أقرأ أيضاً
التاريخ: 16-11-2018
2052
التاريخ: 10-7-2019
2140
التاريخ: 9-7-2019
1543
التاريخ: 5-12-2016
2040
|
غزوة تبوك
قرى على أي القاسم بن أبي حية قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن شجاع قال: حدثنا الواقدي قال: حدثنا عمر بن عثمان بن عبد الرحمن ابن سعيد، وعبد الله بن جعفر الزهري، ومحمد بن يحيى، وابن أبي حبيبة وربيعة بن عثما، وعبد الرحمن بن عبد العزيز بن أبي قتادة، وعبد الله ابن عبد الرحمن الجمحي، وعمر بن سليمان بن أبي حثمة، وموسى بن محمد بن إبراهيم، وعبد الحميد بن جعفر، وأبو معشر، ويعقوب بن محمد بن أبي صعصعة، وابن أبي سبرة، وأيوب بن النعمان؛ فكل قد حدثني بطائفةٍ من حديث تبوك، وبعضهم أوعى له من بعض، وغير هؤلاء قد حدثني ممن لم أسم، ثقات، وقد كتبت كل ما قد حدثوني.
قالوا: كانت الساقطة - وهم الأنباط - يقدمون المدينة بالدرمك والزيت في الجاهلية وبعد أن دخل الإسلام، فإنما كانت أخبار الشام عند المسلمين كل يوم؛ لكثرة من يقدم عليهم من الأنباط، فقدمت قادمة فذكروا أن الروم قد جمعت جموعاً كثيرةً بالشام، وأن هرقل قد رزق أصحابه لسنة، وأجلبت معه لخم، وجذام، وغسان، وعاملة. وزحفوا وقدموا مقدماتهم إلى البلقاء وعسكروا بها، وتخلف هرقل بحمص. ولم يكن ذلك، إنما ذلك شئ قيل لهم فقالوه. ولم يكن عدون أخوف عند المسلمين منهم، وذلك لما عاينوا منهم - إذ كانوا يقدمون عليهم تجاراً - من العدد والعدة والكراع. وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يغزو غزوةً إلا ورى بغيرها، لئلا تذهب الأخبار بأنه يريد كذا وكذا، حتى كانت غزوة تبوك، فغزاها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حرٍ ديد، واستقبل سفراً بعيداً، واستقبل غزي وعدداً كثيراً، فجلى للناس أمرهم ليتأهبوا لذلك أهبة غزوهم، وأخبر بالوجه الذي يريد. وبعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى القبائل وإلى مكة يستنفرهم إلى غزوهم، فبعث إلى أسلم بريدة ابن الحصيب وأمره أن يبلغ الفرع. وبعث أبا رهم الغفاري إلى قومه أن يطلبهم ببلادهم، وخرج أبو واقد الليثي في قومه، وخرج أبو الجعد الضمري في قومه بالساحل، وبعث رافع بن مكيث، وجندب بن مكيث في جهينة؛ وبعث نعيم بن مسعود في أشجع؛ وبعث في بني كعب بن عمرو بديل بن ورقاء، وعمرو بن سالم، وبشر بن سفيان؛ وبعث في سليم عدة، منهم العباس بن مرداس. وحض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المسلمين على القتال والجهاد، ورغبهم فيه، وأمرهم بالصدقة، فحملوا صدقات كثيرة، فكان أول من حمل أبو بكر، جاء بماله كله أربعة آلاف درهم، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): هل أبقيت شيئاً؟ قال: الله ورسوله أعلم! وجاء عمر رضي الله عنه بنصف ماله، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): هل أبقيت شيئاً؟ قال: نعم، نصف ما جئت به. وبلغ عمر ما جاء به أبو بكر فقال: ما استبقنا إلى الخير قط. (صلى الله عليه وآله وسلم) مالاً؛ وحمل طلحة بن عبيد الله إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مالاً؛ وحمل عبد الرحمن بن عوف إليه مالاً، مائتي أوقية؛ وحمل سعد بن عبادة إليه مالاً، وحمل محمد بن مسلمة إليه مالاً. وتصدق عاصم ابن عدي بتسعين وسقاً ممراً. وجهز عثمان بن عفان رضي الله عنه ثلث ذلك الجيش، فكان من أكثرهم نفقة، حتى كفى ذلك الجيش مؤونتهم، حتى إن كان ليقال: ما بقيت لهم حاجة! حتى كفاهم شنق أسقيتهم. فيقال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال يومئذ: ما يضر عثمان ما فعل بعد هذا! ورغب أهل الغنى في الخير والمعروف، واحتسبوا في ذلك الخير، وقووا أناس دون هؤلاء من هو أضعف منهم، حتى إن الرجل ليأتي بالبعير إلى الرجل والرجلين فيقول: هذا البعير بينكما تتعاقبانه، ويأتي الرجل بالنفقة فيعطيها بعض من يخرج، حتى إن كن النساء ليعن بكل ما قدرن عليه قالت أم سنان الأسلمية: لقد رأيت ثوباً مبسوطاً بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في بيت عائشة رضي الله عنها فيه مسك، ومعاضد، وخلاخل وأقرطة وخواتيم، وخدمات، مما يبعث به النساء يعن به المسلمين في جهازهم. والناس في عسرةٍ شديدة، وحين طابت الثمار وأحبت الظلال، فالناس يحبون المقام ويكرهون الشخوص عنها على الحال من الزمان الذي هم عليه، وأخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الناس بالانكماش والجد، وضرب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عسكره بثنية الوداع، والناس كثير لا يجمعهم كتاب، قد رحل يريد أن يبعث إلا أنه طن أن ذلك سيخفى له، ما لم ينزل فيه وحي من الله عز وجل.
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للجدين قيس: أبا وهب، هل لك العام تخرج معنا لعلك تحتفب من بنات الأصفر؟ فقال الجد: أو تأذن لي ولا تفتني؟ فوالله، لقد عرف قومي ما أحد أشد عجباً بالنساء مني، وإني لأخشى إن رأيت نساء بني الأصفر لا أصبر عنهن. فأعرض عنه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: قد أذنت لك! فجاءه ابنه عبد الله بن الجد وكان بدريا، وهو أخو معاذ بن جبل لأمه فقال لأبيه: لم ترد على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مقالته؟ فو الله ما في بني سلمة أكثر مالاً منك، ولا تخرج ولا تحمل أحدً! قال: يابني، مالي وللخروج في الريح والحر والعسرة إلى بني الأصفر؟ والله، ما آمن خوفاً من بني الأصفر وإني في منزلي بخربي، فأذهب إليهم فأغزوهم، وإني والله يابني عالم بالدوائر! فأغلظ له ابنه، فقال: لا والله، ولكنه النفاق! والله، لينزان على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيك قرآن يقرأونه. قال: فرفع نعله فضرب بها وجهه، فانصرف ابنه ولم يكلمه. وجعل الخبيث يثبط قومه، وقال لجبار بن صخر ونفرٍ معه من بني سلمة: يا بني سلمة، لا تنفروا في الحر. يقول: لا تخرجوا في الحر زهادةً في الجهاد، وشكا في الحق، وإرجافاً برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). فأنزل الله عز وجل فيه: وقالوا لا تنفروا في الحر إلى قوله: جزاءً بما كانوا يكسبون. وفيه نزلت: ومنهم من يقول " ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني " الآية، أي كأنه إنما يخشى الفتنة من نساء بني الأصفر، وليس ذلك به؛ إنما تعذر بالباطل، فما سقط. فيه من الفتنة أكثر، بتخلفه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ورغبته بنفسه عن نفسه. يقول الله عز وجل: " وإن جهنم لمحيطة بالكافرين " يقول: إن جهنم لمن ورائه؛ فلما نزلت هذه الآية جاء ابنه إلى أبيه فقال: ألم أقل لك إنه سوف ينزل فيك قرآن يقرأه المسلمون؟ قال: يقول أبوه: اسكت عني يا لكع! والله. لا أنفعك بنافعةٍ أبداً! والله لأنت أشد على من محمد! قال: وجاء البكاؤون وهم سبعة يستحملونه، وكانوا أهل حاجة، فقال: رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): { لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة: 92]. الآية. وهم سبعة من بني عمرو بن عوف: سالم ابن عمير، قد شهد بدراً، لا اختلاف فيه عندنا؛ ومن بني واقف هرمي ابن عمرو؛ ومن بني حارثة علبة بن زيد، وهو الذي تصدق بعرضه، وذلك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر بالصدقة، فجعل الناس يأتون بها، فجاء علبة فقال: يا رسول الله، ما عندي ما أتصدق به وجعلت عرضي حلا. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): قد قبل الله صدقتك. ومن بني مازن بن النجار أبو ليلى عبد الرحمن بن كعب؛ ومن بني سلمة عمرو بن عتبة، ومن بني زريق سلمة بن صخر، ومن بني سليم عرباض بن سارية السلمى. وهؤلاء أثبت ما سمعنا. ويقال: عبد الله بن مغفل المزني، وعمرو بن عوف المزني؛ ويقال: هم بنو مقر،، من مزينة. ولما خرج البكاؤون من عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد أعلمهم أنه لا يجد ما يحملهم عليه، وإنما يريدون ظهراً، لقي يامين بن عمير بن كعب بن شبل النضري أبا ليلى المازني، وعبد الله بن مغفل المزني، وهما يبكيان فقال: وما يبكيكما؟ قالا: جئنا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليحملنا، فلم نجد عنده ما يحملنا عليه، وليس عندنا ما ننفق به على الخروج، ونحن نكره أن تفوتنا غزوة مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). فأعطاهما ناضحاً له، فارتحلاه، وزود كل رجلٍ منهما صاعين من تمر، فخرجا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا يخرج معنا إلا مقوٍ فخرج رجل على بكرٍ صعب فصرعه، فقال الناس: الشهيد، الشهيد! فبعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) منادياً ينادي: لا يدخل الجنة إلا مؤمن أو إلا نفس مؤمنة ولا يدخل الجنة عاصٍ. وكان الرجل طرحه بعيره بالسويداء.
قالوا: وجاء ناس من المنافقين يستأذنون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من غير علةٍ فأذن لهم، وكان المنافقون الذين استأذنوا بضعه وثمانين. وجاء المعذرون من الأعراب فاعتذروا إليه، فلم يعذرهم الله عز وجل. هم نفر من بني غفار، منهم خفاف بن إيماء بن رحضة، اثنان وثمانون رجلاً. وأقبل عبد الله بن أبي بعسكره، فضربه على ثنية الوداع بحذاء ذباب، معه حلفاؤه من اليهود والمنافقين ممن اجتمع إليه، فكان يقال: ليس عسكر ابن أبي بأقل العسكرين، وأقام ما أقام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) السفر، وأجمع المسير، استخلف على المدينة سباع ابن عرفة الغفاري ويقال: محمد بن مسلمة لم يتخلف عنه غزوة غير هذه. وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تخلف ابن أبي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيمن تخلف من المنافقين، وقال: يغزو محمد بنى الأصفر، مع جهد الحال والحر والبلد البعيد، إلى ما لا قبل له به! يحسب محمد أن قتال بني الأصفر اللعب؟ ونافق معه من هو على مثل رأية، ثم قال ابن أبي: والله لكأني أنظر إلى أصحابه غداً مقرنين في الحبال! إرجافاً برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه.
فلما رحل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من ثنية الوداع إلى تبوك، وعقد الآلوية والرايات، فدفع لواءه الأعظم إلى أبي بكر، ورايته العظمى إلى الزبير، ودفع راية الأوس إلى أسيد بن الحضير، ولواء الخزرج إلى أبي دجانة، ويقال: إلى الحباب بن المنذر بن الجموح.
قالوا: وإذا عبد لا مرآة من بني ضمرة، لقيه على رأس ثنية النور، والعبد متسلح. قال العبد: أقاتل معك يا رسول الله؟ قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): وما أنت؟ قال: مملوك لامرأة من بني ضمرة سيئة الملكة قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ارجع إلى سيدتك، لا تقتل معي فتدخل النار! قال: حدثني رفاعة بن ثعلبة بن أبي مالك، عن أبيه، عن جده، قال: جلست مع زيد بن ثابت فذكرنا غزوة تبوك، فذكر أنه حمل لواء مالك بن النجار في تبوك فقلت: يا أبا سعيد، كرم ترى كان المسلمون؟ قال: ثلاثون ألفاً، لقد كان الناس يرحلون عند ميل الشمس، فما يزالوان يرحلون والساقة مقيمون حتى يرحل العسكر. فسألت بعض من كان بالساقة فقال: ما يرحل آخرهم إلا مساء، ثم نرحل على أثرهم فما ننتهي إلى العسكر إلا مصبحين من كثرة الناس.
قالوا: وتخلف نفر من المسلمين، أبطأت بهم النية عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى تخلفوا عنه من غير شك ولا ارتبابٍ، منهم: كعب بن مالك، وكان كعب يقول: كان من خبري حين تخلفت عن تبوك أني لم أك قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة؛ والله، ما اجتمعت لي راحلتان قط حتى اجتمعتا في تلك الغروة! فتجهز رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتجهز المسلمون معه، وجعلت أعدو لأتجهز معهم فأرجع ولم أقض حاجة، فأقول في نفسي: أنا قادر على ذلك! فلم أزل يتمادى بي حتى شمر بالناس الجد، فأصبح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) غازياً والمسلمون، وذلك يوم الخميس، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يحب أن يخرج فيه، ولم أقض من جهازي شيئاً، فقلت: أتجهز بعده بيومٍ أو يومين ثم ألحق بهم. فغدوت بعد ما فصلوا أتجهز، فرجعت ولم أفعل شيئاً، ثم غدوت فلم أفعل شيئاً، فلم أزل يتمادى بي حتى أسرعوا، وتفارط الغزو، وقلت: أرتحل فأدركهم، ويا ليتني فعلت! ولم أفعل، وجعلت إذا خرجت في الناس فطفت فيهم يحزنني ألا أرى إلا رجلاً مغموصاً عليه في النفاق، أو رجلاً ممن عذر الله، ولم يذكرني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى بلغ تبوك، فقال وهو جالس في القوم: ما فعل كعب بن مالك؟ فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله، حبسه برداه والنظر في عطفيه. فقال له معاذ بن جبل: بئسما قلت! والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيراً. والقائل عبد الله بن أنيس، ويقال: الذي رد عليه المقالة أبو قتادة، ومعاذ بن جبل أثبتهما عندنا.
قال هلال بن أمية الوافقي، حين تخلف عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في تبوك: والله ما تخلفت شكا ولا ارتباباً، ولكن كنت مقوياً في المال.
قلت: أشتري بعيراً. ولقيني مرارة بن الربيع فقال: أنا رجل مقوٍ، فأبتاع بعيراً وأنطلق به. فقلت: هذا صاحب أرافقه. فجعلنا نقول: نغدو فنشتري بعيرين فنلحق بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا يفوت ذلك؛ نحن قوم مخفون على صدر راحلتين فغداً نسير! فلم نزل ندفع ذلك ونوخر الأيام حتى شارف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) البلاد. فقلت: ما هذا بحين خروج. وجعلت لا أرى في الدار ولا في غيرها إلا معذوراً أو منافقاً معلناً، فأرجع مغتما بما أنا فيه. وكان أبو خيثمة قد تخلف معنا، وكان لا يتهم في إسلامه ولا يغمص عليه، فعزم له على ما عزم، وكان أبو خيثمة يسمى عبد الله بن خيثمة السالمي، فرجع بعد أن سار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عشرة أيام حتى دخل على امرأتين له في يومٍ حار فوجدهما في عريشين لهما، قد رشت كل واحدةٍ منهما عريشها وبردت له فيه ماء، وهيأت له فيه طعاماً، فلما انتهى إليهما قام على العريشين فقال: سبحان الله! رسول الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر في الضح والريح والحر، يحمل سلاحه على عنقه، وأبو خيثمة في ظلالٍ باردٍ وطعامٍ مهيأ وامرأتين حسناوين، مقيم في ماله، ما هذا بالنصف! ثم قال: والله، لا أدخل عريش واحدةٍ منكما حتى أخرج فألحق برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). فأناخ ناضحه وشد عليه قتبه وتزود وارتحل، فجعلت امرأتاه يكلمانه ولا يكلمهما، حتى أدرك عمير بن وهب الجمحى بوادي القرى يريد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فصحبه فترافقا، حتى إذا دنوا من تبوك قال أبو خيثمة: يا عمير! إن لي ذنوباً وأنت لا ذنب لك، فلا عليك أن تخلف عني حتى آتي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قبلك. ففعل عمير، فسار أبو خيثمة حتى إذا دنا من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو نازل بتبوك قال الناس: هذا راكب الطريق! قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): كن أبا خيثمة! فقال الناس: يا رسول الله، هذا أبو خيثمة! فلما أناخ أقبل فسلم على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خيراً ودعا له.
قال: ومضى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من المدينة، فصبح ذا خشب فنزل تحت الدومة، وكان دليله إلى تبوك علقمة بن الفغواء الخزاعي. فقام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تحت الدومة، فراح منها ممسياً حيث أبرد، وكان في حر شديد، وكان يجمع من يوم نزل ذا خشب بين الطهر والعصر في منزله، يؤخر الظهر حتى يبرد، ويعجل العصر، ثم يجمع بينهما، فكل ذلك فعله حتى رجع من تبوك. وكانت مساجده في سفره إلى تبوك معروفة؛ صلى تحت دومة بذي خشب، ومسجد الفيفاء، ومسجد بالمروة، ومسجد بالسقيا، ومسجد بوادي القرى، ومسجد بالحجر، ومسجد بذنب حوصاء، ومسجد بذي الجيفة، من صدر حوصاء، ومسجد بشق تاراء مما يلي جوبر، ومسجد بذات الخطمى، ومسجد بسمنة، ومسجد بالأخضر، ومسجد بذات الزراب، ومسجد بالمدران، ومسجد بتبوك.
ولما مضى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من ثنية الوداع سائراً، فجعل يتخلف عنه الرجال فيقولون: يا رسول الله، تخلف فلان! فيقول: دعوه، فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه! فخرج معه ناس من المنافقين كثير لم يخرجوا إلا رجاء الغنيمة.
وكان أبو ذر يقول: أبطات في غزوة تبوك من أجل بعيري، كان نضوا أعجف، فقلت: أعلفه أباماً ثم ألحق برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
فعلفته أياماً ثم خرجت، فلما كنت بذي المروة عجز بي، فتلومت عليه يوماً فلم أر به حركة، فأخذت متاعي فحملته على ظهري، ثم خرجت أبتبع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ماشياً في حر شديد، وقد تقطع الناس فلا أرى أحداً يلحقنا من المسلمين، فطلعت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نصف النهار وقد بلغ مني العطش، فنظر ناظر من الطريق فقال: يا رسول الله، إن هذا الرجل يمشي على الطريق وحده. فجعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: كن أبا ذر! فلما تأملني القوم قالوا: يا رسول الله، هذا أبو ذر! فقام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى دنوت منه فقال: مرحباً بأبي ذر! يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده! فقال: ما خلفك يا أبا ذر؟ فأخبره خبر بعيره، ثم قال: إن كنت لمن أعز أهلي على تخلفاً، لقد غفر الله لك يا أبا ذر بكل خطوةٍ ذنباً إلى أن بلغتني. ووضع متاهه عن ظهره ثم استسقى، فأتى بإناء من ماء فشربه، فلما أخرجه عثمان رضي الله عنه إلى الربذة فأصابه قدره لم يكن معه أحد إلا امرأته وغلامه، فأوصاهما فقال: اغسلاني وكنناني، ثم ضعاني على قارعة الطريق إذا أنا مت. وأقبل ابن مسعود في رهطٍ من العراق عماراً، فلم يرعهم إلا بالجنازة على قارعة الطريق قد كادت الإبل تطرها، فسلم القوم فقام إليهم غلامه فقال لهم: هذا أبو ذر صاحب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فأعينوني عليه! فاستهل ابن مسعود يبكي ويقول: صدق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) " أبو ذر يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده " . ثم نزل هو وأصحابه حتى وراروه، ثم حدثهم ابن مسعود حديثه، وما قال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في مسيره إلى تبوك.
وكان أبو رهم الغفاري وهو كلثوم بن الحصين، قد بايع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تحت الشجرة فقال: غزوت مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تبوكاً. قال: فسرت ذات ليلة معه، ونحن بالأخضر، وأنا قريب من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وألقي على النعاس، فطفقت أستيقظ. وقد دنت راحلتي من راحلة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فيفزعني دنوها منه خشية أن أصيب رجله في الغرز؛ فطفقت أحوز راحلتي حتى غلبتني عيناي في بعض الطريق ونحن في بعض الليل، فزاحمت راحلتي راحلته ورجله في الغرز، فما استيقظت إلا بقوله: حس! فقلت: يا رسول الله، استغفر لي! فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سر! فجعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يسألني عمن تخلف من بني غفارٍ، فأخبره بهم، وهو يسألني ما فعل النفر الحمر الطوال النطانط؟ فحدثته بتخلفهم. قال: فما فعل النفر السود القصار الجعاد الحلس؟ فقلت: والله يا رسول الله ما أعرف هؤلاء. قال: بلى، الذين هم بشبكة شدخ. قال: فتذكرتهم في بني غفار فلا أذكرهم، ثم ذكرت أنهم رهط من أسلم كانوا فينا وكانوا يحلون بشبكة شدخ، لهم نعم كثير، فقلت: يا رسول الله، أولئك رهط. من أسلم حلفاء لنا. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما منع أحد أولئك حين تخلف أن يحمل على بعيرٍ من إبله رجلاً نشيطاً في سبيل الله ممن يخرج معنا، فيكون له مثل آجر الخارج! إن كان لمن أعز أهلي على أن يتخلف عني! المهاجرون من قريش والأنصار، وغفار، وأسلم.
قالوا: بينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في مسيره مر على بعيرٍ من العسكر قد تركه صاحبه من العجف والضعف، فمر به مار فأقام عليه وعلفه أياماً ثم حوله إلى منزله، فصلح البعير فسافر عليه، فرآه صاحبه الأول، فاختصما إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من أحيى خفا أو كراعاً بمهلكةٍ من الأرض فهو له.
قالوا: وكان الناس مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثلاثين ألفاً، ومن الخيل عشرة آلاف فرس. وأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كل بطنٍ من الأنصار أن يتخذوا لواءً وراية، والقبائل من العرب فيها الرايات والألوية. وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد دفع راية بني مالك بن النجار إلى عمار بن حزم، فأدرك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) زيد بن ثابت فأعطاه الراية. قال عمارة: يا رسول الله، لعلك وجدت علي! قال: لا والله، ولكن قدموا القرآن، وكان أكثر أخذاً للقرآن منك؛ والقرآن يقدم، وإن كان عبداً أسود مجدعاً. وأمر في الأوس والخزرج أن يحمل راياتهم أكثرهم أخذاً للقرآن، وكان أبو زيد يحمل راية بني عمر بن عوف، وكان معاذ بن جبل يحمل راية بني سلمة. وصلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوماً بأصحابه في سفره وعليه جبة صرف وقد أخذ بعنان فرسه أو قال: مقود فرسه وهو يصلى، فبال الفرس فأصاب الجبة فلم يغسله وقال: لا بأس بأبوالها ولعابها وعرقها.
قالوا: وكان رهط من المنافقين يسيرون مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في تبوك، منهم وديعة بن ثابت، أحد بني عمرو بن عوف، والجلاس ابن سويد بن الصامت، ومخشى بن حمير من أشجع، حليف لبني سلمة، وثعلبة بن حاطب. فقال: تحسبون قتال بني الأصفر كقتال غيرهم؟ والله لكأنا بكم غداً مقرنين في الحبال! إرجافاً برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وترهيباً للمؤمنين. فقال وديعة بن ثابت: مالي أرى قراءنا هؤلاء أوعبنا بطوناً، وأكذبنا ألسنةً، وأجبننا عند اللقاء؟ وقال الجلاس ابن سويد، وكان زوج أم عمير، وكان ابنها عمير يتيماً في حجره: هؤلاء سادتنا وأشرافنا وأهل الفضل منا! والله، لئن كان محمد صادقاً لنحن شر من الحمير! والله، لوددت أني أقاضي على أن يضرب كل رجلٍ منا مائة جلدة وأنا ننفلت من أن ينزل فينا القرآن بمقالتكم!
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعمار بن ياسر: أدرك القوم فإنهم قد احترقوا، فسلهم عما قالوا، فإن أنكروا فقل: بلى، قد قلم كذا وكذا! فذهب إليهم عمار فقال لهم، فأتوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعتذرون إليه. فقال وديعة بن ثابت، ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعتذرون إليه. فقال وديعة بن ثابت، ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على ناقته، وقد أخذ بحقب ناقة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ورجلاه تنسفان الحجارة، وهو يقول: يا رسول الله، إنما كنا نخوض ونلعب! ولم يلتفت إليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فأنزل الله عز وجل فيه: " ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب " إلى قوله " بأنهم كانوا مجرمين " . قالوا: ورد عمير على الجلاس ما قال حين قال: لنحن شر من الحمير قال: فأنت شر من الحمار، ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الصادق وأنت الكاذب. وجاء الجلاس إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فحلف ما قال من ذلك شيئاً، فأنزل الله عز وجل على نبيه فيه: " يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر " ونزلت فيه: " وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله " الآية قال: وكان للجلاس دية في الجاهلية على بعض قومه، وكان محتاجاً، فلما قدم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المدينة أخذها له فاستغنى بها. وقال مخشى بن حمير: قد والله يا رسول الله قعد بي اسمي واسم أبي، فكان الذي عفى عنه في هذه الآية مخشى بن حمير فسماه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عبد الرحمن أو عبد الله وسأل الله عز وجل أن يقتل شهيداً ولا يعلم بمكانه، فقتل يوم اليمامة فلم يوجد له أثر. ويقال في الجلاس بن سويد: إنه كان ممن تخلف من المنافقين في غزوة تبوك، فكان يثبط. الناس عم الخروج، وكانت أم عمير تحته، وكان عمير يتيماً في حجره ولا مال له، فكان يكفله وبحسن إليه، فسمعه وهو يقول: والله، لئن كان محمد صادقاً لنحن شر من الحيمر! فقال له عمير: يا جلاس، قد كنت أحب الناس إلى، وأحسنهم عندي أثراً، وأعزهم على أن يدخل عليه شئ نكرهه؛ والله، لقد قلت مقالة لئن ذكرتها لتفضحنك، ولئن كتمتها لأهلكن، وإحداهما أهون على من الأخرى! فذكر للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مقالة الجلاس، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أعطى الجلاس مالاً من الصدقة لحاجته وكان فقيراً، فبعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الجلاس فسأله عما قال عمير، فحلف بالله ما تكلم به قط. وأن عمير الكاذب. وهو عمر بن سعيد وهو حاضر عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقام وهو يقول: اللهم، أنزل على رسولك بيان ما تكلمت به! فأنزل الله على نبيه " يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر " إلى قوله: " أغناهم الله ورسوله من فضله " للصدقة التي أعطاها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). فقال الجلاس: اسمع! الله قد عرض على التوبة! والله لقد قلت ما قال عمير! ولما اعترف بذنبه وحسنت توبته ولم يمتنع عن خيرٍ كان يصنعه إلى عمير ابن سعيد، فكان ذلك مما قد عرفت به توبته.
قال أبو حميد الساعدي: خرجنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى تبوك، فلما جئنا وادي القرى مررنا على حديقة لامرأة، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): آخر صوها! فخرصها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وخرصناها معه، عشرة أوساق. ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): احفظي ما خرج منها حتى نرجع إليك. فلما أمسنا بالحجر قال: إنها ستهب الليلة ريح شديدة، فلا يقومن أحد منكم إلا مع صاحبه، ومن كان له بعير فليوثق عقاله. قال: فهاجت ريح شديدة ولم يقم أحد إلا مع صاحبه، إلا رجلين من بني ساعدة؛ خرج أحدهما لحاجته، وخرج الآخر في طلب بعيره. فأما الذي ذهب لحاجته فإنه خنق على مذهبه، وأما الذي ذهب في طلب بعيره فاحتملته الريح فطرحته بجبلى طيئ، فأخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خبرهما، فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ألم أنهكم أن يخرج رجل إلا ومعه صاحب له؟ ثم دعا الذي أصيب على مذهبه فشفى، وأما الآخر الذي وقع بجبلى طيئ فإن طيئاً أهدته للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حين قدم المدينة. ولما نزل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وادي القرى أهدى له بنو عريض اليهودى هريساً فأكلها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأطعمهم أربعين وسقاً، فهي جارية عليهم. تقول امرأة من اليهود: هذا الذي صنع بهم محمد خير مما ورثوه من آبائهم؛ لأن هذا لا يزال جارياً عليهم إلى يوم القيامة.
وكان أبو هريرة يحدث يقول: لما مررنا بالحجر استقى الناس من بئرها وعجنوا، فنادى منادي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): لا تشربوا من مائها ولا تتوضئا منه للصلاة، وما كان من عجين فاعلفوه الإبل. قال سهل ابن سعد: كنت أصغر أصحابي وكنت مقريهم في تبوك، فلما نزلت عجنت لهم ثم تحينت العجين، وقد ذهبت أطلب حطباً، فإذا منادي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ينادي: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يأمركم ألا تشبوا من ماء بئرهم. فجعل الناس يهرقون ما في أسقيتها. قالوا: يا رسول الله، قد عجنا. قال: أعلفوه الإبل! قال سهل: فأخذت ما عجنت فعلفت نضوين، فهما كانا أضعف ركابنا.
وتحولنا إلى بئر صالحٍ النبي عليه السلام، فجعلنا نستقي من الأسقية ونغسلها، ثم ارتوينا، فلم نرجع يومئذ إلا ممسين. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا تسألوا نبيكم الآيات! هؤلاء قوم صالح سألوا نبيهم آية، فكانت الناقة ترد عليهم من هذا الفلج، تسقيهم من لبنها يوم وردها ما شربت من مائها، فعقروها فأوعدوا ثلاثاً، وكان وعد الله غير مكذوب، فأخذتهم الصيحة فلم يبق أحد منهم تحت أديم السماء إلا هلك، إلا رجل في الحرم منعه الحرم من عذاب الله. قالوا: يا نبي الله، من هو؟ قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أبو رغال، أبو ثقيف. قالوا: فما له بناحية مكة؟ قال: إن صالحاً بعثه مصدقاً، فانتهى إلى رجل معه مائة شاة شصص، ومعه شاة والد، ومعه صبي ماتت أمه بالأمس. فقال: إن رسول الله أرسلني إليك. فقال: مرحباً برسول الله وأهلاً! خذ قال: فأخذ الشاة اللبون، فقال: إنما هي أم هذا الغلام بعد أمه، خذ مكانها عشراً. قال: لا. قال: عشرين. قال: لا. قال: خمسين. قال: لا. قال: خذها كلها إلا هذه الشاة. قال: لا. قال: إن كنت تحب اللبن فأنا أحبه. فنثر كنانته ثم قال: اللهم تشهد! ثم فوق له بسهم فقتله، فقال: لا يسبق بهذا الخبر إلى نبي الله أول مني! فجاء صالحاً فأخبره الخبر، فرفع صالح يديه مدا فقال: اللهم العن أبا رغال! ثلاثاً. وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا تدخلوا على هؤلاء القوم المعذبين، إلا أن تكونا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم فيصيبكم ما أصابهم. قال أبو سعيد الخدري: رأيت رجلاً جاء إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بخاتم وجده في الحجر في بيوت المعذبين. قال: فأعرض عنه واستتر بيده أن ينظر إليه، وقال: ألقه! فألقاه فما أدرى أين وقع حتى الساعة. وكان انب عمر يقول: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لأصحابه حين حاذهم: إن هذا وادي النفر! فجعلوا يوضون فيه ركابهم حتى خرجوا منه.
قال: حدثني ابن أبي سبرة، عن يونس بن يوسف، عن عبيد بن جبير، عن أبي سعيد الخدرى قال: رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أوضع راحلته حتى خلفها. قال: وارتحل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما أصبح ولا ماء معهم، فشكوا ذلك إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) استقبل القبلة فدعا ولا والله ما أرى في السماء سحاباً فما برح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يدعو حتى إني لأنظر إلى السحاب تأتلف من كل ناحية، فما رام مقامه حتى سحت علينا السماء بالرواء، فكأني أسمع تكبير رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في المطر. ثم كشف الله السماء عنا من ساعتها وإن الأرض إلا غدر تناخس، فسقى الناس وارتووا عن آخرهم، وأسمع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: أشهد أني رسول الله! فقلت لرجلٍ من المنافقين: ويحك، أبعد هذا شئ؟ فقال: سحابة مارة! وهو أوس بن قيظى، ويقال: زيد بن اللصيت.
قال: حدثني يونس بن محمد، عن يعقوب بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، أنه قال له: هل كان الناس يعرفون أهل النفاق فيهم؟ فقال: نعم والله، إن كان الرجل ليعرفه من أبيه وأخيه وبني عمه. سمعت جدك قتادة بن النعمان يقول: تبعنا في دارنا قوم منا منافقون. ثم من بعد سمعت زيد بن ثابت يقول في بني النجار: من لا بارك الله فيه! فيقال: من يا أبا سعيد؟ فيقول: سعد بن زرارة، وفيس بن فهر. ثم يقول زيد: لقد رأيتنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في غزوة تبوك، فلما كان من أمر الماء ما كان دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأرسل الله سحابةً فأمطرت حتى ارتوى الناس، فقلنا: يا ويحك، أبعد هذا شئ؟ فقال: سحابة مارة! وهو والله رجل لك به قرابة يا محمود بن لبيد! قال محمود: قد عرفته! قال: ثم ارتحل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) موجهاً إلى تبوك، فأصبح في منزل، فضلت ناقة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) القصواء، فخرج أصحابه في طلبها. وعند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عمارة بن حزم عقبى بدرى قتل يوم اليمامة شهيداً وكان في رحله زيد بن اللصيت أحد بني قينقاع كان يهودياً فأسلم فنافق، وكان فيه خبث اليهود وعشهم، وكان مظاهراً لأهل النفاق، فقال زيد وهو في رحل عمارة، وعمارة عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أليس محمد يزعم أنه نبي ويخبركم عن خبر السماء، وهو لا يدري أين ناقته؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن منافقاً يقول إن محمداً يزعم أنه نبي، وأنه يخبركم بأمر السماء ولا يدري أين ناقته! وإني والله ما أعلم إلا ما علمني الله، وقد دلني عليها، وهي في الوادي في شعب كذا وكذا الشعب أشار لهم إليه حبستها شجرة بزمامها، فانطلقوا حتى تأتوا بها. فذهبوا فجاءوا بها، فرجع عمارة بن حزم إلى رحله فقال: العجب من شئ حدثناه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)! إنها عن مقالة قائلٍ أخبره الله عنه! قال كذ وكذا الذي قال زيد. قال: فقال رجل ممن كان في رحل عمارة، ولم يحضر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): زيد والله قائل هذه المقالة قبل أن تطلع علينا! قال: فأقبل عمارة على زيد ابن اللصيت يجأه في عنقه ويقول: والله، إن في رحلى لداهية وما أدري! اخرج يا عدو الله من رحلى! وكان الذي أخبر عمارة بمقالة زيد أخوه عمرو بن حزم، وكان في الرحل مع رهط. من أصحابه. والذي ذهب فجاء بالناقة من الشعب الحارث بن خزمة الأشهلي، وجدها وزمامها قد تعلق في شجرةٍ، فقال زيد بن اللصيت: لكأني لم أسلم إلا اليوم! قد كنت شاكاً في محمد، وقد أصبحت وأنا فيه ذو بصيرةٍ، وأشهد أنه رسول الله! فزعم الناس أنه تاب، وكان خارجة بن زيد بن ثابت ينكر توبته ويقول: لم يزل فشلا حتى مات.
فلما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بوادي المشقق سمع حادياً في جوف الليل فقال: أسرعوا بنا نلحقه! ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: ممن الحادي، منكم أو من غيركم؟ قالوا: بلى، من غيرنا. قال: فأدركه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإذا جماعة، فقال: ممن القوم؟ قالوا: من مضر. قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): وأنا من مضر. فانتسب حتى بلغ مضر. قال القوم: نحن أول من حدا بالإبل. فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): وكيف ذلك؟ قالوا: بلى، إن أهل الجاهلية كان يغير بعضهم على بعض، فأغير على رجلٍ منهم ومعه غلام له، فندت إبله فأمر غلامه أن يجمعها، فقال: لا أستطيع! فضرب يده بعصاً، فجعل الغلام يقول: وايداه! وايداه! وتجتمع الإبل، فجعل سيده يقول، قل هكذا بالإبل! وجعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يضحك. وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لبلال: ألا أبشركم؟ قالوا: بلى يا رسول الله! وهم يسيرون على رواحلهم، فقال: إن الله أعطاني الكنزين فارس والروم، وأمدني بالملوك ملوك حمير، يجاهدون في سبيل الله ويأكلون فئ الله.
وكان المغيرة بن شعبة يقول: كنا بين الحجر وتبوك فذهب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لحاجته، وكان ذا ذهب أبعد، وتبعته بماءٍ بعد الفجر، فأسفر الناس بصلاتهم وهي الصلاة الصبح حتى خافوا الشمس، فقدموا عبد الرحمن بن عوف فصلى بهم. فحملت مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إداوة فيا ماء، فلما فرغ صببت عليه فغسل وجهه. ثم أراد أن يغسل ذراعيه فضاق كم الجبة وعليه جبة رومية فأخرج يديه من تحت الجبة فغسلهما ومسح خفيه. وانتهينا إلى عبد الرحمن بن عوف وقد ركع بالناس، فسبح الناس بعبد الرحمن بن عوف حين رأوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى كادوا أن يفتتنوا، فجعل عبد الرحمن يريد أن ينكص وراءه، فأشار إليه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن اثبت، فصلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خلف عبد الرحمن ركعة، فلما سلم عبد الرحمن تواثب الناس، وقام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقضي الركعة الباقية، ثم سلم بعد فراغه منها، ثم قال: أحسنتم! إنه لم يتوف نبي حتى يؤمه رجل صالح من أمته.
وأتاه يومئذ يعلى بن منبه بأجيرٍ له، قد نازع رجلاً من العسكر، فعضه ذلك الرجل، فانتزع الأجير يده من في العاض فانتزع ثنيته، فلرمه المجروح فبلغ به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). قال: وقمت مع أجيري لأنظر ما يصنع، فأتيى بهما النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يعمد أحدكم فيعض أخاه كما يعض الفحل، فأبطل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما أصاب من ثنيته.
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إنكم ستأتون غدا إن شاء الله عين تبوك، وإنكم لن تنالوها حتى يضحى النهار، فمن جاءها فلا يمس من مائها شيئاً حتى آتى. قال معاذ بن جبل: فجئناها وقد سبق إليها رجلان، والعين مثل الزلال تبض بشئ من ماء، فسألهما: هل مسستما من مائها شيئاً؟ قالا: نعم. فسبهما النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقال لهما ما شاء الله أن يقول. ثم غرفوا بأيديهم قليلاً قليلاً حتى اجتمع في شن، ثم غسل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيه وجهه ويديه، ثم أعاده فيها، فجاءت العين بماء كثيرٍ فاستقى الناس. ثم قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): يوشك يا معاذ إن طالت بك حياة أن ترى ما هاهنا قد ملئ جناناً! قالوا: وكان عبد الله ذو البجادين من مزينة، وكان يتيماً لا مال له، قد مات أبوه فلم يورثه شيئاً، وكان عمه ميلا، فأخذه وكفله حتى كان قد أيسر، فكانت له إبل وغنم ورقيق، فلما قدم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المدينة جعلت نفسه تتوق إلى الإسلام، ولا يقدر عليه من عمه، حتى مضت السنون والمشاهد كلها. فانصرف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من فتح مكة راجعاً إلى المدينة، فقال عبد الله لعمه: يا عم، قد انتظرت إسلامك فلا أراك تريد محمداً، فائذن لي في الإسلام! فقال: والله، لئن اتبعت محمدا لا أترك بيدك شيئاً كنت أعطيتكه إلا نزعنه منك حتى ثوبيك. فقال عبد العزي، وهو يومئذ اسمه: وأنا والله متبع محمداً ومسلم، وتارك عباده الحجر والوثن، وهذا ما بيدي فخذه! فأخذ كل ما أعطاه، حتى جرده من إزاره، فأتى أمه فقطعت بجاداً لها باثنين فائتزر بواحد وارتدى بالآخر، ثم أقبل إلى المدينة وكان بورقان جبل من حمى المدينة - فاضطجع في المسجد في السحر، ثم صلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يتصفح الناس إذا انصرف من الصبح، فنظر إليه فأنكره، فقال: من أنت؟ فانتسب له، فقال: أنت عبد الله ذو الجادين! ثم قال: انزل مني قريباً. فكان يكون في أضيافه ويعلمه القرآن، حتى قرأ قرآناً كثراً، والناس يتجهزون إلى تبوك. وكان رجلاً صيتاً، فكان يقوم في المسجد فيرفع صوته بالقراءة، فقال عمر: يا رسول الله، ألا تسمع إلى هذا الأعرابي يرفع صوته بالقرآن حتى قد منع الناس القراءة؟ فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): دعه، يا عمر! فإنه خرج مهاجراً إلى الله ورسوله. قال: فلما خرجوا إلى تبوك قال: يا رسول الله، ادع الله لي بالشهادة. قال: أبلغني لحاء سمرة. فأبلغه لحاء سمرة، فربطها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على عضده وقال: اللهم إني أحرم دمه على الكفار! ال: يا رسول الله، ليس أردت هذا. قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): إنك إذا خرجت غازياً في سبيل الله فأخذتك الحمى فقتلتك فأنت شهيد، ووقصتك دابتك فأنت شهيد، لا تبال بأية كان: فلما نزلوا تبوكاً فأقاموا بها أياماً توفي عبد الله ذو البجادين. فكان بلال بن الحارث يقول: حضرت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومع بلالٍ المؤذن شعلة من نارٍ عند القمر واقفاً بها، وإذا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يقول: أدنيا إلى أخاكما! فلما هيآه لشقه قال: اللهم إني قد أمسيت عنه راضياً فارض عنه. قال: فقال عبد الله بن مسعود: ياليتني كنت صاحب الحد! وقالوا: أتينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في مسيره وهو مردف سهيل ابن بيضاء خلفه، فقال سهيل: ورفع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) صوته فقال: يا سهيل! كل ذلك يقول سهيل: يالبيك! ثلاث مرات، حتى عرف الناس أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يريدهم؛ فانثنى عليه من أمامه، ولحقه من خلفه من الناس، ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من يشهد أن لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، حرمه الله على النار.
قالوا: وعارض الناس في مسيرهم حية، ذكر من عظمها وخلقها، وانصاع الناس عنها. فأقبلت حتى واقفت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو على راحلته طويلاً، والناس ينظرون إليها، ثم التوت حتى اعتزلت الطريق فقامت قائمةً؛ فأقبل الناس حتى لحقوا برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال لهم: هل تدرون من هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم! قال: فإن هذا أحد الرهط. الثمانية من الجن الذين يريدون أن يسمعوا القرآن، فرأى عليه من الحق - حين ألم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ببلده - أن يسلم عليه، وها هو ذا يقرئكم السلام. فسلموا عليه! فقال الناس جميعاً: وعليه السلام ورحمة الله! يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أجيبوا عباد الله من كانوا.
قالوا: قدم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تبوكاً وأقام بها عشرين ليلة يصلى ركعتين، وهرقل يومئذٍ بحمص. وكان عقبة بن عامر يقول: خرجنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى تبوك، حتى إذا كنا منها على ليلةٍ استرقد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلم يستيقظ حتى كانت الشمس قيد رمح، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا بلال، ألم أقل لك اكلأ لنا الليل؟ فقال بلال: ذهب بي النوم، ذهب بي الذي ذهب بك! قال: فارتحل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من ذلك المكان غير بعيد، ثم صلى ركعتين قبل الفجر، ثم صلى الفجر، ثم هذب بقية يومه وليلته فأصبح بتبرك، فجمع الناس فحمد لله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: أيها الناس! أما بعد، فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأوثق العرى كلمة التقوى، وخير الملل ملة إبراهيم عليه السلام، وخير السنن سنن محمد، وأشرف الحديث ذكر الله، وأحسن القصص هذا القرآن، وخير الأمور عواقبها، وشر الأمور محدثاتها، وأحسن الهدى هدى الأنبياء، وأشرف القتل قتل الشهداء، وأعمى الضلالة الضلالة بعد الهدي، وخير الأعمال ما نفع، وخير الهدي ما اتبع، وشر العمى عمى القلب؛ واليد العليا خير من السفلى، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وشر الأمور المعذرة حين يحضر الموت، وشر الندامة يوم القيامة. ومن الناس من لا يأتي الجمعة إلا نزرا، ومنهم من لا يذكر الله إلا هجراً؛ ومن أعظم الخطايا اللسان الكذوب، وخير الغنى غنى النفس، وخير الزاد التقوى، ورأس الحكم مخافة الله، وخير ما ألقي في القلب اليقين، والارتياب من الكفر، والنياحة من عمل الجاهلية، والغلول من جمر جهنم، والسكر كن من النار، والشعر من إبليس، والخمر جماع الإثم، والنساء حباله الشيطان، والشباب شعبة من الجنون؛ وشر المكاسب كسب الربا، وشر المأكل مال اليتيم. والسعيد من وعظ بغيره، والشقي من شقى في بطن أمه، وإنما يصير أحدكم إلى موضع أربعة أذرع؛ والأمر إلى آخره، وملاك العمل خواتمه، والربا ربا الكذب. وكل ما هو آت قريب، وسباب المؤمن فسوق، وقتل المؤمن كفر، وأكل لحمه من معصية الله، وحرمة ماله كحرمة دمه. ومن يتأل على الله يكذبه، ومن يعف يعف الله عنه، ومن يكظم الغيظ يأجره الله، ومن يصبر على الرزية يعوضه الله، ومن يتبع السمعة يسمع الله به، ومن يصبر يضاعف الله له، ومن يعص الله يعذبه الله. اللهم اغفر لي ولأمتي، اللهم اغفر لي ولأمتي، أستغفر الله لي ولكم.
وكان رجل من بني عذرة يقال له عدى يقول: جئت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بتبوك فرأيته على ناقةٍ حمراس يطوف على الناس يقول: أيها الناس، يد الله فوق يد المعطى، ويد المعطى الوسطى، ويد المعطى السفلى. أيها الناس، اقنعوا ولو بحزم الحطب! اللهم، هل بلغت؟ ثلاثاً. فقلت: يا رسول الله، كان لي امرأتان اقتتلتا فرميت فأصبت إحداهما فرمى في رميتي - يعني ماتت، كما تقول العرب: رمى في جنازته.فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): تعقلها ولا ترثها.
وجلس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في موضع مسجده بتبوك، فنظر نحو اليمين ورفع يديه يشير إلى أهل اليمن فقالك الإيمان يمان! ونظر نحو المشرق وأشار بيده: إن الجفاء وغلظ القلوب في الفدادين أهل الوبر من نحو المشرق حيث يطلع الشيطان قرينه.
وقال رجل من بني سعد بن هذيم: جئت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو جالس بتبوك - في نفرٍ من أصحابه، هو سابعهم - فوقفت فسلمت، فقال: اجلس! فقلت: يا رسول الله، أشهد ألا إله إلا الله وأنك رسول الله! قال: أفلح وجهك! ثم قال: يا بلال، أطعمنا!
قال: فبسط بلال نطعاً، ثم جعل يخرج من حميتٍ له، فأخرج خرجات بيده من تمرٍ معجونٍ بالسمن والأقط، ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): كلوا! فأكلنا حتى شبعنا فقلت: يا رسول الله، إن كنت لآكل هذا وحدي! قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الكافر يأكل في سبعة أمعاءٍ والمؤمن يأكل في معي واحد. قال: ثم جئته من الغد متحيناً لغدائه لأزداد في الإسلام يقيناً، فإذا عشرة نفرٍ حوله. قال: فقال هات أطعنا يا بلال. قال: فجعل يخرج من جراب تمرٍ بكلفه قبضة قبضة، فقال: أخرج ولا تخف من ذي العرش إقتاراً! فجاء بالجراب فنثره. قال: فحزرته مدين. قال: فوضع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يده على التمر، ثم قال: كلوا باسم الله! فأكل القوم وأكلت معهم، وكنت صاحب تمر. قال: فأكلت حتى ما أجد له مسلكاً. قال: وبقي على النطع مثل الذي جاء به بلال، كأنا لم نأكل منه تمرةً واحدةً. قال: ثم عدت من الغد. قال: وعاد نفر حتى باتوا، فكانوا عشرة أو يزيدون رجلاً أو رجلين، فقال: يا بلال، أطعمنا! فجاء بذلك الجراب بعينه أعرفه فنثره، ووضع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يده عليه فقال: كلوا باسم الله، فأكلنا حتى نهلنا، ثم رفع مثل الذي صب، ففعل مثل ذلك ثلاثة أيام.
قال: وكان هرقل قد بعث رجلاً من غسان إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فينظر إلى صفته وإلى علاماته، إلى حمرة في عينيه، وإلى خاتم النبوة بين كتفيه، وسأل فإذا هو لا يقبل الصدقة، فوعى أشياء من حال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؛ ثم انصرف إلى هرقل فذكر له ذلك، فدعا قومه إلى التصديقب به؛ فأبوا حتى خافهم على ملكه، وهو في موضعه لم يتحرك ولم يزحف. وكان الذي خبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - من بعثته أصحابه ودنوه إلى أدنى الشام - باطلاً، ولم يرد ذلك ولم يهم به. وشاور رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في التقدم، فقال عمر بن الخطاب،: إن كنت أمرت بالمسير فسر! قال: يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لو أمرت به ما استشرتكم فيه! قال: يا رسول الله، فإن للروم جموعاً كثيرةً، وليس بها أحد من أهل الإسلام، وقد دنوت منهم حيث ترى، وقد أفزعهم دنوك، فلو رجعت هذه السنة حتى ترى، أو يحدث اله عز وجل لك في ذلك أمراً.
قالوا: وهاجت ريح شديدة بتبوك، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): هذا لموت منافقٍ عظيم النفاق. قال: فقدموا المدينة فوجدوا منافقاً قد مات عظيم النفاق.
قال: وأتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بجبنةٍ بتبوك فقالوا: يا رسول الله، إن هذا طعام تصنعه فارس، وإنا نخشى أن يكون فيه ميتة. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ضعوا فيه السكين واذكروا اسم الله! قال: وأهدى رجل من قضاعة إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فرساً، فأعطاه رجلاً من الأنصار، وأمره أن يربطه حياله استئناساً بصهيله، فلم يزل كذلك حتى قدم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المدينة ففقد صهيل الفرس فسأل عنه صاحبه فقال: خصيته يا رسول الله! قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): فإن الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، اتخذوا من نسلها وباهوا بصهيلها المشركين، أعرافها أدفاؤها، وأذنابها مذابها. والذي نفسي بيده، إن الشهداء ليأتون يوم القيامة بأسيافهم على عواتقهم، لا يمرون بأحد من الأنبياء إلا تنحى عنهم، حتى أنهم ليمرون بإبراهيم الخليل خليل الرحمن فيتنحى لهم حتى يجلسوا على منابر من نور. يقول الناس: هؤلاء الذين أهريقوا دماءهم لرب العالمين، فيكون كذلك حتى يقضي الله عز وجل بين عباده!
قالوا: وبينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بتبوك قام إلى فرسه الظرب فعلق عليه شعاره وجعل يمسح ظهره بردائه. قيل: يا رسول اله تمسح ظهره برداءك؟ قال: نعم، وما يدريك؟ لعل جبريل أمرني بذلك، مع أني قد بت الليلة، وإن الملائكة لتعاتبني في حس الخيل ومسحها. وقال: أخبرني خليل جبريل أنه يكتب لي بكل حسنة أو فيتها إياه حينة، وإن ربي عز وجل يحط. عني بها سيئة. وما من امرئ من المسلمين يربط. فرساً في سبيل اله فيوفيه بعليفه يلتمس به قوته إلا كتب الله له بكل حبة حسنة، وحط عنه بكل حبة سيئة! قيل: يا رسول الله، وأي الخيل خير؟ قال: أدهم، أقرح، وأرثم محجل الثلث، مطلق اليمين، فإن لم يكن أدهم فكميت على هذه الصفة. قال: وقيل: يا رسول الله، فما في الصوم في سبيل الله؟ قال: من صام يوماً في سبيل الله تباعدت منه جهنم مسيرة مائة سنة كأغذ السير. ولقد فضل نساء المجاهدين على القاعدين في الحرمة كأمهاتهم، وما من أحدٍ من القاعدين يخالف إلى امرأةٍ من نساء المجاهدين فيخونه في أهله إلا وقف يوم القيامة فيقال له: إن هذا خانك في أهلك فخذ من عمله ما شئت؛ فما ظنكم؟ وكان عبد الله بن عمر أو عمرو بن العاص يحدث قال: فزع الناس بتبوك ليلةً، فخرجت في سلاحي حتى جلست إلى سالم مولى أبي حذيفة وعليه سلاحه، فقلت: لأقتدين بهذا الرجل الصالح من أهل بدر! فجلست إلى جنبه قريباً من قبة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) علينا مغضباً فقال: أيها الناس، ما هذه الخفة؟ ما هذا النزق؟ ألا صنعتم ما صنع هذان الرجلان الصالحان؟ يعنيني وسالماً مولى أبي حذيفة.
قالوا: ولما انتهى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى تبوك وضع حجراً قبلة مسجد تبوك بيده وما يلى الحجر، ثم صلى الظهر بالناس، ثم أقبل عليهم فقال: ما هاهنا شام، وما هاهنا يمن.
وكان عبد الله بن عمر يقول: كنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بتبوك، فقام يصلي من الليل، وكان يكثر التهجد من الليل، ولا يقوم إلا استاك، وكان إذا قام يصلي صلى بفناء خيمته، فيقوم ناس من المسلمين فيحرسونه. فصلى ليلة من تلك الليالي، فلما فرغ أقبل على من كان عنده فقال: أعطيت خمساً ما أعطيهن أحد قبلي: بعثت إلى الناس كافة، وإنما كان النبي يبعث إلى قومه، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، أينما أدركتني الصلاة تيممت وصليت، وكان من قبلي يعظمون ذلك ولا يصلون إلا في كنائسهم والبيع، وأحلت لي الغنائم آ كلها، وكان من كان قبلي يحرمونها، والخامسة هي ما هي، هي ما هي، هي ما هي! ثلاثاً. قالوا: وما هي يا رسول الله؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): قيل لي: سل، فكل نبي قد سأل، فهي لكم ولمن شهد أن لا إله إلا الله.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
خدمات متعددة يقدمها قسم الشؤون الخدمية للزائرين
|
|
|