أقرأ أيضاً
التاريخ: 22-12-2014
5019
التاريخ: 2024-03-04
656
التاريخ: 2024-04-03
581
التاريخ: 2024-02-23
1204
|
واجه الإسلام ما تواجهه كل دعوة من الإنكار؛ وجادل عن دعوته من تصدّوا لجدالها. ولما كان القرآن هوكتاب هذه الدعوة، فقد تضمن الكثير من الجدل. فكيف تراه قد جادلهم؟
أي الوسائل سلك، وأي الأدلة اختار؟
قبل أن نجيب عن هذه الأسئلة يجب أن ننظر في المهمة الأولى التي جاء لها القرآن.
لقد جاء القرآن لينشئ عقيدة ضخمة- عقيدة التوحيد- بين قوم يشركون باللّه آلهة أخرى، ويكون من العجب العاجب عندهم أن يقول لهم قائل : إن اللّه واحد :
{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} [ص : 5 - 7] .
ولقد ننظر نحن اليوم إلى هذه القضية نظرة أخرى؛ ولقد نضحك من هذه الطفولة البادية في هذه المقالة؛ ولكن لا مفرّ من أن ننظر إلى المسألة على وضعها يومذاك، حيث كان التوحيد يتلقى بكل هذا العجب في ذلك الزمان.
ولم يكن كل من واجههم القرآن بدعوته من هؤلاء العرب السذّج المشركين باللّه. لقد كان هناك أهل الكتاب. وهؤلاء كانوا يكرهون أن يأتي دين جديد يعفّي على دينهم، وينزل على رجل ليس منهم، ولوكان هذا الدين متفقا مع دينهم في الأساس :
{وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة : 89]
ويجب أن نلاحظ كذلك أن هذا الاتفاق كان في أصول الدين، لا في عقائد أهله حينذاك. فهؤلاء اليهود كانوا يقولون :
{عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} وهؤلاء النصارى كانوا يقولون : {الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ}، وهؤلاء وهؤلاء كانوا يقولون : {نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وأَحِبَّاؤُهُ} أويقولون :
{لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ}. كما يحكي القرآن عنهم في شتى المناسبات.
فهؤلاء وأولئك على السواء كانت مهمة الإسلام بالقياس إليهم هي إنشاء عقيدة جديدة في الحقيقة. وعلى هذا وذلك تكون وظيفة القرآن الأولى، هي إنشاء هذه العقيدة الضخمة. عقيدة التوحيد. على النحوالجديد.
ونقول عقيدة ضخمة - وإن كانت تبدولنا اليوم بديهية أوكالبديهية- فليس من السهل على هذه الإنسانية التي تعلقت منذ طفولتها بشتى قوى الطبيعة، وشتى أطياف المجهول؛ ولا بست حياتها آلاف الظواهر الخارقة ، وآلاف الوجدانات الباطنة .. أن تتخلى عن هذا الشتيت العميق في ضمائرها، وأن تهرع إلى إله واحد يسيطر على كل هذه القوى.
وحقيقة إن الإسلام لم يكن أوّل دين يدعوإلى التوحيد. ولكن لقد وجدت الأديان كلها من العنت بسبب دعوة التوحيد مثلما لاقى الإسلام. على أن التوحيد الذي دعا إليه الإسلام كان توحيدا تجريديا مطلقا، أمعن في التجريد من كل توحيد قبله؛ فهوأشد معارضة لما وقر في النفوس من التجسيم والتشبيه من كل أديان التوحيد.
كانت وظيفة القرآن إذن أن ينشئ هذه العقيدة الخالصة المجردة. وموطن العقيدة الخالد هوالضمير والوجدان- موطن كل عقيدة لا العقيدة الدينية وحدها- وأقرب الطرق إلى الضمير هوالبداهة، وأقرب الطرق إلى الوجدان هوالحس. وما الذهن في هذا المجال إلا منفذ واحد من منافذ كثيرة؛ وليس هوعلى أية حال أوسع المنافذ ولا أصدقها ولا أقربها طريقا.
وبعض الناس يكبرون من قيمة هذا الذهن في هذه الأيام، بعد ما فتن الناس بآثار الذهن في المخترعات والمصنوعات والكشوف.
وبعض البسطاء من أهل الدين تبهره هذه الفتنة، فيؤمن بها ويحاول أن يدعم الدين بتطبيق نظرياته على قواعد المنطق الذهني، أوالتجريب العلمي!
إن هؤلاء- في اعتقادي- يرفعون الذهن إلى آفاق فوق آفاقه. فالذهن الإنساني خليق بأن يدع للمجهول حصته، وأن يحسب له حسابه. لا يدعوإلى هذا مجرد القداسة الدينية. ولكن يدعوإليه اتساع الآفاق النفسية، وتفتح منافذ المعرفة. «فالمعقول» في عالم الذهن و«المحسوس» في تجارب العلم ليسا هما كل «المعروف» في عالم النفس. وما العقل الإنساني- لا الذهن وحده- إلا كوّة واحدة من كوى النفس الكثيرة. ولن يغلق إنسان على نفسه هذه المنافذ، إلّا وفي نفسه ضيق، وفي قواه انحسار، لا يصلح بهما للحكم في هذه الشئون الكبار.
فلندع الذهن يدبر أمر الحياة اليومية الواقعة، أويتناول من المسائل ما هوبسبب من هذه الحياة. فأما العقيدة، فهي في أفقها العالي هناك، لا يرقى إليه إلا من يسلك سبيل البداهة، ويهتدي بهدي البصيرة، ويفتح حسه وقلبه، لتلقي الأصداء والأضواء.
ولقد آمن بالبداهة والبصيرة- وما زال يؤمن- العدد الأكبر من المؤمنين بكل دين وعقيدة في الوجود؛ ولقد ظلّ علماء الكلام في الإسلام قرونا كثيرة، يبدءون ويعيدون في الجدل الذهني حول مباحث التوحيد، فلم يبلغوا بذلك شيئا مما بلغه المنطق القرآني في بضع سنين. فلننظر الآن في هذا المنطق البديهي الميسور.
لقد عمد القرآن دائما إلى لمس البداهة، وإيقاظ الإحساس، لينفذ منهما مباشرة إلى البصيرة، ويتخطاهما إلى الوجدان. وكانت مادته هي المشاهد المحسوسة، والحوادث المنظورة، أوالمشاهد المشخصة، والمصائر المصوّرة. كما كانت مادته هي الحقائق البديهية الخالدة، التي تتفتح لها البصيرة المستنيرة، وتدركها الفطرة المستقيمة.
أما طريقته فكانت هي الطريقة العامة : طريقة التصوير والتشخيص، بالتخييل والتجسيم. على النحوالذي فصّلناه في الفصول الماضية جميعا. (ونحن نستخدم هنا كلمة التجسيم بمعناها الفني لا بمعناها الديني بطبيعة الحال. إذ الإسلام هودين التجريد والتنزيه).
كان هذا هوالمنطق الوجداني الذي جادل به القرآن وناضل، وكسب المعركة في النهاية.
في هذا المنطق اشتركت الألفاظ المعبرة، والتعبيرات المصورة، والصور الشاخصة، والمشاهد الناطقة، والقصص الكثيرة، التي تحدثنا عنها حتى الآن.
وكل ما عرض من مشاهد القيامة وصور النعيم والعذاب، يعد في جملة هذا المنطق الذي يلمس الحس، ويوقظ الخيال، فيلمس البصيرة، ويوقظ الوجدان، ويهيئ النفس للاقتناع والإذعان.
ثم سلك القرآن غير الصور النفسية والمعنوية، وغير القصص الكثيرة، وغير مشاهد القيامة وصور النعيم والعذاب .. سلك غير هذا كله طريق الجدل التصويري في المنطق الوجداني الذي نفرد له هذا الفصل الآن.
وطبيعي إن الذي يهمنا- في هذا البحث- ليس موضوع الجدل، ولكن طريقة التعبير عنه. فالطريقة التصويرية التي سلكها هي التي تجعله عنصرا من عناصر بحثنا، إذ الجانب الفني وحده في القرآن هوموضوعنا الوحيد؛ ولا شأن لنا هنا بما عداه من مباحث القرآن.
كانت المشكلة الأولى التي واجهها الإسلام- كما قلنا- هي مشكلة التوحيد مع جماعة تنكر هذا التوحيد أشد الإنكار، وتعده إحدى الأعاجيب الكبار. فلننظر كيف حاجّهم في هذه القضية المعقدة.
لقد تناولها ببساطة ويسر، وخاطب البداهة والبصيرة، بلا تعقيد كلامي ولا جدل ذهني :
{أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوكَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء : 21 - 24]
أو: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [المؤمنون : 91]
هكذا في بساطة البداهة، التي لا ترى في السماوات والأرض فسادا، إنما ترى نظاما محكما، يوحي بأن المدبّر واحد، قادر عالم حكيم.
وهذه الصورة التي يخيّلها- لوكان هناك آلهة - {إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ} وإنها لصورة مضحكة، أن ينحاز كل فريق من المخلوقات إلى إله، وأن يأخذ كل إله مخلوقاته ويذهب. إلى أين؟ لا ندري؛ ولكننا نتخيّل هذه الصورة فنضحك من فكرة تعدد الآلهة، إذا كانت نتيجتها هي هذه النتيجة!
ثم ما ذا يصنع أولئك الآلهة الآخرون؟ هذه هي الأرض، وتلك هي السماء. فما آثارهم هنا أوهناك؟
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوأَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأحقاف : 4]
ثم هذه صور الخلق ومظاهر القدرة التي تراها الحواس، وتدركها البديهة، وتتملّاها البصائر :
{قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [النمل : 59 - 64]
وهكذا تشترك مشاهد الأرض والسماء، مع ما يقع لهم من الأحداث كل يوم، مع الأحاسيس الفطرية التي تلجئ الإنسان إلى القوّة الكبرى عند الشدة .. تشترك في مخاطبة الحس والخيال، ولمس البصيرة والوجدان، لتركيز عقيدة التوحيد في النفوس.
ومثل هذا كثير جدا في القرآن، مكرر- مع تنوّعه- تكرر صور القيامة، ومشاهد النعيم والعذاب، فكلها في الحقيقة منطق وجداني يدخل في هذا الباب.
وكانت المشكلة الثانية هي مشكلة البعث واليوم الآخر، مع
جماعة تقول : { إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [المؤمنون : 37] .بل إنها لترى في حكاية البعث من العجب، أشدّ مما ترى في حكاية الإله الواحد، إنها لتظن من يقول بهذا القول مجنونا فما يمكن أن يتحدث بهذا إلا المجانين!
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} [سبأ : 7-8]
إلى هذا الحد من الغرابة كانوا يتلقون حكاية البعث. فكيف جادلهم في هذا الشأن العجيب؟!
إنه عرض عليهم صور الخلق الظاهرة الخفية؛ وبسط لهم نشأة الحياة في الأرض عامة وفي الإنسان خاصة؛ ليروا أن الذي بدأ الخلق يستطيع أن يعيده :
{أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [ق : 15]
وبطريقة التصوير المعهودة راح يعرض عليهم مشاهد الحياة في الأرض وفي الإنسان :
{ قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا «1» (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا «2» (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا «3» (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [عبس : 17 - 32]
أو:
{يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [الروم : 19 - 24]
وهكذا يعرض عليهم في كل مرة مشاهد مألوفة : محسوسة أومعروفة، تطالع حواسهم في كل لحظة، وتواجه بديهتهم في كل نظرة، وتتصل بحياتهم ومعاشهم، وتلمس شعورهم ووجدانهم، وتسلك طريقها هيّنة إلى نفوسهم. وهويوجههم إلى هذه المشاهد بعرضها عليهم كأنها مشاهد جديدة- وإن مشاهد الطبيعة لجديدة أبدا عند من ينظر إليها بحسّ مرهف وعين مفتوحة- دون أن يثير ذلك الجدل الذهني، الذي قد يعتمد على المهارة، أكثر مما يعتمد على الحقيقة.
ولقد يتخطى منطقة الذهن كلها، ومنطقة الحواس جميعها، ليتصل مباشرة بمكمن العقيدة؛ حيث تتصل النفس مباشرة بالمجهول؛ وتجد في غموضه وبعده عن الحس والذهن ملاذا ومتاعا مجتمعين! ولكنه حتى في هذا يختار طريقة التصوير والتخييل :
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ } [النور : 41]
{تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء : 44]
{يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوالْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [غافر : 7، 9]
وهكذا يوقع هذا التصوير والتخييل في النفس، تلك الرهبة التي تحسها أمام المجهول، وتلك اللذة التي تستشعرها وهي تجول في ذلك العالم الخفيّ حيث :
{ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر : 7] وحيث : {تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ والْأَرْضُ ومَنْ فِيهِنَ}.
وقد لا يكون الغيب هكذا بعيدا. لقد يكون محسوسا، ولكنه مجهول؛ فهوكذلك يلمس الوجدان، ويثبت القدرة الكونية، ويملأ النفس بالإيمان :
{إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5) هُو الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ } [آل عمران : 5، 6]
فهذا دليل العلم بكل خفيّ. وهودليل وجداني واقع، لا يكد الذهن في فهمه وتخريجه.
ومثل هذا في محيط أوسع. وبتصوير أروع :
{وعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ. لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ. ويَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ والْبَحْرِ، وما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها، ولا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ ولا رَطْبٍ ولا يابِسٍ، إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ} .
ففي هذه الكلمات القلائل، تعبير قوي رهيب عن شمول علم الإله، مختار له أفضل الألفاظ المعبّرة، والعبارات المصوّرة.
فليس مجرّد تعبير عن معنى العلم الدقيق الشامل أن يقال : {وما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها}. {ولا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ}.
{ولا رَطْبٍ ولا يابِسٍ}. إنما هي صورة تخييلية مدهشة. وإن الخيال ليرود آفاق الدنيا كلها، ومجاهلها جميعا، ليتتبع هذه الأوراق الساقطة، وتلك الحبات المخبوءة المشمولة في مجاهلها ومخابئها بعلم اللّه، ثم يرتد إلى النفس، فيغمرها بالجلال والخشوع، ويتوجه بها إلى اللّه الذي يشمل بعلمه هذه المجاهل والآفاق.
ذلك هوالمنطق الوجداني، والجدل التصويري. فأين منه ذلك الجدل الذهني الذي ظل علماء الكلام يبدءون فيه ويعيدون قرونا من الزمان؟
نضرب هنا مثلا واحدا من الجدل الذهني الذي عزف عنه القرآن. ذلك حين قال : {إِنَّكُمْ وما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ} أوما هومثلها في المعنى. فوجد المشركون من العرب في هذا مجالا لجدل ذهني رخيص ظنوا أنهم يحرجون به محمدا مع أهل الكتاب. قالوا : وعيسى ابن مريم؟ هؤلاء جماعة من قومه يؤلّهونه. أ يدخل جهنم هوالآخر؟
فكان الرد الحكيم : {ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا. بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ}.
فهذا مثل من المنطق الذهني. صحيح من وجهة قواعد المنطق.
ولكن أين هومن المنطق السليم، ومن الحقيقة الطبيعية البسيطة؟
لم يكن المنطق الذهني ليصل إلى شيء لواتبعه القرآن؛ لا لأن ما فيه من حقائق لا تثبت لهذا المنطق؛ ولكن لأن العقيدة لا ينشئها هذا الجدل. إنها دائما في أفق أعلى من هذه الآفاق. وما
يعيب العقيدة أن يكون عمل الذهن فيها محدودا. فما الذهن إلا قوّة صغيرة محدودة، تتعلّق باليوميات، وما هوبسبب من اليوميات.
لقد لمس القرآن الوجدان؛ واتّبع في ذلك طريقة التصوير؛ فبلغ الغاية بمادته وطريقته، وجمع بين الغرض الديني والغرض الفني، من أقرب طريق ومن أرفع طريق.
_________
(1) نباتا.
(2) ملتفة.
(3) مرعى.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|