أقرأ أيضاً
التاريخ: 6-2-2017
4185
التاريخ: 2-2-2017
3688
التاريخ: 16-1-2017
2512
التاريخ: 8-11-2016
1475
|
ظهور الهوية العربية:
أ- بدايات غير محددة:
قبل القرن العاشر ق. م. لا نكاد نعرف شيئا واضحا عن أية علاقات خارجية يظهر فيها العرب كمجموعة بشرية لهم هوية محددة، سواء تحت اسمهم العام كعرب، أو تحت اسم أو آخر ينتمي لمنطقة أو أخرى من المناطق التي تنقسم إليها شبه الجزيرة العربية. وكل ما نعرفه في هذا الصدد إما إشارات قد تشمل العرب وغيرهم، أو إشارات قد تكون إلى العرب ولكن تحت تسميات أخرى وفي مناطق ربما نزحوا إليها من موطنهم في شبه الجزيرة، أو ذكر لأقوام من شبه الجزيرة كانت لهم تحركات في مجال هذه العلاقات ولكنهم إما يدخلون تحت الصفة السامية العامة، وإما يلتفون حول هوية جماعية يكاد يقتصر نصيبها من الصفة العربية على انتمائها للمنطقة التي أصبحت فيما بعد تسمى باسم بلاد العرب.
وعلى سبيل المثال، فإن النقوش المصرية القديمة طوال عهد الفراعنة ابتداء من الألف الثالثة ق. م. وحتى الفتح الفارسي لمصر في أواسط الألف الأولى ق. م. لا ترد فيها لفظة "ع ر ب" أو "أر ب" أو أية لفظة أخرى قريبة من هذا النطق، رغم وفرة هذه النقوش وغزارتها، ورغم كثرة أسماء الشعوب التي وردت ضمن هذه النقوش ممن احتكت بهم مصر في صورة أو أخرى في المراحل العديدة التي مر بها تاريخها في هذه الفترة. ومع ذلك فقد عرفت مصر في عهد الفراعنة طريقها إلى كل منطقة الهلال الخصيب التي تشكل التخوم الشمالية لشبه الجزيرة العربية في صور متعددة من العلاقات التجارية أو السياسية أو العسكرية. وكل ما نحظى به من إشارات في النقوش المصرية فيما يخص الموضوع الذي نحن بصدد الحديث عنه هو تسميات عامة مثل تسمية "عامو" أي: الآسيويين أو "تاعاموا" أي: أرض الآسيويين التي كانت تطلق على سكان أو مناطق الصحراء الشرقية وسورية وفلسطين والقسم الشمالي من شبه الجزيرة العربية، ومثل "تا - نثر" التي كانت تشير إلى الأراضي الواقعة إلى شرقي وادي النيل بوجه عام والتي كان مدلولها يتسع باتساع معرفة المصريين بالمناطق التي تشملها هذه الأراضي ونشاطهم فيها حتى شمل في عصر الدولة الحديثة المناطق الممتدة شرقي مصر عبر المنطقة السورية حتى شمال العراق، ومن ثم كان من الممكن أن يضم الامتدادات لشبه الجزيرة العربية (1).
أما الألفاظ المحددة التي وردت في هذه النقوش والتي قد تشير إلى بعض المجموعات العربية، فهي الأخرى لا تعطينا صورة مباشرة في هذا المجال؛ فلفظة "خبسيتو" التي ترد ضمن نقوش الدير البحري "في صعيد مصر" في أثناء وصف البعثة التجارية المصرية التي وصلت في عهد الملكة حتشبسوت "أواسط الألف الثانية ق. م" إلى بلاد بونت "الصومال والحبشة حاليًا" يرى بعض الباحثين أنها نطق مصري لكلمة حبشات، وهي اسم قبائل ذات أصل عربي جنوبي كانت تسكن منطقة مهرة في جنوبي بلاد العرب وهاجرت إلى الساحل الإفريقي للبحر الأحمر واستقرت في المنطقة وأعطتها اسمها "الحبشة". ولفظة "جنبتيو" التي تصف جماعة جاءوا إلى مصر في عهد تحتمس الثالث "1490-1436ق. م" تحمل إليه هدايا من الصمغ العطري ومن البخور، يرجح أحد الباحثين أنها تشير إلى القتبانيين، أحد الأقوام التي كانت تقطن العربية الجنوبية في العصور القديمة. أما قبائل الهكسوس التي غزت القسم الشمالي من المنطقة السورية حوالي 1700 ق. م. واستقرت فيه قرنا كاملا قبل أن يطردها فراعنة الأسرة الثانية عشرة، فلم يستقر الباحثون حتى الآن على هويتهم، فقد يكونون أحد شعوب المنطقة السورية أو خليطًا من هذه الشعوب قد يكون بينها عرب أو لا يكونون، وربما ضمت إلى جانبها مجموعات من شعوب أخرى من الشمال كانت تطاردها أمامها في أثناء إحدى تحركات الشعوب التي عرفت المنطقة عددًا منها في العصور القديمة (2).
والشيء ذاته نجده فيما يخص وادي الرافدين، فهنا نجد القبائل الآمورية تتسرب من منطقة الهلال الخصيب شبه الصحراوية، وربما من المنطقة السورية كذلك؛ لتقيم لها مواقع حصينة في مدينة بابل وعدد من المدن الأخرى المجاورة في أواخر الألف الثالثة ق. م. ثم سيطروا على كل وادي الرافدين في النصف الأول من القرن الثامن عشر ق. م. كذلك نجد الملك الآشوري تجلات بيليسر الأول "1114-1076" ق. م يجتاح مدينة تدمر "التي أصبحت مقر المملكة أو إمارة عربية في عصر لاحق". ولكن هذه المدينة كانت في عصر هذا الملك مدينة آمورية "تقع في بلاد آمورو" كما يشير النقش الذي وردت فيه. وهكذا نجد أنفسنا هنا كذلك لا نستطيع أن نتبين هوية العرب كمجموعة بشرية لها شخصيتها الجماعية المحددة. فالآموريون لا نستطيع أن نضفي عليهم أكثر من هوية سامية، فهم إحدى المجموعات التي تنطبق عليها هذه التسمية، وقد يكونون شديدي القرب من المجموعة العربية، ولكنهم ليسوا هذه المجموعة ذاتها (3)
ولكن القرن العاشر ق. م. والقرون التي تليه بدأت تشهد تطورًا محسوسًا في هذا الصدد. فمنذ ذلك القرن تظهر الهوية المحددة للعرب بشكل واضح في العلاقات مع شعوب المنطقة المجاورة لشبه الجزيرة، مثل العبرانيين والآشوريين والبابليين "الدولة البابلية الحديثة" والفرس. وحقيقة إن هذه الهوية قد لا تظهر كتسمية مباشرة للعرب، وإنما تظهر بشكل استنتاجي انتسابًا إلى مكان أو آخر أو قوم أو آخر من الأماكن والأقوام التي وجدت في شبه الجزيرة العربية، مثل سبأ والسبئيين "سواء أكان المقصود هو سبأ الموجودة في جنوبي شبه الجزيرة أم إحدى مستوطناتها في الشمال التي اتخذت الاسم نفسه" ومثل الدادانيين "أهل منطقة دادان - العلا الحالية". كذلك فإن الحالات التي تتخذ فيها هذه الهوية صورة تسمية مباشرة للعرب أو بلاد العرب، فإن هذه التسمية لا تعني لغويا أكثر من البدو أو البادية التي يسكنها البدو، كما هو الحال مثلًا في تسمية "عربيم" أو "عربئيم" بمعنى عرب، أو "مسّاها عرب" بمعنى بلاد العرب، في أسفار التوراة والتلمود عند العبرانيين، وكما هو الحال في تسمية "أريبي" أو "أرابي" أو ألفاظ أخرى مقاربة لها في النطق بمعنى عرب أو "ماتوا أريبي" بمعنى بلاد العرب عند الآشوريين والبابليين، أو تسمية "عربانه" أو أزبابه" في النصوص الفارسية. وأخيرا فإن التسمية المباشرة للعرب أو لبلاد العرب كانت تشير في كل الحالات، عند هذه الشعوب، إلى قبائل القسم الشمالي من شبه جزيرة العرب. ولكن مع كل هذه الملاحظات، فقد كانت كل هذه النصوص تدل على مجموعة بشرية أصبحت لها هوية أو شخصية جماعية محددة في مجال الاحتكاكات أو العلاقات الخارجية مع الشعوب المذكورة (4).
ب- العلاقات مع العبرانيين:
ونحن نجد هذه الصورة المحددة منذ القرن العاشر في أول علاقات نسمع عنها بين العرب وجيرانهم، وهي العلاقات مع العبرانيين. لقد وجدت قبل ذلك، في عهد الملك داود، إشارات في التوراة إلى معاملات مع العرب، ولكنها كانت معاملات فردية لا نسمع فيها إلا عن أفراد مثل "أوبيل الإسماعيلي" أي: المنتمي إلى بني إسماعيل، أو "يازيز الهجري" "نسبة إلى الهِجْر أو الحِجْر في مدائن صالح" (5). أما في القرن العاشر فنجد المعاملات العربية تتحول عن هذه الصورة الفردية لتصبح معاملات منطقة كاملة. وفي هذا النطاق تدور العلاقة بين ملكة سبأ والملك سليمان "970-937 ق. م" ملك العبرانيين. إن النصوص التي تشير إلى هذه العلاقة نلمس منها في وضوح محاولة من ملكة السبئيين لإقامة علاقات ودية مع هذا الملك تجاوزًا أو تخطيًّا لعلاقات يبدو من هذه النصوص أنها كانت على شيء من التوتر أو التأزم ومن ثم فهناك مصالح متعارضة لكلا الطرفين، وتحاول ملكة سبأ أن تخفف من حدة هذا التعارض الذي يضرب بمصلحة مملكتها. وقد رأينا في مناسبة سابقة أن مثل هذا التعارض لا يمكن أن يكون مفهومًا إذا كانت سبأ المقصودة هي مملكة سبأ الموجودة في القسم الجنوبي لشبه الجزيرة العربية. إذ في مثل هذه الحال لا توجد حدود مشتركة أو مصالح مهددة أو ضغوط سياسية أو غيرها، وإنما تصبح كل هذه الأمور أو بعضها واردة إذا كان بين المملكتين نوع من التجاور أو الاقتراب يجعل توتر العلاقات لسبب أو لآخر أمرا واردا. ونحن نجد في الواقع مدينة في الشمال تحمل اسم سبأ كلك ويرد ذكرها في النصوص الآشورية على أنها واقعة في أقصى الغرب بالنسبة للآشوريين، أي على حدود المنطقة السورية "بالمفهوم الجغرافي لهذه التسمية" ومن ثم تكون على حدود أو قرب حدود مملكة العبرانيين التي كان يتربع سليمان على عرشها. وقد قامت هذه المدينة ونمت حول واحدة أو أكثر من المستوطنات التي أقامها في شمالي شبه الجزيرة التجار السبئيون الجنوبيون شأنهم في ذلك شأن المعينيين، على سبيل المثال، الذين فعلوا شيئًا مماثلًا في الشمال (6).
سبأ المذكورة إذن، هي سبأ الشمالية والقضية المطروحة هي قضية تعارض بين المصالح. فإذا أدخلنا في اعتبارنا أن سبأ مدينة تجارية تحصل على موردها الاقتصادي الرئيسي من تحكمها في أحد المواقع التي يمر بها الخط التجاري الذي تمر به القوافل المحملة بالطيوب وغيرها من السلع الآتية من جنوبي شبه الجزيرة ومتجهة إلى موانئ البحر المتوسط في الشمال، أصبح من الطبيعي أن نستنتج أن نقطة التعارض بين مصالح المملكتين المتجاورتين هي نقطة مصالح تجارية مهددة بطريقة أو بأخرى. ونحن نجد في الواقع في سياسة الملك سليمان ما يؤدي إلى وجود هذا التعارض. لقد أراد هذا الملك أن يتبع سياسة اقتصادية يحول بها مملكته من الزراعة إلى الصناعة بما يستتبعه هذا من مواد أولية يحصل عليها من أسواق خارجية. كما أراد أن يدعم هذا الاتجاه الاقتصادي بانتهاج نشاط تجاري بحري لا يجعله تحت رحمة الخط البري التجاري القادم من الجنوب وإنما يترك له حرية الحركة المباشرة مع الأسواق التي يريد أن يتاجر معها. ونحن نجد في نصوص التوراة إشارة واضحة إلى هذا الاتجاه حين نعرف أنه اتخذ ميناء عصيون جابر "بجوار ميناء أيلة" على رأس خليج العقبة مرفأ أساسيا يبتدئ منه أو ينتهي إليه هذا النشاط التجاري، وحين نجده يلجأ إلى الملك حيرام، ملك صور، بالعمال والبحارة لبناء أسطول تجاري ولتسيير هذا الأسطول التجاري في البحر الأحمر، وحين نعرف كذلك، أنه وصل بنشاطه التجاري البحري هذا إلى "أوفير" التي يرجح أنها كانت ميناء على الشواطيء الشرقية لشبه الجزيرة العربية، إن لم يكن، حسب رأي بعض الباحثين، إحدى الموانئ الهندية. بل أكثر من هذا نجد هذا الملك يحاول إغراء حيرام ملك صور باستخدام هذا الخط التجاري البحري الجديد بدلًا من طريق مصر للاتجار مع بلاد العرب، في محاولة يبدو واضحًا أنها كانت تستهدف تنشيط هذه الطريق البحرية التجارية على حساب أية طرق أخرى في المنطقة (7) . ومثل هذا الاتجاه من جانب سليمان كان كفيلًا أن يؤثر تأثيرا ضارا على موقع تجاري مثل الموقع الذي تحتله مملكة سبأ الشمالية، ومن هنا تثور مخاوف ملكة السبئيين التي كان هذا الموقع التجاري هو المورد الاقتصادي الأساسي، إن لم يكن الوحيد بالنسبة لمملكتها، ونفهم موقف التوتر الذي ثار بينها وبين سليمان من جهة، كما نفهم سبب الهدية السخية التي تظهر بين محتوياتها الطيوب والذهب والفضة والأحجار الكريمة، كمحاولة لإقامة علاقات، يمكن أن نصفها بلغة العصر الحديث أنها علاقات حسن جوار تصل من خلالها إلى اتفاق يحفظ لها مصالحها التجارية، وهكذا نجد في هذا الاتفاق أول مثال يصل إلى أيدينا حتى الآن لعلاقات خارجية عربية لا تتم في صورة معاملات فردية، وإنما تتم على مستوى مجموعة عربية منظمة في هيئة دولة لها مصالح محددة وهي تسعى بطريقة أو بأخرى لمعالجة علاقاتها بجيرانها لحماية هذه المصالح.
ومنذ ذلك الوقت نسمع عن علاقات خارجية عربية مع العبرانيين يقوم بها العرب كمجموعة ذات هوية واضحة تتحرك انطلاقًا من مصالح اقتصادية محددة وترتب عليها خطا سياسيا محددا. وقد مر بنا في مناسبة سابقة تحالف قام بين العرب والفلسطينيين ضد مملكة يهوذا "إحدى المملكتين التي انقسمت إليهما مملكة سليمان" في عهد الملك يهورام "851-843 ق. م" انتهى باجتياح هذه المملكة وإنزال أضرار فادحة بالقصر الملكي وبالبيت المالك. كما رأينا كذلك موقفا آخر في العلاقات الخارجية بين العرب والعبرانيين في عهد عزّيّا ملك يهوذا أو اليهودية "779-740 ق. م" تنعكس فيه الآية فينتصر على تكتل فلسطيني - عربي، يظهر فيه، إلى جانب الفلسطينيين، تجمع عربي مكون من العمُّونيين والمعينيين وعرب "جور بعل" الذين عرفنا أنهم كانوا أهل منطقة ربة عمون "عمان الحالية" ومملكة المعينيين الشماليين في منطقة العلا الحالية بالقسم الشمالي الغربي من شبه الجزيرة العربية، ومنطقة أخرى مجاورة للملكة العبرية، أما المناسبة الثالثة التي تظهر فيها هذه العلاقات فترجع إلى القرن الخامس ق. م. حين عاد العبرانيون من السبي البابلي. وهنا نجد عددا من الزعماء العرب من بينهم طوبيا العموني وجشم العربي يقفون موقف التوجس من نحميا اليهودي حين حصل على إذن من أرتحَشْتا الإمبراطور الفارسي "646-424 ق. م" ببناء سور حول أورشليم "القدس". ورغم أن هذا التوجس لم يعبر عن نفسه إلى تصد إيجابي للزعيم اليهودي وإنما ظهر في هيئة معارضة ومناورات من جانب هؤلاء الزعماء قابله الزعيم اليهودي بمناورات مماثلة وانتهى الأمر ببناء السور الذي كان يريد بناءه، إلا أنه في الوقت ذاته يشير إلى أن العرب لم تزل هويتهم قائمة ومتمثلة في إدراك مصالحهم التي تصوروا أن بناء هذا السور قد يضر بها بشكل أو بآخر، ولكن يبدو أن الأمر لم يكن بأيديهم بالدرجة الأولى، فالإمبراطور الفارسي، وهو صاحب الأمر والنهي في المنطقة في ذلك الوقت على هذه المنطقة التي كانت قد دخلت ضمن إمبراطوريته، كان قد أعطى الإذن ببناء السور، من ثم فلم يكن هناك مجال واسع لتحرك عربي أو تكتل عربي يصل إلى مستوى التصدي وبخاصة إذا أدركنا أن الطرف الآخر، وهو الزعيم العبري، كان هو الآخر في وقف مماثل لا يملك فيه أن يقدم أو يؤخر كثيرًا (8).
ج- العلاقات مع القوى الشرقية:
وأنتقل الآن إلى صعيد آخر للعلاقات الخارجية للعرب، وهو الصعيد الذي ظهر عليه موقفهم إزاء منطقة وادي الرافدين حيث الدولة الآشورية ومن بعدها الدول الكلدانية "أو الدولة البابلية الحديثة" وإزاء الإمبراطورية الفارسية التي مدت سيطرتها إلى منطقة الشرق الأدنى بأكمله في غضون القرن السادس ق. م. وتكمن أهمية العلاقات العربية الخارجية في هذا الاتجاه ليس في ظهور الهوية الواضحة للعرب فحسب، وإنما في تطورها تدريجيا نحو التبلور بحيث اتخذ تحركها في هذا المجال أكثر من صورة وظهر في أكثر من اتجاه. وقد كانت أولى العلاقات العربية في هذا الاتجاه الشرقي مع الآشوريين، كما وردت في عدد كبير من النقوش المسمارية التي سجل عليها ملوك الدولة الآشورية إنجازاتهم العسكرية والسياسية مع جيرانهم. وأول نص تظهر فيه إشارة للعرب في هذا المجال يعود إلى عهد الملك شلمنصر الثالث "858-824 ق. م". وفي هذا النص الذي يرجع إلى السنة السادسة من حكمه يتحدث عن تحركاته العسكرية ضد المنطقة السورية، يذكر لنا الملك الآشوري أنه توجه إلى منطقة القرقار؛ لمواجهة تجمع كونه ملك دمشق، ظهرت فيه إلى جانب قوات الملك الدمشقي قوات من حماة وإرواد ومدن سورية أخرى، وكان من بين القوى المتحالفة مع ملك دمشق ضد الملك الآشوري "ألف عربي من راكبي الجمال بزعامة جنْدِبو" (9).
ونحن نستطيع أن ندرك المغزى الحقيقي لظهور العرب في هذا النص إذا نظرنا إليه من أكثر من جانب، فهذا النص يأتي بعد ظروف شدت اهتمام الدولة الآشورية بشكل قوي طوال قرن بأكمله، هو القرن العاشر ق. م. تجاه المنطقة الواقعة على الحدود الغربية لهذه الدولة، حيث كانت تتعرض لهجمات متكررة من القبائل والممالك الآرامية؛ الأمر الذي اضطر الآشوريين إلى العمل العسكري المستمر للقضاء على هذه الهجمات الآرامية وعلى بقايا المستعمرات الحيثية في المنطقة، ودفع بهم "أي: الآشوريين" إلى مد هذا العمل العسكري إلى داخل الأراضي السورية كما يظهر من النصوص الآشورية التي ترجع إلى عهد الملك تجلات بيليسر الأول "1114-1076 ق. م" والملك آشور ناصر بال الثاني "883-859 ق. م" (10).
وقد تمكن الآشوريون خلال هذا العمل العسكري المتواصل طيلة القرن العاشر من السيطرة على القسم الشمالي والأوسط من منطقة الهلال الخصيب التي تصل بين وادي الرافدين وسورية وأصبح في مقدورهم التوغل في المنطقة السورية نفسها، ولكن يبدو أن المنطقة البدوية التي كانت تقع على التخوم الجنوبية لمنطقة الهلال الخصيب بدأت تسترعي اهتمام الملوك الآشوريين، الذين وجدوا في هذه المنطقة ما يستدعي الحرص على السيطرة عليها أو على الأقل على عمل فرض الأمن في أرجائها منعًا لسكانها من أي تحرك سياسي أو عسكري؛ نظرا لمرور بعض الخطوط التجارية بها، وقد كان هذا التحرك السياسي والعسكري واردا فعلا، والدليل على ذلك هو اشتراك تجمع من هذه القبائل البدوية بزعامة جندبو العربي في الحلف العسكري الذي كونه الملك الدمشقي.
أما الجانب الثاني الذي يضيف إلى مغزى ظهور العرب في النص المذكور فهو أن هذا الظهور في حد ذاته يشير إلى أن هذه القبائل البدوية لم تعد مجرد قبائل متفرقة تعيش بعيدا عن مجرى الأحداث في المنطقة، ولكنها أصبحت تجمعات تشير إلى أكثر من معنى على الصعيدين السياسي والعسكري. فألف محارب من راكبي الجمال هم أكبر من طاقة قبيلة واحدة، ومن ثم فهم يمثلون تجمعا قبليا بلغ من التنظيم السياسي قدرًا يمكن من تكوين هذه القوة العسكرية (11). كذلك فإن هذه التجمعات القبلية في المنطقة لا بد أنها قد أصبح لها قدر محسوس من الفعالية؛ ومن ثم أصبح موقفها من هذا الحدث أو ذاك أمرا يحسب حسابه، فالحلف العسكري الدمشقي ضم قوات تابعة لتسعة ملوك من بينهم، إلى جانب ملك دمشق، ملوك حماة وإرواد ومدن سورية أخرى، واشتراك جندبو العربي بتجمعه القبلي مع هؤلاء الملوك وعلى مستواهم أمر يصبح له دلالته في ضوء هذا الاعتبار.
أما الجانب الثالث الذي يدعم من مغزى هذا الظهور السياسي والعسكري من جانب العرب في العلاقات الدولية في المنطقة فنستطيع أن ندركه إذا تذكرنا أن تجمعا عربيا مماثلا "ولعله كان نفس التجمع أو تجمعا مجاورا له أو متداخلا معه" قد تحالف مع الفلسطينيين في نفس الفترة لاجتياح مملكة يهوذا "أو يهودية" على عهد الملك العبري يهورام "851-843 ق. م." وإذا أدخلنا في اعتبارنا أن هذا التحالف قد تم لأسباب اقتصادية تدور حول مرور الخطوط البرية التجارية في أراضي هذه القبائل العربية (12). ومعنى هذا أن هذه القبائل كانت لها مصلحة حيوية في تحديد مواقفها إزاء الأحداث والعلاقات التي كانت تدور في المنطقة آنذاك.
وقد استمرت الحملات التي قام بها الآشوريون على المنطقة طوال العصر الآشوري الذي انتهى بسقوط الدولة الآشورية في 612 ق. م. وكان قسم أساسي من هذه الحملات موجهًا إلى التجمعات العربية التي يبدو من النصوص الآشورية أنها لم تكن سهلة المراس، الأمر الذي يشير إلى إدراكها المحدد لمصالحها التجارية في المنطقة وإلى اتساع هذه المصالح بما يدفعها إلى اتخاذ المواقف كلما شعرت بتحرك قد يؤدي إلى تهديد هذه المصالح. وتشير هذه النصوص إلى تطورين يمثلان مرحلتين جديدتين في العلاقات الآشورية العربية "بعد المرحلة التي يمثلها نص شلمنصر الثالث الذي ظهر فيه جندبو الزعيم العربي" تتخذ خلالهما هذه العلاقات أبعادا أكثر حدة وأكثر تكثيفا.
وأولى هاتين المرحلتين الجديدتين نجد فيها أن الملوك الآشوريين لم يقتصروا في معالجتهم للتجمعات العربية على الحملات العسكرية وإنما بدءوا يتجهون، إلى جانب ذلك، إلى سياسة يمكن أن نسميها سياسة الاحتواء السياسي من الداخل، عن طريق التدخل في تنصيب الزعماء العرب الذين يثقون في ولائهم على هذه التجمعات القبلية. وجدير بالذكر هنا أن هؤلاء الزعماء أصبح يشار إليهم في النصوص الآشورية التي ترجع إلى هذه المرحلة على أنهم ملوك أو "ملكات" لبلاد العرب، وليس مجرد إشارة بدون لقب كما رأينا في حالة جندبو العربي، وهو أمر قد يدل على أن تنظيم التجمعات القبلية العربية قد أصبح أكثر رسوخًا. وهكذا نرى الملك الآشوري أسرحدون "680-669 ق. م." يعين الملكة العربية "تاربوا" التي نشأت في قصر والده سنحاريب ملكة على العرب. ونجده في مناسبة ثانية، بعد أن توفي حزائيل الملك العربي، ينصب ابنه ياتع ملكًا. كما نجده في مناسبة ثالثة يعفو عن ملك مدينة يادع الذي استطاع أن يهرب من وجه جيوش الملك الآشوري في إحدى حملاته، فيعفو عنه هذا ويعينه ملكًا على بلاد "بازو" (13).
أما من جانب العرب فقد بدا موقفهم في هذه المرحلة الجديدة أكثر إيجابيةً من المرحلة السابقة، فلم يعد موقفهم قاصرا على التصدي لحملات الملوك الآشوريين أو الهرب في بعض الأحيان من وجهها، وإنما بدءوا ينتهزون فرص التخلخل الذي بدأ يصيب الدولة الآشورية من الداخل والتي اتخذت شكل نزاعات على العرش صاحبتها ثورات داخلية في بعض الأحيان. ففي عهد الملك سنحاريب "704-681 ق. م." قام أحد الزعماء الكلدانيين في بابل، وهو مردوخ بلادان، بثورة ضد الملك. ويحدثنا سنحاريب في نقش سجل عليه انتصاره على هذا الثائر أن من بين الأقوام التي اشتركت في تدعيم هذه الثورة عربًا وآراميين وكلدانيين وأن هؤلاء، بما فيهم العرب المشار إليهم، كانوا يسكنون مدن الوركاء ونفر وكيش وسبار. وحقيقة إن هذه المناطق تقع داخل وادي الرافدين، أي: ضمن حدود الدولة الآشورية، إلا أن الملك يذكر أنه في أثناء عودته إلى عاصمته حارب مجموعة من القبائل يعدد أسماءها وهم قبائل من البدو. ويستنتج أحد الباحثين المعاصرين أن أسماء هذه القبائل ترجح أن الملك سلك في عودته إلى آشور "العاصمة" طريقًا في البادية محاذية لنهر الفرات ليلقي الروع في نفوس القبائل التي أيدت الثائر مردوخ بلادان وينتزع منهم الولاء للآشوريين (14).
وإذا كانت هذه المرحلة قد تميزت بهذا التدخل الإيجابي من جانب القبائل العربية الملاصقة لوادي الرافدين عن طريق مساندة الزعماء الثائرين ضد الملك الآشوري سنحاريب في داخل البلاد، فإن المرحلة التالية التي بدأت في عهد الملك الآشوري آشور بانيبال "668-633 ق. م." أخذت فيها العلاقات العربية مع الدولة الآشورية بعدا جديدا. ففي أثناء الثورة التي قام بها "شمش شوم أوكن" حاكم بابل ضد أخيه الملك آشور بانيبال، نجد تجمعا قبليا عربيا يشترك مع الأخ الثائر ضد أخيه الملك، ولكن العرب الذين قاموا بدعم الثورة ضد الملك ليسوا من قبائل البادية الملاصقة لنهر الفرت كما حدث في عهد الملك سنحاريب، وإنما يزحف التجمع العربي القبلي هذه المرة من منطقة بعيدة في النصف الغربي من شمالي شبه الجزيرة العربية، وهي منطقة دومة الجندل وتيماء، تحت قيادة الملك العربي ياتع الذي يبدو أنه لم يكتفِ بدعم الثورة بقواته، وإنما لعب دورًا أساسيًّا في تكوين حلف ضم قوات زعماء أو ملوك عرب آخرين "من بينهم ملك اسمه أبو ياتع" لهذا الغرض، كما "حرض كل سكان البلاد العربية للالتحاق به" (15).
كذلك نجد أحد الملوك المشتركين في هذا الحلف "وهو أبو ياتع الذي أسلفت الإشارة إليه" يواصل تحديه للملك الآشوري ويزيد على ذلك فيسعى في أكثر من مناسبة لاستمالة الأنباط في "أقصى الطرف الغربي للهلال الخصيب" إلى جانبه في عدائه للملك آشور بانيبال، وبعد عدد من المحاولات ينجح أبو ياتع في استمالة الأنباط لمحاربة الآشوريين، لا لصد هجمات آشور بانيبال، ولكن هذه المرة لمهاجمة حدود الدولة الآشورية ذاتها بتدعيم من "نانتو" زعيم الأنباط (16).
وقد سقطت الدولة الآشورية في 612 ق. م. تحت ضربات القوتين المتحالفتين؛ الكلدانيين من "بابل" والميديين "من إيران". وبسقوط هذه الدولة قامت الدولة الكلدانية "أو الدولة البابلية الحديثة" في وادي الرافدين، وبدأ تطور جديد في العلاقات الخارجية العربية مع هذه المنطقة.
وإذا كانت العلاقات الخارجية بين العرب ومنطقة وادي الرافدين قد اتخذت في عهد الآشوريين منطلقًا اقتصاديًّا يحاول فيه الآشوريون بسط نفوذهم على المواقع الأساسية للطرق التجارية البرية في الغرب من جهة، ويحاول العرب، ضمن الأقوام الأخرى أحيانا ووحدهم في أحيان أخرى، أن يقابلوا هذا الاتجاه الآشوري بتصدٍّ وصل إلى درجة الإيجابية الهجومية في بعض المناسبات من جهة أخرى، فإن ظروف الدولة البابلية الحديثة قد دفعتها إلى اتخاذ موقف من علاقاتها مع العرب لم يصل إليه الآشوريون من قبل، وكان محور هذه الظروف هو الوضع الاقتصادي المتدهور الذي وجدت الدولة الجديدة نفسها مقبلة عليه.
وقد كان هناك سببانِ أديا إلى هذا الوضع، وأول هذين السببين هو أن سقوط الدولة الآشورية أتاح فرصة ذهبية أمام عدد من القبائل العربية للسيطرة على عدد من المواقع الحيوية على الطريق التجارية الرئيسة التي كانت تربط بين جنوبي شبه الجزيرة العربية وشماليها، وأهم هذه القبائل هم الأنباط الذين نجحوا في الاستقرار في المنطقة المحيطة بالبتراء "جبل سعير" بعد أن زحزحوا القبائل الأيدومية من هذه المنطقة ودفعوا بهم نحو الشمال. وهكذا استطاع الأنباط "الذين رأيناهم يشتركون مع أبي ياتع في الهجوم على حدود الدولة الآشورية في عهد بانيبال" في أن يسيطروا من موقعهم الجديد ومن عاصمتهم التي تحصنها التكوينات الحجرية من ثلاث جهات، على عقدة رئيسة تتحكم في الطرف الشمالي من الخط التجاري المذكور. أما السبب الثاني فهو أن الميديين "الذين اشتركوا في إسقاط الدولة الآشورية" ما لبثوا أن ركزوا أنفسهم في القسم الشمالي الغربي من إيران، وأبعدوا بذلك الدولة البابلية الحديثة عن الطرق التجارية الآتية من شرق وشمال إيران، وهي الطرق التي كانت تجد طريقها قبل ذلك نحو الغرب إلى وادي الرافدين في عهد الآشوريين؛ وهكذا منع الميديون عن الدولة الجديدة في وادي الرافدين موردا اقتصاديا لا يمكن إغفاله أو الإقلال من أهميته (17).
ويبدو أن هذا التدهور الاقتصادي استمر تدريجيًّا وبشكل منتظم حتى بلغ أقصاه في الشطر الأخير من عهد الدولة البابلية الحديثة، إذ تشير أسعار المواد في العقدين الأخيرين اللذينِ سبقا سقوط بابل أمام الزحف الفارسي "في 539 ق. م." إلى ارتفاعها إلى الضعف، ولنا أن نتصور ما يمكن أن يتركه هذا التضاعف على الواقع المعيشي والاقتصادي في المنطقة (18).
وأمام هذا التدهور من جهة، والازدهار الاقتصادي من جهة أخرى في المواقع العربية المسيطرة على الخطوط التجارية البرية، وبخاصة الخط الذي يخترق شبه الجزيرة العربية من الشمال إلى الجنوب، نجد نابونائيد "نابونيدوس nabonidus عند الكتاب الكلاسيكيين" يتجه بأنظاره إلى الغرب ويقرر نقل مقر إمبراطوريته إلى واحة تيماء التي تشكل موقعا حيويا على الطريق التجاري الذي يصل شمالي شبه الجزيرة بجنوبها. وكان ذلك في السنة السابعة من حكمه أي: في 549 ق. م. وأقام بها نحو عشر سنوات قبل أن يعود إلى بابل في 539 ق. م. وهي السنة التي سقطت فيها بابل في أيدي الفرس الأخمينيين.
وقد كان انتقال الملك البابلي إلى قلب شبه الجزيرة دون شك أمرًا جديدًا لم يكن في حسبان القبائل العربية التي اعتادت أن تتعامل مع ملوك من وادي الرافدين، إما يأتون إليها في حملات ينتهي أثرها في كثير من الأحيان بعودة هؤلاء الملوك إلى عاصمة دولتهم، أو يقضون فترات بعيدينَ عن هذه القبائل إذا ما شغلهم إقرار الأمور في داخل وادي الرافدين، وبخاصة في أوقات الاضطراب والثورات، عن الالتفات بشكل حاسم إلى محاولات العرب للسيطرة على المواقع المهمة على الخطوط التجارية مما أغراهم في بعض المناسبات بنقض عهودهم مع الملوك الآشوريين أو حتى بمحاولة الاعتداء على حدود الدولة الآشورية كما مر بنا. وهكذا حين انتقال نابونائيد للإقامة في تيماء نجد موقف العرب يبدو واضحًا في جهتين محددتين، سواء إزاء اتخاذه لهذه المدينة مقرًّا له، أو إزاء إخضاعه لعدد آخر من المدن الواقعة على الخط التجاري الشمالي الجنوبي بعد ذلك. فمن جهة نجد بعض قبائل العرب تتصدى له مباشرة وهو موقف يتضح لنا من أحد النقوش التي نجد فيها هذا الملك يقدم على قتل أمير تيماء وعلى ذبح قطعان الماشية التي يمتلكها سكان المدينة وضواحيها، ومن نقش آخر، رغم تلف بعض سطوره، نفهم أن سكان بعض المناطق العربية تعرضوا للملك وحاولوا أن ينهبوا ممتلكاته ولكنه نجح في القضاء على بعضهم وتشتيت البعض الآخر مما اضطرهم للخضوع له، ومن الجهة الأخرى يبدو أن سكان بعض المناطق آثروا قبول الأمر الواقع، إذ يقول الملك: "إن بلاد العرب وكل الملوك الذين أبدوا عداءهم، أرسلوا لي برسلهم طالبين السلم وحسن العلاقات" (19).
وهناك ملاحظتان على إقامة نابونائيد في تيماء والأماكن التي وصل إليها وسيطر عليها، وأولى الملاحظتين هي أن المدن التي يذكرها في هذا الصدد تقع على الخط التجاري الشمالي الجنوبي مما يؤكد هدفه الاقتصادي من نقل مقر حكمه إلى تيماء. فإلى جانب هذه المدينة يذكر الملك أن هذه المدن هي دادانو، فاداكو، هيبرا، ياديهو، باتريبو (20). وفيما يخص دادان فإن هذه المدينة "وهي العلا الحالية" كانت أحد المواقع الرئيسة التي اتخذها المعينيون الشماليون مقرًّا لهم، وهيبرا هي خيبر، وفداكو هي فدك الواحة الخصبة الواقعة إلى شمالي خيبر، كذلك فإن ياديهو، كما يظهر من نطقها، هي يادع، وهي منطقة بين فدك وخيبر. أما ياتريبو فهي يثرب التي تغير اسمها إلى المدينة المنورة بعد هجرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- إليها. وأما الملاحظة الثانية فهي أن يثرب تشكل آخر عمق في شبه الجزيرة العربية وصل إليه أي ملك من ملوك الدول التي قامت في وادي الرافدين.
ثم أختم الحديث عن علاقات العرب بالقوات الشرقية بعرض سريع لهذه العلاقات مع الإمبراطورية الفارسية. وفي هذا الصدد نجد الفرس يبدءون في مد نفوذهم على المناطق العربية بعد أن انتهوا من إسقاط بابل في 539 ق. م. ففي أحد النقوش التي ترجع إلى عهد الملك قورش الثاني "557 -529 ق. م."
نجد هذا الملك الفارسي يذكر أن كل ملوك المنطقة الممتدة بين البحر الأدنى "الخليج" والبحر الأعلى "البحر المتوسط" قد دانوا له بالولاء، وأنهم قدموا إلى بابل حاملينَ معهم جزية كبيرة وقبَّلوا قدميه، ويذكر من بينهم "كل ملوك الأراضي الغربية، الذين يسكنون الخيام" (21). والنص صريح فهو يشير إلى كل هؤلاء الملوك، ومن ثم فرؤساء القبائل والتجمعات العربية القبلية "إلى جانب المناطق العربية الحضرية" قد خضعت لسلطان هذا الإمبراطور الفارسي.
غير أن تطورًا في العلاقات الفارسية العربية يبدو أنه حدث بين الشطر الأخير من القرن السادس ق. م. حين أخضع الملك قورش الثاني "557-529 ق. م." هذه المنطقة بعد سقوط بابل في 539 ق. م.، وبين أواسط القرن الخامس ق. م. إذ يذكر لنا المؤرخ اليوناني هيرودوتس "الذي عاش في أواسط هذا القرن" في أكثر من مناسبة ما يفيد أن العرب كان لهم وضع خاص، وعلى سبيل المثال فنحن نجد هيرودوتس herodotos المؤرخ اليوناني يذكر لنا في أثناء حديثه عن الولايات، أن "الولاية الخامسة "من ولايات الإمبراطورية الفارسية" تمتد بين بوسيدونيون على الشاطئ السوري ... وبين مصر، ما عدا القسم الذي يسكنه العرب فهم لا يدفعون ضريبة" ثم يعدد في موضع آخر أسماء الشعوب التي لم تكن تدفع ضرائب للإمبراطور الفارسي ولكنها تقدم هدايا له، ويذكر من بينها العرب الذين كانوا "يقدمون ما يساوي ألف وزنة talentum من الطيوب سنويا" (22).
ويبدو واضحًا من المقارنة بين النقش الفارسي وبين نصوص المؤرخ هيرودوتس أن المنطقة التي احتلها الفرس على عهد قورش الثاني تعرض فيها النفوذ الفارسي لشيء غير قليل من التخلخل، إذ يذكر المؤرخ اليوناني أن الإمبراطور الفارسي دارا "521-489ق. م." أخضع كل آسيا، ما عدا العرب "الذين لم يقدموا له طاعة العبودية" ولكنه كان مرتبطًا معهم برباط الصداقة حيث أمَّنوا لقمبيز "إمبراطور فارس من 529-521 ق. م." الطريق إلى مصر "التي ما كان ليستطيعَ دخولها لولا موافقة -يقصد حسن نية- العرب" ويؤكد هذا القول في مواضع أخرى يذكر فيها أن العرب ساعدوا قمبيز عندما أراد احتلال مصر بأن أمنوا له الطرق وزودوه بالماء وتبادلوا معه العهود (23). وهكذا تكون العلاقة بين الفرس والعرب في هذه الفترة علاقة من نوع خاص، فالعرب في المنطقة القريبة من مصر هم الذين يسيطرون على مسالك الطرق الصحراوية المؤدية من المنطقة السورية "بالمفهوم الجغرافي" إلى مصر؛ ومن ثم فلا يمكن السيطرة عليهم سيطرة كاملة بالطرق التنظيمية التقليدية، ولكن الفرس في الوقت ذاته محتاجون إلى خدماتهم في تأمين الطرق أمام القوات الفارسية وإرشاد هذه القوات وتزويدها بالمياه على الطريق. وهكذا يتحول مفهوم العلاقة بين الفرس والعرب إلى خدمات متبادلة وعهود متبادلة، ويشير هيرودوتس في صراحة محددة إلى أن العرب حافظوا على عهودهم مع الفرس (24).
غير أن المناطق العربية الواقعة في أقصى الشمال من شبه الجزيرة العربية لم تكن المناطق الوحيدة التي تعرض لها الفرس في شبه الجزيرة، ففي نص من عهد الإمبراطور الفارسي حشويرش "خشيارشاه الذي عرفه الكتاب اليونان باسم XERXES 485-465 ق. م." نجد هذا الإمبراطور يشير بشكل مباشر إلى امتداد حكمه على بلاد العرب، إذ يذكر بين قائمة الأماكن التي امتد حكمه إليها "ماكا والبلاد العربية" و "ماكا" هي دون شك ماكاي MAKAE التي يأتي ذكرها عند الكتاب الكلاسيكيين، كتسمية لقسم من الساحل الشرقي لشبه الجزيرة العربية "عُمَان الحالية"، وهي التي عرفت في النصوص الأكدية "في وادي الرافدين" قبل ذلك باسم ماكان أو ماجان وهي "بالجيم الجافة" (25). أما بلاد العرب في هذا النص فيبدو بالمقارنة مع النصوص الآشورية أنها تعني المناطق الواقعة في شمالي شبه الجزيرة بين وادي الرافدين والمنطقة السورية، وإن كان لنا أن نستثني من هذا التعميم، المناطق التي كانت تسكنها القبائل العربية في جنوبي المنطقة السورية التي رأينا أن العلاقة بينها وبين الفرس كانت علاقة من نوع خاص.
____________
(1) وصلت الحدود المصرية، عبر منطقة الهلال الخصيب، إلى نهر الفرات في عهد كل من الفراعنة تحتمس الأول وتحتمس الثالث "الذي عبر الفرات" وأمنحوتب الثاني، راجع j. h. breasied: a history of egypt صفحات 219، 252، 254، 270. عن تسميات تاعاموا وتا - نثر، انظر عبد المنعم عبد الحليم السيد: الجزيرة العربية ومناطقها وسكانها في النقوش القديمة في مصر، صفحات 1-2.
(2) عن العلاقة بين اسم خبسيتو وحبشات، انظر عبد المنعم عبد الحليم السيد: ذاته، ص 4، وحاشيتي 9-10. عن اسم جنبتيو، انظر a.a. saleh: the gnbtyw of thutmosis annals and the south arabian geb "b" anitae of the classical writers b.l.f.a.w.، lXXXII، 1972" ص252، مقتبس في عبد المنعم عبد الحليم السيد ذاته: صفحات 4-5. عن الهكسوس راجع breasted: ذاته، صفحات 179 وما بعدها.
(3) عن الآموريين في العراق راجع g. ruox: ancient irak، صفحات 164 وما بعدها، نص تجلات بيليسر عن تدمر في anet ص275.
(4) عن سبأ الجنوبية، التوراة: نبوءة يوئيل، إصحاح3: 8. عن سبأ الشمالية النص في anet ص283. عن الدادانيين، التوراة: نبوءة أشعيا، إصحاح 21: 13. العرب بمعنى البدو عند العبرانيين، نبوءة أشعيا، إصحاح 13: 20، كذلك نبوءة أرميا، إصحاح 25: 24. عن تسميات العرب في وادي الرافدين راجع: erich ebeling: reallexikon der assyriologie "1928" مادة araber. عن إشارة هذه التسميات إلى البداوة راجع: adolf grohmann: geschichte des alten orients، arabien muenchen 1963"" ص3 وحاشية1، كذلك ص21 وحاشية2. ترجمة النص الفارسي في anet: 316 والتعليق عليه في e.herzield: altpersische inschriften "1398 berlin" نص رقم 14 صفحات 27 وما بعدها.
(5) التوراة: سفر أخبار الأيام الأول، إصحاح 30:27.
(6) العلاقة بين سبأ وسليمان، في القرآن الكريم: سورة النمل: 22-23 و28-44. التوراة: سفر أخبار الأيام الثاني، إصحاح 9: 1 وما بعدها عن سبأ الشمالية نص في ANET ص238.
(7) عن سياسة سليمان البحرية انظر التوراة: سفر الملوك الثالث، إصحاح 9: 26-27. عن محاولة إغرائه لحيرام بترك طريق مصر راجع: نجيب ميخائيل إبراهيم: مصر والشرق الأدنى القديم، ج3، سورية، ص231 عن أوفير، التوراة: أخبار الأيام الثاني، إصحاح 9: 1، راجع مناقشة مكانها في الباب الثامن الخاص بالموارد الاقتصادية في هذه الدراسة.
(8) راجع التفصيلات في صفحات 186-191 في هذه الدراسة.
(9) النص ANET صفحات 278-279.
(10) عن ظروف الآشورية انظر رضا جواد الهاشمي: العرب في ضوء المصادر المسمارية، مجلة كلية الآداب، جامعة بغداد، عدد 22 شباط، 1978، صفحات 640-641. قارن H.W. F. Saggs: The Greatness that was babylon "london 1962" صفحات 90 وما بعدها، نصا تجلات بيليسر الأول وآشور ناصر بال الثاني في anet صفحات 274-276.
(11) رضا جواد الهاشمي: ذاته، ص643.
(12) راجع أعلاه في هذا الباب.
(13) النص الخاص بتاربوا وياتع في anet صفحات 291-292. نص ملك يادع في مجموعة arab، ج2، نص رقم 538.
(14) النص في مجموعة arab، ج2، نص رقم 234. الاستنتاج يقدمه رضا جواد الهاشمي: ذاته، ص647.
(15) النص في anet، صفحات 297-298.
(16) النص في anet ص299. عن المطابقة بين لفظة: nabaiati الواردة في النص وبين الأنباط المعروفين تاريخيًّا راجع، رضا جواد الهاشمي: ذاته، ص 659. عن رأي معارض لذلك راجع، hitti ذاته، ص67، حاشية1.
(17) عن استقرار الأنباط في البتراء راجع، hitti: ذاته، الصفحة ذاتها. عن الميديين، رضا جواد الهاشمي: ذاته، ص660.
(18) "london 1962" saggs: the greatness that was babylon، ص148.
(19) النصوص على التوالي في anet، صفحات 313-314 وg.g.gadd: the harran inscriptions of nabonidus "anatolian studies، III، 1958" صفحة 35 وما بعدها.
(20) النص الوارد في gadd في الحاشية السابقة.
(21) النص في ANET، ص 316.
(22) النصوص على التوالي، HERODOTOS: iii، 91، 97.
(23) على التوالي، ذاته: iii،88،4،7،9.
(24) ذاته: iii،7،8.
(25) نص خشيارشاه في ANET، ص316. بعض النصوص عن ماجان في، ذاته: صفحات 41، 49، 266، 268، 294، 296. عن تحديد مكانها في عمان بصفة مبدئية راجع، G. ROUX ذاته، ص28. عن MAKAE في النصوص الكلاسيكية وتحديد مكانها في مواجهة الشاطئ الفارسي للخليج راجع strabo: XVI، 3:2، كذلك راجع خريطة الجغرافي اليوناني بطلميوس كلاوديوس في ملحق الخرائط بهذه الدراسة.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم المشاريع: استخدام تقنيات متطورة في منظومة صوتيات العتبة العباسية لتوزيع الصوت بجودة عالية
|
|
|