحسن يوسف استقباله، و له فيه غير قصيدة، و نراه في إحداها (15) يستصرخه لجهاد النصارى في الأندلس ورد كيدهم في نحورهم، و فيها يقول:

ألا ليت شعري هل يمدّ لي المدى   فأبصر شمل المشركين طريدا(16)
و هل-بعد-يقضى في النّصارى بنصرة      تغادرهم للمرهفات حصيدا (17)
و يغزو أبو يعقوب في «شنت ياقب»        يعيد عميد الكافرين عميدا (18)
و يلقى على إفرنجهم عبء كلكل         فيتركهم فوق الصعيد هجودا (19)
يغادرهم جرحى و قتلى مبرّحا        ركوعا على وجه الفلا و سجودا
و الوقّشى يتمنى أن يمدّ له في عمره حتى يبصر جموع المشركين مهزومين مدحورين مطرودين إلى أقصى الشمال و قد حصدتهم سيوف المسلمين حصدا بقيادة أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن، و هو يتعقبهم منزلا بهم الهلاك و الدمار حتى «شنت ياقوب» فى جلّيقية بأقصى الغرب من مملكة قشتالة، و قد أصبح عميدهم أو ملكهم قتيلا إثر مواقع تمزّقهم تمزيقا، حتى لتملأ الأرض بهم جرحى و قتلى كبّوا على جباههم، و كأنهم راكعون على وجه الفلوات ساجدون و هم مجرّحون مصرّعون. و يمضي قائلا:

و يفتكّ من أيدى الطّغاة نواعما       تبدّلن من نظم الحجول قيودا (20)
و أقبلن في خشن المسوح و طالما         سحبن من الوشى الرّقيق برودا
و غبّر منهنّ التراب ترائبا       و خدّد منهنّ الهجير خدودا (21)
فحقّ لدمعى أن يفيض لأزرق       تملّكها دعج المدامع سودا (22)
و يا لهف نفسى من معاصم طفلة             تجاور بالقدّ الأليم نهودا (23)
و الوقّشى يستثير حمية يوسف بن عبد المؤمن بما حدث من هوان النساء المسلمين وفتياتهم الحسناوات إذ تبدّلن من زينتهنّ و حلىّ خلاخيلهن أغلال القيود، بل يا للذل فقد ألبسوهن مسوح النصارى الصوفية الخشنة بعد أن عشن يلبسن الثياب الحريرية الموشّاة الرقيقة، بل يا للهول لقد صرن خادمات يلطّخ التراب مواضع القلائد النفيسة في صدورهنّ، و قد غاضت من خدودهن النضرة من العمل الشاق في لفح الهاجرة بعد أن كن ربّات بيوت وفتيات قصور مخدومات تحفّ بهن الفخامة و الجلال. و يقول الوقّشى حقّ لدمعي أن يسيل مدارا لأولئك الحسان ذوات العيون النجلاء الدّعج اللائي نشأن في الحلية و النعيم، فقد بدّلت الأساور و الحلىّ الذهبية في معاصمهن أقدّا أو سيورا من جلد، فيا للعار! و يا للإسلام! و يا للعروبة و كان لهذه القصيدة و ما يماثلها من استصراخات الأندلسيين ليوسف بن عبد المؤمن أمير الوحدين الأثر العميق في نفسه، فدخل الأندلس في سنة 566 على رأس مائة ألف فارس شاكي السلاح، و سحق النصارى في غير موقعة و استردّ كثيرا من ديار الأندلس و القلاع و الحصون، و اتسعت بها مملكته. و خلفه ابنه يعقوب المنصور فمزّق جموعهم في موقعة الأرك المشهورة سنة 5٩١ غير أن النصر كتب لهم في موقعة العقاب سنة 6٠٩ لعهد ابنه الناصر. و ثارت الأندلس على الموحدين، و تفككت بلدانها و تحارب أمراؤها، مما آذن سريعا بضياع الشطر الأكبر منها، و ما توافى سنة 6٢6 حتى يستولى النصارى القشتاليون على مدينة ماردة في الغرب شرقي بطليوس، و في السنة التالية يستولى صاحب برشلونة على جزيرة ميورقة، و ما تلبث حبّات العقد و درره أن تنفرط واحدة في إثر أخرى، و تسقط في سنة 6٣٣ قرطبة جوهرة الأندلس الكبرى في حجر القشتاليين، و تنشب بأخرة من سنة 6٣4 موقعة أنيشة على بعد سبعة أميال من بلنسية بين رجالها و ذوي البأس و الشجاعة فيها و بين ملك أرجون و جنوده، و استطاعت الكثرة النصرانية أن تدحر الأبطال الأشداء و من كان يلهب حماستهم من العلماء أمثال القاضي أبي الربيع الكلاعي الذى استشهد و هو ينازل العدو منازلة ضارية. و لم يلبث ملك أراجون أن حاصر بلنسية أشهرا متعاقبة، و شدّد الحصار حتى أعوزت شجعانها المؤن، و لم يبق إلا الموت جوعا أو التسليم. و منذ موقعة أنيشة أخذ أميرها أبو جميل زيان بن أبي الحملات يستصرخ حكام المغرب لإغاثته و نجدة بلدته مرسلا إليهم الوفود تلو الوفود، و كان ممن استغاث به أبو زكريا يحيى بن أبي حفص أمير تونس، إذ أرسل إليه وفدا على رأسه كاتبه و وزيره المؤرخ الأديب ابن الأبار، و سنترجم له عما قليل ملمين بقصيدته التي أنشدها بين يديه مستنفرا له قبل سقوط بلنسية في يد العدو. و تأثر حين سماعه القصيدة فجهّز أسطولا من ثماني عشرة سفينة محمّلة بالمؤن و السلاح، و اتجه الأسطول-مع ابن الأبار و الوفد المرافق له-إلى بلنسية، غير أن الأسطول أخفق في إيصال المؤن إلى المحاصرين، و اضطر إلى إنزالها في ثغر دانية جنوبي بلنسية. و قد ظلت المدينة تقاوم أشهرا طوالا حتى نفدت الأقوات و اضطر أميرها و أهلها إلى التسليم في صدر سنة 6٣6 و كان ذلك رزءا أليما و خطبا جسيما، مما جعل كثيرين من شرقي الأندلس يستنهضون عزائم أهل المغرب و أمرائهم لاسترداد بلنسية و الأخذ بثأرها، من ذلك قصيدة مطولة أنشدها المقري لشاعر وجّه بها إلى أبي زكريا الحفصي أمير تونس، يقول فيها(24):

نادتك أندلس فلبّ نداءها      و اجعل طواغيت الصّليب فداءها
رش أيّها المولى الرّحيم جناحها       و اعقد بأرشية النجاة رشاءها (25)
إيه بلنسية و في ذكراك ما        يمرى الشئون دماءها لا ماءها (26)
بأبي مآذن كالطّلول دوارس      نسخت نواقيس الصّليب نداءها
هبّوا لها يا معشر التّوحيد قد         آن الهبوب و أحرزوا علياءها
و القصيدة تزخر بالعاطفة الدينية، فالأندلس تستجير ضارعة من حملة الصليب الطغاة، و يتوسل الشاعر إلى أبي زكريا أن يريش جناح الأندلس المهيض و يعقد حبلها و خيوطها بحبال النجاة و ما يرسل إليها من الجيوش الجرارة. و يبكي بلنسية و ما دهاها، مما يفيض المدامع لا ماء بل دماء ساخنة حارة، و يود لو فدى المآذن الدارسة بروحه، و يتحسر على ندائها: «اللّه أكبر» الذى نسخته نواقيس الصلبان بل محته محوا.

و يستصرخ المسلمين أهل التوحيد أن يهبوا لإنقاذ الأندلس من أهل الصليب و ما ينزلون بها من محن و خطوب عظام. و تسقط في أواخر سنة 6٣٩ مدينة شقر جنوبي بلنسية: بلدة ابن خفاجة أكبر شعراء الطبيعة في الأندلس، و يلتاع الكاتب الشاعر ابن عميرة أحد أبنائها لسقوطها التياعا شديدا آملا في استردادها من حملة الصّليب بمثل قوله: (27)

قد عاد قلبي من شرق أندلس     عيد أسى فتّه و ما فتّر (28)
و دون شقر و دون زرقته       أزرق يحكى قناه أو أشقر
الرّوم حرب لنا و هم وشل        سالمه الواردون فاستبحر (29)
إنا لنرجو للدّهر فيأة من       أناب مما جناه و استغفر (30)
و نرقب الكرّة التي أبدا          بها على الروم لم نزل نخبر

و هو يقول إنه زار شرق الأندلس، فامتلأ قلبه مما حدث له و لموطنه «شقر» أسى و غمّا فتّته تفتيتا، و لم-و لن-يفتر أو يسكن، و أين شقر؟ و أين نهرها بزرقته و حلله السندسية؟ لقد استولى عليه شقر من الروم زرق العيون مثل زرقة قناته، و يقول:

يا للعجب! لقد كانوا فئة معادية قليلة فسالمهم الواردون على الأندلس، فإذا هم يتكاثرون و يتسع سلطانهم. و إنه ليأمل أن يتوب الدهر مما جناه على أهل الأندلس من عدوان حملة الصليب، و يسترجع طالبا الغفران. و يقول إننا لا نزال نرقب الكرّة على الروم و النصر الذي وعد اللّه به الإسلام و المسلمين على الكفار و أهل الشرك. و يتوالى بعد ذلك سقوط المدن الأندلسية، فتسقط دانية على المتوسط سنة 64٣ و جيّان شرقي قرطبة سنة 64٣ و شاطبة شرقي دانية سنة644. و إشبيلية سنة 645 و مرسية سنة 664 و يصرخ أبو البقاء الرّندي في نونية له مشهورة صرخة مدوية.

 

 

 

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١) الروض المعطار (طبع لجنة التأليف و الترجمة و النشر) ص 4٠.

2) الإصماء: القتل.

٣) بغاء: نشدان.

4) الذخيرة ٢/٨٩.

5) الذخيرة ٢/٨٩.

6) سمع أزل: ذئب فاتك.

7) غيم أبل: غيم ممطر مطرا شديدا.

8) شل: يريد قلة.

9) صمل: شديد الخلق. تصل: تصيح بصوت لين رقيق.

10) أعمال الأعلام ٢/٣٣٠.

11) نفح الطيب 4/4٨٣ و ما بعدها.

12) أذيلت: امتهنت. قاصرات الطرف: عفيفات.

13) العضب: السيف القاطع.

14) تجاروا: من أجاره إذا حماه. تخوروا من خار: ضعف و وهن.

١5) انظر القصيدة في نفح الطيب 4/4٧٧- 4٧٨.

16) يمد لي المدى: تطول حياتي.

17) المرهفات: السيوف حصيدا: محصودين كالزرع المحصود.

18) يريد بعميد الأولى سيد النصارى و ملكهم، و يعميد الثانية قتيلا و أصل معناها القتيل بالعمود.

19) كلكل: وقعة مبيرة. الصعيد: وجه الأرض. هجودا: موتى كأنهم نائمون

20) الحجول: الخلاخيل.

21) غبّر: لطخ بالغبار. الترائب جمع تريبة: موضع القلادة في أعلى الصدر. خدد: أنحل. الهجير: اشتداد الحر.

22) يريد بالأزرق الإسباني لزرقة عينيه. دعج جمع أدعج: شديد السواد.

23) معاصم جمع معصم: موضع السوار في يد المرأة. طفلة بفتح الطاء: المرأة أو الفتاة البضّة الناعمة. القد: سير من جلد.

24) نفح الطيب 4/4٧٩.

25) رش من راش: أنبت الريش. أرشية جمع رشاء: الحبل.

26) يمرى من أمرى الناقة: أدرّ لبنها.

27) انظر: أبو المطرف أحمد بن عميرة المخزومي للدكتور محمد بن شريفة (طبع الرباط) ص ٢٣٢.

28) عيد هنا: ما يعتاد الإنسان من الهموم. فتر: سكن

29) وشل: قليلون. استبحر: كثر و اتسع.

30) فيأة: رجعة.

 





دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) .


جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) .
وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً .


الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل.