أقرأ أيضاً
التاريخ: 25-11-2015
5718
التاريخ: 26-11-2015
4982
التاريخ: 24-11-2015
5494
التاريخ: 24-11-2015
5564
|
اعوذ باللّه من الشيطان الرجيم بسم اللّه الرحمن الرحيم وافضل الصلوات على سيد الخلق محمد وعلى الهداة الميامين من آله الطاهرين قال اللّه سبحانه وتعالى {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ } [الانشقاق : 6] هذه الآية الكريمة تضع اللّه سبحانه وتعالى هدفا أعلى للانسان والانسان هنا بمعنى الانسانية ككل ، فالإنسانية بمجموعها تكدح نحو اللّه سبحانه وتعالى والكدح كدح الانسانية ككل ، نحو اللّه سبحانه وتعالى ، يعني السير المستمر بالمعاناة وبالجهد وبالمجاهدة ، لان هذا السير ليس سيرا اعتياديا ، بل هو سير ارتقائي ، هو تصاعد وتكامل ، هو سير تسلق.
فهؤلاء الذين يتسلقون الجبال ليصلوا الى القمم يكدحون نحو هذه القمم ، يسيرون سير معاناة وجهد.
كذلك الانسانية حينما تكدح نحو اللّه فإنما هي تتسلق الى قمم كمالها وتكاملها وتطورها الى الافضل باستمرار.
وهذا السير الذي يحتوي على المعاناة باستمرار ، هذا السير يفترض طريقا لا محالة فان السير نحو هدف يفترض حتما طريقا ممتدا بين السائر وبين ذلك الهدف ، وهذا الطريق هو الذي تحدثت عنه الآيات الكريمة في المواضع المتفرقة تحت اسم سبيل اللّه واسم الصراط واسم صراط اللّه ، هذه الصيغ القرآنية المتعددة كلها تتحدث عن الطريق الذي يفترضه ذلك السير وكما ان السير يفترض الطريق ، كذلك الطريق يفترض السير أيضا وهذه الآية الكريمة {يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} تتحدث عن حقيقة قائمة ، عن واقع موضوعي ثابت ، فهي ليست بصدد ان تدعو الناس الى أن يسيروا في طريق اللّه سبحانه وتعالى ، ليست بصدد الطلب والتحريك كما هو الحال في آيات أخرى في مقامات وسياقات قرآنية أخرى.
الآية الكريمة لا تقول يا أيها الناس تعالوا الى سبيل اللّه ، توبوا الى اللّه ، بل تقول {يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} ، لغة الآية لغة التحدث عن واقع ثابت وحقيقة قائمة وهي أن كل سير وكل تقدم للانسان في مسيرته التاريخية الطويلة الامد ، فهو تقدم نحو اللّه سبحانه وتعالى وسير نحو اللّه سبحانه وتعالى حتى تلك الجماعات التي تمسكت بالمثل المنخفضة وبالآلهة المصطنعة واستطاعت ان تحقق لها سيرا ضمن خطوة على هذا الطريق الطويل ، حتى هذه الجماعات التي يسميها القرآن بالمشركين حتى هؤلاء هم يسيرون هذه الخطوة نحو اللّه ، هذا التقدم بقدر فاعليته وبقدر زخمه هو اقتراب نحو اللّه سبحانه وتعالى ، لكن فرق بين تقدم مسئول وتقدم غير مسئول (علىّ ما يأتي شرحه ان شاء اللّه) ، حينما تتقدم الانسانية في هذا المسار واعية على المثل الاعلى وعيا موضوعيا يكون التقدم تقدما مسئولا ، يكون عبادة بحسب لغة الفقه ، لونا من العبادة يكون لهم امتداد على الخط الطويل وانسجام مع الوضع العريض للكون ، وأما حينما يكون التقدم منفصلا عن الوعي على ذلك المثل فهو تقدم على أي حال ، سير نحو اللّه على أي حال ، ولكنه تقدم غير مسئول على ما يأتي تفصيله.
اذن كل تقدم هو تقدم نحو اللّه ، حتى اولئك الذين ركضوا وراء سراب كما تحدثت الآية الكريمة فان هؤلاء الذين يركضون وراء السراب الاجتماعي ، وراء المثل المنخفضة ، هؤلاء حينما يصلوا الى هذا السراب لا يجدون شيئا ، ويجدون اللّه سبحانه وتعالى فيوفيهم حسابهم كما تتحدث الآية الكريمة التي قرأناها فيما سبق.
واللّه سبحانه وتعالى هو نهاية هذا الطريق ولكنه ليس نهاية جغرافية ليس نهاية على نمط النهايات الجغرافية للطريق الممتدة مكانيا.
كربلاء مثلا نهاية طريق ممتد بين النجف وكربلاء ، كربلاء بمعناها المكاني نهاية جغرافية ، ومعنى انها نهاية جغرافية انها موجودة على آخر الطريق ، ليست موجودة على طول الطريق ، لو أن انسانا سار نحو كربلاء ووقف في نصف الطريق لا يحصل على شيء من كربلاء ، لا يحصل على حفنة من تراب كربلاء اطلاقا ، لان كربلاء نهاية جغرافية موجودة في آخر الطريق ، ولكن اللّه سبحانه وتعالى ليس نهاية على نمط النهايات الجغرافية ، اللّه سبحانه وتعالى هو المطلق ، هو المثل الاعلى ، أي المطلق الحقيقي العيني ، وبحكم كونه هو المطلق ، اذن هو موجود على طول الطريق أيضا ، ليس هناك فراغ منه ، ليس هناك انحسار عنه ، ليس هناك حد له ، اللّه سبحانه وتعالى هو نهاية الطريق ولكنه موجود أيضا على طول الطريق ، من وصل الى نصف الطريق ، من وصل الى سرابه ، فتوقف واكتشف انه سراب ، ما ذا يجد؟ ما ذا وجد في الآية ؟ .. وجد اللّه فوفّاه اللّه حسابه لان المطلق موجود على طول الطريق وبقدر زخم الطريق وبقدر التقدم في الطريق يجد الانسان مثله الاعلى ، يلقى اللّه سبحانه وتعالى اينما توقف بحجم سيره ، وبحجم تقدمه على هذا الطريق.
وبحكم أن اللّه سبحانه وتعالى هو المطلق اذن الطريق ايضا لا ينتهي ، هذا الطريق طريق الانسان نحو اللّه هو اقتراب مستمر بقدر التقدم الحقيقي نحو اللّه ، ولكن هذا الاقتراب يبقى اقترابا نسبيا ، يبقى مجرد خطوات على الطريق من دون ان يجتاز هذا الطريق ، لان المحدود لا يصل الى المطلق ، الكائن المتناهي لا يمكن ان يصل الى اللامتناهي ، فالفسحة الممتدة بين الانسان وبين المثل الاعلى هنا ، فسحة لا متناهية ، أي انه ترك له مجال الابداع الى اللانهاية ، مجال التطور التكاملي الى اللانهاية ، باعتبار أن الطريق الممتد طريق لا نهائي. وهذا المثل الاعلى الحقيقي حينما تتبناه المسيرة الانسانية وتوفق بين وعيها البشري والواقع الكوني الذي يفترض هذا المثل الاعلى حقيقة قائمة كما افترضته الآية ، المسيرة الانسانية حينما توفق بين وعيها على المسيرة وبين الواقع الكوني لهذه المسيرة بوصفها سائرة ومتجهة نحو اللّه ، سوف يحدث تغيير كمي وكيفي على هذه المسيرة ، هذه الحركة سوف يحدث فيها تغيير كمي وكيفي.
أما التغيير الكمي على هذه الحركة فهو باعتبار ما أشرنا اليه من أن الطريق حينما يكون طريقا الى المثل الاعلى الحق يكون طريقا غير متناه ، أي أن مجال التطور والابداع ، والنمو قائم أبدا ودائما ، ومفتوح للانسان باستمرار من دون توقف ، هذا المثل الاعلى حينما يتبنى سوف تمسح من الطريق كل الآلهة المزورة ، كل الاصنام وكل الاقزام المتصنّمة على طريق الانسان التي تقف عقبة بين الانسان وبين وصوله الى اللّه سبحانه وتعالى.
ومن هنا كان دين التوحيد صراعا مستمرا مع مختلف اشكال الآلهة والمثل المنخفضة والتكرارية التي حاولت ان تحدد من كمية الحركة من ان توصل الحركة الى نقطة ثم تقول قف أيها الانسان. هذه الآلهة التي ارادت أن توقف الانسان في وسط الطريق ، وفي نقطة معينة كان دين التوحيد على مر التاريخ هو حامل لواء المعركة ضدها ، هذا المثل الاعلى اذن سوف يحدث تغييرا كميا على الحركة لانه يطلقها من عقالها ، يطلقها من هذه الحدود المصطنعة لكي تسير باستمرار.
وأما التغيير الكيفي الذي يحدثه المثل الاعلى على هذه المسيرة فهذا التغيير الكيفي هو اعطاء الحل الموضوعي الوحيد للجدل الانساني ، للتناقض الانساني ، اعطاء الشعور بالمسئولية الموضوعية لدى الانسان ، الانسان من خلال ايمانه بهذه المثل الاعلى ووعيه على طريقه بحدوده الكونية الواقعية من هذا الوعي ينشأ بصورة موضوعية ، شعور معمق لديه بالمسئولية تجاه هذا المثل الاعلى ، لاول مرة في تاريخ المثل البشرية التي حركت البشر على مر التاريخ.
لماذا؟ لان هذا المثل الاعلى حقيقة وواقع عيني منفصل عن الانسان وبهذا يعطي للمسئولية شرطها المنطقي فان المسئولية الحقيقية لا تقوم الا بين جهتين مسئول ، ومسئول لديه. اذا لم يكن هناك جهة أعلى من هذا الكائن المسئول واذا لم يكن هذا الكائن المسئول مؤمنا بأنه بين يدي جهة أعلى ، لا يمكن ان يكون شعوره بالمسئولية شعورا موضوعيا ، شعورا حقيقيا.
مثلا تلك المثل المنخفضة ، تلك الآلهة ، تلك الاقزام.
المتعملقة على مرّ التاريخ ، على مرّ المسيرة البشرية هي في الحقيقة لم تكن كما رأينا وكما حللنا الّا افرازا بشريا ، الّا انتاجا انسانيا ، يعني انها جزء من الانسان ، جزء من كيان الانسان ، والانسان لا يمكن ان يستشعر بصورة موضوعية حقيقية ، المسئولية تجاه ما يفرزه ، هو اتجاه ما يصنعه هو {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا} [النجم : 23] تلك المثل لا تصنع الشعور الموضوعي بالمسئولية ، نعم قد تصنع قوانين ، قد تصنع عادات ، قد تصنع اخلاق ، ولكنها كلها غطاء ظاهري ، وكلما وجد هذا الانسان مجالا للتحلل من هذه العادات ، ومن هذه الاخلاق ، ومن هذه القوانين فسوف يتحلل.
بينما المثل الاعلى لدين التوحيد ، للانبياء على مرّ التاريخ باعتباره واقعا عينيا منفصلا عن الانسان ، باعتباره جهة اعلى من الانسان ليست افرازا بشريا ، ليست انتاجا انسانيا ، اذن سوف يتوصل للشعور بالمسئولية ، شرطه الموضوعي في المقام ، لما ذا كان الانبياء على مر التاريخ أصلب الثوار على الساحة التاريخية؟ انظف الثوار على الساحة التاريخية؟ لما ذا كانوا على الساحة التاريخية فوق كل مساومة ، فوق كل مهادنة ، فوق كل تململ يمنة او يسرة؟ لما ذا كانوا هكذا؟ لما ذا انهار كثير من الثوار على مر التاريخ ولم يسمع أن نبيا من انبياء التوحيد انهار أو تململ او انحرف يمنة او يسرة عن الرسالة التي بيده وعن الكتاب الذي يحمله من السماء؟ لان المثل الاعلى المنفصل عنه الذي هو فوقه الذي اعطاه نفحة موضوعية من الشعور بالمسئولية ، وهذا الشعور بالمسئولية تجسد في كل كيانه ، في كل مشاعره وافكاره وعواطفه.
ومن هنا كان النبي معصوما على مر التاريخ .
اذن هذا المثل الاعلى بحسب الحقيقة يحدث تغييرا كيفيا على المسيرة لانه يعطي الشعور بالمسئولية ، وهذا الشعور بالمسئولية ليس أمرا عرضيا ، ليس أمرا ثانويا في مسيرة الانسان ، بل هذا شرط أساسي في امكان انجاح هذه المسيرة وتقديم الحل الموضوعي للتناقض الانساني ، للجدل الانساني ، لان الانسان يعيش تناقضا ، الإنسان بحسب تركيبه وخلقته يعيش تناقضا ، لانه هو تركيب من حفنة من تراب ونفحة من روح اللّه سبحانه وتعالى كما وصفت ذلك الآيات الكريمة.
الآيات الكريمة قالت بان الانسان خلق من تراب ، وقالت بانه نفخ فيه من روحه سبحانه وتعالى.
اذن فهو مجموع نقيضين اجتمعا والتحما في الانسان ، حفنة التراب تجره الى الارض ، تجره الى الشهوات الى الميول ، تجره الى كل ما ترمز اليه الارض من انحدار وانحطاط وروح اللّه سبحانه وتعالى التي نفخها فيه تجره الى أعلى تتسامى بإنسانيته الى حيث صفات اللّه ، الى حيث اخلاق اللّه ، تخلقوا بأخلاق اللّه ، الى حيث العلم الذي لا حد له والقدرة التي لا حد لها ، الى حيث العدل الذي لا حد له ، الى حيث الجود والرحمة والانتقام ، الى حيث هذه الاخلاق الالهية ، هذا الانسان واقع في تيار هذا التناقض ، في تيار هذا الجدل بحسب محتواه النفسي ، بحسب تركيبه الداخلي ، هذا الجدل وهذا التناقض الذي احتوته طبيعة الانسان وشرحته قصة آدم على ما يأتي ان شاء اللّه تعالى ، هذا الجدل الانساني له حل واحد فقط ، هذا الحل الواحد الذي يمكن ان يوضع لهذا التناقض هو الشعور بالمسئولية ، لكن لا الشعور المنبثق عن نفس هذا الجدل ، فان الشعور المنبثق عن نفس هذا الجدل لا يحل هذا الجدل ، هو ابن الجدل بل هو افراز هذا التناقض وانما الشعور الموضوعي بالمسئولية لا يكلفه الا المثل الاعلى الذي يكون جهة عليا ، يحس الانسان من خلالها بانه بين يدي رب قادر سميع بصير محاسب مجاز على الظلم ، مجاز على العدل.
اذن هذا الشعور الموضوعي بالمسئولية الذي هو التغيير الكيفي على المسيرة هو في الحقيقة الحل الوحيد للتناقض وللجدل الذي تستبطنه طبيعة الانسان وتركيب الانسان.
دور دين التوحيد اذن هو عبارة عن تعبيد هذا الطريق الطويل الطويل ، تعبيده ، ازالة العوائق من خلال تنمية الحركة كميا وكيفيا ، محاربة تلك المثل المصطنعة والمنخفضة والتكرارية التي تريد ان تجمد الحركة من ناحية ، أن تعريها من الشعور بالمسئولية من ناحية اخرى ، ومن هنا كان حرب الانبياء كما اشرنا ، كان حرب الانبياء مع الآلهة المصطنعة على مرّ التاريخ .
ولما كان كل مثل من هذه المثل العليا التي تتحول الى تمثال ضمن ظروف تطورها بالشكل الذي شرحناه فيما سبق ، حينما تتحول الى تمثال تجد في مجموعة من الناس ، تجد فيهم مدافعين طبيعيين عنها باعتبار ان مجموعة من الناس ترتبط مصالحهم ، ترفهم ، كيانهم المادي والدنيوي ببقاء هذا المثال الذي تحول الى تمثال ولهذا يقف دائما هؤلاء الذين يرتبطون مصلحيا بهذا التمثال ، يقفون دائما في وجه الانبياء ليدافعوا عن مصالحهم ، عن دنياهم ، عن ترفهم.
ومن هنا ابرز القرآن الكريم سنة من سنن التاريخ وهي ان الانبياء دائما كانوا يواجهون المترفين من مجتمعاتهم كقطب آخر في المعارضة مع هذا النبي لان هذا المترف المستفيد من هذا المثال بعد ان تحول الى التمثال هذا المثال تحول الى تمثال فمن هو المستفيد منه؟ المستفيد منه المترفون في ذلك المجتمع ، المنعّمون على حساب الناس الذين يجعلون من هذا التمثال مبررا لوجودهم ، من هنا يكون من الطبيعي أنّ هؤلاء المترفين وهؤلاء المستفيدين نجدهم دائما في الخط المعارض للانبياء ، {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف : 23] .
{وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ } [سبأ : 34] {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف : 146] . {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ} [المؤمنون : 33] .
اذن دين التوحيد هو الذي يستأصل مصالح هؤلاء المترفين بالقضاء على آلهتهم وعلى مثلهم التي تحولت الى تماثيل ، يقطع صلة البشرية بهذه المثل العليا المنخفضة ولكنه لا يقطع صلتها بهذه المثل العليا المنخفضة ولكنه لا يقطع صلتها بهذه المثل العليا المنخفضة لكي يطأ برأسها في التراب ، لكي يحولها الى كومة مادية ليس لها اشواق ، ليس لها طموحات ، ليس لها تطلعات الى اعلى كما هو شأن الثوار الماديين الذين يستلهمون من المادية التأريخية ومن الفهم المادي للتاريخ ، اولئك ايضا يحاربون هذه الآلهة المصطنعة ويسمون هذه الآلهة المصطنعة بانها أفيون الشعوب ونحن ايضا نحارب هذه الآلهة المصطنعة ولكننا نحن نحارب هذه الآلهة المصطنعة لا لكي نحول الانسان الى حيوان ، لا لكي نقطع صلة الانسان بأشواقه العليا ، لا لكي نحول مسار الانسان من اعلى الى أسفل ، وانما نقطع صلة الانسان بهذه المثل المنخفضة لكي نشده الى المثل الاعلى ، لكي نشده الى اللّه سبحانه وتعالى .
وتبني المسيرة البشرية لهذا المثل الاعلى الحق الذي يحدث هذه التغييرات الكيفية والكمية على اتجاه المسيرة وحجمها ، تبني المسيرة البشرية لهذا المثل يتوقف على عدة أمور :
أولا- على رؤية واضحة فكريا وايديولوجيا لهذا المثل الاعلى ، وهذه الرؤية الواضحة لهذا المثل الاعلى هو الذي تقدمه عقيدة التوحيد على مرّ التاريخ ، عقيدة التوحيد التي تنطوي على الايمان باللّه سبحانه وتعالى ، التي توحد بين كل المثل ، بين كل الغايات ، كل الطموحات ، كل التطلعات البشرية ، توحد بينها في هذا المثل الاعلى الذي هو علم كله ، قدرة كله ، عدل كله ، رحمة كله ، انتقام من الجبارين. هذا المثل الاعلى الذي تتوحد فيه كل الطموحات وكل الغايات ، هذا المثل الاعلى تعطينا عقيدة التوحيد رؤية واضحة له ، تعلمنا على ان نتعامل مع صفات اللّه واخلاق اللّه لا بوصفها حقائق عينية منفصلة عنا كما يتعامل فلاسفة الاغريق ، وانما نتعامل مع هذه الصفات والاخلاق بوصفها رائدا عمليا ، بوصفها هدفا لمسيرتنا العملية ، بوصفها مؤشرات على الطريق الطويل للانسان نحو اللّه سبحانه وتعالى .
عقيدة التوحيد هي التي توفر هذا الشرط الاول الرؤية الواضحة فكريا وايديولوجيا للمثل الاعلى .
ثانيا- لا بد من طاقة روحية مستمدة من هذا المثل الاعلى لكي تكون هذه الطاقة الروحية رصيدا ووقودا مستمرا للارادة البشرية على مرّ التاريخ ، هذه الطاقة الروحية ، هذا الوقود الذي يستمد من اللّه سبحانه وتعالى يتمثل في عقيدة يوم القيامة ، في عقيدة الحشر والامتداد ، عقيدة يوم القيامة تعلم الانسان ان هذه الساحة التاريخية الصغيرة التي يلعب عليها الانسان مرتبطة ارتباطا مصيريا بساحات برزخية وبساحات حشرية في عالم البرزخ والحشر ، وان مصير الانسان على تلك الساحات العظيمة الهائلة مرتبط بدوره على هذه الساحة التاريخية. هذه العقيدة تعطي تلك الطاقة الروحية ، ذلك الوقود الرباني الذي ينعش إرادة الانسان ويحفظ له دائما قدرته على التجديد والاستمرار.
ثالثا- ان هذا المثل الاعلى الذي تحدثنا عنه يختلف عن المثل العليا الاخرى التكرارية والمنخفضة التي تحدثنا عنها سابقا ، على اساس ان هذا المثل منفصل عن الانسان ، ليس جزءا من الانسان ، ليس من افراز الانسان ، بل هو منفصل عن الإنسان ، هو واقع عيني قائم هناك ، قائم في كل مكان وليس جزءا من الانسان ، هذا الانفصال يفرض وجود صلة موضوعية بين الانسان وهذا المثل الاعلى. لا بد من صلة موضوعية بين هذا الإنسان وهذا المثل الاعلى ، بينما المثل الاخرى السابقة كانت انسانية ، كانت افرازا بشريا لا حاجة الى افتراض صلة موضوعية ، نعم هناك طواغيت وفراعنة على مر التاريخ نصبوا من انفسهم صلات موضوعية بين البشرية وبين آلهة الشمس ، وآلهة الكواكب ولكنها صلة موضوعية مزيفة لان الإله هناك كان وهما ، كان وجودا ذهنيا ، كان افرازا انسانيا ، اما هنا المثل الاعلى منفصل عن الانسان ولهذا كان لا بد من صلة موضوعية تربط هذا الانسان بذلك المثل الاعلى.
وهذه الصلة الموضوعية تتجسد في النبي في دور النبوة ، فالنبي هو ذلك الانسان الذي يركب بين الشرط الاول والشرط الثاني بأمر اللّه سبحانه وتعالى ، بين رؤية ايديولوجية واضحة للمثل الاعلى وطاقة روحية مستمدة من الايمان بيوم القيامة ، يركب بين هذين العنصرين ثم يجسد بدور النبوة ، الصلة بين المثل الاعلى والبشرية ليحمل هذا المركب الى البشرية بشيرا ونذيرا هذا ثالثا.
ورابعا- البشرية بعد ان تدخل مرحلة يسميها القرآن مرحلة الاختلاف على ما يأتي ان شاء اللّه شرحه في الدروس القادمة سوف لن يكفي مجيء البشير النذير لان مرحلة الاختلاف تعني مرحلة انتصاب تلك المثل المنخفضة او التكرارية ، تعني وجود تلك الآلهة المزورة على الطريق ، وجود تلك الحواجب والعوائق عن اللّه سبحانه وتعالى ، اذن لا بد للبشرية من ان تخوض معركة ضد الآلهة المصطنعة ، ضد تلك الطواغيت والمثل المنخفضة التي تنصب من نفسها قيّما على البشرية وحاجز وقاطع طريق بالنسبة للمسيرة التاريخية ، لا بد من معركة ضد هذه الآلهة ، ولا بد من قيادة تتبنى هذه المعركة وهذه القيادة هي الامامة ، هي دور الامامة ، الامام هو القائد الذي يتولى هذه المعركة. ودور الامامة يندمج مع دور النبوة في مرحلة من النبوة يتحدث عنها القرآن وسوف نتحدث عنها ان شاء اللّه تعالى ونقول بانها بدأت في اكبر الظن مع نوح عليه الصلاة والسلام ، ودور الامامة يندمج مع دور النبوة ولكنه يمتد حتى بعد النبي اذا ترك النبي الساجة وبعد لا تزال المعركة قائمة ولا تزال الرسالة بحاجة الى مواصلة هذه المعركة من اجل القضاء على تلك الآلهة حينئذ يمتد دور الامامة بعد انتهاء النبي.
هذا هو الشرط الرابع في تبني المسيرة البشرية لهذا المثل الاعلى. على هذا الضوء سوف نكوّن رؤية واضحة لما نسميه بأصول الدين الخمسة ، سوف تقع اصول الدين الخمسة في موقعها الطبيعي ، في موقعها الصحيح السليم من مسار الانسان ، اصول الدين الخمسة : التوحيد : هو الذي يعطي الشرط الأول هو الذي يعطي الرؤية الواضحة فكريا وايديولوجيا ، هو الذي يجمع ويعبئ كل الطموحات وكل الغايات في مثل اعلى واحد وهو اللّه سبحانه وتعالى.
العدل : العدل هو جانب من التوحيد ولكن انما فصل ، العدل صفة من صفات اللّه سبحانه وتعالى حال العدل ، حال العلم ، حال القدرة ، لا يوجد ميزة عقائدية في العدل في مقابل العلم ، في مقابل القدرة ولكن الميزة هنا ميزة اجتماعية ، ميزة القدوة ، لان العدل هو الصفة التي تعطي للمسيرة الاجتماعية وتغني المسيرة الاجتماعية والتي تكون المسيرة الاجتماعية بحاجة اليها اكثر من أي صفة اخرى ، أبرز العدل هنا كأصل ثاني من اصول الدين باعتبار المدلول التوجيهي ، باعتبار المدلول التربوي لهذه الصفة ، قلنا بان صفات اللّه واخلاق اللّه علّمنا الاسلام على ان لا نتعامل معها كحقائق عينية ميتافيزيقية فوقنا لا صلة لنا بها وانما نتعامل معها كمؤشرات وكمنارات على الطريق ، اذن من هنا كان العدل له مدلوله الاكبر بالنسبة الى توجيه المسيرة البشرية ولأجل ذلك أفرز. وإلّا العدل في الحقيقة هو داخل في اطار التوحيد العام ، في اطار المثل الاعلى.
الاصل الثالث النبوة : النبوة هي التي توفر الصلة الموضوعية بين الانسان وما بين المثل الاعلى ، المسيرة البشرية كما قلنا حينما تبنت المثل الاعلى الحق المنفصل عنها الذي هو ليس من افرازها ومن انتاجها المنخفض كانت بحاجة الى صلة موضوعية ، هذه الصلة الموضوعية يجسدها النبي (صلى الله عليه واله وسلم) ، النبي على مر التاريخ ، الانبياء صلوات اللّه عليهم هم الذين يجسدون هذه الصلة الموضوعية.
الامامة : الامامة هي في الحقيقة تلك القيادة التي تندمج مع دور النبوة ، النبي امام ايضا ، النبي نبي ، والنبي امام ولكن الامامة لا تنتهي بانتهاء النبي ، اذا كانت المعركة قائمة واذا ما كانت الرسالة لا تزال بحاجة الى قائد يواصل المعركة ، اذن سوف يستمر هذا الجانب من دور النبي من خلال الامامة. فالإمامة هو الاصل الرابع من اصول الدين.
والاصل الخامس هو الايمان بيوم القيامة : هو الذي يوفر الشرط الثاني من الشروط الاربعة التي تقدمت ، هو الذي يعطي تلك الطاقة الروحية ، ذلك الوقود الرباني الذي يجدد دائما إرادة الانسان وقدرة الانسان ، ويوفر الشعور بالمسئولية والضمانات الموضوعية. اذن اصول الدين في الحقيقة وبالتعبير التحليلي على ضوء ما ذكرناه هي كلها عناصر تساهم في تركيب هذا المثل الاعلى وفي اعطاء تلك العلاقة الاجتماعية ، بصيغتها القرآنية الرباعية التي تحدثنا عنها قبل ايام ، كنا نقول ، ما ذا كنا نقول قبل أيام ؟ بأن القرآن الكريم طرح العلاقة الاجتماعية ذات اربعة ابعاد لا ذات ثلاثة ابعاد ، طرحها بصيغة الاستخلاف وشرحنا في ما سبق صيغة الاستخلاف ، وقلنا بأن الاستخلاف يفترض اربعة ابعاد ، يفترض انسانا وانسانا وطبيعة اللّه سبحانه وتعالى وهو المستخلف. هذه الصيغة الرباعية للعلاقة الاجتماعية هي التعبير الآخر عن صيغة تدمج اصول الدين الخمسة في مركب واحد من اجل ان يسير الانسان ويكدح نحو اللّه سبحانه وتعالى في طريقه الطويل.
بما ذكرناه توضح دور الانسان في المسيرة التاريخية ، توضح ان الانسان هو مركز الثقل في المسيرة التاريخية وتوضح ان الإنسان هو مركز الثقل لا بجسمه الفيزيائي وانما بمحتواه الداخلي ، وهذا المحتوى الداخلي توضح ايضا من خلال ما شرحناه ، ان الاساس في بناء هذا المحتوى الداخلي هو المثل الاعلى الذي يتبناه الإنسان ، لأن المثل الاعلى هو الذي تنبثق منه كل الغايات التفصيلية ، والغايات التفصيلية هي المحركات التاريخية للنشاطات على الساحة التاريخية .
اذن بناء المثل الاعلى وتبني المثل الاعلى هو في الحقيقة الاساس في بناء المحتوى الداخلي للانسان ومن هنا ظهر دور هذا البعد الرابع .
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|