أقرأ أيضاً
التاريخ: 18-4-2020
1200
التاريخ: 30-4-2021
3617
التاريخ: 30-9-2020
2446
التاريخ: 20-9-2018
2533
|
مسألة الوصية
الخلافة ـ بنظر فريق من المسلمين ـ مركز ديني ودنيوي في آن واحد . فهي دينية من حيث كونها تستند الى تعاليم الاسلام في تصريف شئون الناس فيما يتعلق بصلاتهم في جميع مظاهرها من جهة ومن حيث كون صاحبها معصوما من الخطأ كعصمة الأنبياء عالما بجميع أمور الدين ومن جهة اخرى، وهي دنيوية فيما يتصل بكون الخليفة شخصا لا ينزل عليه الوحي؛ وانما هو مكلف، بنص من النبي ووحي من الله بالمحافظة على تعاليم الدين وتطبيقها على سنن الحياة والنهوض بالرسالة النبوية وبثها بين البشر كافة .
فالخلافة على هذا الاساس ظاهرة تأتي بعد مرتبة النبوة مباشرة في القدسية والاهمية؛ فلا غرابة والحالة هذه، على ما يقول حملة هذا الرأي، ان امر الله نبيه محمدا بالنص على ولاية خليفته من بعده : وهذا الخليفة هو الامام علي بن ابي طالب غير ان قسما من المسلمين ـ حسب وجهة النظر هذه ـ قد سلب الامام عليا حقه في الخلافة حينما نقلها منه الى غيره من الصحابة ، ولكن الامام عليا ـ مع هذا بنظر هؤلاء ـ هو الخليفة الحقيقي للمسلمين بعد الرسول ، وان لم يمارس منصبه هذا بحكم طبيعة الظروف التي عاش فيها .
والاساس الذي يستند اليه هذا الفريق من المسلمين في اعتباره الخلافة منصبا دينيا ؛ هو ان الرسول ، بعد ان فارق الحياة الدنيا تاركا تعاليمه الدينية . كان لابد له من تولية شخص يأتي من بعده في الكفاءة والخلق ليقوم بتصريف امور الناس ـ وذلك لان الغاية من نزول الدين ليست محصورة على تطبيقه في عهد الرسول وبين قريش او العرب وحدهم ، ولابد لتطبيق تعاليمه بعد وفاته من شخص كما ذكرنا ، اقرب الناس اليه من حيث فهمه لاصول الدين واتصافه بمتانة الاخلاق .
وليس من المعقول ان يترك امر المسلمين ، بعد وفاة الرسول ، الى الصدف والظروف في هذه المسألة الحيوية التي يتوقف عليها مصير الشريعة السمحاء من حيث التطبيق والانتشار . وان قصة اختيار المسلمين لخليفتهم بعد النبي ، امر على جانب كبير من الخطر والمجازفة .
فمن هم الذين يوكل اليهم اختيار الخليفة الجديد ؟ هل هم جميع المسلمين ؟ ام فئة خاصة منهم ؟ ما خصائص هذه الفئة ؟ هل هي مقصورة على ابي بكر وعمر وابي عبيدة في بادىء الامر ونفر من الانصار اجتمعوا في السقيفة كما سنرى ؟ اليس استبعاد علي وبني هاشم وسعد بن عبادة وابنه ، وسلمان الفارسي ، وابي ذر الغفاري ، والمقداد بن الاسود ، وعمار بن ياسر والزبير بن العوام وخالد بن سعيد ، وحذيفة بن اليمان وبريدة وغيرهم « وهم من خيرة اصحاب النبي » بجعل الخلافة ، وفي حالة اقتصارها على رأي فئة خاصة من الصحابة ، غير كاملة الشروط ؟
هل يمكن ان يتوصل المسلمون الى اختيار افضلهم للخلافة مع ما بينهم من احقاد وعنعنات قبلية جاهلية لم يستأصلها الاسلام كما سنرى ؟
هل كان الرسول راغبا في اثارة تلك العصبيات ؟
كيف يجري اختيار الخليفة : بالتصويت الشفوي ؟ ام بالكتابة ؟
كم من المسلمين يستطيعون ان يقرأوا ويكتبوا آنذاك ؟
اين يجري الانتخاب ؟ افي الحواضر والبوادي ؟ وكيف يمهد لذلك الانتخاب ؟ وكم يستغرق من الوقت ؟ وكيف تصرف شئون المسلمين اثناء فترة الانتخاب
تلك اسئلة محيرة ... ؟
لقد مر بنا ذكر رأي فريق من المسلمين في قضية خلافة الرسول . وقد لخص احد الباحثين موضوع الخلافة والوصية من وجهة النظر هذه بقوله (1) :
«اجمع رسول الله الخروج الى الحج في سنة عشر من مهاجره، وآذن في الناس بذلك . فقدم المدينة خلق كثير يأتمون به في حجته تلك التي يقال عليها : حجة الوداع ... ولم يحج غيرها منذ هاجر الى ان توفاه الله ...
ولما قضى مناسكه وانصرف راجعا الى المدينة .. ووصل غدير خم من الجحفة التي تتشعب فيها طرق المدنيين والمصريين والعراقيين ، نزل عليه جبرائيل عن الله يقول : « يا ايها الرسول بلغ ما انزل اليك من ربك (2) » .. وامره ان يقيم عليا علما للناس ..
ثم قام الرسول خطيبا .. واخذ بيد علي فرفعها .. فقال : ان الله مولاي وانا مولى المؤمنين .. والولاية لعلي ، من كنت مولاه فعلي مولاه (3) .. ثم نزلت الآية : « اليوم اكملت لكم دينكم » (4) .
فقال رسول الله: [الحمد لله] (5) على اكمال الدين واتمام النعمة ... والولاية لعلي من بعدي».
ومن الطريف ان نذكر هنا ان المقريزي (6) قد اشار الى احتفال قسم من المسلمين القدامى بذكرى عيد الغدير حين قال :
« اعلم ان عيد الغدير لم يكن عيدا مشروعا ، ولا عمله احد من سالف الامة المقتدى بهم ، واول ماعرف في الاسلام بالعراق ايام معز الدولة علي بن بابويه ، كان احدثه في سنه اثنتين وخمسين وثلثمائة ، فاتخذه الشيعة من حينئذ عيدا ، واصلهم فيه ماخرجه الامام احمد في مسنده الكبير من حديث البراء بن عازب قال :
كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سفرتنا فنزلنا بغدير خم ونودي :
الصلاة جامعة ، وكسح لرسول الله تحت شجرتين فصلى الظهر ، واخذ بيد علي بن ابي طالب فقال : الستم تعلمون اني اولى بالمؤمنين من انفسهم ؟ قالوا : بلى .. قال :
من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه . قال :
فلقيه عمر بن الخطاب فقال : هنيئا لك يا ابن ابي طالب اصبحت مولى (7) كل مؤمن ومؤمنة . ( وغدير خم ) على ثلاثة اميال من الجحفة يسرة الطريق وتصب فيه عين وحوله شجر كثير .
ومن سننهم في هذا العيد وهو ابدا اليوم الثامن عشر من ذي الحجة ان يحيوا ليله بالصلاة ويصلوا في صبيحته ركعتين قبل الزوال، ويلبسوا فيه الجديد ويعتقوا الرقاب ، ويكثروا من عمل البر ومن الذبائح .
ولما عمل الشيعة هذا العيد بالعراق ارادت عوام السنة مضاهدة فعلهم ونكايتهم فاتخذوا في سنة تسع وثمانين وثلثمائة بعد عيد الغدير بثمانية ايام عيدا اكثروا فيه من السرور واللهو وقالوا :
هذا يوم دخول رسول الله الغار هو وابو بكر .
وبالغوا في هذا اليوم في اظهار الزينة.. ولهم في ذلك اعمال مذكورة في اخبار بغداد !!» (8) .
والخلافة . بنظر فريق آخر من المسلمين: مركز دنيوي صرف من حيث وجوده ، وان كان مبنيا على الدين من حيث الاسس النظرية التي ينبغي ان يسير وفق مستلزماتها ، وعلى هذا الاساس فليس هناك نص صريح من جانب الرسول على توليته خليفة للمسلمين ، لانتفاء الضرورة الدينية الى ذلك .
ولهذا السبب نجد بعض المسلمين يجتمعون، بعد وفاة الرسول في سقيفة بني ساعدة (9) كما سنرى ، لاختيار الخليفة لتسلم هذا المنصب الرفيع . فاختير ابو بكر، ثم عمر، فعثمان، فعلي، فهؤلاء اذن هم الخلفاء الراشدون مرتبون حسب تسلسهم الزمني وحسب منزلتهم الدينية، على ما يقول حملة هذا الرأي ، والحجة التي يستند اليها هذا الفريق من المسلمين هي : ان التعاليم الدينية قد اصبحت كاملة وواضحة بعد وفاة الرسول ، ولم تكن هناك ضرورة سماوية لتعيين المشرف على تطبيقها على شئون الحياة . وقد وضع هذا الرأي ـ بشكله المعتدل ـ احد الكتاب المعاصرين (10) حين قال : « الخلافة الاسلامية ـ كنظام من نظم الحكم ـ هي في حقيقتها وليدة رأي ، وليست وليدة نص ديني ثابت لا يحتمل التأويل . ورسول الله ـ وهو يستقبل ربه ـ لم يوص لأحد بعده بالحكم وصية صريحة ، وان بدرت منه في اوقات شتى اشارات وتلميحات تاه اصحابه في تفسيرها عقب وفاته ـ بين الاحتمال والترجيح .
وثمة احاديث فيها من الصراحة ما قد يرسم لنا صورة المستخلف كحديث الغدير (11) وحديث خاصف النعل .
وهناك فريق ثالث من المسلمين وقف ـ في نظرية الخلافة ـ موقفا وسطا بين الفريقين المختلفين، فهو يتفق مع الفريق الثاني في اعتبار الخلافة منصبا دنيويا خالصا وينكر وجود النص الدال بصراحة على وصية النبي لعلي خليفة للمسلمين من بعده ، على الشكل الذي ذكره الفريق الاول من المسلمين ولكن ـ مع هذا ـ يعتبر عليا اولى بالخلافة من ابي بكر لانه افضل المسلمين على الاطلاق .
وقد لخص هذا الرأي احد الباحثين حين قال : (12) « اتفق شيوخنا كافة .. على ان بيعة ابي بكر صحيحة شرعية ، وانها لم تكن عن نص وانما كانت بالاختيار الذي ثبت بالاجماع وبغير الاجماع كونه طريقة الى الامامة ، واختلفوا في التفضيل .
فقال قدماء البصريين : كأبي عثمان وعمرو بن عبيد : ان ابا بكر افضل من علي .. وهؤلاء يجعلون ترتيب الاربعة في الفضل كترتيبهم في الخلافة .
وقال البغداديون قاطبة ـ قدماؤهم ومـتأخروهم :
ان عليا .. افضل من ابي بكر : والى هذا المذهب ذهب ـ من البصريين ـ ابو علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي ، والشيخ ابو عبد الله الحسين بن علي البصري .. وقاضي القضاة ابو الحسن عبد الجبار بن احمد .. وابو محمد الحسن بن متوية ..
وذهب كثير من الشيوخ الى الوقف فيهما ، وهو قول ابي حذيفة واصل ابن عطاء ، وابي الهذيل محمد بن الهذيل العلاف . وهما وان ذهبا الى التوقف بينه وبين ابي بكر وعمر .. قاطعان على تفضيله على عثمان .
واما نحن فنذهب الى ما يذهب اليه شيوخنا البغداديون من تفضيله عليهم »
وقد ذهب الباحث الآنف الذكر ، في موضع آخر (13) ، الى القول في موضوع الخلافة : ان الذي استقر عليه رأي المعتزلة بعد اختلاف كثير بين قدمائهم في التفضيل وغيره :
ان عليا افضل الجماعة ، وانهم تركوا الافضل لمصلحة رأوها ، وان لم يكن هناك نص يقطع الغموض وانما كانت اشارة وايماء لا يتضمن شيء منهما صريح النص ، وان عليا نازع ثم بايع . ولو اقام على الامتناع لم نقل بصحة البيعة ولا لزومها .
وبالجملة اصحابنا يقولون :
ان الامر كان له وكان هو المستحق والمتعين ، فان شاء اخذه لنفسه ، وان شاء ولاه غيره فلما رأينا قد وافق على ولاية غيره . اتبعناه ورضينا لما رضى » .
اي ان هذا الفريق من المسلمين يقول : بأفضلية علي على ابي بكر وبالتالي بأحقيته بالخلافة دون ان يعترف بالنص على وصية الرسول له ، وذلك تصبح خلافة ابي بكر سابقة لخلافة علي من الناحية الزمنية الواقعية او « دوفاكتو » كما يقول المشرعون المعاصرون » في حين ان خلافة الامام سابقة لها من الناحية الشرعية « دوجوري » .
كان موضوع الخلافة وما زال محور الخلاف ، واساس الفرقة بين طوائف المسلمين ، وقد تفرعت عنه خلافات اخرى كثيرة ، نظرية وعملية ، وما زالت قائمة بين المسلمين منذ وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم الى اليوم .
وتعصب كل فريق لرأيه ، واعتبر نظريته في الخلافة هي النظرية السلمية وما عداها فاختلاق وبهتان ، وليس امام الباحث من سبيل لتقريب وجهات النظر المختلفة ، ذلك ، لان التسليم بأحدها يستلزم اهمال النظريتين الاخريين ، واذا اغفل الباحث ، امر التحدث عن وصية النبي لعلي في الخلافة من بعده على الشكل الذي يقول فيه فريق من المسلمين ونظرا الى مسألة الخلافة من الناحية الزمنية الصرفة فليس لديه على ما نرى من الادلة القاطعة ما يدعوه الى التسليم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد اهمل امر التفكير فيمن يخلفه من بعده في تصريف شؤون المسلمين ، وهنا تتوارد الى الذهن جملة قضايا تاريخية مهمة ، وفي مقدمتها قضية « القرطاس والدواة » يقول ابن الاثير (13) :
« اشتد برسول الله مرضه ووجعه فقال : ائتوني بدواة وبيضاء (14) اكتب لكم كتابا لا تضلون بعدي ابدا ، فتنازعوا ـ ولا ينبغي عند نبي تنازع ـ فقالوا : ان رسول الله يهجر ، فجعلوا يعيدون عليه . فقال: دعوني فما انا فيه خير مما تدعونني اليه، فأوصى بثلاث: ان يخرج المشركون من جزيرة العرب وان يجازي الوفد بنحو مما كان يجيزهم، وسكت عن الثالثة عمدا وقال: نسيتها» ، وذكر البخاري (15) فقال : « حدثنا سفيان عن سليمان الاحول عن سعيد بن جبير قال : قال ابن عباس : اشتد برسول الله وجعه فقال : ائتوني اكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده ابدا ، فتنازعوا ـ ولا ينبغي عند نبي تنازع ـ فقالوا : ما شأنه اهجر ؟ استفهموه ، فذهبوا يرددون عليه ؟ فقال : دعوني فالذي انا فيه خير مما تدعونني اليه ، واوصاهم بثلاث قال : اخرجوا المشركين من جزيرة العرب ، واجيزوا الوفد بنحو ما كنت اجيزهم ، وسكت عن الثالثة ، او قال : فنسيتها .
وحدثنا علي بن عبد الله، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن الزهري عن عبيد الله ابن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس قال : لما حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي البيت رجال ، فقال النبي .. هلموا اكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده ، فقال بعضهم : ان رسول الله قد غلبه الوجع وعندكم القرآن ، وحسبنا كتاب الله ؟ فاختلف اهل البيت واختصموا . فلما اكثروا اللغو والاختلاف قال رسول الله : « قوموا » .
وذكر ابن سعد (16): «ان الرسول عندما حضرته الوفاة وكان معه في البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب، قال: هلموا اكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده، فقال عمر «ان رسول الله قد غلبه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله؟ فاختلف اهل البيت واختصموا، فلما كثر اللغط والاختلاف ... قال النبي: قوموا عني» . فما الذي حمل عمر يا ترى على ذلك؟ وهل تجيز آداب المجاملة او العرف او الدين ان يقول عمر : ان الوجع قد غلب النبي وعندنا كتاب الله فهو حسبنا ؟ وما قصده بذلك القول ؟ وهل يتفق موقف عمر مع قوله تعالى في وصف النبي بأنه : « لا ينطق عن الهوى ان هو الا وحي يوحى » (17) ؟ .
وممن يلفت النظر حقا في هذا الموضوع الخطير : ان اصحاب النبي ـ على مايذكر المؤرخون ـ قد سألوه قبيل وفاته عن كثير من الامور التي تبدو بنظرنا اقل وجاهة من موضوع الخلافة ؟ فقد سألوه على ما يحدثنا ابن خلدون (18) : « عن مغسله ؟ فقال: الادنون من اهلي، وسألوه عن الكفن ؟ فقال : في ثيابي ، او ثياب مصر ، او حلة يمانية ... وسألوه عمن يدخل القبر معه ؟ فقال: اهلي » . فهل من المعقول ان يغيب عن اذهانهم موضوع الاستفسار عن الخلافة؟ او ان يغفله النبي نفسه ؟ ويستطرد ابن خلدون بعد الذي ذكرنا فيقول : المصدر نفسه والصفحة نفسها ـ « ثم قال النبي : ائتوني بدواة وقرطاس ، اكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده ؟ فتنازعوا وقال بعضهم : اهجر ؟ ثم ذهبوا يعيدون عليه فقال : دعوني فما انا فيه خير مما تدعونني اليه » .
ترى ماذا اراد الرسول ان يكتب ؟ ولماذا امتنع القوم عن تلبية الطلب ؟ هل اراد ان يثبت النص الشفوي على الخلافة « حسب وجهة نظر بعض المسلمين بالكتابة زيادة في التأكيد ، ودفعا للالتباس ؟ ثم ايجوز ان يقال : بأن الرسول يهجر في واحدة من ثلاث قالها بالتتابع في آن واحد ؟ اي ان الرسول كان يهجر (19) بنظرهم في مسألة الدواة والقرطاس فقط على حين انه لم يكن كذلك بنظرهم في اخراج المشركين من جزيرة العرب ومجازاة الوفد بمثل ما كان يجيزهم فيه ؟ لقد نفذ أبو بكر الجزء الخاص من وصية الرسول هذه فيما يتصل بجيش اسامة . ومحاربة المشركين في جزيرة العرب ، في حين ان الرسول قال ذلك في الوقت الذي طلب فيه الدواة والقرطاس .
ومن الطريف ان نذكر هنا ان ابن عباس قد روى محاورة طريفة جرت بينه وبين عمر بن الخطاب في اوائل عهده بالخلافة ملخصها : ان عمر قال له : « يا عبد الله عليك دماء البدن ان كتمتها .. هل بقى في نفس علي شيء من امر الخلافة ؟ قلت : نعم ، قال : ايزعم ان رسول الله نص عليه ؟ قلت : نعم . فقال عمر : لقد كان في رسول الله من امره ذروه من قول ، لا يثبت حجة ولا يقطع عذرا ، ولقد كان يربع في امره وقتا ما ، ولقد اراد في مرضه ان يصرح باسمه فمنعت من ذلك اشفاقا وحيطة على الاسلام .. فعلم رسول الله اني علمت ما في نفسه فأمسك (20) » . واذا صحت هذه الرواية فان عمر يبدو كأنه احرص على الاسلام من نبيه وهو امر كان المفروض في عمر ان لا يهبط اليه .
واذا اغفلنا ؛ لغرض سهولة البحث بقدر ما يتعلق الامر بموضوع الخلافة من الناحية الدنيوية ، امر الاستشهاد بالنصوص التاريخية التي ينفرد بذكرها الفريق الاول من المسلمين وركزنا اهتمامنا في النصوص التي يذكرها الفريق الثاني من المسلمين اصبح بمقدورنا ان نجعل دراستنا لهذا الموضوع تسير في هذا المرحلة من مراحلها بالاتجاه التالي :
ترى ما الذي حال بين علي والخلافة بمعناها الزمني بعد وفاة الرسول ؟ وقبل ان نتصدى للإجابة على هذا السؤال يجمل بنا ان ننبه القارىء الى ان ليس لدينا من الادلة المقنعة ما يحول بيننا وبين الاعتقاد باندثار كثير من النصوص التاريخية المهمة المتعلقة بالنقطة موضوع البحث بطريقة عرضية ، او مقصودة ، او بتحريف بعض آخر ، او وضع نصوص تاريخية معاكسة وبخاصة في صدر الدولة الاموية .
ولكننا مع هذا تمشيا مع وحدة البحث وعدم تشتيت موضوعه قد اعتمدنا قدر المستطاع على النصوص التاريخية التي تذكرها امهات كتب التاريخ والسير .
اما حوادث الاعتداء على الطالبيين باللسان والسيف والقلم منذ وفاة الرسول فتكاد لا تقع تحت حصر فقد اتخذ الوصوليون من رجال الدين والقضاة ، والامراء من انتقاص الطالبيين واتباعهم وسيلة يتقربون بها من الفئة الحاكمة في العهدين الاموي ، والعباسي !! وقد شجعتهم الفئة الحاكمة بدورها على ذلك وفي معرض التحدث عن هذا الجانب من جوانب الموضوع يقول احد المؤرخين (21) :
« روى ابو الحسن علي بن محمد بن ابي سيف المدائني في كتاب الاحداث قال :
كتب معاوية الى عماله بعد عام الجماعة ان برئت الذمة ممن روى شيئا من فضل ابي تراب واهل بيته ، فقامت الخطباء في كل كورة وعلى كل منبر يلعنون عليا ويبرءون منه ويقعون فيه وفي اهل بيته .
وكتب معاوية الى عماله في جميع الآفاق : الا يجيزوا لاحد من شيعة علي واهل بيته شهادة . وكتب اليهم : ان انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبيه ، واهل ولايته والذين يرون مناقبه وفضائله فادنوا مجالسهم وقربوهم واكرموهم واكتبوا لي بكل ما يروي كل رجل واسمه ، واسم ابيه وعشيرته ؟ ففعلوا ذلك حتى اكثروا فضائل عثمان ومناقبه ، لما كان يبعثه اليهم من الصلات .. ثم كتب الى عماله : ان الحديث عن عثمان قد كثر .. فاذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس الى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الاولين ، ولا تتركوا خبرا يرويه احد من المسلمين في ابي تراب الا واتوا بمناقض له في الصحابة .. فقرأت كتبه على الناس فرويت اخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها.. ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة» .
لقد مر بنا الاستفسار عن العوامل التي حالت بين علي وبين ارتقائه منبر النبي بعد وفاته مباشرة ، وللاجابة على ذلك ينبغي لنا ان نستعرض صفات الامام منذ نشأته الى وفاة الرسول ومواقفه من الرسول ، ومن الاسلام ، وموقف الرسول منه في حالتي السلم والحرب ، عسانا نعثر على مفتاح قفل الخلافة .
اننا نحاول بعبارة اخرى ان نجيب عن السؤالين التاليين:
هل كان الامام كفؤا للخلافة بعد الرسول ؟ واذا كان كذلك فما الذي حال بينه وبينها ؟ .
والبحث في الشق الاول من هذا الموضوع ـ اهلية الامام للخلافة بعد وفاة الرسول مباشرة ـ يستلزم التطرق الى ظروف ملازمته للدعوة الاسلامية منذ نشوئها . ولابد في هذه المناسبة من الالمام الى موقف ابويه من النبي ومن رسالته قبل ذكر مواقفه هو من الرسول ومن الاسلام في حالتي السلم والحرب . وبما ان مواقف ابي طالب وزوجه فاطمة بنت اسد من النبي معروفة لدى من لهم ادنى المام بتاريخ الرسول فاننا سنكتفي بذكر نماذج من ذلك على سبيل التمثيل لا الحصر : ذكر ابن هشام (22) بصدد التحدث عن صد ابي طالب كفار قريش في صدر الدعوة الاسلامية عن البطش بالرسول « لما رأت قريش ان رسول الله لا يعتبهم من شيء انكروا عليه من فراقهم وعيب آلهتهم ورأوا ان عمه ابا طالب قد حدب عليه وقام دونه فلم يسلمه لهم مشى رجال من اشراف قريش الى ابي طالب : عتبة ، وشيبة ابنا ربيعة ابن عبد شمس ، وابو سفيان بن حرب بن امية . فقالوا : يا ابي طالب ، ان ابن اخيك قد سب آلهتنا وعاب ديننا . فاما ان تكفه عنا واما ان تخلي بيننا وبينه . فنكفيكه ؟ فقال لهم ابو طالب قولا رقيقا ، وردهم ردا جميلا . ثم انهم مشوا له ثانية فردهم . ثم ان قريشا حين عرفوا ان ابا طالب قد ابى خذلان رسول الله . مشوا اليه بعمارة بن الوليد بن مغيرة فقالوا : يا ابا طالب هذا عمارة بن الوليد : انهد فتى في قريش واجمله .... فخذه واسلم الينا ابن اخيك فقال لبئس ما تسومونني اتعطونني ابنكم اغذوه واعطيكم ابني تقتلونه ! » وقال ابن سعد (23) : « لما توفي عبد المطلب قبض ابو طالب رسول الله . وكان يحبه حبا شديدا لا يحب ولده . وكان لا ينام الا الى جنبه ويخرج فيخرج معه. وصب به ابو طالب صبابة لم يصب مثلها بشيء قط» ويذكر ابن الاثير (24) في حديث عن موقف ابي طالب في حماية الرسول ضد قريش: ان قريشا عندما رأت الاسلام يفشو ويزيد ... وعاد اليهم عمرو ابن العاص ... من النجاشي بما يكرهون من منع المسلمين عنهم وامنهم عنده، ائتمروا في ان يكتبوا بينهم كتابا يتعاقدون على ان لا ينكحوا بني هاشم وبني المطلب ولا يتباعوا منهم شيئا . فكتبوا بذلك صحيفة ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيدا لذلك الامر على انفسهم ... فأقاموا على ذلك سنتين او ثلاثا . فاعتزل الناس بني هاشم وبني المطلب . واقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وابو طالب ومن معهما بالشعب ثلاث سنين » فأكلت الارضة الصحيفة واخبر النبي عمه بذلك ، « وكان ابو طالب لا يشك في قوله فخرج من الشعب الى الحرم فاجتمع الملأ من قريش » فأخبرهم ابو طالب ان الارضة اكلت صحيفتهم ... وانشد :
وقد كان في امر الصحيفة عبرة *** متى ما يخبر غـائب القوم يعجب
محا الله منـهم كفرهم وعقوقهم *** وما نقموا مـن ناطق الحق معرب
فأصبح ما قالوا من الامر باطلا *** ومن يختلق مـا ليس بالحق يكذب
فلا عجب ان اشتد كفار قريش عليه بعد وفاة عمه ابي طالب حتى قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « ما نالت قريش شيئا مني اكرهه حتى مات ابو طالب » (25) .
والخلاصة كما يقول ابن خلدون (26) : « ان عبد المطلب جد النبي توفي بعد ولادته بثمان سنين وعهد به الى ابنه ابي طالب فأحسن ولايته وكفالته . وكان شأنه في رضاعه وشبابه ومرباه عجبا . وتولى حفظه وكلاءته من مفارقة احوال الجاهلية وعصمته * من التلبس بشيء منها » . ثم توفى « ابو طالب وخديجة ، وذلك قبل الهجرة بثلاث سنين فعظمت المصيبة واقدم عليه سفهاء قريش بالاذاية والاستهزاء ، والقاء القاذورة في مصلاه » (27) .
ذلك ما يتعلق بأبي طالب وموقفه من الرسول ومن دعوته .
اما موقف السيدة فاطمة ام علي فيتضح بما صنعه الرسول عند وفاتها حزنا عليها لما ابدته من عطف عليه وعلى رسالته . فقد تقدم رسول الله عند موت فاطمة بنت اسد زوج ابي طالب وام علي واسبق نساء العالمين الى الاسلام بعد خديجة فألبسها فوق كفنها قميصه ، ثم نزل الى القبر فسواه بيده الكريمة فاضطجع الى جوارها فيه » (28) .
ذلك ما يتعلق بالبيت المشبع بالعطف على النبي والايمان برسالته حيث نشأ ابن ابي طالب وترعرع متنقلا بينه وبين بيت الرسول نفسه وفي كنف السيدة خديجة ام المؤمنين .
اما اذا نظر الباحث الى مواقف الامام نفسه في حماية الدعوة الاسلامية وصاحبها من مؤامرات كفار قريش ، تلك المواقف التي دلت على كفاءته لتسلم خلافة الرسول بعد وفاته من جهة ، والتي اهلته بدورها لتسنم ذلك المنصب الرفيع من جهة اخرى . فانه يجد تلك المواقف المشرفة كثيرة العدد «تتزاحم بالمناكب وتتدافع بالراح» بحيث يصبح امر الموازنة بينها «لاختيار بعضها للاستشهاد به» من أصعب الامور. وقبل ان نتطرق الى ذكر اهمها يجمل بنا ان نشير الى الظروف الخاصة التي ربطت بين علي والاسلام من جهة، وبينه وبين النبي من جهة اخرى، وبقدر ما يتعلق الامر بصلة الاسلام بعلي ، او صلة علي بالاسلام يمكننا ان نقول مع العقاد : « لقد ملأ الدين الجديد قلبا لم ينازعه فيه منازع من عقيدة سابقة ، ولم يخالطه شوب بكدر صفاءه ويرجع به الى عقابيله ، فبحق ما يقال : ان عليا كان المسلم الخالص على سجيته المثلى ، وان الدين الجديد لم يعرف قط اصدق اسلاما منه ولا اعمق نفاذا فيه » (29) .
فقد بعث النبي على ما يقول الدكتور طه حسين : وعلي عنده صبي فأسلم .. وظل بعد اسلامه في حجر النبي يعيش بينه وبين خديجة ام المؤمنين وهو لم يعبد الاوثان قط .. فامتاز بين السابقين الأولين بأنه نشأ نشأة إسلامية خالصة . وامتاز كذلك بأنه نشأ في منزله الوحي بأدق معاني هذه الكلمة » (30) .
اما الآثار العميقة التي تركتها هذه البيئة الاسلامية الصافية في الامام ـ في عقله ، وقلبه ، ولسانه ، ويده ـ فتعتبر من اوليات الامور المسلم بها عند الباحثين الحديثين في علم النفس ، وعلم الاجتماع . واما اروع مواقفه في نصرة الاسلام ونبيه وصدى ذلك عند الرسول وموقف الرسول منه فيتجلى فيما يلي : ـ
1 ـ في مبيته في فراش النبي يوم ازمع كفار قريش على قتله ، الامر الذي اضطره الى الهجرة من مكة الى المدينة . وفي معرض التحدث عن ذلك يقول ابن هشام : ان رسول الله امر عليا قبل هجرته ان ينام على فراشه ويتسجى ببردة الحضرمي الاخضر بعد ان اخبره بخروجه من مكة تفاديا لبطش كفار قريش ، اي ان قريشا بعبارة اخرى لما علمت « ان رسول الله قد صار له شيعة وانصار من غيرهم .. وانه مجمع على اللحاق بهم.. تشاوروا ما يصنعوه في امره، واجتمعت لذلك مشيختهم في دار الندوة عتبة، وشيبة وابو سفيان من بني امية.. فتشاوروا في حبسه او اخراجه عنهم، ثم اتفقوا على ان يتخيروا من كل قبيلة منهم فتى شابا جلدا فيقتلونه جميعا فيتفرق دمه في القبائل ولا يقدر بنو عبد مناف على حرب جميعهم. واستعدوا لذلك من ليلتهم ... فلما رأى ارصادهم على باب منزله امر علي بن ابي طالب ان ينام على فراشه ويتوشح ببرده » (31) .
وقد امر النبي عليا «ان يتخلف بعده بمكة حتى يؤدي عنه الودائع التي كانت عنده للناس ... فأقام علي بمكة ثلاث ليال وايامها حتى ادى عن رسول الله الودائع ... حتى اذا فرغ منها لحق برسول الله» (32). فقطع الامام المسافة بين مكة والمدينة وحده ماشيا حتى ورمت قدماه (33).
2 ـ مؤاخاة الرسول له حين آخى بين اصحابه من المهاجرين والانصار حيث اخذ بيد علي بن ابي طالب وقال : هذا اخي » (34) .
3 ـ في دفاعه عن الاسلام ونبيه ـ اثناء حروبه ضد الكفار ـ وبخاصة في موقعة احد حيث تعرض الرسول ورسالته لأعظم محنة عسكرية ... وقد ناول علي سيفه لفاطمة عند رجوعه من احد قائلا :
« فوالله لقد صدقني اليوم .. كما صدق سهل بن حنيف سيفه كذلك على ما ذكر الرسول ، ثم انشد يقول :
افاطم هاك السيف غــير ذميم *** فلست برعديد ولا بـمليم
لعمري لقد قاتلت في حب احمد *** وطاعة رب بالعباد رحيم
وسيفي بكفي كالشهاب اهزه *** اجد به من عائق وحميم (35)
4 ـ في ارساله من قبل النبي الى مكة عندما نزلت سورة براءة .. « حدثني محمد ابن الحسين قال :
حدثنا احمد بن المفضل قال : حدثنا اسباط عن السدي قال :
« لما نزلت هذه الايات الى رأس الاربعين يعني : من سورة براءة فبعث بهن رسول الله مع ابي بكر وامره على الحج ، فلما صار فبلغ الشجرة من ذي الحليفة اتبعه بعلي فأخذها منه . فرجع ابو بكر الى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا رسول الله بأبي انت وامي انزل في شأني شيء ؟؟ قال : لا ، ولكن لا يبلغ عني غيري او رجل مني ... » (36) .
5 ـ في خروجه الى اليمن مبعوثا من قبل النبي « وكان ارسل قبله خالد ابن الوليد اليهم يدعوهم الى الاسلام فلم يجيبوه . فأرسل النبي عليا وامره ان يعقل خالدا ومن سار من اصحابه ففعل . وقرأ علي كتابا من رسول الله على اهل اليمن ، فأسلمت همدان كلها في يوم واحد ... » (37).
6 ـ في موقف النبي منه في غزوة تبوك حيث خلفه على اهله في المدينة عندما تخلف فيها عبد الله بن ابي المنافق فيمن تبعه من اهل النفاق » (38) . وقد قال الامام ابو الحسن مسلم بن الحجاج في صحيحه (39) :
« حدثنا يحيى بن يحيى التميمي وابو جعفر محمد بن الصباح وعبد الله القواريري وسريح بن يونس .. عن سعيد بن المسيب عن عامر بن سعد بن ابي وقاص عن ابيه قال :
قال رسول الله لعلي : انت مني بمنزلة هارون من موسى غير انه لا نبي بعدي .
وحدثنا ابو بكر بن شيبة عن سعد بن ابي وقاص قال :
خلف رسول الله عليا في غزوة تبوك . فقال : يا رسول الله تخلفني في النساء والصبيان ؟ قال : اما ترضى ان تكون مني بمنزلة هارون من موسى ؟ غير انه لا نبي بعدي ؟ » .
7 ـ في موقف النبي منه في غزوة خيبر . قال الامام مسلم في صحيحه :
« حدثنا قتيبة بن سعيد ... عن ابي هريرة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر : لاعطين هذه الراية رجلا يحب الله ورسوله ... قال عمر بن الخطاب :
ما احببت الامارة الا يومئذ . قال : فتساورت لها رجاء ان ادعى لها . قال : فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن ابي طالب فأعطاه اياها » (40) .
وهناك امور اخرى تتصل بأهلية الامام لتولي منصب الخلافة بعد وفاة الرسول مباشرة لا بد من ذكرها في هذه المناسبة :
أ ـ تفهمه جوهر الدين الاسلامي والمامه به من جميع اطرافه وايمانه به ايمانا صافيا، بيده، وقلبه ، ولسانه ، فقد كان علي محظوظا من دون الصحابة بخلوات كان يخلوها مع رسول الله « ص » لا يطلع احد من الناس على ما يدور بينهما ، وكان كثير السؤال للنبي عن معاني القرآن ... واذا لم يسأل ابتدأه النبي بالتعليم والتثقيف ، ولم يكن احد من اصحاب النبي كذلك ، بل كانوا اقساما ، فمنهم من يهابه ان يسأله ، وهم الذين يحبون ان يجيء الاعرابي او الطارىء فيسأله وهم يستمعون .
ومنهم من كان بليداً بعيد الفهم قليل الهمة في النظر والبحث .
ومنهم من كان مشغولا عن طلب العلم ، وفهم المعاني اما بعبادة او دنيا .
ومنهم المبغض الشانيء الذي ليس للدين عنده من الموقع ما يضيع وقته بالسؤال عن دقائقه وغوامضه » (41) .
ب ـ اشراك الرسول اياه في تنفيذ اوامره المهمة التي تتصل بجوهرة العقيدة الاسلامية واعتماده عليه في المواقف الحاسمة من تاريخ التبشير بالدعوة الاسلامية ، فكأن الرسول اراد بذلك تدريبه وتهئيته لتولي شئون المسلمين من بعده .
يقابل ذلك من الناحية الثانية ان الرسول لم يعهد لكبار الصحابة وفي مقدمتهم ـ ابو بكر وعمر ـ بأمثال تلك الامور الخطيرة .
ومما يؤيد وجاهة ما ذهبنا اليه ان ابا بكر قد قام اثناء خلافته بعمل مشابه لما ذكرنا فيما يتصل بعمر بن الخطاب الذي ولي الخلافة من بعده فقد هيأه الى تسنم كرسي الخلافة من بعده عن الطريق ايداعه له كثيرا من الامور المهمة المتصلة بسياسة الدولة العليا .
ج ـ وهناك امر ثالث يتصل بترشيح الرسول عليا للخلافة من بعده ، ويتعلق هذا الامر بقضية جيش اسامة . وتفصيل ذلك على ما يقول ابن سعد (42) :
« ولما كان يوم الاثنين لاربع ليال بقين من صفر سنة احدى عشرة من مهاجر رسول الله : امر رسول الله بالتهيؤ لغزو الروم ، فلما كان من الغد دعا اسامة ابن زيد فقال :
« سر الى موضع مقتل ابيك فأوطئهم الخيل ، فقد وليتك هذا الجيش ، فأغر صباحا على اهل ابني (43) وحرق عليهم واسرع السير وتسبق الاخبار ، وان ظفرك الله فأقلل اللبث فيهم وخذ معك الادلاء وقدم العيون والطلائع امامك » .
فلما كان يوم الاربعاء بدىء برسول الله فحم وصدع . فلما اصبح يوم الخميس عقد لاسامة لواءاً بيده ، ثم قال :
« اغز باسم الله ، فقاتل من كفر بالله » .
فخرج بلوائه معقودا فدفعه الى بريدة بن الحصيب الاسلمي وعسكر بالجرف (44) مع وجوه المهاجرين والانصار ، فيهم ابو بكر وعمر وابو عبيدة ... فتكلم قوم وقالوا : ايستعمل هذا الغلام على المهاجرين الاولين ؟ فغضب الرسول غضبا شديدا ، فخرج وقد عصب على رأسه عصابة ... فصعد المنبر ... وقال :
اما بعد ايها الناس فما مقالة قد بلغتني عن بعضكم في تأميري اسامة ، ولئن طعنتم في امارة اسامة لقد طعنتم في امارة أبيه من قبله . وايم الله ان كان للامارة لخليقا ، وان ابنه من بعده لخليق للامارة ان كان لمن احب الناس الي وانهما لمحلان لكل خير ، فاستوصوا به خيرا فانه من خياركم » .
ثم نزل فدخل بيته وذلك يوم السبت لعشر خلون من ربيع الاول ... وثقل رسول الله وجعل يقول :
« انفذوا بعث اسامة » .
فلما كان يوم الاحد اشتد برسول الله وجعه فدخل اسامة معسكره والنبي مغمور مغمى عليه .. فطأطأ اسامة فقبله ورسول الله لايتكلم فجعل يرفع يديه الى السماء ثم يضعها على اسامة ، قال :
فعرفت انه يدعو لي ، ورجع اسامة الى معسكره فأمر الناس بالرحيل ، فبينما هو يريد الركوب ... توفى رسول الله ... » أي ان رسول الله قد بعث قبيل وفاته ببضعة ايام بعثا الى الشام واميرهم اسامة بن زيد مولاه ... واوعب مع أسامة المهاجرون الاولون منهم ابو بكر وعمر ، فبينما الناس على ذلك ابتدأ رسول الله مرضه ... فتأخر مسير اسامة ... فخرج النبي عاصبا رأسه من الصداع ... وامر بانفاذ جيش اسامة ...
وخرج اسامة فضرب بالجرف : العسكر وتمهل الناس وثقل رسول الله ... ولم تشغله شدة مرضه عن انفاذ امر الله » (45) اي ان الرسول عند رجوعه من حجة الوداع على ما يقول ابن خلدون (46) :
« ضرب على الناس ... بعثا الى الشام وامر عليهم مولاه اسامة بن زيد بن حارثة . امره ان يوطيء الخيل تخوم البلقاء والداروم الى الاردن من ارض فلسطين ومشارف الشام فتجهز الناس واوعب معه المهاجرون الاولون ـ فبينما الناس على ذلك ابتدأ رسول الله بشكواه التي قبضه الله فيها ...
وخرج رسول الله عاصبا رأسه من الصداع وقال :
لقد بلغني ان اقواما تكلموا في امارة اسامة ، ان يطعنوا في امارته لقد طعنوا في امارة ابيه من قبله ، وان كان ابوه لحقيقا بالامارة وانه لحقيق بها . انفروا » .
غير ان جيش اسامة لم يصدع بامر النبي على الرغم من الحاح الرسول على تنفيذ امره .
وقد ذكر اسامة نفسه انه : « لما ثقل رسول الله هبطت انا ومن معي الى المدينة فدخلنا عليه وقد اصمت (47) فلا يتكلم ، فجعل يرفع يده الى السماء ثم يضعها عليّ فعلمت انه يدعو لي » (48) .
والغريب في الامر هو : الحاح الرسول على ضرورة مسير جيش اسامة الى الوجهة التي وجهها اياه على الرغم من مرضه ، واعجب من ذلك هو تلكؤ القوم وتملصهم عن تنفيذ امر النبي ، فكأن هناك امرا خفيا يتنازع عليه الطرفان .
ترى لماذا الح الرسول على إنفاذ الجيش في تلك اللحظة الحاسمة من حياته؟
لماذا وضع في الجيش كبار الصحابة وفي مقدمتهم ابو بكر وعمر واستثنى علي بن ابي طالب؟
ولماذا جعل اسامة قائدا للجيش رغم احتجاج كبار الصحابة ؟
لماذا احجم القوم عن تنفيذ اوامره ؟
هل رغب الرسول في اخلاء الجو لعلي ؟ وشعر القوم بذلك فأحجموا ؟
تلك اسئلة محيرة دون شك .
ثم هل هناك من صلة بين مسألة جيش اسامة وبين رواية الدواة والقرطاس ؟
ومما يجعل هذا الامر المعقد اكثر تعقيدا ، هو : ان الرسول قد فقد قدرته على النطق قبيل وفاته (49) واثناء الانشغال بجيش اسامة ، ولكن اشارته باليد الى اسامة ابلغ وسيلة للتعبير عن رغبته في انفاذ ذلك الجيش الذي لو نفذ لتغير مجرى التاريخ الاسلامي تغيرا كبيرا .
____________
(1) عبد الحسين احمد الاميني النجفي « الغدير في الكتاب والسنة والادب » الطبعة الاولى مطبعة الغري في النجف ؛ 1945 م ، ص 8 ـ 11 .
(2) المائدة : الاية 67 .
(3) انظر « عبقات الانوار » مجلد حديث الولاية .
(4) المائدة : الاية 3 .
(5) ما بين المعقوفين سقط من الاصل . ( الناشر )
(6) الخطط 1/ 288 ـ 389 .
(7) وفي نسخة : مولاي ومولى .. الخ . ( الناشر ) .
(8) يراجع : سيرة ابن هشام ، والسيرة الحلبية ، والبخاري ، وعيد الهجرة : في ربيع الاول .
(9) السقيفة اسم لايوان كبير كانت تجتمع فيه العرب في الجاهلية للمشورة والمداولة بالامور الباطلة ، ومجازا يطلق على الكلام التافه ، انظر غياث اللغات طبعة الهند ، مادة « سقف » ( الناشر )
(10) عبد الفتاح عبد المقصود ـ الامام علي بن ابي طالب ـ لجنة النشر للجامعين بالقاهرة 1953 م ، ج 5 ص 104 .
(11) راجع الغدير للشيخ الاميني صدر منه 11 جزءاً طبع في العراق وايران ولبنان .
(12) ابن ابي الحديد ، شرح نهج البلاغة ـ 1 / 3 الطبعة الاولى .
(13) شرح النهج 2 / 572 الطبعة الاولى طبعة مصر . ( الناشر )
(13) الكامل في التاريخ : 2 / 217 .
(14) قضية ايتوني بدواة وبيضاء : ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم علم وهو في مرض موته ما حدث في المجتمع الاسلامي من تطورات ووقوع احداث يخشى على الاسلام منها فقد كثرت القالة حول الخلافة من بعده من تنفيذ امره « بغدير خم » او يعود الامير للمجتمع في الاغلبية الساحقة التي تعارض تلك الفكرة وهل هناك مجموعة تسعى لكسب الاكثرية لأخذ الحكم وما هو موقف الانصار وكبار الصحابة من هذا الامر ... الخ .
فكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يؤلمه وقوع مثل هذه الاشياء التي تؤول بالأمة الى الفرقة بعد الاجتماع ، والعداوة بعد الاخاء فأراد صلى الله عليه وآله وسلم ان يقرر مصير الامة وان يجدد موقفها ليقطع بذلك كل طريق يوصل للخلاف المؤدي الى الضلال فقال : ايتوني بدواة ... الحديث اراد ان يضع الامة نظاما يسيرون عليه دوما في قضية الخلافة وتحديد الشخصية التي تليق بأن تخلفه في منصبه .
ومن البديهي ومالا يقبل الشك ان عليا هو تلك الشخصية التي تتجسد فيها آمال الامة ولكن حدث ما حدث فما اعظم من ذلك الموقف على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال لهم متأثرا : ابعد الذي قلتم ، ومات والالم يحز نفسه ولكن اراد ان يطوق الامة بواجب لا مفر لهم من الالتزام به ، الا وهو العناية بأهل بيته فقال صلى الله عليه وآله وسلم : « اوصيكم بأهل بيتي خيرا ، الله الله في أهل بيتي واخرجوا اليهود من جزيرة العرب ، وهي آخر ما تكلم به صلى الله عليه وآله وسلم كما سيأتي . « الناشر »
(15) صحيح البخاري 5 / 137 ، 138 طبع مصر .
(16) الطبقات الكبرى 4 / 60 ـ 61 .
(17) النجم : 3 ، 4 .
(18) كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في ايام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الاكبر 2 / 297 .
(19) قال ابن الاثير في النهاية 5 / 246 في مادة هجر ؟ الهجر بالضم هو الخنا والقبيح من القول ومنه حديث مرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ما شأنه : اهجر ؟ .. والقائل كان عمر . « الناشر »
(20) ابن ابي الحديد « شرح نهج البلاغة » 3 / 97 وذكر هذا الخبر احمد ابن ابي طاهر صاحب كتاب « تاريخ بغداد » في كتابه مسندا .
(21) ابن ابي الحديد شرح النهج 3 / 16 الطبعة المصرية الاولى .
(22) سيرة النبي محمد 1 / 276 ـ 279 .
(23) الطبقات الكبرى 1 / 101 .
(24) الكامل في التاريخ 2 / 59 ـ 62 .
(*) يذهب الشيعة الامامية الى من عصمة النبي (ص) ذاتية « الناشر »
(25) ابن الاثير « الكامل في التاريخ » 2 / 59 ـ 63 .
(26) كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في ايام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الاكبر 2 /171 .
(27) المصدر نفسه 2 / 179 ، 180 .
(28) عبد الفتاح عبد المقصود : الامام علي بن ابي طالب 1 / 70 .
(29) عبقرية الامام : للعقاد ص 13 .
(30) الفتنة الكبرى : عثمان بن عفان ص 151 .
(31) سيرة النبي محمد : لابن هشام 2 / 95 .
(32) ابن خلدون : كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في ايام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الاكبر 2 / 187 .
(33) ابن الاثير : الكامل في التاريخ 2 / 75 .
(34) ابن هشام : سيرة النبي محمد 2 / 95 ، 98 ، 111 .
(35) الطبري: «تاريخ الامم والملوك» 3 / 154 والمسعودي «مروج الذهب» 2 / 284.
(36) الطبري : « تاريخ الامم والملوك » 3 / 154 .
(37) ابن الاثير : الكامل في التاريخ 2 / 25 .
(38) ابن الاثير : الكامل في التاريخ 2 / 70 .
(39) صحيح مسلم 2 / 323 .
(40) « صحيح مسلم » 2 / 324 .
(41) ابن ابي الحديد شرح نهج البلاغة 3 / 17 طبعة مصر الاولى .
(42) الطبقات الكبرى لابن سعد 4 / 3 ، 4 .
(43) كذا وجدناه في المطبوع .
(44) الجرف بالضم ثم السكون محل بينه وبين المدينة ثلاثة اميال من ناحية الشام ، قاله : في مراصد الاطلاع طبعة عيسى الحلبي بالقاهرة 1 / 326 . « الناشر »
(45) ابن الاثير « الكامل في التاريخ » 2 / 215 .
(46) كتاب « العبر ، وديوان المبتدأ والخبر ، في ايام العرب والعجم والبربر ، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الاكبر » 2 / 265 .
(47) هذا مخالف لرأي اكثر العامة والخاصة ، لانهم ذكروا ان النبي ( ص ) كان يتكلم الى حين وفاته . « الناشر »
(48) ابن الاثير ، المصدر نفسه .
(49) راجع تعليقنا على هامش الصفحة المتقدمة من ان النبي ( ص ) لم يكن ليفقد قدرته على الكلام . « الناشر » .
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مدرسة دار العلم.. صرح علميّ متميز في كربلاء لنشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)
|
|
|