أقرأ أيضاً
التاريخ: 3-7-2019
1521
التاريخ: 25-3-2016
3146
التاريخ: 29-6-2019
1682
التاريخ: 22-3-2016
4533
|
... ان "الأصل في المتهم البراءة" لا يمكن عدِّه حيلة قانونية أو افتراضاً قانونياً، ....، اما كون البراءة حق، فهذا ما يمكن ان يتناوله فرع آخر من القانون لابد من الاعتداد به، ولكن الأمر يبدو اكثر عمقاً عند التفكير في عدِّ هذا الأصل مبدأً ام قرينةً؟. فإذا كان الفرض ان "اصل البراءة" مبدأ، ذلك يعني ان البراءة في الإنسان سلوك ثابت، واذا كان الفرض انه قرينة، مؤدى هذا ان سلوك البراءة، امر غير ثابت، فأي الفرضين صحيح، لاسيما في إطار القانون الجنائي؟. للإجابة على ذلك، نبحث في طبيعة الإنسان في الفرع الأول، بعدِّها تمهيداً ومدخلاً للبحث في طبيعة البراءة، وهو ما نتناوله في الفرع الثاني.
الفرع الأول / الطبيعة المزدوجة للإنسان
عند التفكير في جوهر طبيعة البراءة، نجد انه يتلمس مواضع جدلية أخرى، يمكن عدِّها جذوراً له، تشترك معها التساؤل ذاته، حول طبيعة النفس البشرية، وأعني بصورة خاصة موضوع الخير والشر والثابت والمتغير في النفس الإنسانية. نبين ذلك من خلال النقاط الآتية:
أولا / في الإنسان نوازع للخير وأخرى للشر
بداية ينبغي الإقرار بأن الإجرام أو البراءة في الإنسان، كلتاهما من مظاهر النشاط النفسي، التي تنعكس للظاهر من خلال الإرادة. وما الإرادة سوى نشاط نفسي يتجسد في قدرة الإنسان على توجيه نفسه إلى فعل معين أو الامتناع عنه(1)، أي قدرته على اتخاذ قرارات شخصية تسير سلوكه(2)، تظهر هذه الإرادة بعدِّها نتيجة لما يدور في نفس الإنسان من صراع بين الخير والشر، حيث خلق الله عز وجل الإنسان واودع داخله نوازع للخير واخرى للشر، تتصارعان فيه منذ نشأته، ومنحه عقلاً قوامه الإدراك وحرية الاختيار، مصداقاً لقوله تعالى " ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها " (3). إلا ان هذا الصراع يتأثر بعوامل متعددة، قد تفضي إلى ظهور احدى النزعتين – ضد الأخرى – في صورة سلوك سوي أو منحرف. إذ بات من الراجح في العلوم الإنسانية المعاصرة، اشتراك عاملي الوراثة والبيئة في التكوين الثلاثي لشخصية الإنسان (التكوين البدني، التكوين العقلي، التكوين النفسي) (4)، إلا انه من الصعوبة تقرير مدى أو نسبة مساهمة هذا العامل أو ذاك في هذا التكوين(5). ومع ذلك يمكن القول بأن العوامل الوراثية هي المرحلة الأولى والأساسية في تكوين الشخصية، ثم يأتي دور العوامل الخارجية لتؤثر في هذا الأساس وتتفاعل معه، مما يؤدي إلى نتيجة قد تساعد في كشف الاستعداد الوراثي لسلوك معين أو تغير من مظاهره، وقد تؤجل أو تمنع ظهوره كلياً. والتحليل العلمي الوافي يؤكد بالتالي أن الصفة الواحدة من صفات الشخصية تمثل حصيلة عمليات واسعة من التفاعل والتوازن في كيان الإنسان بكامله حياتياً ومحيطياً. وما من ضمانه في ان يكون الظاهر من صفات الشخصية دليلاً صادقاً على ما تبقى منها مستتراً عن الظهور، مما يثير التساؤل ذاته عن ثبات أو تغير معالم الشخصية وسماتها؟
ثانيا/ الإنسان ثابت ومتغير
هناك العديد من النظريات والدلالات التي تشير إلى ثبات شخصية الإنسان، واخرى تؤكد تغيرها مع الزمن(6). إلا ان النتيجة المشتركة ترجح ان الإنسان ذو طبيعة ثابتة، وان تغيره هو امر استثنائي طارئ، إذ يؤكد علماء النفس ان اختلاف الآراء في شأن ثبات الشخصية أو تغيرها، لا يمكنه ان يتجاوز الواقع الذي تؤكد تجاربه، ان شخصية الفرد كما تتمثل بسلوكه لها ان تتغير في الكثير من الناس حسبما تقتضيه ظروف التلاؤم بين الفرد ومحيطه، وتبعاً لردود الفعل التي يلاقيها في مجتمعه من تسامح أو رفض. وعلى هذا علينا ان ننظر إلى بعض مظاهر التحول أو التغير في طبيعة الإنسان، لا كدلالة على تحول أساسي في كيان الشخصية، وانما كدليل على ما توافر في شخصية الفرد من قابلية على التكيف تبعاً للضرورات الحياتية والمحيطية التي يتعرض لها، وبهذا يكون التغير مجرد تنويع وتلوين يكشف عن حدود الشخصية ويعد جزءً منها(7). ومن ثم فإن علم النفس حين يرسم صورة ثابتة للكيان النفسي للإنسان فهو لا يخالف الحقيقة، وهو كذلك لا يمنع احتمالات التغير ولا ينفيها من حسابه، انما يأخذ بالحسبان ان هذا التغير يشمل الصورة – الظاهرية – ولا يؤثر في الجوهر، إذ ان جوهر الإنسان لا يتغير انما صورة الإنسان هي التي تتغير، مما ينعكس على المظهر، فيحسب الناس انه تغير. إنما المهم في ذلك كله، معرفة إلى أي حد تعبر هذه الصورة عن الجوهر السوي، والى أي مدى تنحرف عن مسارها الصحيح، عليه يمكن القول أن المرجع في ذلك هو الفطرة التي خلق الله بها الإنسان على البراءة الثابتة، نسبيا(8).على ذلك يمكن ان نخلص إلى ان البراءة في الإنسان ليست ثابتة، بل هي متغيرة بتغير طبيعة الإنسان ذاته. ومع ذلك فهي اصل في الإنسان، لا يمكن الحياد عنه للبشر جميعاً، ومبدأ ثابت على وفق الغالب الأعم منهم. لذلك فقد تقررت للبراءة الحماية القانونية، فتعددت طبيعة البراءة بتعدد صور تلك الحماية، وهذا ما سنبحثه في الفرع الثاني.
الفرع الثاني / الطبيعة المتعددة للبراءة
بناء على ما تقدم، يمكننا ان نتوصل إلى تصور نهائي حول طبيعة "أصل البراءة"، على ان نفصل في البداية بين الجانب النظري للبراءة، والجانب التطبيقي لها، فنتناول كل جانب على حدة.
( 1 ) الطبيعة في الجانب النظري للبراءة
تختلف طبيعة البراءة باختلاف الجهة التي تقرر حمايتها، فإذا كنا بصدد إعتماد أسس لبناء الدولة الديمقراطية التي تقوم على احترام حقوق الإنسان، ومبدأ سيادة القانون، وسمو الدستور، في هذه الحالة لا يوجد ادنى شك بأن اصل البراءة يعدُّ "مبدأً" جوهرياً من مبادئ العدالة الإنسانية، وذلك لأنه يتطابق مع ما فطر عليه الإنسان من براءة، لا يخدشها سوى الخلل البيئي الذي يحيط الإنسان بجوانبه المختلفة – سواء الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية – والتي تستند في وجودها وبقائها وتطورها وصلاحها أو انحرافها إلى السلطات والمؤسسات المختلفة في الدولة. فهو مبدأ موجه للسلطة التشريعية، فلا يمكنها مثلاً ان تصدر قانوناً يجعل من مجرد توجيه الاتهام إلى شخص ما بارتكاب جريمة معينة، كافياً للحكم بإدانته، أو إصدار قانون يلقي على المتهم عبء الإثبات، أو تشريع يبيح معاقبة المتهم دون صدور حكم نهائي بإدانته. كما هو مبدأ موجه إلى السلطة القضائية، فمن غير المتصور ان يفسر القاضي الشك في أدلة الإدانة لغير صالح المتهم، أو ان يقوم القاضي بتكليف المتهم بتقديم ما يثبت براءته قبل مواجهته بأدلة الإثبات. كذلك يعدِّ اصل البراءة مبدأً عاماً موجه إلى السلطة التنفيذية، فلا يجوز لها مخالفته، لذا فإن أي إجراء ماس بحرية المتهم وكرامته لمجرد توجيه الاتهام اليه دون ضوابط أو ضمانات، يعد اجراءً باطلاً وغير مقبول(9). فضلاً عن ذلك فهو مبدأ أساسي موجه إلى وسائل الاعلام والى مختلف الاشخاص الطبيعية والاعتبارية(10). وعليه يمكن القول ان اصل البراءة مبدأ جوهري، تستند اليه التشريعات العالمية – من خلال الاعلانات والمعاهدات والمواثيق – وكذلك التشريعات الدستورية للدول، بعدِّه معياراً للدولة الديمقراطية في الجزء المتعلق باحترام آدمية الإنسان وكرامته، وذلك بالنص عليه بصفته مبدأ ثابت لا يتغير، على ان تكون صيغة المبدأ كاملة، غير منقوصة، بالنص على ان "الأصل في المتهم البراءة، حتى تثبت ادانته بحكم قضائي بات".
(2) الطبيعة في الجانب التطبيقي للبراءة
تتغير طبيعة البراءة في جانبها التطبيقي – إلى عدِّها "قرينة قانونية" أو إلى "حق شخصي"، وذلك بتغير القانون الذي يلقى على عاتقه حماية البراءة، فإن كنا بصدد محاكمة جنائية، فإن البراءة تعدِّ قرينةً قانونيةً بسيطة، وان كنا بصدد محاكمة مدنية، فان البراءة تعد حقاً شخصياً للمدعي. ولأهمية هذا الموضوع بالنسبة للبحث وتعلقه به نوضحه بالتفصيل الآتي:
أولا / طبيعة البراءة في المحاكمة الجنائية
ان كنا نؤيد – من حيث النتيجة – ما اتجه اليه الكثير من الفقه الجنائي في عدِّ البراءة "قرينة قانونية بسيطة" قابلة لاثبات العكس، فإننا نختلف معه في طريقة الوصول إلى تلك النتيجة. إذ توصل بعض الفقه الجنائي إلى عدِّ البراءة "قرينة قانونية" – والقرينة ، هي استنتاج مجهول من معلوم – على أساس ان الواقعة المعلومة هي " اصل الإباحة في الأفعال"، والمجهول المستنتج من هذا الأصل براءة الإنسان. ولكنه يبدو لي ان هذا التحليل للوصول إلى النتيجة من عدِّ البراءة قرينة قانونية يخالف الواقع. بيان ذلك ان البراءة في الإنسان، والإباحة في الأفعال، هما قاعدتان اصوليتان، تتفرعان من قاعدة أصولية هامة هي قاعدة "استصحاب الحال" ومعناها بقاء ما كان على ما كان إلى ان يوجد ما يغيره. فإذا لم يوجد المغير ظل الإنسان على براءته بعدِّها الأصل، وظلت الأفعال على أباحتها بعدِّها الأصل، فاذا كان الامر كذلك فلا يمكن من ناحية قانونية أو منطقية، التسليم بأن احدى القاعدتين مجهولة والاخرى معلومة، وهما فرعان من اصل واحد(11). فكما ان "قاعدة الإباحة" معلومة على وفق المعنى السابق، فان "قاعدة البراءة" أيضا معلومة للاعتبار ذاته، وعليه لا يصح الاستناد في عدِّ البراءة قرينة قانونية، إلى ان المجهول المستنتج فيها هو اصل البراءة في الإنسان. ومع ذلك نتصور "البراءة" قرينة قانونية، على أساس ان الواقعة المعلومة هي " اصل البراءة في الإنسان عموماً "، بعدِّه أصلاً ثابتاً لكل من ولد انساناً، ومن ثم للمتهم بعدِّه كذلك، وان الواقعة المجهولة – أي المجهول المستنتج من الواقعة المعلومة – هي براءة المتهم من الواقعة محل الاتهام. أي اننا استنتجنا براءة المتهم من واقعة الاتهام ( وهي مجهولة فعلاً ) من قاعدة الأصل في الإنسان البراءة ( وهي معلومة غير خافية ). الا ان براءة المتهم تلك، لا تعدو ان تكون قرينة قانونية بسيطة، قابلة لإثبات عكسها، من خلال حكم قضائي بات، يدحض قيام البراءة المجهولة فقط. وبصورة مؤقتة تتعلق في تلك الواقعة تحديداً وفي زمان وقوعها فحسب، بينما يبقى أصله البرئ قائماً دائماً، وفي تصرفاته الأخرى جميعها. فالحكم القضائي البات لا يدحض "اصل البراءة في الإنسان" فهو باق لا يدحض، إنما يدحض قرينة براءة الإنسان في واقعة معينة فحسب. واستناداً إلى ما تقدم نرى ان "البراءة" قرينة قانونية في مرحلة المحاكمة فقط، دون مرحلتي (التحري وجمع الأدلة) أو ( التحقيق الابتدائي )، إذ يرجح ثبات البراءة في تلك المرحلتين بعدِّها مبدأ، فضلاً عن ان دور القرينة القانونية الأساسي، يكمن في عملية الإثبات الجنائي وتقدير الأدلة، وهو ما ينضوي تحت مرحلة المحاكمة، حيث ان القرائن في مرحلتي التحري والتحقيق تقبل على أساس الترجيح فقط دون الجزم، فسلطة التحقيق ليست سلطة حكم. فالمتهم في المراحل الأولى من الدعوى الجنائية وقبل احالته إلى المحاكمة يظل متمتعاً بأصله البرئ بعدِّه مبدأ ثابتاً، انما بعد احالته إلى المحاكمة، يضعف هذا الأصل ليصل إلى درجة القرينة – فيما يتعلق بواقعة الاتهام فحسب – وذلك من باب التدرج في الاقتناع بالحقيقة.
ثانيا / طبيعة البراءة في المحاكمة المدنية
بينا أن بعض القوانين المدنية، تعدِّ البراءة من الحقوق الشخصية التي يجب ان يتمتع بها الإنسان، ولأهمية هذا الموضوع وحداثته، وللوقوف على طبيعة البراءة في المحاكمة المدنية، نبحث في امكانية تمتع البراءة بالحماية المقررة للحقوق الشخصية، وتمهيداً لذلك ينبغي ان نبين بداية ماهية الحقوق الشخصية.
أ_ ماهية الحقوق الشخصية
القانون هو أساس الحقوق، والغرض منه هو انشاء الحقوق والمحافظة عليها، فالقانون يقرر حقوق الناس ويبين الإجراءات التي تتبع للمحافظة على هذه الحقوق. والحق عبارة عن مصلحة ( فائدة ) مادية أو ادبية يحافظ عليها القانون بوساطة منح صاحبها قوة يعمل بها الأعمال اللازمة للتمتع بهذه المصلحة(12). أو بمعنى آخر الحق هو صالح مشروع يحميه القانون(13). وقد عرفه القانون العراقي بأنه " ميزة يمنحها القانون ويحميها تحقيقاً لمصلحة اجتماعية"(14). والحق يحتوي على عنصرين أساسين هما الرابطة القانونية بين شخصين يلتزم بموجبها احدهما بأن يقدم أو يمتنع عن اداء معين للآخر تعرف برابطة الاقتضاء. والعنصر الثاني هو استئثار الشخص بقيم أو اشياء، أي يختص بها وحده دون غيره. وعلى ذلك فإن أركان الحق تتلخص بوجود صاحب الحق وآخر ملتزم بمقتضى هذا الحق، بالقيام بعمل أو الامتناع عنه، على ان يكون هذا الاداء (العمل أو الامتناع ) ممكن أو معين أو قابل للتعيين ومشروع(15). والحقوق الشخصية وهي احدى طوائف الحقوق الخاصة، ذات مضمون معنوي، تستمد اصلها من شخصية الإنسان وترتبط به ارتباطاً وثيقاً وتتيح له الانتفاع بما تنطوي عليه ذاته من قوى بدنية وفكرية، وبتعبير آخر هي حقوق فطرية يخولها القانون لكل شخص طبيعي وذلك من اجل حماية مصالحه الأساسية. ومن خواصها انها حقوق غير مالية – أي لا تقوم بالنقود – ( وان كان الاعتداء عليها يرتب حقاً مالياً في التعويض ) وهي حقوق غير قابلة للتصرف فيها، ولا تنتقل للورثة، ولا تسقط بالتقادم، كما انها غير واردة على سبيل الحصر(16).
ب_ إمكانية تمتع البراءة بالحماية المقررة للحقوق الشخصية
لا شك في ان اصل البراءة يمثل مصلحة غاية في الاهمية بالنسبة للمتهم إذ يتمسك بها في مواجهة الاتهام الجنائي، كما انها مصلحة جماعية تتمثل في ضرورة احترام حرية الإنسان وكرامته ومن ثم عدم المساس بها الا على وفق ضوابط وشروط يفرضها هذا الأصل. وعلى ذلك فإن هذه المصلحة ( اصل البراءة ) لا بد وانها مشروعة تستوجب حماية القانون لها. وبالتحليل نجد ان عنصري الحق – ومن وجود رابطة قانونية والاستئثار – وكذلك ركني الحق – من وجود صاحب حق وآخر ملتزم به – ومحل الحق هو الامتناع عن المساس بهذا الأصل، متوافرة في اصل البراءة. فضلاً عن تمتعه بخصائص الحقوق الشخصية، فهي حقوق غير مالية أي لا تقوم بالنقود، وهي حقوق غير قابلة للتصرف فيها، ولا تنتقل للورثة، ولا تسقط بالتقادم(17). ومن جانب آخر عند تتبعنا لأساس حق المتهم في محاكمة عادلة – وهو حق شخصي عام – لوجدناه يلتقي عند محور واحد ممثلاً في التسليم بأصلية براءة الإنسان، فإقرار الأصل في الإنسان البراءة يفسر جميع ما ترتكز عليه حقه – في موضع الاتهام – في محاكمة عادلة من ضمانات، ويؤلف بينها بغير تضاد ويوثق عراها بغير تنافر، بحيث إذا تساءلنا عن ركيزة احداها، امكن ردها بسهولة ويسر وتفسيرها، ارتكازاً عليه بغير عسر(18). فاذا كنا نقر بأن اصل البراءة هو الأساس لحقه في محاكمة عادلة – بما ينبني عليها من حقوق وضمانات للمتهم – فكيف لا نقبل عدِّ هذا الأساس حق من الحقوق الشخصية للمتهم. ومن بعد يجب الإقرار ان الأصل في المتهم البراءة يعد حقاً من الحقوق الشخصية له، الا ان هذا الحق مستند في نشأته وبقائه وانتهائه إلى وجود إجراءات جنائية تجاه المتهم، فهو حق مقيد أو محدود من حيث الزمان، إذ يتقرر هذا الحق بالمدة التي تكون فيها قرينة البراءة محلاً للحماية المدنية، وهي تكون كذلك في حالة تواجد الشخص في موضع الاتهام الجنائي ومحلاً للتحقيق أو المحاكمة، حتى صدور حكم قضائي يفيد بالإدانة النهائية، فلا يتمتع المتهم بالحق في قرينة البراءة – أي بالحماية المدنية المقررة لها – خارج هذه المدة، أي لا يحظى بهذه الحماية الا عندما يكون محلاً للاتهام أو موضعاً للاشتباه الجنائي(19). وفي هذا الصدد – وان كنا خلصنا إلى امكانية تمتع الإنسان بقرينة البراءة، سواء في اطار المحاكمة الجنائية أو في اطار الحماية المدنية المقررة لها – فإنه يثور لدينا تساؤل حول امكانية تمتع الشخص المعنوي بقرينة البراءة؟؟. جرى الفقه القانوني تسمية شخصية الإنسان بالشخصية الطبيعية، والشخصية التي تمنح لمجموعة الاشخاص أو الاموال بالشخصية المعنوية أو ( الاعتبارية ). ويعرف الشخص المعنوي بأنه مجموعة من الأشخاص أو الأموال يرمي إلى تحقيق غرض معين، ويمنح الشخصية القانونية بالقدر اللازم لتحقيق هذا الغرض بعد الاعتراف بها من قبل السلطة المختصة بالدولة(20). فاذا نشأ الشخص المعنوي تثبت له الشخصية القانونية فيكون اهلاً للوجوب له وعليه، بالشكل الذي يتفق مع طبيعته، وبالغرض الذي انشأ من اجله، على ان يمثل الشخص المعنوي أشخاصاً طبيعيين يباشرون نشاطه القانوني ويعبرون عن ارادته(21). هذه الشخصية الاعتبارية تتمتع بالحقوق والمزايا القانونية جميعها الا ما كان منها ملازما لصفة الإنسان الطبيعية، وذلك في الحدود التي يقررها القانون، فتكون لها ذمة مالية مستقلة واهلية في الحدود التي يعنيها سند إنشائها أو يقررها القانون(22). كما اخذ قانون العقوبات العراقي بصراحة ووضوح بالرأي الذي يقضي بإقرار أهلية الشخص المعنوي ومسؤوليته الجنائية واخضاعه للعقوبات والتدابير الاحترازية الملائمة له(23). عليه نخلص إلى ان الشخص الاعتباري يتمتع بالشخصية القانونية بالحقوق والمزايا جميعها الا ما كان منها ملازماً لصفة الإنسان الطبيعية، وتقر القوانين المدنية بأهلية ومسؤولية الشخص المعنوي المدنية، كما تقر معظم القوانين الجنائية بأهليته ومسؤوليته الجنائية، ومن ثم فإن الشخص المعنوي يتمتع بأصله من البراءة – ان وضع في موضع الاتهام – وذلك من خلال قرينة البراءة، وذلك في صدد المحاكمة الجنائية على ان يكون تطبيق نتائج وضمانات هذه القرينة بما يتلاءم مع طبيعة هذه الشخصية، إذ لا يتصور – على سبيل المثال – تطبيق النتائج المتعلقة بالحرية الشخصية على الشخص المعنوي، الا انه من المتصور تطبيق النتائج المتعلقة بتفسير الشك لصالح المتهم، هذا من جانب. ومن جانب آخر، ما دامت طبيعة اصل البراءة المتعلقة بالمحاكمة المدنية، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بتمتع المتهم بقرينة البراءة، وما دامت المسؤولية الجنائية لم تعد قاصرة على الشخص الطبيعي، وان الحقوق التي ترتبط بهذه المسؤولية – كالحق في قرينة البراءة – لم تعد هي الأخرى ملازمة لصفة الإنسان الطبيعية، لذا يمكن القول ان الشخص المعنوي يتمتع ايضا بحقه في قرينة البراءة – وذلك في حالة الاعتداء عليها من قبل الأشخاص – مما يمنحه الحق في تطبيق الجزاء المدني على المعتدي ( سواء أكان تعويضاً أو نشر اعتذار أو تصويب )، وذلك من خلال المحاكمة المدنية(24). على ذلك وبناء على العرض السابق في شأن الطبيعة القانونية لأصل البراءة، ننتهي إلى ان طبيعة البراءة تختلف باختلاف نوع الحماية القانونية المقررة للمتهم. فإن كنا بصدد الحماية القانونية للمتهم في اطار القانونين الدولي أو الدستوري، سواء من خلال الإعلانات والمعاهدات والمواثيق الدولية، في المجال الدولي وحقوق الإنسان، أو من خلال دساتير الدول وتشريعاتها الرئيسة، في مجال ترسيخ الأسس الرئيسة للأنظمة الديمقراطية، فإنه تبدو طبيعة الأصل في المتهم البراءة بعدِّها مبدأ جوهرياً من مبادئ حقوق الإنسان الطبيعية، والتي تمتاز – هذه الطبيعة – بالثبات المطلق والاستمرارية، أي انها طبيعة دائمة لا تتغير. وان كنا بصدد الحماية القانونية للمتهم في اطار القانون الجنائي – من خلال قواعد اصول المحاكمات الجزائية – تظهر طبيعة اصل البراءة للمتهم بعدِّها قرينة قانونية بسيطة، تمتاز بالثبات النسبي والتأقيت، أي انها قابلة للتغير باثبات العكس، وقابلة للانتهاء بعد ثبوت الإدانة الباتة، فيما يتعلق بواقعة الاتهام فحسب. اما ان كنا بصدد الحماية القانونية للمدعي عليه في اطار القانون المدني – من خلال القواعد الموضوعية – تبرز طبيعة اصل البراءة بعدِّها حقاً من الحقوق الشخصية للمتهم، تمتاز بالثبات المطلق والتأقيت. هذا ويمكن القول ان اصل البراءة، على وفق التسلسل المنطقي للأمور، يبدأ بعدِّه اصلاً طبيعياً يولد مع الإنسان ويبقى معه طوال حياته، وتطبيقاً له يظهر مبدأ " المتهم برئ حتى تثبت ادانته النهائية " من المبادئ المستقرة في التشريعات الدولية والدستورية، هذا في الجانب النظري. اما في الجانب العملي لأصل البراءة، تستند المحاكمة الجنائية إلى هذا المبدأ بعدِّها قرينة قانونية بسيطة تقبل اثبات العكس، وعلى هذه القرينة القانونية تستند المحاكمة المدنية ولكن بعدِّها حقاً من الحقوق الشخصية للمتهم. فطبيعة الأصل في الإنسان البراءة بعدِّها حقاً لا يكون الا حيث تكون هذه الطبيعة قرينة قانونية، وهذه لا تكون الا حيث يكون مبدأ البراءة، والأخير لا يكون الا حيث يكون اصل البراءة فكل طبيعة له ملازمة للأخرى، وتعدِّ حلقة من حلقات الأصل في الإنسان البراءة. في ظل ما تقدم، يمكن القول ان الكلمات الآتية: "قرينة البراءة" ، "حق البراءة" أو "مبدأ البراءة"، مصطلحات صحيحة عند التعبير عن "اصل البراءة "، وان كان مصطلح قرينة البراءة هو الأقرب للتعبير عن طبيعة اصل المتهم البريء، كونه المصطلح الأنسب للدور الحقيقي الذي يؤديه هذا الأصل في الدعوى لجنائية، دون إغفال أو إنكار لصحة وقبول المصطلحين الآخرين لدورهما في تفسير بعض النتائج المترتبة لأعمال اصل البراءة.
_________________
1-اكرم نشأت ابراهيم، "القواعد العامة في قانون العقوبات المقارن"، ط1، مطبعة الفتيان، بغداد، 1998، ص271. وكذلك: علي حسين الخلف، سلطان الشاوي، "المبادئ العامة في قانون العقوبات"، المرجع السابق، ص149.
2- ويفترض لتوافر هذه الإرادة ان يكون الفاعل حراً في تصرفاته غير مرغم عليها، وفي وضع جسدي وذهني يخوله اتخاذ القرار الذي يريد، فلا يتوافر قصد ارتكاب الجريمة إلا باتجاه هذه الإرادة إلى انتهاج سلوك اجرامي (فعل أو امتناع ) لغرض احداث النتيجة الجرمية المترتبة عليه.
انظر: مصطفى العوجي، "المسؤولية الجنائية في القانون اللبناني"، بدون دار نشر، بيروت، 1979، ص18.
3- سورة الشمس/ من الاية 7 إلى 10، وكذلك قوله عز وجل (( إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه، فجعلناه سميعاً بصيراً، إنا هديناه السبيل، إما شاكراً وإما كفوراً)) سورة الإنسان/ الآية 2 و 3.
4- بلغت اهمية هندسة الجينات أو ما يعرف "بالهندسة الوراثية" حداً فاق بكثير ما كان ينسب بالامس إلى عمليات الإخصاب الصناعي من اهمية ادهشت البشر جميعاً. فعلى سبيل المثال، بات من الممكن تحديد جنس الجنين، وبنسبة نجاح تقدر بأكثر من 80%، أي ان يكون الجنين حسب رغبة الوالدين، ذكراً ام انثى، ذا شعر اسود أو اشقر، طويل أو متوسط الطول. ولا يقتصر الامر على التكوين البدني، إذ دلت نتائج التجارب الحديثة، إمكانية انتقال بعض السمات النفسية بالوراثة – كالخوف – كما تشير إلى ان الوراثة قد تكون بالفعل هي المتحكمة في استعداد الإنسان لادمان الكحول وسائر المخدرات الأخرى.
انظر في تفاصيل ذلك: د. سمير رضوان، "وراثة السمات النفسية"، مجلة العربي، س35، ع402، مايو 1992، الكويت، ص57 وما بعدها.
5- انظر في هذا المعنى: علي عبدالقادر القهوجي، "اصول علمي الإجرام والعقاب"، منشورات الحلبي الحقوقية، بيروت، 2002، ص171 وما بعدها.
وكذلك، نور الدين هنداوي، فايز الظفيري، "الوجيز في علمي الإجرام والعقاب"، ط3، بدون دار نشر، الكويت، 1999، ص85 وما بعدها.
وكذلك، يسر انور علي، آمال عثمان، "علم الاجرام وعلم العقاب"، دار النهضة العربية، القاهرة، 1980، ص164 وما بعدها.
6- أشير هنا فقط إلى بعض ابرز هذه النظريات والدلالات، دون الغور في تفاصيلها والاكتفاء بالراجح منها لدى علماء النفس، وحسب ما تقتضيه ضرورات البحث.
إذ تفيد بعضها إلى ان معالجة الشخصية تتقرر بالوراثة، أو ان الوراثة بالتفاعل مع كل ما يؤثر على نمو الجنين يكون المعالم التامة للإنسان، أو ان هذا التفاعل يمتد إلى سنوات الطفولة المبكرة بتجاربها المادية والنفسية، وبعدها تظل هذه الشخصية ثابتة لا تتغير مع الزمن.
الا ان بعض النظريات يؤكد ان الشخصية قابلة للتغير مع مرور الزمن ولكن بشكل متوقع نسبياً، مما يؤكد الاستمرار والثبات في المعالم الأساسية لها. وهنا دلالات أخرى تشير إلى ان ما يبدو من استقرار للشخصية على طبيعة ما، لا ينفي تغيرها مع الزمن، وهذا ما يحدث بالفعل في ادوار الحياة الطبيعية مثل البلوغ والمراهقة، والزواج، والابوة والامومة، المسؤولية في العمل، وزواج الابناء والتقاعد، وله ان يحدث بشكل اكثر وضوحاً وسرعة في حالات تعرض الفرد إلى تحولات اجتماعية أو اقتصادية مفاجئة، أو صدمات أو امراض أو طوارئ، وما قد ينجم عن ذلك من آثار نفسية تغير من السمات المألوفة لشخصية صاحبها. انظر في تفصيل ذلك: د. علي كمال، "النفس – انفعالاتها وامراضها وعلاجها"، ج1، ط4، دار واسط للدراسات والنشر، بغداد، 1988، ص76 وما بعدها.
7-د. علي كمال، "النفس – انفعالاتها وامراضها وعلاجها"، المرجع السابق، ص78.
8- انظر في ذلك: محمد قطب، "دراسات في النفس الإنسانية"، دار الشروق، بيروت، 1974، ص356 وما بعدها.
9- انظر في هذا المعنى: احمد سعيد صوان، المرجع السابق، ص56 وما بعدها.
10- يظهر اهمية ذلك في الجانب العملي لأصل البراءة، في الجزء المتعلق بعدِّه من الحقوق الشخصية.
11- انظر في هذا المعنى: احمد ادريس احمد، "افتراض براءة المتهم"، المرجع السابق، ص78.
12- محمد كامل مرسي، سيد مصطفى، " اصول القوانين"، المرجع السابق، ص408.
13- والحق في اللغة نقيض الباطل، وجمعه حقوق.
انظر: محمد ابو بكر الرازي، مختار الصحاح، المرجع السابق، ص116.
14- م ( 88 ) من القانون المدني العراقي.
جدير بالذكر ان تعريف الحق كان مثار خلاف كبير بين الفقهاء، وقد ظهرت نظريات مختلفة بناء على ذلك منها النظرية الشخصية (نظرية الإرادة). النظرية الموضوعية (نظرية المصلحة)، النظرية المختلطة (نظرية المشروعية )، والنظرية الحديثة (نظرية الانتماء والسلطة). انظر في مفهوم الحق: عبدالحي حجازي، "المدخل لدراسة العلوم القانونية"، ج2 (كتاب الحق)، مطبوعات جامعة الكويت، الكويت، 1970، من ص85 وما بعدها. عبدالباقي البكري، زهير البشير، "المدخل لدراسة القانون"، مطبوعات جامعة بغداد، بغداد، ص221 وما بعدها. محمد لبيب شنب، "دروس في نظرية الحق"، دار النهضة العربية، القاهرة، 1977، ص10 وما بعدها.
15- انظر في تفصيل ذلك: زهير البشير، المرجع السابق، ص213 وما بعدها.
16- إذ ان هذه الحقوق تمثل مجموعة كبيرة من القيم اللصيقة بالانسان، ليس من السهل حصرها، وان اقصى ما يمكن اقتراحه هو ان نرد هذه القيم إلى طوائف ثلاث:
1- حقوق الشخص في احترام ذاته وتشمل (الحق في الاسم، الحق في الصورة ).
2- حقوق الشخص في احترام كيانه البدني وتشمل ( حق الإنسان في الحياة وفي سلامة بدنه ).
3- حقوق الشخص في احترام كيانه الادبي وتشمل ( حق الشخص في سلامة شرفه، حق الشخص في الحفاظ على سره، حق الشخص في كيانه الفكري ).
انظر في تفصيل ذلك: عبدالحي حجازي، المدخل لدراسة العلوم القانونية، المرجع السابق، ص172 وما بعدها.
17- انظر في ذلك: اسامة ابو الحسن مجاهد، "الحماية المدنية في قرينة البراءة"، دار النهضة العربية، القاهرة، 2002، ص27.
18- حاتم بكار، حماية حق المتهم في محاكمة عادلة، المرجع السابق، ص57.
19- انظر في هذا المعنى: اسامة ابو الحسن مجاهد، المرجع السابق، ص45.
20- ويعرف القانون المدني العراقي الاشخاص المعنوية بأنها هي "الدولة، الادارات، المنشآت، المحافظات، البلديات، الطوائف الدينية، الشركات، الجمعيات، وكل مجموعة من الاشخاص والاموال، التي يمنحها القانون شخصية معنوية (م47) منه.
21- د. يوسف محمود قاسم، البراءة الاصلية (اساسها الشرعي وتطبيقاتها العملية )، مجلة الامن والقانون، كلية شرطة دبي، السنة 7، العدد2، يوليو 1999، ص15.
22- انظر نص م (48/1 ) من القانون المدني العراقي.
23- انظر نصوص المواد ( 80، 122، 123 ) من قانون العقوبات العراقي.
24- انظر في هذا المعنى: اسامة ابو الحسن مجاهد، المرجع السابق، ص34.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|