أقرأ أيضاً
التاريخ: 29-3-2016
3966
التاريخ: 15-3-2018
2335
التاريخ: 23-3-2016
22409
التاريخ: 14-3-2018
2533
|
يعد القانون العراقي القديم اول سند للبراءة في التاريخ، حيث يظهر ذلك جلياً من خلال استعراض مظاهر الاهتمام بقرينة البراءة في العراق القديم، والذي كان نتيجة لاهتمام الدولة بالتنظيم القانوني والقضائي وبمبادئ العدالة والحرية. لبيان ذلك نتناول البراءة في القانون العراقي القديم بشيء من التفصيل فنظهر بعض ملامح القضاء الجنائي في العراق القديم في الفرع الأول، ثم نبين مظاهر الاهتمام بقرينة البراءة في العراق القديم في الفرع الثاني.
الفرع الأول / ملامح القضاء الجنائي في العراق القديم
تعد القوانين العراقية القديمة من أهم ما يميز حضارة العراق فيضعها في مقدمة الحضارات الإنسانية الأصيلة، وان تلك القوانين ما هي إلا انعكاس لدرجة الرقي الذي وصلت اليه بلاد ما بين النهرين، حيث لم تصل اليه أية أمة من الأمم القديمة(1). فالقوانين المكتشفة في العراق هي بحق أقدم القوانين المكتشفة في العالم حتى الآن، إضافة إلى ذلك فهي على درجة كبيرة من النضج والتنظيم، إذ يؤكد الباحثون ان القانون والعدالة والحرية، كانت من الأفكار الأساسية في بلاد الرافدين نظرياً وعملياً. حيث كان ملوك العراق القديم يتباهون كونهم حراس العدل والحق، وان الضعيف لم يكن ينال الضيم في عهدهم، وأنهم لم يتركوا للقوى فرصة الاعتداء على الضعيف واستلاب حقه(2). فقد ظهرت عدة شرائع في العراق القديم، يأتي في طليعتها "قانون أورنمو" و "قانون لبت عشتار"، و "قانون أشنونا"، إلا أن أبرزها كان "قانون حمورابي" فهو القانون الوحيد الذي وصل بصيغته الأصلية(3). ومن مجمل النصوص التي تضمنتها هذه التشريعات، يمكن القول بأنها اهتمت بالتنظيم القضائي، وقد عرفت الدعوى وسيلة لاقتضاء الحق، حيث كان رجال الدين في "سومر" هم القضاة، وكان أي نزاع قبل عرضه عليهم يعرض على محكم عام، واجبه تسويته بطريقة ودية قبل عرضه على القضاء، وهذه هي اصل فكرة قاضي الصلح(4). اما في عهد حمورابي فقد تم انتزاع وظيفة القضاء من الكهنة وحصرها في القضاة الذي يتم تعينهم من قبل حمورابي، لضمان تطبيق قوانينه بشكل فعال، فضلاً عما كان يتمتع به قضاء الحكم من استقلال، فقد كان يتعين على القاضي – طبقاً للمادة الخامسة من شريعة حمورابي – ان يصدر حكمه بلا خوف وان يصر عليه وإلا تعرض لعقوبة القضية التي ينظرها، والطرد إذا تغير حكمه أو تلاعب فيه، على ان يتحمل تعويض المتضرر من انحرافه بالحكم. و لا ريب ان هذه القاعدة كان من شأنها ضمان نزاهة القاضي وحيادهِ، مما انعكس حتما على عدالة أحكامه(5). قد أعار القانون البابلي أهمية كبرى لمبدأ استقرار الأحكام القضائية، فقرر أحكاما صارمة ضد القاضي الذي يصدر قراراً في قضية ويأمر بكتابته في لوح، ثم يصدر في القضية نفسها حكماً آخر مخالفاً للحكم الأول(6).
الفرع الثاني / مظاهر الاهتمام بقرينة البراءة في العراق القديم
كان لاهتمام الشرائع العراقية القديمة بالقضاء العادل أثره البارز في حماية حقوق وحريات الأفراد، ويظهر ذلك جلياً من جوانب عدة سواء ما تعلق منها بالحرية الشخصية للمتهم ام بقواعد الإثبات والحكم. فطبقاً إلى قانون لبت عشتار لم يكن مسموحاً بالاعتداء على الحرية الشخصية، أيمانا بمبدأ براءة الإنسان، واستناداً لذلك كان يتعين معاملة المتهم على هذا الأساس حتى تثبت إدانته يقيناً، ومع ذلك فقد كان التعذيب من الوسائط المعتمدة عملياً، وصولاً إلى اعتراف المتهم، كما كان يجري تحليفه اليمين، نوعاً من الضغط المعنوي عليه، مما عدً بحق مناقضاً لمبدأ البراءة، ومضاداً للمبادئ المعلنة طبقاً لشرائع ذلك العصر(7). ومع ذلك فقد كان المتهم يتمتع بالعديد من الضمانات منها ما يعد من نتائج قرينة البراءة، ومنها ما يتفق مع تلك القرينة في حماية حقوق وحريات المتهم. نوجز أبرزها بالآتي:
أ-كانت المحاكمات تجري بصورة علنية، لاسيما في عهد حمورابي، إذ كانت هيئة القضاة، حين تنظر دعوى معينة تعقد جلساتها علانية أمام البوابة العظمى وفي سوق المدينة(8).ولاشك ان العلانية تولد شعوراً بالعدالة لدى المتهم والعامة.
ب-تشير م (17) من شريعة "لبت عشتار" على عدم جواز إلقاء القبض على أي شخص بسبب فعل جرمي لم تثبت علاقته به بشكل قطعي، غير إنها أجازت القبض في حالة التلبس، ويرى البعض من خلال هذه المادة إنها تتسق مع القوانين الجنائية الحديثة، وبأن واضعيها قد عرفوا قاعدة "أن المتهم بريء حتى تثبت أدانته"، ومعاملته على هذا الأساس(9).
جـ- تبين النصوص التي وردت في هذه الشرائع بأن النظام الاتهامي الفردي، هو المعتمد فيها، حيث يباح لكل فرد بأن يتقدم بشكواه ضد الآخر، والمشتكي هو الذي يتولى مهمة جمع الأدلة وإقامة الحجة على صدق دعواه، وقد ثبت ذلك بصورة واضحة في أحدى الألواح المسمارية المكتشفة، حيث نصت إحدى المواد القانونية فيه بأن عبء إثبات الجريمة يقع على عاتق المشتكي، وأن المتهم تفترض فيه البراءة(10). ومثل ذلك نصت المادة الأولى من شريعة حمورابي بأنه "إذا كان رجل قد أتهم رجلاً آخر وادعى عليه بالقتل، ولم يقم البينة عليه، فسوف يقتل من اتهمه"(11).
د- يشير علماء الآثار اهتمام شريعة حمورابي بحق المتهم في محاكمة عادلة، وآية ذلك ما كشفت عنه الوثائق السومرية التي عثر عليها في العراق، والتي ظهر منها بجلاء مدى الاحترام التي كفلته تلك القوانين لحق الدفاع، حيث احتوت تلك الوثائق قراراً لأحدى المحاكم السومرية حول قضية ( الزوجة المتسترة عن الإخبار عن جريمة قتل زوجها )، إذ تم تبرئة الزوجة بعد ان قام رجلان بالدفاع عنها(12).
هـ- من القواعد العامة في المحاكمة الجنائية في القوانين الحديثة، تدوين ما جرى في المحاكمة من تحقيق وما صدر من أحكام وقرارات، لما يعكسه من صورة صادقة عما دار في المحاكمة، وما إذا كانت الضمانات المقررة للمتهم قد روعيت أثناءها، لذلك تعتبر تلك القاعدة من الضمانات المقررة لصالح المتهم وتأكيداً لما تضمنته قرينة البراءة من ضمانات. وقد أصابت الشرائع العراقية القديمة تلك القاعدة أيضا، إذ جرت العادة ان تدون القضايا التي تنظرها المحاكم على ألواح طينية، تحفظ لدى موظف في المحكمة – لعله يقوم مقام كاتب الضبط أو المعاون القضائي حالياً – وكانت تلك الألواح، تتضمن حيثيات القضية وشهادات الشهود وتاريخ إصدار الحكم، وأسماء القضاة....(13).
و- تضمن قانون حمورابي كفالة حق الطعن في أحكام محاكم الموضوع من خلال تعدد درجات التقاضي، إذ كانت هناك "محاكم الدرجة الأولى"، حيث يجلس قضاتها للقضاء منفردين أو مجتمعين، ويصل عددهم في بعض الجلسات إلى أربعة أو ستة قضاة، وفي الدرجة الثانية "محاكم حكام المقاطعات"، حيث كان يأمر بانعقادها ويترأسها حكام المقاطعات وقد شبهها البعض بمحاكم الاستئناف الحالية. وفي الدرجة الثالثة " المحاكم الملكية" وهي أعلى درجات المحاكم، حيث كان الملك يدعو قضاة "بابل" لتشكيلها، وكانت تعقد للنظر في دعاوى إنكار العدالة – أي ما ورد من أخطاء في الأحكام السابقة – وعموماً فقد كانت الأحكام القضائية عرضة للإبطال، إذا ثبت تحيز القاضي أو جوره(14).
ز- فضلاً عما ما سبق عرفت الشرائع العراقية القديمة بعض المبادئ القانونية والتي يمكن ان نجد صداها في القوانين المعاصرة، باعتبارها تهدف إلى حماية المتهم من قهر صاحب السلطة أو صاحب المال، فقد عرف قانون حمورابي مبدأ عدم جواز التعسف في استعمال الحق، وفي وثيقة أخرى نجد ان المحاكم كانت ممنوعة من محاكمة شخص دون تبليغه بيوم المحاكمة، كما تشير المواد القانونية جميعها إلى ان العقوبة لا تقع على الجاني الا إذا ثبت بأنه ارتكب الجريمة بتوافر القصد الجنائي، اما إذا كانت الجريمة ارتكبت عن غير قصد، فعقوبتها مخففة ان وجدت(15). نخلص من ذلك في شأن الشرائع العراقية القديمة، بأن قرينة البراءة أو نتائجها كانت حاضرة في تلك الشرائع، وذلك لحضور الاهتمام بالتنظيم القضائي وبالحق والعدالة، مما انعكس على قواعد حماية حرية المتهم، وعليه يمكننا القول بأن الشرائع العراقية القديمة تعد أول سند للبراءة في التاريخ.
____________________
1- عامر سليمان، " جوانب من حضارة العراق القديم – بحث من كتاب "العراق في التاريخ"، دار الحرية للطباعة، بغداد، 1983، ص202.
2- فتحي عبد الرضا الجواري، "تطور القضاء الجنائي العراقي"، منشورات مركز البحوث القانونية، وزارة العدل، بغداد، 1986، ص20.
3- دون قانون حمورابي بالخط المسماري وباللغة الأكدية على مسلة من حجر الدايوريت الاسود، وضم ما يقرب 282 مادة قانونية – وهي محفوظة الآن في متحف اللوفر في باريس. وقد نحت على الجزء العلوي منها، نحت يمثل أله الشمس ( أله الحق والعدالة ) وهو يسلم حمورابي - الواقف أمامه بخشوع – عصا الراعي وخيط القياس ، مما يشير إلى قدسية القوانين ووجوب طاعتها باعتبارها صادرة من أله الحق والعدالة.
انظر في ذلك: عامر سليمان، المرجع السابق، ص204.
4- انظر في هذا المعنى:
- فوزي رشيد، "الشرائع العراقية القديمة"، دار الحرية للطباعة، بغداد، 1973، ص8.
- وكذلك فتحي عبد الرضا الجواري، المرجع السابق، ص23.
5- انظر في ذلك:
- محمود السقا، "فلسفة وتاريخ النظم الاجتماعية والقانونية"، دار الفكر العربي، القاهرة، 1975، ص114.
6- انظر في ذلك:
- هاشم الحافظ، "تاريخ القانون"، دار الحرية للطباعة، بغداد، 1980، ص144.
7- محمود سلام زناتي، "تاريخ النظم الاجتماعية والقانونية"، مكتبة السيد عبدالله وهبة، القاهرة، 1972، ص83.
8- انظر: حسن بشيت خوين، "ضمانات المتهم في الدعوى الجزائية"، الجزء الثاني، مكتبة دار الثقافة للنشر والتوزيع، ط1، الاردن، 1998، ص12.
9- انظر: فوزي رشيد، المرجع السابق، ص50.
10-انظر في ذلك: فتحي عبد الرضا الجواري، المرجع السابق، ص25.
11- انظر: حسن بشيت خوين، "ضمانات المتهم في الدعوى الجزائية"، الجزء الأول، مكتبة دار الثقافة للنشر والتوزيع، ط1، الاردن، 1998، ص14 في الهامش.
12- انظر: فوزي رشيد، المرجع السابق، ص9.
13- فتحي عبد الرضا الجواري، المرجع السابق، ص26.
14- انظر في هذا المعنى:
- صوفي حسن ابو طالب، "تاريخ النظم القانونية والاجتماعية"، دار النهضة العربية، القاهرة، 1988، ص239.
- فتحي عبد الرضا الجواري، المرجع السابق، ص24.
15- عمار سليمان، المرجع السابق، ص207.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|