أقرأ أيضاً
التاريخ: 5-2-2016
3445
التاريخ: 10-10-2014
1697
التاريخ: 10-10-2014
1720
التاريخ: 2023-07-16
1140
|
في سورة طه ، كان الحديث عن موسى ـ عليه السلام ـ منصبا على حياته : خلال النبوة وبعدها.
أما حياته قبل النبوة ، فلم تسرد في سورة طه إلا عابرا : حيث أشار النص القصصي إلى بعض مقاطعها ، في سياق سرده لأحداث النبوة ولواحقها.
هنا ، في سورة القصص ، يجيء السرد عن موسى ـ عليه السلام ـ منصبا على حياته الأولى : حياة قبل النبوة : حيث يتم سردها مفصلا بنحو لا تتناوله أية سورة سواها.
وإذا كنا قد لحظنا ـ في سورة طه ـ ان النص لم يخضع الأحداث لتسلسلها الزمني بل قطعها وفقا لسياقها النفسي ، بحيث بدأ بحادثة [البحث عن النار] ـ وهي آخر حياته قبل النبوة ـ ثم ارتد إلى حادثة القائه في اليم ـ وهي أول حياته… أقول ،… إذا كان السياق في سورة طه قد استدعى مثل هذا التقطيع ،… فاننا ـ في سورة القصص ـ نجد ان قصة موسى قد أخضعها النص لتسلسلها الزمني بدء من حادثة التقاطه من اليم ، وانتهاء بحادثة بحثه عن النار. ثم واصل النص سرده لأحداث النبوة وما بعدها. لكنه في سرده لاحداث النبوة وما بعدها ، عقب النص على بعض الاحداث السابقة : حيث أخضعها ـ في هذا التعقيب ـ لتسلسلها النفسي بدلا من التسلسل الزمني.
وعلى أية حال ، فإن هذا النحو من البناء القصصي ، سنلقي عليه مزيدا من الإضافة ، عندما نبدأ الآن مع بداية القصة ذاتها.
بدأت القصة بمقدمة على النحو التالي :
{نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [القصص : 3]
وبعد هذه المقدمة ، بدأت القصة بقضية فرعون وهامان ، وفسادهما في الأرض ، حيث استهل السرد بما يلي :
{إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} [القصص : 4]
{ يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص : 4]
{ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص : 5]
{وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص : 6]
إن هذه المقدمة القصصية ، تنطوي على جملة من حقائق الفن ، منها :
1 ـ انها تلخص محتويات القصة : حيث يستكشف المتلقي ان القصة تحوم على صراع قائم بين الحق والباطل : بين موسى وفرعون.
{نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}
2 ـ يستكشف المتلقي ، نتائج الصراع بينهما ، وإلى أنه سيكون لصالح موسى والمؤمنين.
{ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا }
3 ـ تحدد القصة مادة الباطل ، وإلى انه ـ أساسا ـ قائم على ان فرعون كان يمارس العلو ، والتفرقة بين الطوائف ، واستضعاف الناس : بحيث يذبح الرجال ويستبقي الإناث ، لأسباب يستكشفها المتلقي من مجموع القص : {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا..}
4 ـ يستكشف المتلقي أن من بين الأسباب التي حملت فرعون على الإفساد في الأرض ، هو : التشبث بملكه والخوف من زواله.
{وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ}.
هذه المبادئ الفنية الأربعة ، ينبغي أن نضعها في الاعتبار : بصفة انها مبادئ تتضمنها المقدمة القصصية ،… بغية أن تحيط المتلقي بأفكار القصة وأهدافها. وإلى انها تسرد وفق تخطيط هندسي ، تجعل المتلقي ـ في نهاية المطاف ـ قد استمتع جماليا ببناء القصة وطريقة صياغتها ،… فضلا عما تلقفه منها من أفكار يستهدفها النص… وفضلا عما سيكتشفه بنفسه ـ من خلال البناء الفني للقصة ـ من أفكار ومواقف وأحداث ، لم تذكرها القصة.
بعد هذه المقدمة الفنية : يبدأ الفصل الأول من القصة ، متمثلا في حياة موسى ـ عليه السلام ـ : من حيث نشأته ومراحلها المختلفة.
ثم تتتابع فصول القصة حتى تنتهي بالشطر الأول من حياة موسى : حياة ما قبل النبوة.
وبعدها تتتابع حياته خلال النبوة وما بعدها.
ويهمنا من ذلك ، أن نصل بين بداية القصة ومقدمتها أولا ثم : الصلة بين سائر مراحل القصة وبين مقدمتها ، ثانيا.
وقبل ذلك كله ، ينبغي ان نضع في الاعتبار ، أن القصة شددت على الفترة الأولى من حياة موسى ـ عليه السلام ـ : فترة ما قبل النبوة : مع أن الصراع بين موسى ـ عليه السلام ـ وفرعون ، إنما يأخذ نتائجه الحاسمة التي تضمنتها المقدمة القصصية ، مع الفترة الثانية ـ فترة النبوة ـ : أي : فترة ذهابه إلى فرعون ، وأنهائه إلى الغرق في اليم.
يبدأ الفصل الأول من قصة موسى عليه السلام ، مع ميلاده ذاته ، حيث اقترنت ولادته ، مع قرار فرعون بقتل الأطفال. وسبب هذا القرار الذي اتخذه فرعون هو : إخبار بعض الكهنة فرعون بأن مولودا سيولد في بني إسرائيل يتم على يده زوال ملك فرعون ، أو ، حسب نص مفسر آخر : أن فرعون ذاته رأى في منامه أنز نارا أقبلت من بيت المقدس ، فأتت على بيوت مصر ، وأحرقت الأقباط ، واستبقت الإسرائيليين ففسر له بالتفسير ذاته.
وفي ضوء هذا التأويل الذي قدم إلى فرعون ، قرر أن يقتل الأطفال الإسرائيليين. ونفذ قراره فعلا. إلا انه خشي أن يفنى الإسرائيليون جميعا. وعندها قرر قتلهم بين عام وآخر.
وتقول النصوص المفسرة ، أن موسى ـ عليه السلام ـ قد ولد في العام الذي يقتل الأطفال فيه. إلا ان السماء أنقذته على النحو الذي يسرده الآن : الفصل الأول من القصة :
يبدأ الفصل الأول على هذا النحو :
{وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص : 7]
والملاحظ ، أن القصة لم تسرد لنا أي شيء عن فرعون وقراره بالقتل. كما لم تسرد لنا ولادة موسى ـ عليه السلام ـ وصلتها بذلك. بل اتجهت مباشرة إلى قضية الرضاعة والقائه في اليم في حالة الخوف من القتل.
بيد ان النصوص المفسرة هي التي اضطلعت بتقديم هذه التفاصيل للأحداث.
وتضيف هذه النصوص المفسرة ، ان ام موسى عندما حملت به لم يظهر عليها أثر الحمل. ولذلك ، لم تتعرض القوابل اللاتي بعثهن فرعون لتفتيش النساء لم يتعرضن لأم موسى عليه السلام.
وفعلا : ولد موسى ـ عليه السلام ـ دون ان تشهد ولادته أية قابلة. وتقول نصوص أخرى ، ان القابلة شهدت ولادته ، لكنها تسترت على ذلك ، لأن الله ألقى محبته في قلبها.
وبقي ثلاثة أشهر يرتضع من لبن أمه. لكنها خافت عليه. فصنعت له تابوتا أو أرسل إليها التابوت ، والقته في اليم ، على نحو ما تحدثنا عنه في سورة طه.
المهم ، أن البداية القصصية عندما أشارت إلى عملية الرضاعة ، والقائه في اليم : عقبت على ذلك بقولها : {وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص : 7]
وهذا التعقيب ، له خطورته الفنية ، من حيث التنبؤ بنتائج الحدث ، وكونه لصالح موسى وأمه.
أكثر من ذلك : ان هذا التعقيب تنبأ بمستقبل موسى عليه السلام ، وإلى انه سيصبح رسولا من الله إلى بني قومه.
ومما لا شك فيه ، ان هذا التنبؤ ، له صلته ـ من حيث البناء الفني ـ بمقدمة القصة التي قلنا في حينه ، انها تضمنت الكشف عن نتائج الصراع بين موسى ـ عليه السلام ـ وفرعون ، وإلى انه في صالح موسى والمستضعفين بعامة.
ومن خصائص هذا البناء الفني ، انه يكشف شيئا فشيئا عن تفصيلات جديدة : تضمنتها مقاطع القصة وفصولها ، حيث ينهض كل مقطع وكل فصل بقسم من التفصيلات. حتى تنتهي بمجموعها مع نهاية الحدث الذي تنبأت المقدمة القصصية به في صياغتها المجملة.
وإذا كان المقطع الأول من القصة قد فصل جانبا من التنبؤ بالأحداث. فها هو المقطع الثاني يفصل جانبا آخر منها ، هو : ان موسى ـ وقد التقطه فرعون من اليم ـ سيكون طرف الصراع الذي أنبأتنا المقدمة القصصية به ، مقابلا لفرعون وهامان وجنودهما.
ولنقرأ المقطع القصصي :
{فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ}
إذن : هذا الطفل الذي ألقته أم موسى في اليم ، وخافت عليه من أن يقتله فرعون… هذا الطفل قد تسلمه فرعون نفسه. ولكن فرعون لم يدر ان الطفل سيكون له عدوا ،… وسيكون نفس الطفل الذي قرر من أجله فرعون أن يقتل الأطفال ، من أجل ألا يولد موسى عليه السلام ،… من أجل ألا يولد الطفل الذي سيصبح راشدا وسيكون زوال فرعون على يده…
لم يدر فرعون انه قد التقط الطفل الذي سوف يقتل فرعون ، سوف يغرقه في اليم ،… لم يدر ان اليم الذي أنقذ موسى عليه السلام ، سيغرق فرعون الذي أنقذ موسى من الغرق : عندما كان التابوت يحمله وهو طفل. ثم انتهت النتيجة إلى ان يغرق فرعون نفسه لا موسى عليه السلام…
هذه النهاية القصصية لمصير فرعون ، ينبغي ان نضعها في الاعتبار من حيث التوازن الهندسي بين مصائر الأبطال. وهو أمر نتحدث عنه لاحقا.
ولكن ، ما يهمنا الآن هو : ان نشدد على هذا المقطع القصصي الذي تآزر مع سابقه ، على تقديم التفصيلات التي أجملتها المقدمة القصصية.
لقد أجملت المقدمة ، بأن السماء تريد ما يلي :
{وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص : 6]
وها هو المقطع الثاني من القصة ، يقرر أن موسى ـ عليه السلام ـ قد التقطه آل فرعون : { لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} [القصص : 8]
في المقدمة ،… قالت القصة : سنري فرعون وهامان وجنودهما ما كانوا يحذرون.
وها هي في وسط القصة ، تخبرنا بأن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين في تقديرهم للأمور … فها هو موسى ـ عليه السلام ـ الذي التقط من اليم سيكون عدوا وحزنا لفرعون وهامان وجنودهما.
ولسوف ، تكون نهايتهم مع نهاية القصة على يد موسى عليه السلام.
إذا : كم هو رائع مثل هذا البناء الفني للقصة التي أشارت مقدمتها إلى ما يحذره فرعون وهامان وجنودهما. ووسطها أشار إلى ما سيقع فيه فرعون وهامان وجنودهما. ونهايته ستشير إلى ما وقع فعلا ما كان يحذره فرعون وهامان وجنودهما.
بدأت قصة موسى ـ عليه السلام ـ ـ كما لحظنا ـ بإرضاعه ، فإلقائه في اليم ، فالتقاطه من قبل آل فرعون.
أما الآن ، فيبدأ مقطع جديد من القصة ، يتمثل في : إرجاع موسى ـ عليه السلام ـ إلى أمه. وهذا ما يسرده النص القصصي التالي :
{وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [القصص : 9]
{وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص : 10]
{وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [القصص : 11]
{وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [القصص : 12 ، 13]
بهذا المقطع القصصي ، ينتهي الفصل الأول من قصة موسى عليه السلام.
ومما لا شك فيه ، إنه فصل مثير ، حافل بأسرار فنية وفكرية ، يحسن بنا أن نتابعها بالتفصيل.
تقول النصوص المفسرة ، ان امرأة فرعون عندما فتحت التابوت ، ونظرت إلى موسى عليه السلام ، ألقى الله محبته في قلبها. حتى ان فرعون عندما تساءل : كيف أخطأ الذبح هذا الغلام؟ أجابته : ان هذا الوليد أكبر من سنة ، وانك أمرت بذبح الأطفال لهذه السنة ، فدعه ، يكن قرة عين لي ولك. وفي نص مفسر آخر ، ان أصحاب فرعون هموا بقتله ، فمنعتهم ، وقالت لفرعون نفس العبارة.
وأيا كان الأمر ، فإن إنقاذ موسى من القتل ، يظل على صلة بمقدمة القصة التي أرهصت بأن موسى ـ عليه السلام ـ سيكون هو المنتصر في صراعه مع فرعون. كما يظل على صلة بالمقطع الأسبق من القصة ، وهو المقطع الذي تحدث بوضوح من ان السماء سترد موسى ـ عليه السلام ـ إلى أمه إذا ألقته في اليم. وطالبت أم موسى بالا تحزن على ذلك.
إلا أننا نجد بالرغم من تطمين السماء لأم موسى ـ عليه السلام ـ بالا تحزن ،… نجد ان أم موسى ـ عليها السلام ـ قد داهمها الحزن إلى الدرجة التي قال عنها النص :
(وأصب فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدي به ، لولا ان ربطنا على قلبها ، لتكون من المؤمنين).
بيد ان رعاية السماء التي واكبت موسى ـ عليه السلام ـ وأمه ، منذ لحظة الميلاد ، سرعان ما أعادت الاطمئنان إلى ام موسى من جديد ، عندما أعادت إلى الأم وليدها.
وقد تمت هذه الإعادة من خلال الحادثة التالية ،… وهي : ان أم موسى ـ عليه السلام ـ قالت لأخته ، تتبعي أثر أخيك وتعرفي على أخباره. وفعلا ، ذهبت أخت موسى ـ عليه السلام ـ تتبع أخاها حتى بصرت به عند آل فرعون ، بنحو لم يشعر القوم بذلك.
وتدخلت رعاية السماء من جديد.
{وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ} [القصص : 12]
وتقول النصوص المفسرة ، أن السماء القت محبة موسى ـ عليه السلام ـ حتى في قلب فرعون نفسه ، بحيث طلب له المراضع ،… لكن موسى ـ عليه السلام ـ لم يتقبل لبن أية مرضعة وكانت أخته حاضرة. وعندها اقترحت عليهم أن تدلهم على أهل بيت يكفلونه ،… فعاد إلى أمه :
{فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ} [القصص : 13]
وهكذا عاد الوليد إلى الأم. وانتهت عمليات الخوف من الغرق ، ومن القتل ، ومن فرعون وقومه…
وهكذا ، بقي الطفل مع عائلته ، معافى من كل سوء ، حتى أصبح راشدا.
وبهذا ينتهي شطر من حياته…
وبهذا ينتهي فصل من القصة ، ليبدأ فصل جديد… ينتهي فصل من القصة ، بانتهاء شطر من حياة موسى عليه السلام ، هي : حياة الطفولة الحافلة بالأخطار المثيرة ، وبعناية السماء… تنتهي هذه الحياة : حياة الطفولة ، لتبدأ مرحلة أخرى من حياته ، هي : حياة الرشد. فماذا عن هذه الحياة ؟؟
الحياة الجديدة : حياة الرشد ،… أكسبها النص القصصي بعدا جديدا من الفعالية ،… لم تتح إلا للصفوة التي اختارتها السماء :
يقول النص القصصي :
{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [القصص : 14]
وتقول النصوص المفسرة ، ان ذلك ، كان عند بلوغه الثامنة عشر ، وتقول النصوص المفسرة الأخرى ،… ان ذلك كان عند بلوغه الثالث والثلاثين. لكنه في الأربعين من العمر : أوتي الحكم والعلم ، تمهيدا للاضطلاع بمهمة الرسالة ، عندما يحين موعدها. وهو موعد تسرد القصة تفصيلاته ، لاحقا.
على أية حال : الفصل الثاني من القصة ، يظل حائما على المرحلة الثانية من حياة موسى ـ عليه السلام ـ : مرحلة الرشد ، فيما يشير إليها من خلال طابع الحكم والعلم اللذين آتتها السماء موسى عليه السلام.
والقصة ، تكتفي من هذه المرحلة ، بالإشارة إلى الطابع الفكري المذكور لموسى عليه السلام.
لكنها ، في الفصل الثالث ، تنتقل القصة إلى سرد مرحلة ثالثة من حياة موسى عليه السلام.
فما هي معالم هذه المرحلة؟؟
حين نتابع المراحل التي سردتها القصة عن حياة موسى عليه السلام ،… تواجهنا منها مرحلة جديدة ، هي : مرحلة دخوله إلى المدينة على حين غفلة من أهلها :
{وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص : 15]
{فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ } [القصص : 15]
{قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص : 15 - 17]
تقول النصوص المفسرة ، أن موسى عليه السلام ، كان خلال اقامته عند فرعون يتحدث عن التوحيد. وكان فرعون ينكر عليه ذلك ، حتى انه هم بقتل موسى عليه السلام.
وحيال هذا ، اضطر موسى ـ عليه السلام ـ أن يهاجر إلى مكان آخر وتقول بعض النصوص المفسرة ، أن المدينة التي توجه إليها موسى عليه السلام ، هي مدينة (منف) أو غيرها من مدن مصر.
وأيا كان : فإن النص القصصي ، لم يحدثنا عن المدينة التي دخلها ، ولا أسباب الدخول إليها ، بل اختزل ذلك ، وتركه للنصوص المفسرة.
والمسوغ الفني لهذا الاختزال ، يتمثل ـ في تصورنا ـ في أن القصة هي في صدد تشددها على إبراز حادثة (القتل) ونتائجها ، لما تنطوي عليه من دلالات نتعرض لها بعد قليل.
أما أسباب الدخول إلى المدينة ،… فإن اختزالها يظل مرتبطا بجملة من المسوغات الفنية ، منها : ان النص القصصي ترك استخلاص ذلك للمتلقي ، حتى يساهم بنفسه في عملية (الكشف) الفني في تذوق القصة واستشفاف جمالياتها.
ومما لا شك فيه ، ان المتلقي من الممكن ان يستخلص ـ وهو على وعي تام بأن موسى ـ عليه السلام ـ الذي آتته السماء حكما وعلما ـ لا بد أن يظل على غير وفاق مع فرعون ، مما يضطره إلى الدخول في صراع : يستتبع أن يفارقه ، لينقذ نفسه من بطش فرعون ، وليتابع أداء وظيفته العبادية في حدود إمكاناته المتاحة له فترتئذ ،… المهم ، ان موسى ـ عليه السلام ـ قد غادر مكان اقامته ، واتجه إلى المدينة التي كانت مهيأة لاقحامه في صراع جديد مع قوم فرعون إنه الصراع الناجم عن حادثة القتل.
فما هي تفصيلات هذه الحادثة؟؟
النص القصصي : يكتفي من رسم التفصيلات ، بهذا السرد.
{فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ } [القصص : 15]
إذن : الحادثة التي كانت تنتظر موسى عليه السلام ، لاقحامه في صراع جديد مع قوم فرعون ، هي : حادثة قتل لأحد الأقباط.
ومما لا شك فيه ، أن النص القصصي قد أبهم هنا أيضا سبب الاقتتال بين الرجلين. بيد ان المتلقي يستخلص هنا بوضوح ، ان سبب الاقتتال لابد ان يكون بين الحق والباطل ، بين رجل من شيعة موسى ـ عليه السلام ـ : يؤمن بالسماء ، وبين رجل من قوم فرعون ممن يدين بدينه. وإلا لم تكن أية دلالة لأن يستجيب موسى ـ عليه السلام ـ لنداء الرجل الذي هو من شيعته ، ما لم يكن الصراع بين الرجلين هو صراع بين الحق والباطل.
بيد ان ما يلفت الانتباه في هذه الحادثة هو : نتائجها النفسية والعملية التي ترتبت على الحادثة المذكورة.
فمن حيث النتائج النفسية ، نلحظ أن موسى ـ عليه السلام ـ قد ندم على عمله ، ونسبه إلى الشيطان. ومثل هذا الندم يتنافى ـ في الظاهر ـ مع انتصاره للحق. بل انه يتنافى بنحو اشد مع محاولته الثانية لقتل قبطي آخر ، بعد عملية الندم على قتل الأول : كما سنرى لاحقا.
وأما من حيث النتائج العملية ، فإن المهاجرة من المدينة إلى مكان آخر ـ كما سنرى ـ قد ترتبت على حادثة القتل السابقة واللاحقة.
ويعنينا الآن ، أن نقف على المضاعفات النفسية لحادثة القتل ، وتحديد دلالاتها الفنية والفكرية في هذا الصدد.
إن النص القصصي أبهم ذلك تماما. وأبرز لنا الحادثة ومضاعفاتها النفسية ، دون ان يحدد أسباب ذلك.
ومن جديد ، نبادر إلى القول بأن اختزال ذلك ، عائد إلى نقل المتلقي لعمليات استكشاف جديدة ، يمارس من خلالها تذوقه الفني للقصة ، ليتضخم بذلك عنصر الإمتاع الجمالي والفكري لديه.
إن المتلقي سيمر بجملة من الاستخلاصات التي تضاعف من حيرته حيال هذا التضاد بين عملية القتل والاستغفار.
ومما يزيد في هذه المضاعفات ، أن موسى ـ عليه السلام ـ لم يكتف من ذلك بأن ينسب العمل إلى الشيطان : فلو اكتفى بذلك ، لامكننا ان نستخلص مثلا بان (القتل) لم يكن أسلوبا صائبا. وهذا ما ذهب إليه أحد المفسرين ، عندما أوضح ان القتل لم يكن جائزا في ذلك الحين ، لأن الحالة كانت حالة الكف عن القتال.
بيد أن الأمر ، تجاوز هذا المدى ، إلى ان ينسب موسى ـ عليه السلام ـ إلى (الجريمة) عملية الاستغاثة من الرجل.
قال موسى ـ عليه السلام ـ مخاطبا السماء :
{قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ } [القصص : 17]
فهذه الفقرة من كلامه ، توحي بأن أحد طرفي القتال هو (المجرم) ، أي : ان الأمر لا يقف عند حدود القاتل ، بل امتد إلى حدود المستنصر نفسه ، أي : الذي استغاث بموسى ـ عليه السلام ـ لينصره على عدوه.
ترى : كيف يتم التوفيق بين هذه الدلالات المتضادة التي يمكن ان يستخلصها المتلقي ؟؟
حدثنا الإمام الرضا ـ عليه السلام ـ عن التوفيق بين ما يستخلصه المتلقي من أن موسى ـ عليه السلام ـ قد انتصر للحق في حادثة قتله لأحد الأقباط ، وبين استغفاره على العمل الذي قام به.
لقد أوضح الإمام الرضا ـ عليه السلام ـ أن العمل الذي نسبه موسى إلى الشيطان ، ليس عمل موسى نفسه ، بل هو : الاقتتال الذي جرى بين الرجلين.
ولكن : إذا كان الاقتتال بين الرجلين ، عملا من الشيطان. فهل ان الانتصار لرجل الحق [من حيث كونه مؤمنا بالله ، لا من حيث كونه يمارس طريقة غير مشروعة في الانتصار للحق] … هل ان الانتصار له ، يجسد عملا غير مشروع أيضا ؟؟
هنا ، يجيب الإمام الرضا ـ عليه السلام ـ تعقيبا على قول موسى ـ عليه السلام ـ :
{رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص : 16]
يجيب : بان ظلم النفس والاستغفار ، ناجم من ان موسى ـ عليه السلام ـ وضع نفسه في غير موضعها بدخول هذه المدينة التي شهد فيها قتال الرجلين. وان مطالبته بالاستغفار ، هي : المطالبة بان يستره الله تعالى من أعدائه ، لئلا يظفروا به ، فيقتلوه.
ونتيجة لذلك ، فإن قول موسى ـ عليه السلام ـ : { رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص : 17]
، يعني : إن هذه القوة التي أنعم الله بها على موسى ـ عليه السلام ـ بحيث استطاع بوكزة منه أن يقضي على القبطي ، قد طالب بها موسى ـ عليه السلام ـ لكي تستثمر في دروب الجهاد في سبيل الله.
على أية حال : فإن حادثة القتل المذكورة ، تشكل أول حركة تسردها القصة عبر حديثها عن المرحلة الثالثة من حياة موسى ـ عليه السلام ـ وهي : حياة المهاجرة.
بيد أن الاقدار هيأت لموسى ـ عليه السلام ـ حادثة جديدة ، ترتبت عليها آثار : لها خطورتها الكبيرة في حياة موسى عليه السلام ، وما تنتظره من تحركات نتحدث عنها لاحقا.
هذه الحادثة الجديدة ترتبط بسابقتها : من حيث حومانها على محاولة (قتل) أيضا. فموسى ـ عليه السلام ـ بعد ان مارس عملية (القتل) ، وندم عليها ، وطلب الاستغفار… عندها… توارى عن المدينة ، تخلصا من تباع العمل الذي قام به. يقول النص القصصي :
{فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} [القصص : 18]
وتقول النصوص المفسرة ، أن فرعون قد بلغه مقتل القبطي ، لكنه لم يتعرف على القاتل. وعندها بعث جواسيسه لهذه المهمة.
وفي غمرة الخوف الذي كان يغلف موسى ـ عليه السلام ـ من حادثة القتل. ثم : في غمرة بحث الجواسيس عنه… في غمرة هذا كله… كان الحدث الجديد ينتظر موسى عليه السلام.
إنه حدث يتمثل في اقتتال جديد بين صاحب موسى ـ عليه السلام ـ وبين قبطي آخر :
{فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} [القصص : 18]
ولنتابع تفصيلات هذا الحدث :
{فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ} [القصص : 19]
ماذا يمكن ان نستخلص من هذا الحدث ؟
من حيث الموقف : فإن الرجل الذي هو من شيعة موسى عليه السلام ، يبدو انه رجل مقاتل : فأمس قاتل أحد الأقباط حتى قضى عليه بواسطة موسى عليه السلام ، وها هو اليوم يقاتل رجلا آخر. وتشاء الأقدار ان يتم هذا بمحضر موسى ـ عليه السلام ـ أيضا… وأن يطلب نجدته كما طلبها أمس أيضا.
غير ان الموقف الآن ، يبدو وكأن بعض التغيير قد دخله ، فلم يستجب موسى ـ عليه السلام ـ
فورا لطلب رفيقه : كما فعل بالأمس. وإنما وبخه ، قائلا له :{ إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ } ومعنى هذا التوبيخ ان قتال الفراعنة في مثل هذه الظروف لم تسمح به السماء بعد.
ولكن بعد ذلك كله ، فإن موسى ـ عليه السلام ـ هم بان يبطش بالفرعوني المذكور انتصارا لرفيقه الذي وبخه على المقاتلة.
ترى : لماذا يوبخ موسى ـ عليه السلام ـ رفيقه ، ثم يحاول أن ينتصر له ؟
ان النص القصصي أبهم السر في ذلك : تمشيا مع الإبهام الذي خلعه على جميع الأسباب المتصلة بالمقاتلة ، والنجدة ، والاستغفار : تاركا للنصوص المفسرة ، وللمتلقي : تحديد أو استخلاص ذلك ، لمسوغات فنية وفكرية سب وتوضيحها.
والآن ـ وقد حاول موسى ـ عليه السلام ـ ان يبطش بالقبطي ، بعد أن وبخ زميله على المقاتلة ـ الآن : يكف موسى عن البطش بعد أن هدد بالعبارة التالية :
{ أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ } [القصص : 19]
ونتساءل من جديد : لماذا صدرت عن موسى ـ عليه السلام ـ ثلاثة مواقف : أحدها يضاد الآخرين ؟؟
فلو كان طلب النجدة أمرا مشروعا ، فلماذا يوبخ صاحبها ؟
وإذا كان أمرا غير مشروع ، فلماذا يحاول ان يبطش بالقبطي ؟
ثم : إذا افترضنا انه أمر مشروع : فلماذا يخضع للتهديد ، ويهرب من القبطي. وإذا افترضنا انه غر مشروع ، فلماذا ينتصر ـ من خلال المحاولة ـ لصاحبه؟؟
ان هذه الأسئلة تتخاطر على ذهن المتلقي ، وتلقي به إلى غيابات متنوعة : لا شك انها تثري ذهنه ، وتجعله في حركة فكرية دائبة من عمليات الاستخلاص والمحاكمة والاستدلال واستحضار خبراته المتنوعة عن فهم هذه الظاهرة.
ونحن في ضوء إجابة الإمام الرضا ـ عليه السلام ـ على الأسئلة التي سبقت هذا الحادث ، يمكننا ان نستخلص بيسر أسباب هذه المواقف التي تبدو وكأنها متضادة ، أو مضببة… لكنها سرعان ما تتضح بأنها تتصل ، بالمناخ ، وبالطريقة التي يتم التعامل معها : المناخ الذي لم يسمح بعد بمقاتلة الطغاة ، وما يترتب على ذلك من الطريقة التي لا يسمح بها المناخ السياسي المذكور. وهذا كله ، إذا أخذنا بالتفسير الذي يذهب إلى ان التهديد صادر من القبطي.
أما إذا أخذنا بالتفسير الذاهب إلى انه صادر من الإسرائيلي ، فهذا يعني ان الإسرائيلي خيل إليه انه هو المقصود بالبطش من خلال توجيه التوبيخ إليه : حيث دفع عنه الأذى المتخيل ، بهذا الموقف اللاإنساني. وحينئذ يضطر موسى ـ عليه السلام ـ إلى الهرب ، خوفا من إلقاء القبض عليه.
ومن هنا ، تشير بعض النصوص المفسرة إلى ان القبطي فهم من محاورة موسى مع صاحبه ، أنه هو القاتل أمس ، مما جعله ينطلق إلى فرعون ويخبره بالقاتل. وعندها ، طلب فرعون إلقاء القبض عليه.
في غمار البحث عن موسى ـ عليه السلام ـ : لإلقاء القبض عليه من قبل جواسيس فرعون… تدخلت السماء ـ من جديد لتمطر موسى ـ عليه السلام ـ بمزيد من المعطيات… فها هي السماء ترسل إليه أحد المؤمنين الذين لم يظهروا إيمانهم أمام الطغاة :
{وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص : 20 ، 21]
لقد أخبر هذا الرجل موسى عليه السلام ، بالمؤامرة التي حيكت ضده ، قتله. وقد قطع مسافة كبيرة [من أقصى المدينة] واختصرها من أقرب الطرق للوصول إلى موسى ـ عليه السلام ـ قبل أن يظفر الاعداء به.
وتقول النصوص المفسرة ، ان هذا الرجل كان خازنا لفرعون ، وقد وقف على المؤامرة ، فاتجه لإنقاذه على النحو المتقدم.
ومن جديد ، يترقب موسى ـ عليه السلام ـ خائفا…
فأمس {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ } [القصص : 18]
واليوم {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} [القصص : 21]
أمس : أصبح خائفا من أن يعرف انه هو القاتل.
واليوم : أصبح خائفا من ان يقبض عليه ، فيقتل.
لكن السماء ـ وهي تظله برعايتها ـ انقذته من كل الأخطار. فقطع مسافة ثلاثة أيام وقيل : ثمانية أيام ، حتى بلغ مدينة جديدة هي (مدين).
ومع دخوله لهذه المدينة تبدأ مرحلة جديدة من حياة موسى عليه السلام.
انها مرحلة الزواج ، والإقامة فيها أجيرا لشعيب. لكنه قبل هذه المرحلة ، تبتدره (حادثة) لها خطورتها في هذه المرحلة. بل تظل هي الحادثة التي لونت حياة موسى ـ عليه السلام ـ بهذه المرحلة : مرحلة الزواج ، والعمل أجيرا لشعيب.
والآن ، ما هي هذه الحادثة الخطيرة التي تسببت في صياغة مرحلة جديدة من موسى عليه السلام؟؟
هذه الحادثة هي : حادثة المساعدة التي قدمها موسى ـ عليه السلام ـ إلى امرأتين تبتغيان إسقاء غنمهما من ماء البئر ، لكن الزحام يمنعهما من ذلك.
ولنتقدم إلى تفصيلات هذه الحادثة ، من النص القصصي ذاته : {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص : 22 - 24]
وقبل ان نواصل الحديث عن هذه التفصيلات التي سردها النص القصصي ،… يجدر بنا ملاحظة المقطع القصصي المتقدم : حيث تصدره دعاء خاص ، واختتم بدعاء خاص.
أما الدعاء الذي تصدر المقطع القصصي المذكور ، فهو : دعاؤه : {عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ}
وأما الدعاء الذي ختم به النص القصصي ، فهو دعاؤه :
{رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}ْ
إن البناء الفني لمثل هذا الدعاء الذي يسبق حادثة المساعدة ، والدعاء الذي يلحقها ،… ينبغي ألا نمر عليه عابرا دون ملاحظة الخصائص الفنية التي ينطوي عليها.
فموسى ـ عليه السلام ـ عند توجهه نحو مدين ، خرج وهو خائف يترقب. لا يعرف معالم الطريف ، ولا الهدف الذي سيسلكه في هذا الصدد.
هنا ، توجه نحو الله ، وطلب منه الهداية…
وكانت السماء عند حسن ظنه…
ومن جديد ، توجه نحو السماء ، حينما عمل عملا خالصا لله ، بمساعدته لتلك الفتاتين.
وعندما أنهى مساعدته ، توجه نحو السماء بخطابه المعروف : { رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}
وتقول النصوص المفسرة ، ان موسى ـ عليه السلام ـ عندما تولى نحو الظل ، بعد مساعدته المذكورة للفتاتين ، … كان الجوع قد أخذ مأخذه منه. حتى ان عليا ـ عليه السلام ـ أثر عنه تعقيبا على موسى ـ عليه السلام ـ : (([إن موسى كليم الله حيث سقى لهما ثم تولى إلى الظل ، فقال : رب اني لما أنزلت إلي من خير فقير]. والله ما سأل الله إلا خبزا يأكله ، لانه يأكل بقلة الأرض. ولقد رأوا خضرة البقل في صفاق بطنه من هزاله))…
على أية حال ، إن هذا الدعاء وما سبقه ، يظلان على صلة بالعناية التي أظلت بها السماء موسى من حيث تهيئتها لمرحلة جديدة من الاستقرار ، بعد زوال مصدر الخوف.
ومن حيث ما تهيؤه لأكبر ما تحمله للصفوة من مسؤوليات الرسالة فيما بعد.
ولنعد ، إلى الحادثة نفسها : حادثة الفتاتين والسقي.
ففي ضوء النص القصصي المتقدم ، وما تواكبه من التفسيرات المأثورة ، نلحظ أن بيئة الحادثة التي تحركت من خلالها ، تتمثل في مشاهدته مجموعة من الرعاة يسقون مواشيهم الماء من البئر. وشاهد فتاتين ـ من دون هؤلاء الرعاة ـ تحبسان غنمهما من الورود إلى الماء.
وهنا ، اتجه موسى ـ عليه السلام ـ نحو هاتين الفتاتين ، وسألهما عن السبب الذي يمنعهما من الورود. فأجابتا : اننا لا نسقي عند المزاحمة مع الناس حتى ينصرف الرعاء ، وأن أبانا شيخ كبير لا يستطيع القيام بهذا العمل.
وانطلاقا من دافع المساعدة لوجه الله ، تقدم موسى ـ عليه السلام ـ إلى البئر ، واتفق مع أحد الرعاء على ان يستقي له دلوا ، وللرجل دلوا ، حتى اتم عملية السقي.
وانتهت الحادثة بهذا النحو.
بعدها : تولى موسى ـ عليه السلام ـ إلى الظل ، هربا من وطأة الحر.
ثم : أحس بالجوع الشديد الذي تحدثنا عنه.
وعندها ، انطلق بدعاءه المعروف : اني لما انزلت إلي من خير فقير.
بعد ان اتجه موسى ـ عليه السلام ـ إلى الظل من وطأه الحر… وبعد أن أحس بالجوع الشديد… وبعد أن هتف بدعاءه المعروف : (أني لما أنزلت إلي من خير ، فقير)… عندها ، كان ينتظره حدث له أهميته في تاريخ الأفراد : نظرا لاتصاله ـ من جانب ـ بأشد الدوافع الحيوية إلحاحا ،… واتصاله باستمرارية النوع الإنساني ، من جانب آخر.
إنه : حدث (الزواج).
بيد ان حادثة الزواج ، لم تنتظره بنحو هادف مقصود من قبله ،… بل جاءت متناسقة مع تلك الأحداث التي رافقت حياته ، منذ أن هرب من فرعون وبطشه. فقد انتصر للرجل من شيعته دون ان يهدف لمثل هذا الانتصار. وحاول في اليوم الثاني أن ينتصر لاحد طرفي المقاتلة أيضا ، دون أن يهدف إلى ذلك أيضا.
وهرب من المدينة ، دون ان يهدف جهة معينة ، بل ساقه القدر إلى (مدين).
ودخل إلى (مدين) دون ان يهدف إلى ممارسة سلوك معين ، بل ساقه القدر إلى ان ينطلق لمساعدة فتاتين تذودان الماء…
وهكذا ، يواجه موسى ـ عليه السلام ـ سلسلة من الوقائع ، لم يكن ليستهدفها بأعيانها…
لكن السماء ، كانت تخطط له جملة من التجارب في عمليه الاختبار الإنساني ، ليمارس موسى ـ عليه السلام ـ من خلالها نمط (الاختيار) الذي سيتجه نحوه.
مضافا إلى ذلك ، فإن معطيات السماء ، كانت تتدفق على موسى ـ عليه السلام ـ بنحو لافت للانتباه : بدء من انقاذه من فرعون في لحظة الميلاد إلى إنقاذه من الغرق ، إلى عودته إلى أمه ، إلى إنقاذه… من فرعون وهو طفل يعبث بوجه فرعون ، إلى إنقاذه منه في قضية المهاجرة ، إلى إنقاذه منه في قضية قتله لأحد الأقباط ، إلى إنقاذه من المتاه : وهو يتوجه إلى مدين.
وها هي السماء ، ترفده بعطاء جديد ، دون ان يبذل موسى ـ عليه السلام ـ أي جهد لتحقيقه…
إنه عطاء الزواج الذي سيقترن بعطاء آخر ، لم يبذل موسى ـ عليه السلام ـ أي جهد أيضا لتحقيقه : ونقصد به : إيجاد عمل له يستحصل به الرزق.
والآن : لنلحظ خطوات هذين العطاءين : الزواج والعمل وكيفية تحقيقهما.
ولنقف عند الواقعة الأولى : واقعة الزواج :
{ فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} [القصص : 25]
بهذه الفقرة القصصية ، يبدأ الفصل الجديد من القصة ليسرد لنا وقائع وتفصيلات مثيرة تنتظر حياة موسى عليه السلام.
ففي زحمة الحر الذي تحسسه موسى ـ عليه السلام ـ وهو ينهي مساعدته للفتاتين. وفي زحمة الجوع الذي أضمر جسمه… في زحام هذا الإحساس بالحر والجوع ،… وفي زحام الدعاء الذي توجه به إلى السماء : {إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}
في زحام هذا كله : جاءته إحدى الفتاتين ، لتخبره ان أباها يدعوه ، ليجزيه أجر العمل الذي قام به.
جاءته هذه الفتاة ، لينتشل موسى ـ عليه السلام ـ من الحر ، ومن الجوع ـ ولا يغب عن بالنا دعاءه بالانتشال ـ … جاءته هذه الفتاة في هذا الوقت بذاته : بنحو لم يكن متوقعا : لا بالنسبة إلى موسى ـ عليه السلام ـ ولا بالنسبة لأبيها.
فالنصوص المفسرة تذكر لنا ان بنتي شعيب رجعتا إلى أبيهما مبكرتين ، في وقت لم تعتاد الرجوع فيه ،… وهذا ما جعل أباهما يتساءل عن السر في هذه العودة المبكرة. وعندها أخبرتاه بتفاصيل الواقعة.
وحيال هذه المبادرة الخيرة ، بعث شعيب إبنته الكبيرة إلى موسى عليه السلام ، لمنحه أجرا على تلك المبادرة.
بيد ان موسى ـ عليه السلام ـ ـ كما تقول النصوص المفسرة ـ كره هذا العرض ، لأنه تقدم بالمساعدة لوجه الله ، لا يبتغي جزاء بذلك.
إلا أن موسى ـ عليه السلام ـ اضطر إلى إجابة الطلب ، نظرا للخوف الذي واكبه ، وهو : المهاجر ، الغريب ، الهارب من بطش الطغاة. مضافا إلى ذلك : فإنه كان في أرض مسبعة يخشى معها وحوش الحيوان.
وتقول النصوص المفسرة ، ان موسى ـ عليه السلام ـ عندما اضطر إلى الذهاب مع الفتاة ،… كانت الريح تضرب بثياب الفتاة مما جعله في حرج أخلاقي ، مما اضطره إلى ان يعرض عنها حينا ، ويغض الطرف حينا آخر ،… حتى انتهى الأمر إلى ان يأمرها بالمشي خلفه ، حتى يتجنب النظر إلى ما تكرهه السماء.
هنا ، ينبغي ان نلفت الانتباه إلى البعد الفني لهذه الجزئية من الواقعة ، ولجزئية سبقتها ، وهي : مشي الفتاة على استحياء…
فالنصوص المفسرة تذكر لنا ، أن الفتاة كانت الخفرات اللواتي لا يحسن المشي بين يدي الرجال ، ولا الكلام معهم.
وموسى ـ عليه السلام ـ بدوره ، كان لا يمارس سلوكا لا ترتضيه السماء. والنص القصصي والمفسر ، حينما يسرد لنا هاتين الواقعتين في سياق واقعة عامة هي : الذهاب إلى شعيب ، إنما يصوغ القصة وفق مبنى هندسي ، يستهدف من خلاله طرح أفكار ضمنية ، داخل هيكل القصة : بغية أن نستثمر البعد الأخلاقي في سلوكنا.
فقد لحظنا توازنا فنيا بين طرفي الواقعة : موسى ـ عليه السلام ـ والفتاة. الفتاة : خفرة تمشي على استحياء ، ولا تتحدث مع الرجال إلا لضرورة. وموسى ـ عليه السلام ـ : رجل ملتزم حقا بمبادئ السماء ، لا يمشي خلف المرأة ولا يتلصص بالنظر إليها.
إذن : طرفا الواقعة : الرجل والمرأة ، كلاهما عنصر نظيف في سلوكهما الذي جمعته واقعة الاصطحاب إلى شعيب.
وسنرى ـ مضافا إلى ذلك ـ أن هذا البعد الأخلاقي الذي استهدفه النص ، وصاغه وفق مبنى هندسي خاص خلال القصة ،… سنرى انه يمتد إلى المواقف اللاحقة في القصة ، منميا بناءها العضوي ، رابطا بين أجزاءها المتماسكة فكريا وجماليا.
لقد صحب موسى عليه السلام ، الفتاة إلى دار أبيها ـ كما لحظنا ـ.
ولقد كان موسى ـ عليه السلام ـ جائعا ـ كما لحظنا أيضا.
لكنه ما ان حط رحاله في دار شعيب حتى كان العشاء مهيئا.
ومع ان موسى ـ عليه السلام ـ كان قد توجه إلى السماء (اني لما انزلت إلي من خير فقير) ، وحيث كان الجوع قد أضمر جسمه…
مع ذلك كله : عندما دعاه شعيب إلى تناول الطعام ، … إمتنع عن ذلك.
ولما سأله شعيب عن السبب. أجابه بما مؤداه : انني لا أريد أن أأخذ عوضا عن السقي ،… إنا من أهل بيت لا نبيع شيئا من عمل الآخر بملك الأرض ذهبا.
إلا ان (شعيبا) إستطاع ان يقنع موسى عليه السلام ، ويحمله على تناول الطعام ،… عندما أوضح له أن الإطعام من عادته وعادة آبائه.
هنا ، لا يغب عن بالنا أن نشير إلى قضية الطعام ، وصلته ـ فنيا ـ بدعاء موسى ـ عليه السلام ـ عندما تولى إلى الظل وهو جائع.
ولا يغب عن بالنا أيضا صلة هذه السلسلة من الوقائع الأخلاقية بعضها بالآخر : حينما تصوغها القصة أو النص المفسر في تضاعيف الهيكل القصصي : وفق منحى فني خاص ، يستثمره المتلقي ، ليفيد من الأفكار المطروحة داخل القصة…
ونحن حين نتابع هذه الحادثة ، سنظفر بمزيد من التلاحم بين أجزاء القصة ، والقاء بعضها ، الضوء على البض الآخر ، بحيث تتنامى الأجزاء ويفضي بعضها إلى الآخر ، وهكذا.
والآن ، ماذا يواجهنا من هذا التلاحم الفني بين أجزاء القصة ؟؟
يواجهنا ، موقفان : أحدهما من قبل الأب. والآخر : من قبل إحدى ابنتيه.
أما الأب : فقد خاطب موسى ـ عليه السلام ـ ـ بعد أن قص عليه ـ حكاية لجوئه إلى مدين ـ خاطب موسى ـ عليه السلام ـ قائلا :
{لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص : 25 ، 26]
إن موقف شعيب من موسى عليه السلام ، يلقي إنارة على غصب كان ممتدا مع امتداد حياة موسى ـ عليه السلام ـ في هذه المرحلة التي تحدثنا القصة عنها. ونعني بها : مرحلة الخوف الذي واكب موسى ـ عليه السلام ـ منذ أن قتل القبطي ، وهو خائف يترقب. ومنذ ان حاول ثانية أن يقتل قبطيا آخر ، فخرج خائفا يترقب ،… متجها نحو مدين وهو خائف يترقب.
ومما لا شك فيه : أن قول شعيب لموسى ـ عليه السلام ـ : {لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}
هذا القول ، ينطوي ـ من حيث معمارية القصة ـ على وظائف فنية متنوعة ، منها :
ان الخوف الذي كان يواكب موسى ـ عليه السلام ـ ـ وهو خوف قد انسرب إلى عدة أجزاء من القصة ـ قد وجد الإجابة عليه في هذا الجزء من القصة ، بحيث تكون الإجابة عليه في هذا الجزء ، إفصاحا عن تلاحم الأجزاء بعضها بالآخر.
ومنها أيضا : ان الإجابة على الخوف الذي واكب موسى عليه السلام ،… قد حسمت الموقف ، ووضعت حدا لاحد عناصر الحدث ، بحيث يفصح هذا الحسم عن أن موسى قط طوى مرحلة لم يعد لها أثر من الآن فصاعدا ، إلا وهو : مرحلة الخوف التي أنتهت بالاستقرار عند شعيب ،… وبمواجهة الحياة الجديدة التي تنتظره ، وهي : حياة الزواج والعمل والاستقرار والأمن ، بعد أن كان موسى ـ عليه السلام ـ يفتقدها جميعا في مرحلته التي تحدثنا عنها.
إذن : كان لخطاب شعيب نحو موسى ـ عليه السلام ـ : {لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ، أكثر من وظيفة فنية من حيث معمارية القصة وجماليتها. من حيث حسمها لمرحلة من حياة موسى عليه السلام ، واستقبالها لمرحلة جديدة.
هذا كله ، من حيث عضوية الموقف الذي رسمته القصة لدى شعيب.
وأما من حيث عضوية الموقف الذي رسمته القصة لدى إبنته ، فله حديث آخر.
لقد قالت إبنة شعيب لابيها :
{اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ } [القصص : 26]
إن هذا الحوار الذي أجرته الفتاة مع أبيها ، يلقي بإنارته على الأجزاء السابقة من القصة ، وعلى الأجزاء اللاحقة بها أيضا.
ان الوظائف الفنية لهذا الحوار ، متنوعة ، طريفة ، حية حقا.
فأولا : يتضمن هذا الحوار دعوة إلى مرحلة من الاستقرار لموسى ـ عليه السلام ـ : هي مرحلة العمل (استأجره) : وبهذا يكون موسى ـ عليه السلام ـ قد ودع مرحلة قديمة ، واتجه إلى مرحلة جديدة.
ثانيا : ان عملية الاستئجار سترتبط بعملية الزواج التي سنتحدث عنها في الجزء اللاحق من القصة. وهذا يعني ـ من حيث عنصر الزمان ـ ان الحوار تضمن لحظة المستقبل ، بالتهيئة لأكبر حدثين لهما خطورتهما في حياة الاستقرار والتوازن : الزواج والعمل.
وأما من حيث اللحظة الحاضرة ،… فإن الحوار قد استتلى ، أو لنقل : قد افصح عن رغبة عاجلة من الممكن أن تكون قد خامرت ذهن الأب أو الفتاة ، فجرتها هذه المناسبة التي أتاحها لقاء الثلاثة.
وهذه هي الوظيفة الثالثة للحوار.
أما الوظيفة الرابعة للحوار ، فتتمثل في عودتها بالزمن إلى الماضي ، بعد ان كانت الوظائف الثلاث تتضمن الحاضر والمستقبل.
فالزمان المرتد إلى الماضي ، يتمثل في سمتين أشارت الفتاة إليهما ، هما : سمة (القوة) ـ وهي ملمح خارجي للبطل ـ وسمة (الأمانة) ـ وهي ملمح داخلي للبطل.
والسمتان المذكورتان ، لحظتهما الفتاة بوضوح ، في شخصية موسى ـ عليه السلام ـ : عشية استقى من البئر ،… وعشية اصطحب الفتاة إلى دار أبيها.
ترى : كيف لحظت الفتاة هذين الملمحين للبطل : الخارجي والداخلي ؟
ثم : ما موقعهما من الملامح الأخرى في شخصية موسى عليه السلام ، مما تقدم الحديث عنهما؟؟ وما موقعهما من الاحداث اللاحقة في القصة ؟؟
إن الملمحين اللذين لحظتهما الفتاة في شخصية موسى ـ عليه السلام ـ : (القوي) و(الأمين) ،… سيكون لهما ـ مثلما قلنا ـ إنعكاس على الاستجابة التي تصدر عن الأب والفتاة في قضيتي الزواج والعمل.
وكما قلنا أيضا : فانهما يمثلان انعكاسا لتجربة ماضية. هذه التجربة الماضية ، تساءل عنها شعيب. ووجه ـ في ضوء ذلك ـ سؤالا إلى الفتاة ، قائلا لها بما مؤداه : أما (قوته) فقد عرفتها من خلال رفعه للحجر عن البئر ولكن : كيف عرفت أمانته؟؟
فأجابته الفتاة : أنني عرفت أمانته من خلال سلوكه في الطريق إلى البيت ، حيث قال لي : تأخري عني ، ودليني على الطريق ، فأنا من قوم لا ينظرون إلى أدبار النساء.
ومن جديد ، نلفت الانتباه إلى قيمة هذين الملمحين : الداخلي (الأمانة) والخارجي (القوة) في شخصية موسى عليه السلام ، وموقعهما العضوي ـ من حيث هيكل القصةـ.
فالنص ، يستثمر أكثر من بعد أخلاقي ، ويخلله ـ بنحو غير مباشر ـ في جزئيات القصة ، بغية ان يترك تأثيرا فنيا أشد على المتلقي حينما يجد ان البعد الأخلاقي قد صيغ بنحو غير مباشر في القصة.
فالأمانة ، جاءت ضمن سلسلة من الوقائع الأخلاقية التي سردها النص في تضاعيف القصة : بدء من عنصر (المساعدة) التي قدمها إلى الفتاتين ، مرورا برفضه تناول حتى الطعام ـ وهو جائع جوعا شديدا ـ حتى لا يستلم أجرا على ذلك ، وانتهاء بعدم قيامه بأية مفارقة أخلاقية وهو يصطحب فتاة بمفردها.
وهذه السلسلة من الأخلاقيات كما كررنا ينبغي ألا نهملها ـ من حيث البعد الفني ـ عبر صياغتها في جزئيات القصة وربطها : البعض بالآخر.
أما سمة (القوة) ـ وهي الملمح الخارجي للبطل ـ. ففضلا عن انها من الناحية الجمالية تشبع عند المتلقي : الحاجة إلى الاستطلاع والتعرف على جوانب البطل. وفضلا عن انها تعد ـ من حيث الأساس ـ سمة لها قيمتها في ميدان العمل وإنجازه ، وسمة لها قيمتها في ميدان البطولة والقتال ،… فضلا عن ذلك كله ، فإن هذه السمة لم تصغ منفصلة عن السمة الأخلاقية.
فالبطولة بلا أخلاق لا تعني شيئا ـ كما لا هو واضح ـ.
من هنا ، جاءت سمة (القوة) متآزرة مع (الأمانة) ، رسما للبطل في استقطابه لجوانب الشخصية المتكاملة. وهو أمر يضيف إلى جمالية القصة عنصرا آخر : يزيد من تذوقنا لها.
هذا ، إلى ان سمة (القوة) و(الأمانة) ـ ستضيفان من جديد ـ عنصرا جديدا إلى المبنى الفني للقصة ، من حيث انعكاسهما على الحياة الجديد لبطل القصة : حياة الزواج والعمل.
ففضلا عن أنهما سيشجعان على التقدم إلى البطل بالزواج وملحقاته ،… فانهما سيتركان أثرا على نوع العمل الذي سيواجه موسى ـ عليه السلام ـ وهو يقبل على حياته الجديدة.
ويمكننا ملاحظة ذلك كله ، في هذا الاقتراح الجديد من قبل شعيب ، وفي ملحقات هذا الاقتراح.
والآن : ها هو الاقتراح الذي قدمه شعيب لموسى عليه السلام؟
(قال [أي شعيب] :
{إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } [القصص : 27 ، 28]
وهكذا ، تطل مرحلة جديدة على حياة موسى ـ عليه السلام ـ : حياة الزواج من حيث لا يحتسب : [ينبغي ألا تغيب عن بالنا سلسلة العطاءات التي أجرتها السماء على موسى ـ عليه السلام ـ في زحام الوقائع التي واكبت حياته منذ الميلاد]… ثم ، تتويجها بهذا العطاء الجديد ، وصلة ذلك بأحد الأعصبة الفنية التي تمد هيكل القصة : عصب العطاء المتدفق.
المهم ، ان هذه الحياة الجديدة التي اقترنت بالزواج أولا ، ثم بإيجاد عمل [وهذا معطى آخر يضاف إلى السلسلة المتقدمة]…
هذه الحياة التي بدأها موسى عليه السلام ،… قد ربطها النص من جديد بأحد الأعصبة الفنية التي تمد هيكل القصة : وهو عصب (الأخلاقية) عند موسى ـ عليه السلام ـ : تلك الأخلاقية التي فصلنا الحديث عنها ، ومنها : الامانة ، والمساعدة ، والعمل لله… أقول ، لا يزال النص يربط فنيا بين جزئيات القصة ، مشددا من جديد على عصبها الأخلاقي ، حيث تقدم لنا بمظهر أخلاقي جديد هو : نمط التعامل عند موسى ـ عليه السلام ـ وعند شعيب أيضا.
ولا يغب عن بالنا ، أن النص في موقع متقدم من القصة ، وازن بين موسى ـ عليه السلام ـ وابنة شعيب ، وخضوعهما لأخلاقية عالية في السلوك.
هنا يوازن النص بين موسى ـ عليه السلام ـ وبين شعيب في هذه الجزئية من القصة [والتوازن الهندسي في هذا الصدد واضح ، لا يحتاج إلى تعقيب من حيث جمالية الهيكل القصصي].
وتتمثل أخلاقية شعيب في أن مطالبته بإتمام العشر ، علقها على محض الرغبة من قبل موسى عليه السلام. كما تتمثل في تأكيده القول التالي : { وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ} [القصص : 27]
وأما أخلاقية موسى عليه السلام ، فتتمثل في أسلوب له معطياته النفسية الكبيرة في التعامل مع الآخرين ، وانعكاساتها على طبيعة الاستجابة التي ستتحدد عند الآخرين ، وهم يواجهون هذا التعامل.
فموسى ـ عليه السلام ـ قال لشعيب في بادئ الأمر : { أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ } [القصص : 28] ، وهذا يعني انه لم يحدد لشعيب فيما إذا يقضي ثماني سنين أو عشرا : [ومبدأ الالتزام بالصدق : يجسد ذروة أخلاقية ـ كما هو واضح ـ].
والذي حدث بعد ذلك ، ان موسى ـ عليه السلام ـ قضى أبعد الأجلين : وهو عشر سنين. والقيمة النفسية لهذا السلوك تتمثل في انه أبهم الأجلين ، وقضى أبعدهما ، أي : انه قدم أكبر العطاءين حجما.
وواضح ، انك عندما تعد أحدا بعطاء. ثم تقدم له أقصى ما يحتسب وليس أدناه ، فانك بمثل هذا السلوك ، تضخم من الاستجابة المفرحة للشخص ، بعكس ما لو قدمت أقل العطاءين.
والمهم ، ان هذه الأخلاقية تظل امتدادا للعصب الأخلاقي في القصة ، يلقي بعضه الإنارة على البعض الآخر.
وهكذا ، سائر الأعصبة الفنية في القصة : حيث لحظنا قيمة الحوار لابنة شعيب وانعكاسه على أزمنة الحدث : ماضيا وحاضرا ومستقبلا. ولحظنا مفردات السلوك عند موسى عليه السلام ، وصلتها جميعا بماضي حياته وحاضرها ومستقبلها : عصب الخوف مثلا ، وانتهائه إلى الاطمئنان. عصب المساعدة : الانتصار للرجل ، والمساعدة للفتاتين… عصب المهاجرة : من فرعون ، إلى منوف ، إلى مدين…
وهكذا ، سائر الجزئيات التي تلاحمت في القصة وتنامت : بشكل هندسي جميل : بدأت منذ لحظة الميلاد ، وانتهت عند الحياة الزوجية ، حياة العمل.
|
|
مخاطر خفية لمكون شائع في مشروبات الطاقة والمكملات الغذائية
|
|
|
|
|
"آبل" تشغّل نظامها الجديد للذكاء الاصطناعي على أجهزتها
|
|
|
|
|
تستخدم لأول مرة... مستشفى الإمام زين العابدين (ع) التابع للعتبة الحسينية يعتمد تقنيات حديثة في تثبيت الكسور المعقدة
|
|
|