أقرأ أيضاً
التاريخ: 26-1-2017
1806
التاريخ: 8-2-2021
2056
التاريخ: 5-2-2017
1752
التاريخ: 7-3-2021
2516
|
أسباب نشأة الحضارات الأولى في هذه المنطقة:
المنطقة التي نحن بصدد الحديث عنها، والتي أطلقنا عليها اصطلاحًا اسم منطقة نشوء الحضارات كانت أسبق من غيرها في ظهور الإنجازات الحضارية الأولى -مرة أخرى في حدود ما نعرفه من الحضارات القديمة حتى الآن.
ولكن ما هي الظروف التي اختصت هذه المنطقة دون غيرها بالسبق الحضاري؟
هل هي الصدفة التاريخية؟
إن الصدفة التاريخية قد تلعب في أحيان غير قليلة دورًا كبيرًا في تحويل مسار الحضارة البشرية، وهو أمر من الطبيعي أن يسوقنا إلى التساؤل عما إذا كانت كذلك قد لعبت دورا في ظهور الحضارة البشرية. ولكن مع ذلك فالحديث عن عامل الصدفة حديث لا يمكن ضبطه أو تقنينه؛ ومن ثم، فرغم كونه واردًا من حيث الاحتمال، إلا أن الخوض فيه يصبح من قبيل الحديث عن الغيبيات التي يمكن أن تؤدي بنا إلى آفاق مجهولة.
كذلك هل نستطيع أن نعزو السبق الحضاري لمنطقة نشوء الحضارات إلى أسباب تتعلق بالتفوق العنصري للسكان الذين قطنوا هذه المنطقة منذ أقدم العصور البشرية؟ إن أحدث البحوث الأنثروبولوجية "المتعلقة بعلم الإنسان" قد أثبتت أن التفوق العنصري، فضلًا عن النقاء العنصري أصلا، خرافةً لا تقوم على أسس علمية (1). هذا، فضلا عن أن استقراء الواقع التاريخي منذ أقدم العصور حتى الوقت الحاضر، يثبت بشكل قاطع أن الإنجاز الحضاري لم يكن حكرا على عنصر بشري دون غيره من العناصر؛ ومن ثم يصبح الخوض في الحديث عن التفوق العنصري، هو الآخر، أمرًا لا يرتكز على أسس علمية يمكن أن نثق بنتائجها.
هل هناك أسباب أخرى لهذا السبق الحضاري الذي تميزت به المنطقة؟
ربما كانت هناك أسباب متعددة، ولكن يوجد على الأقل سبب واحد لا يمكن أن نتجاهل أثره على المجموعات البشرية. وهذا السبب يكمن في ظروف البيئة الجغرافية في الفترة التي نحن بصدد الحديث عنها. وظروف البيئة أمر أثبت البحث العلمي أثره الفعال على المجموعات البشرية في كل العصور، وبخاصة في العصور القديمة التي لم يكن فيها الإنسان قد سيطر بعد على الطبيعة بالشكل الذي عرفه في العصور التالية والذي نعرفه الآن، ومن ثم كان أكثر تأثرًا وانطباعًا بهذه الظروف، فإما أن تكون ظروف البيئة مواتية للنشاط البشري فيكون هناك انطلاق وإنجاز. وإما ألا تكون مواتية فيكون هناك تقييد وجمود، وقد كان هناك أكثر من ظرف جغرافي ترك أثره بشكل واضح على منطقة نشوء الحضارات.
أ- ظرف المناخ:
وقد كان المناخ أحد الظروف الجغرافية الرئيسية التي أثرت على المنطقة، وكان المناخ الذي سادها مؤاتيا للنشاط البشري بشكل ملحوظ. ونحن نستطيع أن ندرك ذلك بصورة واضحة إذا عرفنا أن الخطوات الأولى التي خطاها الإنسان على طريق الحضارة في العصر الحجري القديم. وهو أول العصور الحضارية للمجموعات البشرية، قد عاصرت الدهر البليستوسيني، وهو أحدث الدهور الجيولوجية في تاريخ الأرض، وكان ابتداؤه منذ نحو نصف مليون سنة ونهايته في أوائل الألف العاشرة ق. م. تقريبا. لقد شهدت الأرض في هذا الدهر أربع فترات طويلة من الزحف الجليدي على المناطق الشمالية من الكرة الأرضية امتدت كل منها عبر عشرات الآلاف من السنين، كانت تناظرها في المناطق الاستوائية أربع فترات من الأمطار السيلية الغزيرة، وهذه ظروف تجعل الهم الأول والأخير للإنسان أن يتفادى قسوتها، ومن ثم لا يمكن أن تكون مواتية لأي نشاط بشري إيجابي سواء في المنطقة الشمالية أو في المنطقة الاستوائية.
ولكن على عكس ذلك كانت الظروف الجغرافية في منطقة نشوء الحضارات. لقد كانت هذه المنطقة تقع في مكان وسط بين الظروف الجغرافية القاسية، سواء بسبب الزحف الجليدي في المنطقة الشمالية، أو بسبب الهطول المستمر للأمطار السيلية الغزيرة في المنطقة الاستوائية. وهكذا تمتعت بمناخ معتدل نسبيا لا يعوق النشاط الإيجابي للمجموعات البشرية التي تقطنها، ومن ثم كان تحرك هذه المجموعات لا ينصرف كله إلى مجرد الاحتماء من الظروف الجغرافية القاسية، وإنما أصبح المجال مفتوحا لما يمكن أن نسميه الحوار بين هذه المجموعات البشرية وظروف البيئة التي تحيط بها، تتغلب على صعوباتها تارة وتنتفع بميزاتها تارة أخرى؛ ومن ثَمَّ كانت الإنجازات الحضارية الأولى.
ب- ظرف المواصلات السهلة:
على أن المناخ الملائم للنشاط الإنساني لم يكن هو الظرف الجغرافي الوحيد الذي يسر لسكان المنطقة سبل التحرك الحضاري المبكر، وإنما كانت هناك ظروف أخرى، من بينها: سهولة المواصلات بين أرجاء المنطقة. وسهولة طرق المواصلات معناها تيسير الالتقاء والتعامل بين المجموعات السكانية في أرجاء المنطقة المختلفة، ومن ثم الانتفاع المتبادل بتجارب كل مجموعة، الأمر الذي يؤدي إلى تطوير الإنجازات البشرية على طريق التقدم.
ونحن إذا نظرنا إلى خريطة المنطقة التي أسميناها منطقة نشوء الحضارات، نجد طرق الاتصال بين أقسامها المختلفة ميسرة إلى حد كبير، سواء في ذلك طرق الاتصال البري أو طرق الاتصال عن طريق البحر. فمن إيران في الطرف الشرقي للمنطقة نجد طريقين بريتين توصلان إلى منطقة وادي الرافدين، إحداهما في محاذاة الساحل الجنوبي، والثانية عبر الممرات الموجودة في جبال زاجروس، ومن وادي الرافدين نجد طريقين بريتين توصلان إلى آسيا الصغرى وإلى المنطقة السورية، ومن المنطقة السورية تمتد طريق برية ساحلية إلى مصر. بينما تخترق شبه الجزيرة العربية عدة طرق، إحداها من اليمن إلى سورية عن طريق مكة، وأخرى من اليمن إلى وادي الرافدين عن طريق نجد والمنطقة الشمالية الشرقية لشبه الجزيرة، وثالثة بين اليمن والمنطقة الشرقية وهكذا. وقد ظهرت آثار هذا الاتصال السهل بشكل واضح في العصور التاريخية في هذه المنطقة سواء من حيث التأثيرات الفنية والأدبية والفكرية والدينية بين أنحاء المنطقة أو من حيث النزاعات العسكرية والعلاقات والاحتكاكات السياسية، ولكن ما يهمنا الآن فيما يخص الخطوات الحضارية الأولى لسكان هذه المنطقة، هو أن التجارب والإنجازات الأولى سواء من ناحية استخدام المعادن وأنواع الأحجار التي قد تتوفر في قسم المنطقة دون قسم آخر أو تنظيم المجموعات البشرية الأولى على هيئة مجتمعات قروية أو طرز الأدوات التي كانوا يستخدمونها أو الأساطير التي كانت تمثل محاولة تغلب الإنسان البدائي على أسرار الكون المحيطة به -كل هذه التجارب كان تبادلها، تأثرا وتأثيرا، أمرًا واضحًا في علاقات المجتمعات التي قامت في المنطقة؛ نتيجة لسهولة هذه المواصلات البرية بين أرجائها.
وكما أسلفت، لم تكن هذه المواصلات البرية هي التي تفردت بهذه السهولة، وإنما كانت البحار كذلك عاملًا أسهم إلى حد كبير في هذه السهولة. فالبحر المتوسط، في حقيقة أمره يشكل استمرارًا نحو الغرب لهذه المواصلات السهلة. والبحر المتوسط له ميزات تجعله من أنسب طرق الاتصال المائية التي تشجع الإنسان الأول وتساعده على الحركة والانتقال. وأول هذه الميزات أنه بحر هادئ إلى حد كبير، بل هو في الواقع يكاد يكون بحيرة مغلقة إذا استثنينا المضيق الموجود عند طرفه الغربي والذي أصبح يعرف منذ الفتح العربي باسم مضيق جبل طارق، ومضايق البسفور والدردنيل الواقعة عند طرفه الشرقي، وحتى هذه توصِّل إلى بحر مغلق هو البحر الأسود، ومثل هذا الهدوء يعتبر أكبر عون للإنسان الأول في انتقالاته المائية. كذلك فإن عاملا آخر ييسر إلى حد كبير اتصال المجموعات البشرية الأولى، وهو تقارب شواطئه المطلة على القارات الثلاثة: آسيا وإفريقيا وأوروبا لدرجة تكاد تصل إلى التلاصق في بعض الأحيان، فنحن نجد مثلا هذا التقارب الشديد بين الشاطئ الآسيوي والأوروبي عبر مداخل البحر الأسود، ونلاحظه مرة أخرى بين الطرف الجنوبي الغربي لشبه جزيرة إيطالية والطرف الشمالي الشرقي لقرطاجة "تونس الحالية" عبر جزيرة صقلية، في المنطقة الوسطى للبحر المتوسط، ثم نشاهده مرة ثالثة في أقصى الغرب بين الطرف الجنوبي لشبه جزيرة إيبرية الأوروبية وبين الطرف الشمالي الغربي للقارة الإفريقية، وليس هذا كل شيء فبين شبه جزيرة آسيا الصغرى وبين الشواطئ الأوروبية في شبه جزيرة البلقان عدد من الجزر الصغيرة والكبيرة يبلغ عدة مئات تكاد تشكل جسرا متصلا بين القسم الآسيوي والقسم الأوروبي من منطقة نشوء الحضارات، وهو جسر كان له أكبر الأثر في تيسير التحركات البشرية في العصور الأولى للنشاط الحضاري الإنساني. هذا إلى وجود عدد من الجزر الكبيرة التي تمتد من شرقي البحر المتوسط إلى غربيه لتشكل ما يمكن أن نعتبره محطات تساعد الملاح الأول على الانتقال في هذا البحر. من بينها، ابتداء من الشرق إلى الغرب، جزيرة قبرص وجزيرة كريت وجزيرة صقلية وجزيرتا قورصقة وسردينيا.
ج- الحدود شبه المانعة للمنطقة:
وإذا كانت طرق المواصلات السهلة في منطقة نشوء الحضارات قد ساعدت على تيسير الاتصال ومن ثم التعامل والانتفاع المتبادل بتجارب المجموعات البشرية التي تقطنها، فإن ظرفًا جغرافيًّا آخر قد ساعد على تكثيف هذا الاتصال عن طريق حصره إلى حد كبير في المنطقة. هذا الظرف يتعلق بالحدود شبه المانعة لهذه المنطقة بالشكل الذي يوجه اتصال سكان المنطقة إلى داخلها وليس إلى خارجها بشكل يكاد يكون تامًّا في العصور القديمة، إذا استثنينا بعض اتصالات بسيطة ومتباعدة وغير منتظمة.
ونحن نستطيع أن نلمس ذلك إذا تتبعنا حدود المنطقة من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب. فعند الطرف الشرقي للهضبة الإيرانية تمتد الجبال المحاذية للشواطئ الغربية لنهر السند من الجنوب لكي تلتحم في أقصى الشمال بجبال الهملايا، وتشكل بذلك، هي والكثافة السكانية الكبيرة إلى شرقيها في الهند، حاجزًا يتوقف عنده التوجيه الحضاري والتاريخي لهضبة إيران. وعلى طول الحدود الشمالية لهذه الهضبة نجد امتدادات آسيا الوسطى بسهولة ومناطقها المقفرة، فإذا اتجهنا غربا نجد مرتفعات أرمينية ثم جبال يونتوس في شمالي شبه جزيرة آسيا الصغرى، حتى إذا تخطينا مداخل البحر الأسود إلى القارة الأوروبية وجدنا سلاسل جبال الكريات والألب الدينارية التي تحد شبه جزيرة البلقان من الشمال، ثم جبال الألب التي تقع إلى شمالي شبه الجزيرة الإيطالية وإلى جنوبي فرنسا، ثم سلسلة جبال البرانس التي تحد شبه جزيرة إيبرية "إسبانية والبرتغال الحاليين" في أقصى الغرب. فإذا انتقلنا إلى جنوبي البحر المتوسط ونظرنا إلى السهل الساحلي الذي يمتد بطول هذا البحر وجدنا جبال أطلس ثم النطاق الصحراوي الذي تشكله الصحراء الإفريقية الكبرى من غربي القارة حتى تعبر وادي النيل في مصر وتستكمل امتدادها شرقا تحت اسم صحراء العرب التي تنتهي عند سلسلة الجبال المحاذية للساحل الغربي للبحر الأحمر. أما وادي النيل الذي يخترق هذه الصحراء من الشمال إلى الجنوب فنجد أنه حين يصل إلى حدود مصر الجنوبية يعترضه حاجزان رئيسيان سبق أن أسلفت الإشارة إليهما وهما: الجنادل والشلالات التي تعترض مجرى النيل، ومن ثم تعترض الملاحة النهرية فيه، ثم انحسار الوادي على جانبي النهر مما لا يسهل أية اتصالات سكانية وحضارية واسعة النطاق مع المنطقة التي تلي ذلك جنوبا. فإذا عبرنا البحر الأحمر إلى شبه الجزيرة العربية وانحدرنا جنوبا إلى الساحل الجنوبي لها، وجدنا المحيط الهندي، تلك المساحة المائية التي لا تليها أرض إلى الجنوب وحقيقة: إن هذا المحيط قد أصبح في فترة متأخرة نسبيًّا طريق مواصلات سهلة تصل بين منطقة نشوء الحضارات وغيرها، ولكن هذا حدث بعد أن كانت المنطقة قد استقرت على شكلها الحضاري بعد فترة التكوين الحضارية الأولى.
في داخل هذه المنطقة بحدودها الجغرافية التي تكاد تعزلها عن المناطق الأخرى المحيطة بها، تركزت التحركات الحضارية الأولى، ومن ثم تطورت وتعمقت التجربة الحضارية بدلًا من أن تتبعثر وتتسطح أو ربما تندثر. وقد ظل هذا الطابع ملازمًا للمنطقة حتى بعد أن تخطت مرحلة الظهور الحضاري إلى المرحلة التاريخية. وهكذا وجدنا التحركات الحضارية، سواء اتخذت شكلا سلميا أو سارت في طريق العنف، تتم داخل المنطقة وفي حدودها. فالهجرات البشرية التي انطلقت من شبه الجزيرة العربية استقرت على الساحل السوري وفي وادي الرافدين، والهجرات الفينيقية استقرت في قرطاجة والمناطق المحيطة بها على الساحل الإفريقي، وامتدت إلى شواطئ شبه جزيرة إيبرية في "أوروبا" والهجرات اليونانية استقرت في جزر البحر المتوسط وعلى كافة شواطئه، والإمبراطوريات المصرية والآشورية والفارسية، وإمبراطورية الإسكندر الأكبر والإمبراطورية الرومانية، كلها تمت داخل حدود المنطقة باستثناءات لا تكاد تذكر "كان هدفها الأساسي تأمين الحدود". والتراث الفكري والعلمي والأدبي والديني دار داخل المنطقة، منها وإليها، طوال العصور القديمة.
وهكذا ينضم هذا الظرف الجغرافي المتصل بحدود المنطقة إلى الظرفين الآخرين المتعلقين بالمناخ وسهولة طرق المواصلات البرية والبحرية ليجعل من هذه المنطقة أنسب المناطق لنشوء الحضارات:
مناخ معتدل أو شبه معتدل يساعد على النشاط الحضاري في وقت لم يكن الإنسان فيه قد تمكن بعد من تذليل مصاعب البيئة وعقباتها، وطرق اتصال سهلة تمكن المجموعات البشرية في داخل المنطقة من تبادل تجاربها الحضارية؛ ومن ثم تطويرها وتنميتها، وحدود شبه مانعة تؤدي إلى تركيز تلك التجارب وتعميقها بدلًا من بعثرتها وتسطيحها.
______________
(1) خوان كوماس "ترجمة محمد رياض": القاهرة 1960، ص 63.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|