أقرأ أيضاً
التاريخ: 10-10-2014
1873
التاريخ: 14-11-2014
3082
التاريخ: 10-10-2014
2173
التاريخ: 27-04-2015
2416
|
هنا سؤال ذو جانبين ، أحدهما عامّ : هل يستطيع أحد أن يقف على تأويل المتشابهات ؟ بل وعلى تأويل آي القرآن كلِّه ؟ والثاني خاصّ : ماذا يستفاد من الآية {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران : 7] بالذات ؟ هل الواو للتشريك أو الاستئناف ؟ .
وللإجابة على الجانب الأوّل للسؤال نقول : لا شكَّ أنّ القرآن كما هو مشتمل على آيات محكَمات مشتمل على آيات متشابهات ، ولا محالة يقصده أهل الأهواء والأطماع الفاسدة ؛ سعياً وراء المتشابهات ابتغاء تأويلها وانحرافها إلى ما يلتئم وأهدافهم الباطلة ، وقد جاء التصريح بذلك في نفس الآية : {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران : 7] ؛ فلولا وجود علماء ربّانيّين في كلَّ عصْرٍ ومِصر ينفون عنه تأويل المبطلين ـ كما في الحديث الشريف (1) ـ لأصبح القرآن معرَضاً خصباً للشغَب والفساد في الدين ، فيجب ـ بقاعدة اللطف ـ وجود علماء عارفين بتأويل المتشابهات على وجهها الصحيح ؛ ليقفوا سدّاً منيعاً في وجه أهل الزَيغ والباطل دفاعاً عن الدين وعن تشويه آي الذِكر الحكيم .
وأيضاً لو كانت الآي المتشابهة ممّا لا يَعرف تأويلها إلاّ الله ؛ لأصبح قِسط كبير من آي القرآن لا فائدة في تنزيلها سوى ترداد قراءتها ، وقد قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) : ( ويلٌ لِمن لاكَها بين لحْيَيه ثمَّ لم يتدبَّرها ) ، وقال تعالى : {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص : 29] .
ولنفرض أنّ الأمّة ـ عندما وقفَت على آية متشابهة ـ راجعت علماءها في فَهْم تلك الآية ، فأبدَوا عجْزهم عن معرفتها ، فذهبوا والعلماء معهم إلى أحد الأئمّة خلفاء الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) ، فكان الجواب : اختصاص عِلمها بالله تعالى ، لكنَّهم لم يقتنعوا بهذا الجواب ، فهبّوا جميعاً إلى حضرة الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) ضارعين سائلين : ما تفسير آية أنزلها الله إليك لنتدبَّرها ؟ فإذا النبي ( صلّى الله عليه وآله ) لا يفترق عن آحاد أُمَّته في الجهْل بكتاب الله العزيز الحميد ! .
أوَ ليست الأُمم تسخَر من أُمّة عمَّها وعلماءها وأئمّتها ونبيَّها الجهْل بكتابها الذي هو أساس دينها مع الخلود ؟! .
اللهمَّ إن هذا إلاّ زعْمٌ فاسد وحطٌّ من كرامة هذه الأُمّة المفضَّلة على سائر الأُمم بنبيِّها العظيم وكتابها الكريم .
أوَ ليس النبي ( صلّى الله عليه وآله ) هو الَّذي أرجعَ أُمَّته إلى القرآن إذا ما التبست عليهم الأمور كقِطع الليل المظلم (2) ؟ فبماذا يرجعون إذا التبس عليهم القرآن ذاته ؟! .
وأخيراً ، فإنّا لم نجد من علماء الأُمّة ـ منذ العهد الأوّل فإلى الآن ـ مَن توقَّف في تفسير آية قرآنيَّة بحجّة أنّها من المتشابهات لا يعلم تأويلها إلاّ الله ، وهذه كتُب التفسير القديمة والحديثة طافحة بأقوال المفسِّرين في جميع آي القرآن بصورة عامَّة ، سوى أنَّ أهل الظاهر يأخذون بظاهر المتشابه ، أمّا أهل التمحيص والنظر فيتعمَّقون فيه ويستخرجون تأويله الصحيح ، حسبما يوافقه العقل والنقْل الصريح .
قال الشيخ أبو علي الطبرسي : وممّا يؤيّد هذا القول ـ أي إنَّ الراسخين يعلمون التأويل ـ إنَّ الصحابة والتابعين أجمعوا على تفسير جميع آي القرآن ، ولم نرَهُم توقَّفوا على شيءٍ منه لم يفسِّروه ، بأن قالوا : هذا متشابه لا يعلمه إلاّ الله (3) .
وقال الإمام بدر الدين الزركشي : إنَّ الله لم يُنزل شيئاً من القرآن إلاّ لينتفع به عِباده ، وليدلّ به على معنىً أراده ، ولا يسوغ لأحد أن يقول : إنّ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) لم يعلمْ المتشابه .
فإذا جاز أن يعرفه الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) مع قوله : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ } ، جاز أن يعرفه الربّانيون من صحابته ، والمفسِّرون من أُمَّته ، ألا ترى أنّ ابن عبّاس كان يقول : أنا مِن الراسخين في العِلم . ولو لم يكن للراسخين في العِلم حظّ من المتشابه إلاّ أن يقولوا : ( آمَنّا ) ، لم يكن لهم فضْل على الجاهل ؛ لأنّ الكلّ قائلون ذلك .
قال : ونحن لم نرَ المفسِّرين إلى هذه الغاية توقَّفوا عن شيء من القرآن ، فقالوا : هذا متشابه لا يعلم تأويله إلاّ الله ، بل أمَرُّوه على التفسير حتّى فسَّروا الحروف المقطَّعة (4) .
ماذا يُستفاد من الآية بصورة خاصّة ؟
أمّا بالنظر إلى ذات الآية فلعلّ دلالتها على التشريك واضحة ، إذ من الضروري لزوم رعاية المناسبة القريبة بين عنوان ( المسنَد إليه ) وفحوى مدلول ( المسنَد ) ، وذلك فيما إذا تعنْوَنَ المسنَد إليه بوصْفٍ خاصّ ، فإنّه يجب حينذاك من مراعاة ما بين هذه الصفة ، والحُكم المترتِّب على ذي الصفة من علاقة سببية أو شِبهها ، وهي الَّتي لاحظَها علماء الفنّ فيما أُثِر منهم : ( مناسبة الحُكم والموضوع ) ، وهذا كقولنا : ( العلماء باقون ما بقي الدَّهر ) ، حيث كانت صفة العلم وآثاره البنّاءة هي الَّتي تستدعي الخلود للعلماء .
ومن ثمَّ قد يُستشمّ نوعيّة الخبر من نفس عنوان الموضوع ، قبل أن ينطق بالمُخبَر به ، كما في قول الشاعر :
إنَّ الَّذي سمَك السماء بنى لنا بيتاً دعائمه أعزُّ وأرفع
فقد لمَسنا عظَمة المخبَر به ورِفْعة شأنه من عنوان ( سامك السماء ) الَّذي جاء في الموضوع .
وعليه : فعنوان ( الراسخون في العلم ) بنفسه يستدعي أن يكون المنسوب إليهم من جِنْس ما يتناسب والمعرفة الكاملة ، أمّا الإيمان الأعمى فلا مناسبة بينه وبين الرسوخ في العلم .
وعليه فرعاية هذه المناسبة هي الَّتي تستدعي وجوب التشريك ؛ ليكون الراسخون في العلم ـ أيضاً ـ عالِمين بتأويل المتشابهات .
شكوك واعتراضات :
واعتُرضَ بأنّ مقتضى التشريك هو : تساوي العلماء مع الله ولو في هذه الجهة الخاصَّة ، وقد قال تعالى : {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى : 11] .
وأُجيب بأنّ شرَف العِلم هو الَّذي رفعَها إلى هذه المنزلة المنيعة ، كما في آية أُخرى : {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ} [آل عمران : 18] .
واعتراض آخَر : ماذا تكون موقعية قوله : { يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ ...} ، إذا ما اعتبَرنا ( والراسخون ) عطفاً على ( إلاّ الله ) ؟
والجواب : إنّها جملة حالية موضعها النَصْب حالاً توضيحاً من الراسخين ، قال الزمخشري : و( يقولون ) كلام مستأنف موضّح لحال الراسخين (5) ، ومقصوده من الاستيناف : نفي رابطة الإسناد الخبَري بينه وبين الراسخين ، وهكذا صرّح ابن قتيبة (6) ، وأبو البقاء العكبري (7) ، والشريف المرتضى(8) ، والزركشي (9) ، والعلاّمة الطبرسي (10) ، والشيخ محمَّد عبده (9) ، وغيرهم من أقطاب العلم والأدب القدامى والمحدّثين .
وللآية نظائر كثيرة في القرآن ، وفي الشِعر القديم ، جاء في سورة الحشر ـ في بيان مصرف الغنائم ـ قوله تعالى : { مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ ـ إلى قوله ـ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ ـ إلى قوله ـ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ ـ إلى قوله ـ وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ } [الحشر : 7 و 10] فجملة ( يقولون...) كلام مستأنَف حال من ( والَّذين جاؤوا...) المعطوف على ما قبله ؛ للتشريك معهم في استحقاق غنائم دار الحرب .
وكذلك قوله تعالى : {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر : 22] فالمنصوب حال من ( المَلك ) المعطوف على ( ربُّك ) .
وقال يزيد بن المفرغ الحميري ـ يهجو عبّاد بن زياد ـ :
أصرمتَ حَبْلك فــي أمامة مـن بعــد أيــام برامة
فالريح تبكي شــــجْوها والبـرق يلمع في غمامة (12)
قوله : ( والبرق ) عطف على ( فالريح ) للتشريك معه في البكاء ، و( يلمع ) حال من المعطوف ، أي ويبكي البَرْق أيضاً في حال كونه لامعاً .
إذاً فلا غَرْو أن تكون { يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ ...} جملة حاليّة موضّحة لحال الراسخين ، وسنذكر فائدة هذه الحال هنا .
واعتراض ثالث ـ هو أقوى حجَّة اعتمدها الإمام الرازي ـ قال : ( إنَّ الله مدَح الراسخين في العلم بأنَّهم يقولون : آمنّا به ، وقال في أوَّل سورة البقرة : {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة : 26] ، فهؤلاء الراسخون لو كانوا عالِمين بتأويل ذلك المتشابه على التفصيل ، لَمَا كان لهم في الإيمان به مَدح ؛ لأنَّ كلَّ مَن عرفَ شيئاً على سبيل التَّفصيل ، فإنّه لابدّ أن يؤمن به ، إنَّما الراسخون في العلم هم الّذين علِموا بالدلائل القطعية أنّ الله تعالى عالمٌ بالمعلومات الَّتي لا نهاية لها ، وعلموا أنَّ القرآن كلام الله تعالى ، وعلموا أنَّه لا يتكلَّم بالباطل والعبَث ، فإذا سمعوا آية ودلَّت الدلائل القطعية على أنَّه لا يجوز أن يكون ظاهرها مراداً لله تعالى ، بل مراده منه غير ذلك الظاهر ، ثمَّ فوّضوا تعيين ذلك المراد إلى عِلمه ، وقطعوا بأنَّ ذلك المعنى ـ أيّ شيء كان ـ فهو الحقّ والصواب ، فهؤلاء هم الراسخون في العلم بالله ، حيث لم يزعزعهم قطْعُهم بترْك الظاهر ، ولا عدم عِلمهم بالمراد على التعيين ، عن الإيمان بالله والجزم بصحَّة القرآن ) (13) .
قلت : ليس كلّ مَن عرَف الحقّ اعترف به وأذعنَ له ، قال تعالى : {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ } [النحل : 83] ، هذا ، والمدح على الإيمان عن بصيرة أَولى من المدح على إيمانٍ أعمى .
قال الإمام البيضاوي : مدحَ الراسخين في العلم بجَودة الذهن وحُسن النظر ، وإشارة إلى ما استعدّوا للاهتداء به إلى تأويله ، وهو تجرّد العقل عن غواشي الحِسّ (14) .
والتقييد بالجملة الحالية هنا جاء للإشارة إلى نكتة دقيقة هي : أنّ المتشابه متشابه على كلٍّ من العالِم والجاهل جميعاً ، سوى أنّ العالِم بفضل عِلمه بمقام حِكمته تعالى يجعل من المتشابه موضع تأمّله ودقيق نظره ؛ وبذلك يتوصّل إلى معرفة تأويله الصحيح في نهاية المطاف .
توضيح ذلك : إنّ الناس تجاه المتشابه ثلاث فِرَق : فِرقة تستريح إلى ظاهره ، وهم غالبية العامَّة ممّن لا معرفة له بأُصول معارف الإسلام الجليلة . وفِرقة تعمَد إلى المتشابه عن قصد التمويه ؛ لغرض تأويله إلى أهداف باطلة ذريعة إلى تشويه الحقيقة ، وهُم أهل الزَيغ والانحراف ممَّن يبغي الفساد بين العباد . وفِرقة ثالثة ـ هم الراسخون في العلم المؤمنون حقّاً ـ يقِفون عند المتشابه يتأمّلونه بدقيق النظر ـ ولسان حالهم : أنّ هذا المتشابه ـ كأخيه المحكَم ـ صادر عن مقام الحكمة تعالى وتقدَّس ، فلابدّ أنّ وراء ظاهره المتشابه حقيقة راهنة تكون هي المقصودة بالذّات ، وهذه الفكرة عن المتشابه هي الَّتي تدعو المؤمنين حقّاً الراسخين في العلم إلى البحث والتحقيق عن تخريجه الصحيح .
والباحث الصادق أمام المتشابه لا يضطرب اضطراب الجاهل ، الذي وضَع إيمانه على حَرْف {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ} [الحج : 11] ، ولا يتروَّغ مراوغة المعاند الغاشم ؛ ليجعل من المتشابه ذريعة للعَيث والفساد في الأرض {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران : 7] .
وإنّما يقف عنده وقْفة المتأمّل الفاحص عن جليّ الأمر ، ولا شكّ أنَّه سوف يحتضن مطلوبه بفضل استقامته وثباته على إيمانه الصادق ، وقد جرت سُنَّة الله في خلْقه أنّ : مَن جدَّ وجَد ومَن لجَّ وَلج ، قال تعالى : {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت : 69].
والخلاصة : إنَّ الراسخين في العلم ـ بفضْل ثَباتهم على العقيدة الصادقة ـ سوف يهتدون إلى معرفة تأويل المتشابه كما أراده الله ، ويكون قولهم : { آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا } ؛ تمهيداً لطلب الحقيقة ، ونقطة باعثة نحوَ البحث عن طريق التحقيق والفحْص .
وهكذا قال الشيخ محمّد عبده : وأمّا دلالة قولهم { آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا } على التسليم المحْض ، فهو لا ينافي العلم ، فإنّهم إنّما سلَّموا بالمتشابه في ظاهره أو بالنسبة إلى غيرهم ؛ لعِلمهم باتّفاقه مع المحكَم ، فهُم لرسوخهم في العلم ووقوفهم على حقِّ اليقين لا يضطربون ولا يتزعزعون ، بل يؤمنون بهذا وبذاك على حدٍّ سواء ؛ لأنَّ كُلاًّ منهما من عند الله ربّنا ، ولا غَرْو فالجاهل في اضطراب دائم والراسخ في ثبات لازم ، ومَن اطّلع على ينبوع الحقيقة لا تشتبه عليه المجاري ، فهو يعرف الحقّ بذاته ، ويرجع كلّ قول إليه ، قائلاً : {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران : 7] (15) .
بقي هنا شيء وهو : أنّ الإمام الرازي ـ تأكيداً لاختياره الاختصاص ـ استمدّ بالأدب الرفيع ! وقال : إنّ العطف بعيد عن ذوق الفصاحة ، ولو أُريد العطف لكان الأَولى أن يقال : وهم يقولون آمنّا به ، أو يقال : ويقولون آمنّا به (16) .
ووافَقه على هذا الذوق الأدبي سيّدنا العلاّمة الطباطبائي ! قائلاً : ( وظاهر الحصْر كون العِلم بالتأويل مقصوراً عليه تعالى ، وظاهر الكلام أنّ الواو في ( والراسخون ) للاستيناف ؛ لكونه طرفاً للترديد الواقع في صدر الآية { فَأَمَّا الَّذِينَ ..} ، ولو كان للعطف الدالّ على التشريك ؛ لكان من أفضل الراسخين حينذاك هو الرسول الأعظم ، فكان من حقّه أن يُفرَد بالذِكر ؛ تشريفاً بمقامه كما في قوله تعالى : {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ} [البقرة : 285] ، وقوله : {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة : 26] ، وقوله : {وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا } [آل عمران : 68] .
قلت : إن كنّا نرى لهذين العَلَمين منزلتهما الشامخة في مجال الحِكمة والعلوم العقليّة ، فإنّ ذلك ـ بنفس المرتبة ـ أبعدَهما عن عالَم الأدب اللَسِني والعلوم النقلية ، لاسيّما وأنّهما لم يذكرا سبب تلك الاستذاقة الغريبة ! وقد أسلفنا نقل كلام أئمّة الأدب في ترجيح العطف على الاستيناف (17) .
هذا ، وقد ذهب عن الإمام الرازي أنّ الجملة الحالية إذا صُدِّرت بالفعل المضارع يجب تجريدها عن الواو البتَّة ، قال ابن مالك في باب الحال من ألفيَّته في النحْو :
حَوَت ضميراً ومن الواو خَلت وذات بدْء بمضارع ثَبت
كما ذهب عن سيِّدنا الطباطبائي أنّ في القرآن كثيراً من عمومات تشمل النبيّ الأكرم ( صلّى الله عليه وآله ) يقيناً ، ولم يُفرَد بالذِكر ، منها قوله تعالى : {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ } [آل عمران : 18] ، وقوله : {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ} [فصلت : 30] ، وقوله : {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج : 38] ، وقوله : {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } [فاطر : 28] وغيرهنّ من آيات كثيرة جدّاً .
مزعومةُ المنكِرين :
نَسَب جلال الدين السيوطي القول باختصاص معرفة التأويل به تعالى إلى أكثرية السلَف خصوصاً أهل السُنَّة ، قال : وأمّا الأكثرون من الصحابة والتابعين وأتباعهم ومن بعدهم ـ خصوصاً أهل السنَّة ـ فذهبوا إلى الثاني ، أي القول بأنّ التأويل لا يعلمه إلاّ الله (18) .
وأظنُّه مُبالِغاً في هذه النِسبة ، ولاسيّما بعد مراجعتنا لأقوال السلَف اتَّضح عدم صحَّة النسبة ، قال ابن تيمية : قول القائل : إنّ أكثر السلَف على أنَّ التأويل لا يعلمه إلاّ الله قول بلا عِلم (19) ؛ فإنَّه لم يثبت عن أحد من الصحابة أنّه قال : إنَّ الراسخين في العلم لا يعلمون تأويل المتشابه ، بل الثابت عن الصحابة أنَّ المتشابه يعلَمُه الراسخون .
وقال ـ قبل ذلك ـ : إنّ السلَف قد قال كثير منهم : إنَّهم يعلمون تأويله ، منهم :
مجاهد مع جلالة قدْره ، والربيع بن أنس ، ومحمّد بن جعفر بن الزبير ، وابن عبّاس ،... وقد تكلَّم أحمد بن حنبل في تأويل كثير من آيات متشابهة إلى أن يقول : وهذا القول اختيار كثير من أهل السُنّة ، منهم : ابن قتيبة ، وأبو سليمان الدمشقي (20) .
وقال أبو جعفر الطبري : إنّ جميع ما أنزل الله من آي القرآن على رسوله ( صلّى الله عليه وآله ) ، فإنَّما أنزله عليه بياناً له ولأُمَّته وهدىً للعالَمين ، وغير جائز أن يكون فيه ما لا حاجة بهم إليه ، ولا أن يكون فيه ما بهم إليه الحاجة ، ثمَّ لا يكون لهم إلى عِلمِ تأويله سبيل (21) .
وقال مجاهد : عرضتُ المصحف على ابن عبّاس من أوَّله إلى آخِره ، أُوقِفُه عند كلٍّ آية وأسأله عنها ، وكان يقول : أنا من الراسخين في العلم الَّذين يعلمون تأويله (22) .
وقال الراغب ـ في مقدَّمة تفسيره ـ : وذهب عامّة المتكلّمين إلى أنَّ كلَّ القرآن يجب أن يكون معلوماً ؛ وإلاّ لأدّى إلى إبطال فائدة الانتفاع به ، وحملوا قوله : { وَالرَّاسِخُونَ } بالعطف على قوله : { إِلاَّ اللّهُ } وقوله : { يَقُولُونَ } جملة حالية (23) .
وذهب أبو الحسن الأشعري ـ شيخ الأشاعرة ـ إلى وجوب الوقْف على { وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ } ؛ لأنّهم تأويل المتشابه . وقد أوضح هذا الرأي وانتصر له أبو إسحاق الشيرازي بقوله : ليس شيء استأثر الله بعِلمه ، بل وقف العلماء عليه ؛ لأنّ الله تعالى أورَد هذا مدحاً للعلماء ، فلو كانوا لا يعرفون معناه لشاركوا العامّة (24) .
وفيما نقلنا هنا من أقوال الأعلام كفاية في تزييف ما نَسبه جلال الدين إلى السَلَف ، ولعلّ الباحث يجد من أقوال الأئمَّة أكثر .
والعمدة : أنَّ منكري العطف استندوا إلى مزعومة مفضوحة ، قالوا : لأنَّ المتشابه هو ما لم يكن لأحد إلى عِلمه سبيل ، ممّا استأثر الله بعِلمه دون خلْقه ، وذلك نحو الخبر عن وقْت مخرج عيسى بن مريم ، ووقت طلوع الشمس من مغربها ، وقيام الساعة وفناء الدنيا ، وما أشبه ذلك ، فإنّ ذلك لا يعلمه أحد ) (25) .
وقالوا في تفسير الآية : يعني جلّ ثناؤه بذلك : وما يعلم وقت قيام الساعة وانقضاء مُدّة أجَل محمّد وأُمّته ، وما هو كائن ، إلاّ الله ، دون مَن سواه من البشر ، الذين أمّلوا إدراك عِلم ذلك من قِبل الحساب والتنجيم والكهانة ، وأمّا الراسخون في العلم فيقولون آمنّا به كلٌّ من عند ربّنا لا يعلمون ذلك ، ولكن فضْل عِلمهم في ذلك على غيرهم : العِلم بأنّ الله هو العالِم بذلك دون مَن سواه من خلْقه (26) .
ولعلّ هؤلاء قد غشيَتهم غفلة ، فذهب عنهم أنّ آية آل عمران تقصد تنويع آي القرآن إلى محكَمات ومتشابهات ، وأنَّ المحكَمات هنّ مراجع الأمّة بالذات ، أمّا الآيات المتشابهات فيَعمَد إلى تأويلها الباطل أهلُ الأهواء الفاسدة ، ولا يعلم تأويلها الصحيح سوى الله والراسخين في العلم ، هذا هو فحوى الآية الكريمة ، الأمر الّذي لا يرتبط والأُمور السبعة التي استأثر الله بعِلمها من نحو : خروج الدجّال ، ونزول المسيح ، وطلوع الشمس من المغرب ، إنَّها من أشراط الساعة ، ولا مَساس لها بموضوع آية آل عمران ، إنَّها غفلة غريبة لا ندري كيف خفيَ عليهم ذلك ولم يتنبَّهوا إلى هذا الفضح الواضح ؟! .
مَن هُم الراسخون في العلم ؟
الراسخون في العلم : هم مَن لمَسوا من المتشابه وجه التشابه فيه أوّلاً ، ثمّ تمكّنوا من الوصول إلى وجه تخريجه الصحيح في نهاية الأمر ؛ لأنَّ فَهْم السؤال نصف الجواب كما قيل .
إذ الراسخون في العلم هم مَن عرفوا من قواعد الدين أُسُسها المتينة ، ودرسوا من واقع الشريعة أُصول مبانيها الرصينة ، ومن ثمّ إذا ما جوبهوا بما يخالفها في ظاهر اللفظ عرفوا أنّ له تأويلاً صحيحاً ، يجب التوصّل إليه في ضوء تلكم المعارف الأوّلية ، ومَن جدّ في طلب شيء وكان من أهله تحصَّله في نهاية المطاف ، أمّا الجاهل الأعمى فلا يعرف من الدين شيئاً سوى ظواهره ، من غير أن يميِّز بين مُحكَماته والمتشابهات .
والخلاصة : أنَّ العلماء الصادقين ـ بما أنَّهم واقفون على قواعد الشريعة وعارفون بموازين الشرع ومقاييسه الدقيقة ـ إذا ما عُرضَت عليهم متشابكات الأُمور ، هم قادرون على استنباط حقائقها وعلى أوجه تخريجاتها الصحيحة .
ومن ثمَّ فإنَّهم يعلمون تأويل المتشابهات بفضْل رسوخهم في فَهْم حقيقة الدين بعناية ربّ العالمين {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت : 69] ، {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مريم : 76] ، {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ} [فصلت : 30] ، وقد قال تعالى : {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [الجن : 16] ، أوَ ليس العلم بحقائق الشريعة البيضاء من الماء الغدَق أنّها شربة حياة العِلم ، يُفيضها الإله تعالى على مَن يشاء من عباده المؤمنين ، ويُطلِعهم على أسرار المُلك والملَكوت في العالمين .
وأوَّل الراسخين في العلم هو : رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ، قال الإمام محمَّد بن عليّ الباقر ( عليه السلام ) : ( أفضل الراسخين في العلم رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ، قد علِمَ جميع ما أنزلَ الله في القرآن من التنزيل والتأويل ، وما كان الله ليُنزل عليه شيئاً لم يُعلِّمه تأويله )(27) ثُمَّ باب مدينة عِلمه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، والأوصياء من بعده صلوات الله عليهم أجمعين .
قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق ( عليه السلام ) : ( إنَّ الله علّم نبيّه التنزيل والتأويل ، فعلّم رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) عليّاً وعلّمنا ، والله ) (28) .
وهكذا استمرّ بين أظهر المسلمين عِبر العصور رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ، فثبتوا واستقاموا على الطريقة فسقاهم ربّهم ماءً غدَقاً ، قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) : ( يَحمل هذا الدين في كلّ قَرن عُدول ينفون عنه تأويل المبطلين ) (29) .
وقد جاء التعبير عن علماء أهل الكتاب الربّانيّين بالراسخين في العلم {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [النساء : 162] ؛ دليلاً على أنّ العلماء العاملين ـ الّذين ساروا على منهج الدين القويم ، وكَمُلَت معرفتهم بحقائق الشريعة الطاهرة ـ هم راسخون في العلم ويعلمون التأويل .
قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( نحن الراسخون في العلم ، فنحن نعلم تأويله ) (30) ، وعن ابن عبّاس تلميذ الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ( أنا ممَّن يعلم تأويله ) (31) .
وفي وصيَّة النبي ( صلّى الله عليه وآله ) : ( فما اشتبه عليكم فاسألوا عنه أهل العلم يخبرونكم ) (32) ، فلولا أنّ في أُمَّته علماء عارفين بتأويل المتشابهات ؛ لَمَا أوصى ( صلّى الله عليه وآله ) بمراجعتهم في حلّ متشابكات الأُمور .
و{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف : 43] ، وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين .
_____________________
(1) راجع سفينة البحار : ج1 ، ص55 .
(2) راجع الكافي الشريف : ج2 ، ص599 .
(3) مجمع البيان : ج2 ، ص410 .
(4) البرهان في علوم القرآن : ج2 ، ص 72 ـ 73 .
(5) الكشّاف : ج1 ، ص338 طبعة بيروت .
(6) تأويل مشكل القرآن ، ص 72 .
(7) إملاء ما مَنّ به الرحمان : ج1 ص124 .
(8) أمالي الشريف المرتضى : ج1 ، ص431 ـ 442 المجلس 33 .
(9) البرهان في علوم القرآن : ج2 ، ص73 .
(10) مجمع البيان : ج2 ، ص410 .
(11) تفسير المنار : ج3 ، ص167 .
(12) راجع الأغاني لأبي الفرج : ج17 ، ص112 طبع بيروت وص 55 طبع الساسي . وابن خلّكان ، ج6 ، ص346 رقم 821 . وغرر الفوائد للشريف المرتضى : ج1 ، ص440 .
(13) التفسير الكبير : ج7 ، ص177 .
(14) أنوار التنزيل : ج2 ، ص5 .
(15) تفسير المنار : ج3 ، ص167 .
(16) التفسير الكبير : ج7 ، ص177 .
(17) تقدّم في صفحة : 468 .
(18) الإتقان : ج2 ، ص3 الطبعة الأُولى ، وص5 ـ 6 الطبعة الثانية .
(19) ويلٌ لِمَن كفَّره نمرود .
(20) بنقل تفسير المنار : ج3 ، ص174 ـ 175 .
(21) جامع البيان للطبري : ج3 ، ص116 .
(22) تفسير المنار : ج3 ، ص182 .
(23) البرهان للزركشي : ج2 ، ص74 .
(24) المباحث لصبحي الصالح : ص282 .
(25) راجع جامع البيان للطبري : ج3 ، ص116 .
(26) المصدر السابق : ص122 . مجمع البيان : ج2 ، ص410 . البيضاوي : ج2 ، ص5 .
(27) بحار الأنوار : ج92 ، ص78 .
(28) مرآة الأنوار ص15 .
(29) سفينة البحار : ج1 ، ص55 .
(30) تفسير البرهان للبحراني : ج1 ، ص271 .
(31) الدر المنثور للسيوطي : ج2 ، ص7 .
(32) آلاء الرحمان للبلاغي : ج1 ، ص258 .
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
المجمع العلمي للقرآن الكريم يقيم جلسة حوارية لطلبة جامعة الكوفة
|
|
|