أقرأ أيضاً
التاريخ: 2024-04-02
748
التاريخ: 25-04-2015
2397
التاريخ: 5-05-2015
2180
التاريخ: 5-05-2015
2731
|
تنبّه معربو القرآن إلى حروف العطف في السورة الكريمة ، ومتى يقصد بها العطف ومتى لا يقصد بها ذلك ، ودور السياق في تحليل هذه المواضع ومن أمثلة ذلك قوله تعالى : " ومن الناس من يقول آمنا باللّه وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين" في الآية الثامنة من سورة البقرة ، ، وقال أبو البقاء العكبري فيها : " {وَمِنَ النَّاسِ} " الواو دخلت هنا للعطف على قوله { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}. وذلك أنّ هذه الآيات استوعبت أقسام الناس فالآيات الأول تضمّنت ذكر المخلصين في الإيمان وقوله {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} تضمّن ذكر من أظهر الكفر ، وأبطنه ، وهذه الآية تضمّنت ذكر من أظهر الإيمان وأبطن الكفر ، فمن هنا دخلت (الواو) لتبيّن أنّ المذكورين من تتمّة الكلام الأوّل «1». إنّ النحويّ هنا يقرّر أنّ (الواو) للعطف ابتداء ، وحيث أنّه يرى العطف فيه علاقة ترتيب أو اشتراك في الحكم فإنّه يبحث عن هذا في تآلف السياق بين موضع العطف وما يسبقه ، وهنا يعتمد على عنصر (الموضوع) في تآلف هذا السياق وعبّر عنه بقوله : " إنّ المذكورين من تتمّة الكلام الأول".
ومن أمثلته كذلك قوله تعالى : { قُلْنَا
اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ
هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} في الآية (38). قيل في {خَوْفٌ} والرفع
والتنوين هنا أوجه من البناء على الفتح لوجهين : أحدهما انه عطف عليه ما لا يجوز
فيه إلّا الرفع وهو قوله {وَلا هُمْ} لأنّه
معرفة ، و(لا) لا تعمل في المعارف ، فالأولى أنّه يجعل المعطوف عليه كذلك ليتشاكل
الجملتان ، كما قالوا في الفعل المشغول بضمير الفاعل ، نحو قام زيد وعمرا كلّمته
فإنّ النصب في (عمرو) أولى ليكون منصوبا بفعل ، كما أنّ المعطوف عليه عمل فيه
الفعل. والوجه الثاني من جهة المعنى؛ وذلك بأنّ البناء يدلّ على نفي الخوف عنهم
بالكليّة ، وليس المراد ذلك بل المراد نفيه عنهم في الآخرة ، فإن قيل : لم لا يكون
وجه الرفع أنّ هذا الكلام مذكور في جزاء من اتّبع الهدى ، ولا يليق أن ينفي عنهم
الخوف اليسير ، ويتوهّم ثبوت الخوف الكثير. قيل : الرفع يجوز أن يضمر معه نفي
الكثير ، تقديره :
ولا خوف كثير عليهم ، فيتوهّم ثبوت
القليل ، وهو عكس ما قدّر في السؤال ، فبان أنّ الوجه في الرفع ما ذكرنا" «2». إنّ في
النصّ السابق إشارة إلى التشاكل الذي سبق أنّ تحدثنا عنه في الفصل الأوّل وهو
تشاكل تركيبي ، كما أنّ فيه إشارة إلى دور المعنى في إعراب النصّ وفيه مراعاة لهدف
النصّ (نفي الخوف عنهم) كما أنّ فيه استحضارا لدور المخاطب" ويتوهّم ثبوت
الخوف" إنّ هذا النصّ يعكس الموقف الخطابي كاملا : المخاطب والمخاطب والموضوع
، وانظر إلى مصطلحاته : التشاكل ، ما يليق ، وكلّها تصبّ في موضوع العلاقة بين
النصّ والسياق.
وقد يلجأ المعرب إلى توضح مجيء
العطف بين لفظين يبدو ان مترادفين من مثل العفو والصفح في الآية (109) { فَاعْفُوا
واصْفَحُوا} فقال
الزجّاج : " لأنّ العفو ألّا يكون في القلب من ذنب المذنب أثر ، والصفح أنّ
يبقى له أثر ما ، ولكن لا تقع به المؤاخذة" «3».
وهذا شرح سياقيّ للألفاظ ودفاع عن
تآلف السياق وعدم وجود الحشو فيه ، وهو كذلك استئناس بحال المخاطب من حيث ما يعتمل
في صدره وموقفه من خصمه.
ومن أمثلته كذلك قوله تعالى في الآية
(217) من سورة البقرة { يَسْئَلُونَكَ
عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ ، قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ، وَصَدٌّ
عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وإِخْراجُ أَهْلِهِ
مِنْهُ أَكْبَرُ} قال
مكيّ بن أبي طالب : " قوله تعالى {وَالْمَسْجِدِ
الْحَرامِ} عطف على (سبيل اللّه) أي قتال في الشهر الحرام كبير ، وهو
صدّ عن سبيل اللّه وعن المسجد الحرام.
وقال الفرّاء :
" والمسجد معطوف على الشهر الحرام ، وفيه بعد لأنّ سؤالهم لم يكن عن المسجد
الحرام ، إنّما سألوا عن الشهر الحرام ، هل يجوز فيه القتال؟ فقيل لهم : القتال
فيه كبير الإثم ، ولكنّ الصدّ عن سبيل اللّه ، وعن المسجد الحرام ، والكفر باللّه
وإخراج أهل المسجد الحرام منه أكبر عند اللّه إثما من القتال في الشهر الحرام ، ثم
قيل لهم : " والفتنة أكبر من القتل" أي والكفر باللّه عزّ وجل الذي أنتم
عليه أيها السائلون أعظم إثما من القتل في الشهر الحرام الذي سألتم عنه وأنكرتموه
فهذا التفسير يبيّن إعراب هذه الآية «4»".
وأمّا النحّاس فقد قال في هذه الآية
: " في المسجد الحرام عطف على الشهر ، أي ويسألونك عن المسجد فقال تعالى :
" وإخراج أهله منه أكبر عند اللّه ، وهذا لا وجه له ، لأنّ القوم لم يكونوا
في شكّ منه عظيم ، ما أتى المشركون المسلمين في إخراجهم من منازلهم بمكّة فيحتاجون
إلى المسألة عند أهل كان ذلك لهم ، ومع ذلك فإنّه قول خارج عن قول العلماء ، لأنّهم
أجمعوا أنّها نزلت في سبب قتل ابن الحضرمي" «5».
إنّ المعرب هنا استبعد وجها من
الإعراب وهو عطف المسجد على الشهر الحرام ، واتّكأ في هذا الاستبعاد على موقف
الخطاب ، حوار المتخاطبين ، وأسئلتهم ، وطبيعة ما أرادوه في السؤال ، وغرض السؤال
، ومعنى الجمل في الخطاب ، فهو إذن مرتبط بسياق النصّ الخارجي ، الذي تبدّى داخل
النص وعلاقاته. وفي توجيه النحاس استقراء مباشر لسياق الحال ، من خلال سبب النزول
في قراءة (الناس) وتوجيهه أنّ النحاة يرون الإعراب فرع المعنى ، والمعنى مرتبط
بالسياق الداخلي والخارجي معا.
ومن مواضع العطف التي نشير إليها في
هذا الموضوع قوله تعالى في الآية (245) :
" من ذا الذي يقرض اللّه قرضا
حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة ، واللّه يقبض ويبسط وإليه ترجعون". قال مكي :
" من رفعه عطفه على ما في الصلة وهو (يقرض) ، ويجوز رفعه على القطع ممّا قبله
، ومن نصبه حمله على العطف بالفاء على المعنى دون اللفظ فنصبه ، ووجه نصبه له أنّه
حمله على المعنى فأضمر بعد الفاء (أن) فتكون مع الفعل مصدرا ، فتعطف مصدرا على
مصدر ، فلمّا أضمر (أن) نصب الفعل ومعنى حمله له على المعنى ، أنّ معنى { مَنْ
ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} من يكن منه قرض يتبعه أضعاف ، فلمّا
كان معنى صدر الكلام المصدر جعل الثاني المعطوف بالفاء مصدرا ليعطف مصدرا على مصدر
، فاحتاج إلى إضمار (أن) لتكون مع الفعل مصدرا فنصب الفعل ، والفاء عاطفة للترتيب
على أصلها في باب العطف ، ولا يحسن أن تجعل" فيضاعفه" في قراءة من نصب
جوابا للاستفهام بالفاء ، لأنّ القرض غير مستفهم عنه إنّما الاستفهام عن فاعل
القرض أ لا ترى أنّك لو قلت : أزيد يقرضني فأشكره لم يجز النصب على جواب الاستفهام
، لم يقع على القرض ، إنّما وقع على زيد. ولو قلت : أ يقرضني زيد فأشكره جاز النصب
على جواب الاستفهام لأنّ الاستفهام عن القرض وقع. وقد قيل : إنّ النصب في الآية
على جواب الاستفهام محمول على المعنى ، لأنّ" من يقرض اللّه" و{مَنْ ذَا
الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ} سواء
في المعنى. والأوّل عليه أهل التحقيق والنظر والقياس «6». إنّ
الحمل على المعنى يعدّ أصلا رئيسا يصدر عنه النحويّ ، ثم إنّ معنى مطلع الكتاب لا
بدّ ان يتّسق مع معنى آخره" فلمّا كان معنى صدر الكلام ..." ثمّ إنّ
مقصد السائل وموضوع التساؤل كذلك ، ووقائع حادثة السؤال ، كلّها لها علاقة مباشرة
بتوجيه الإعراب هنا .. وهذا انعكاس آخر من انعكاسات علاقة النصّ بالسياق ، إنّ
العطف يعدّ موضعا حيويّا لتبدّي هذه العلاقة لأنّه أداة ترابط بين أجزاء الكلام ، ولأنّه
يشير إلى الاتساق الداخلي والخارجي معا ، فحين يقطع المخاطب يقصد أن يحدث أثرا ما
في ذهن المخاطب ، وحين يعطف ويصل يقصد شيئا آخر ، وهو ما حرص النحاة على إظهاره : ما
معنى الجملة إذا قصد العطف؟ وما معناها إذا لم يقصد ذلك.
وتختلف توجيهات المعرب لمعنى الآية
باختلاف المعطوف عليه ، وهو يظهر أيّ لون من التركيب السياقي تمّ اختياره في كلّ
حالة ، ومن أمثلته في الآية (271) { إِنْ
تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ
فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللَّهُ بِما
تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}. " فمن
جزم الراء في {وَيُكَفِّرُ} عطف
على موضع الفاء في قوله : {فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} ومن
رفع فعلى القطع ، ومن قرأ بالنون ورفع قدّره : (ونحن نكفّر) ومن قرا بالياء ورفع
قدّره : {و اللّه يكفر عنكم} «7». إنّ
السياق الداخلي يتحدّد بحسب مكوّناته وهو ما يعيدنا إلى قولهم : " لكلّ كلمة
مع صاحبتها مقام " ويعيدنا إلى التحليل المكوّناتي عند علماء الدلالة في
العصر الحديث ، إنّ البدائل التي يتيحها السياق تسمح بتكوين عدد غير قليل من
قراءات النص بحسب اختلاف المكوّنات أو العناصر اللّغوية في ذلك النص. وقال
الزجّاج" قرأ الأعمش" فهو خير لكم نكفّر عنكم" بغير واو جزما ، والصحيح
عن عاصم أنّه قرأ مرفوعا بالنون ، وروى عنه حفض أنّه قرأ (وَ يُكَفِّرُ) بالياء
والرفع ، وكذلك روى عن الحسن وروى عنه بالياء والجزم ، وقرأ عبد اللّه ابن عباس : (وتكفّر
عنكم من سيّئاتكم) بالتاء وكسر الفاء والجزم وقرأ عكرمة (و تكفّر عنكم) بالتاء
وفتح الفاء والجزم ، قال أبو جعفر : أجود القراءات (و نكفّر عنكم) بالرفع هذا قول
الخليل وسيبويه. قال سيبويه : والرفع هاهنا الوجه ، وهو الجيّد لأنّ الكتاب الذي
بعد الفاء جرى مجراه في غير الجزاء ، وأجاز الجزم. يحمله على المعنى ، لأنّ
المعنى" وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء يكن خيرا لكم ونكفّر عنكم" وقرأ
ابن عبّاس : (و تكفر) يكون معناه وتكفّر الصدقات ، وقراءة عكرمة (و تكفّر عنكم) أي
أشياء من سيّئاتكم فأمّا النصب (و نكفّر) فضعيف وهو على إضمار (أن) وجاز على بعد
لأنّ الجزاء إنّما يجب به الشيء لوجوب غيره فضارع الاستفهام" «8». إنّ
الاتساق بين أول الكلام وآخره من حيث المعنى ، ومن حيث اتّصال الموضوع هاجس لدى
المعرب في مسألة العطف وغيره ومن ثمّ يصبح تآلف المعنى هو هدف النحويّ ، ثمّ
الترتّب المنطقي للأسباب والنتائج والوقائع ، يعدّ هاجسا آخر وكلّ هذا له صلته
بالسياق.
ومن الأمثلة التي يشيرون إليها في
الآية (53) { وإِذْ
آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ والْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} قال أبو
جعفر النحّاس : {وَإِذْ
آتَيْنا مُوسَى} بمعنى
أعطينا (موسى الكتاب) مفعولان (والفرقان) عطف على (الكتاب) قال الفرّاء : وقطرب
يقول : وإذ آتينا موسى الكتاب أي التوراة ، ومحمّدا- صلى اللّه عليه وآله وسلّم-
الفرقان ، وهذا خطأ في الإعراب والمعنى ، أمّا الإعراب فإنّ المعطوف على الشيء
مثله. وعلى هذا القول يكون المعطوف على الشيء خلافه ، وأمّا المعنى فقد قال فيه
جلّ وعزّ : {ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان} ، قال
أبو إسحاق : يكون الفرقان هذا الكتاب أعيد ذكره ، وهذا أيضا بعيد إنّما يجيء في
الشعر كقول الشاعر : (و ألفى قولها كذبا ومينا) وأحسن ما قيل في هذا قول مجاهد : فرقانا
بين الحقّ والباطل الذي علّمه إياه «9».
إنّ المعرب اعتمد على حقيقتين :
أولاهما معنى العطف ، والثانية التوافق المادّي والواقعي بين المعطوف والمعطوف
عليه " يكون المعطوف على الشيء خلافه " ومن ناحية أخرى فمقصد المخاطب
وتقدير المعنى من العناصر الثابتة في الترجيح والاستبعاد لدى النحاة. إنّ القاعدة
النحوية لا يمكن إعمالها بمعزل عن السياق وهذا هو ما أكده الزجاج بترجيح قول
مجاهد.
وفي الآية (125) { وَإِذْ
جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ
إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وعَهِدْنا إِلى...} في قوله
: { واتّخذوا } قيل
" معطوف على (جعلنا) ، قال الأخفش أي واذكروا إذ اتخذوا معطوف على (اذكروا
نعمتي). ومن قرأ { واتّخذوا } قطعه
من الأول وجعله أمرا وعطف جملة على جملة ، وقد ذكرنا انه قيل : الأولى ان
يكون" مقام إبراهيم" الذي يصلّي إليه الأئمة الساعة ، وإذا كان كذا كان
الأولى (و اتّخذوا) لحديث حميد بن انس ... وليس يبعد (واتّخذوا) على الاختيار ثمّ
يكون قد عمل به ، على أنّ حماد بن سلمة قد روى عن هشام بن عروة عن أبيه أنّ رسول
اللّه- صلى اللّه عليه وآله وسلّم- وأبا بكر وعمر رضي اللّه عنهما- صدرا من خلافته
كانوا يصلّون بإزاء البيت ثم صلّى عمر إلى المقام ، وهو اسم للموضع ومقام من أقام
وتدخلها الهاء للمبالغة ، وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل في موضع خفض." «10» إنّ
المعرب يستصحب سياق الحال وهو يعرب ، ويتّكئ على النصوص الأخرى كالأحاديث ليقوّي
قراءته للنصّ.
كما أنّه يستعين بالعناصر المكوّنة
الأخرى في النصّ.
وفي إعراب الآية (188) { وَلا
تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا ...} قيل :
" عطف على (تأكلوا) وفي قراءة
أبي (و لا تدلوا) ويجوز أن يكون (ولا تدلوا) جواب الأمر بالواو«11»".
نجد أيضا أن توجيه العطف أو توجيه الآية يعتمد على خيارات يضعها النحوي بناء على
تقدير المعنى ، وأن تأويله للآية هو الذي يوجّه هذا الإعراب بحسب مقصد المخاطب كما
يفهمه المعرب.
ومن أمثلته قوله تعالى في الآية (199) { ثُمَّ
أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ} قال
السمين الحلبي : " استشكل الناس مجيء (ثم) هنا من حيث أنّ الإفاضة الثانية
هي الإفاضة الأولى ، لأنّ قريشا كانت تقف بمزدلفة وسائر الناس بعرفة فأمروا أنّ
يفيضوا من عرفة ، وفي ذلك أجوبة : أحدها أنّ الترتيب في الذكر لا في الزمان الواقع
فيه الأفعال ، وحسن ذلك أنّ الإفاضة الأولى غير مأمور بها ، إنّما المأمور به ذكر
اللّه إذا فعلت الإفاضة ، والثاني : أن تكون هذه الجملة معطوفة على قوله : { واتَّقُونِ
يا أُولِي} ففي
الكلام تقديم وتأخير وهو بعيد ، والثالث أن تكون (ثمّ) بمعنى الواو ، وقد قال به
بعض النحويّين ، من يعطف كلام على كلام منقطع من الأوّل ، والرابع أنّ الإفاضة
الثانية هي من مزدلفة إلى منى ، والمخاطبون بها جميع الناس" «12». وفي
هذا النص ربط بالمقام الخارجي بتفاصيله ، وربط بحركات الحجّ وشعائره ، وربط
بالمخاطبين كذلك.
ويشير الزمخشري إلى علاقة السياق
بالفصل والوصل ، بقوله في تفسير الآيات الأولى من سورة البقرة : " فان قلت : لم
قطعت قصّة الكفّار عن قصّة المؤمنين ولم تعطف ، قلت لأنّ الأولى فيما نحن فيه سوقه
لذكر الكتاب ، وأنّه هدى للمتقين ، وسيقت الثانية لأنّ الكفّار من صفتهم كيت وكيت
، فبين الجملتين تباين في الغرض والأسلوب ، وهما على حد لا مجال فيه للعاطف ، فإن
قلت هذا ، إذا زعمت أنّ الذين يؤمنون جار على المتّقين ، فأمّا إذا ما ابتدأته
وبنيت الكلام لصفة المؤمنين ثمّ عقّبه بكلام آخر في صفة أضدادهم كان مثل تلك الآي
..." فإن قلت : فلم جاء الإيمان مطلقا في الثاني ، وهو مقيّد في الأول؟ قلت :
يحتمل أن يراد التقييد ويترك لدلالة المذكور عليه ، وأن يراد بالإطلاق أنّهم ليسوا
من الإيمان في شيء قطّ ، لا من الإيمان باللّه وباليوم الآخر ولا من الإيمان
بغيرهما" «13». إنّ
الزمخشري يحرّكه في تأويله هنا السياق العام للآيات (تتابعها وتجاورها وموضوعها)
(مسوقة ...) والعطف يقتضي تناغم السياق والموضوع ، فإذن لا مجال هنا للعاطف بين
موضعين لا يوجد بينهما مثل هذا التناغم فهما متباينان في الأسلوب ، ويحرّكه كذلك
غرض النصّ ومقصده ، فاختلاف الغرض ينفي احتمال العطف.
ويصرّح العكبري بأهميّة العطف في
ترابط الخطاب ، وتوخّي المعنى في الوصل والقطع في إعرابه للآية (246) قال : "
وما لنا" ما : استفهام في موضع رفع بالابتداء ، و(لنا) الخبر ، ودخلت الواو
لتدلّ على ربط هذا الكلام بما قبله ، ولو حذفت لجاز ان يكون منقطعا عنه ، وهو
استفهام في اللفظ وإنكار في المعنى" «14».
و في تفسير الزمخشري أيضا
للآية" صبغة اللّه ومن أحسن من اللّه صبغة ونحن له عابدون" قال : "
إنّما جيء بلفظة (الصبغة) على طريقة المشاكلة (لصنيع النصارى في المعموديّة)
وقوله" ونحن له عابدون" عطف على (آمنا باللّه) وهذا العطف يردّ قول من
زعم أنّ (صبغة اللّه) بدل من (ملّة إبراهيم) ونصب على الإغراء بمعنى : (عليكم صبغة
اللّه) لما فيه من فك النظم وإخراج الكلام عن التئامه واتساقه"«15». إن
البدائل التي يرجّح المعرب من خلالها تهدف كما لخّص ذلك الزمخشري إلى اتّساق النظم
، وديمومة التئامه واتّساقه ، وأي بديل يؤخّر هذا الهدف يستبعد ثم انظر إلى موضوع
المشاكلة الدلاليّة التي أشار إليها في أوّل القول وعلاقة ذلك كلّه بالسياق.
ونخلص من كلّ ذلك إلى أنّ معربي كتاب
اللّه عزّ وجل قد اهتمّوا اهتماما بالغا بمواضع العطف وحروفه ، وصرّحوا بالعطف
وسيلة للوصل والربط بين أجزاء النصّ الكريم ، ووقفوا عند معنى العطف في الجملة ، ومتى
يقصد بالجملة القطع ومتى يقصد بها الاتصال ، من خلال نظرهم في معاني الجمل
والمفردات المجاورة في عمليّة العطف ، ولعلّ هذا يعدّ مدخلا من مداخل (نحو النص)
الذي ينظر إلى ما يسبق الجملة وما يليها ، ويمكن أن يطوّر النظر إليه واعتباره
بذرة في تنمية (علم النصّ) وهو ما أصبح ضرورة لازمة في الوقت الحاضر نظرا لتوسّع
الفنّ السردي كالقصّة والرواية. وعلم النصّ أداة مهمّة من أدوات تحليل هذا الفن ، في
ضوء ظهور ما يعرف بعلم اللّغة الأدبي. إنّ ملاحظات النحاة في مسألة العطف تعدّ
بالغة الأهميّة في مثل هذا المقام. وقد تنبّه النحاة إلى أنّ العطف والاتّصال
يعتمد على عنصر الموضوع واتّصاله أو انقطاعه ، وتآلف السياق من حيث الغرض والأسلوب
، واتّصال أول الكلام مع آخره ، وفي بحث النحاة عن مسألة العطف رأينا مجموعة من
المصطلحات الغنية في موضوع السياق من مثل (المشاكلة) ، و(اللّياقة) ، (ما يليق) ، (والمضارعة)
و(الالتئام) ، و(الاتّساق) ، والسياق (سيقت ، مسوقة) و(الانقطاع) و(الاتصال)
و(النظم) و(التباين) ، وقد نظر النحاة كذلك إلى عناصر الموقف الخطابي كاملا من مثل
استحضار المخاطب وما يليق في حقّه ، والمخاطب وما يناسبه من وجوه الخطاب واستحضار
سياق الحال المرافق للخطاب ، من مثل موقف الاستفهام أو الإنكار ، وكان المعرب يقبل
وجها أو يستبعد وجها آخر بالاتّكاء على هذه المسائل وغيرها.
و يبرز الحمل على المعنى عنصرا رئيسا
في عملية الترجيح والاستبعاد ، وقد صدر عنها النحاة صدورا عفويّا ومستمرّا ، كما
أوضحوا دور العطف باعتباره موضعا حيويّا من مواضع الارتباط والتجانس بين أجزاء
النصّ ، وهو يعكس نوعا من الصلة المباشرة بين المخاطب والخطاب لأنّ العطف يبرز ما
يريد المخاطب إيصاله للمخاطب. كما اختلفت توجيهات المعربين باختلاف العنصر الذي
وقع العطف عليه ، وذلك يظهر أيّ لون من التركيب السياقي تمّ اختياره بناء على
تأويل مسبق للنصّ ، أو مدخلا للحصول على تأويل مناسب للنصّ ، وهو ما يعيدنا إلى
التحليل المكوّناتي ودرس (جون لاينز) في علم الدلالة.
ويحكم النحاة على حدوث العطف من خلال
الحكم على إمكانيّة اجتماع طرفي العطف (المعطوف والمعطوف عليه) في واقع الحياة
المشاهدة وبناء عليه قد يقبلون حدوث هذا العطف أو يستبعدونه كما في مثال الكتاب
والفرقان في الآية (53) من سورة البقرة.
وقد يستشهد النحوي بسبب النزول ليوضح
سياق الحال من أجل ترجيح وجه على وجه آخر أو لإظهار المعنى المراد من الآية ، كما
أنّه يستعين بالنصوص الأخرى ليقوّي قراءته الخاصّة للنصّ من خلال ترجيحاته التي
خلص إليها.
______________________
(1) العكبري : أبو البقاء عبد اللّه
بن الحسين العكبري (ت 616 ه) ، التبيان في علوم القرآن ، تحقيق علي محمد البجاوي ،
ط 2 ، دار الجيل ، بيروت/ لبنان ، 1982 ، ص : 24.
(2) العكبري : التبيان في إعراب
القرآن ، ص : 55.
(3) الزجاج ، ص : 93.
(4) مكي بن أبي طالب القيسي (ت 437
ه) ، مشكل إعراب القرآن ، تحقيق : ياسين محمد السواس ، ط 1 دمشق ، 1974 ، 1/ 95.
(5) النحاس ، إعراب القرآن ، 1/ 308.
(6) النحاس ، إعراب القرآن ، 1/
(102- 103).
(7) مكي بن أبي طالب ، تأويل مشكل
إعراب القرآن ، 1/ 114.
(8) النحاس ، إعراب القرآن ، 1/ 39.
(9) نفسه ، 1/ 25.
(10) النحاس ، إعراب القرآن ، 1/
260.
(11) نفسه ، 1/ 255.
(12) السمين الحلبي : أحمد بن يوسف
(ت 756 هـ) ، الدّر المصون في علوم الكتاب المكنون ، تحقيق د. أحمد الخرائط ، ط 1 ،
دار القلم/ دمشق/ 1986 ، 2/ 332.
(13) الزمخشري ، الكشاف ، 1/ 55.
(14) العكبري ، 1/ 196.
(15) الزمخشري الكشاف ، 1/ 196.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
في مستشفى الكفيل.. نجاح عملية رفع الانزلاقات الغضروفية لمريض أربعيني
|
|
|