كلام ابن سينا في شأن العرفاء
المؤلف:
السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
المصدر:
معرفة الإمام
الجزء والصفحة:
ج5/ص72-75
2025-12-18
38
يقول ابن سينا في «الإشارات»: فَإذَا عَبَرَ الرِّياضَةَ إلى النَّيْلِ، صارَ سِرُّهُ مِرْآةً مَجْلُوَّةً مُحاذِياً بِهَا شَطْرَ الْحَقِّ؛ ودَرَّتْ عليهِ اللَّذَّاتُ الْعلى؛ وفَرِحَ بِنَفْسِهِ لِمَا بِهَا مِنْ أثَرِ الْحَقِّ، وكَانَ لَهُ نَظَرٌ إلى الْحَقِّ ونَظَرٌ إلى نَفْسِهِ وَكَانَ بَعْدُ مُتَرَدِّدَاً.[1]
ثمّ يقول: ثُمَّ إنَّهُ لَيَغِيبُ عَنْ نَفْسِهِ؛ فَيَلْحَظُ جَنَابَ الْقُدْسِ فَقَط؛ وإن لَحِظَ نَفْسَهُ فَمِنْ حَيْثُ هِيَ لَاحِظَةٌ؛ لَا مِنْ حَيْثُ هِيَ بِزِينَتِهَا؛ وهُنَاكَ يَحِقُّ الْوُصُولُ.[2]
وهذه آخر درجات السلوك إلى الله، أي: مقام الوصول. ثمّ يقول: الْعِرْفَانُ مُبْتَدِيٌ مِنْ تَفْرِيقٍ ونَفْضٍ وتَرْكٍ ورَفْضٍ مُمْعِنٌ في جَمِعٍ هُوَ جَمْعُ صِفَاتِ الْحَقِّ؛ للِذَّاتِ الْمُرِيدَةِ بِالصِّدْقِ مُنْتَهٍ إلى الْوَاحِدِ؛ ثُمَّ وُقُوفٌ.
(التفريق هو أن ينفصل العارف عن كلّ شيء يشغله عن الحقّ؛ والنَّفْض تحريكه لنفسه ونفضها من آثار تلك الشواغل، بحيث لا تلتفت إليها أيّ التفات، وهذا لتكميل النفس من أجل التجرّد عمّا سوى الحقّ. والتَّرك يعني الانقطاع عن كلّ شيء ونسيانه وصولًا للحقّ، والرَّفض يعني ترك جميع اللذّات وصولًا للحقّ).
يقول الخواجه نصير الدين الطوسيّ رضوان الله عليه في شرح هذه المواضيع: «أنّ العارف إذا انقطع عن نفسه واتّصل بالحقّ، رأى كلّ قدرة مستغرقة في قدرته المتعلّقة بجميع المقدورات، وكلّ علم مستغرقاً في علمه الذي لا يعزب عنه شيء من الموجودات، وكلّ إرادة مستغرقة في إرادته التي يمتنع أن يتأبي عليها شيء من الممكنات.
بل كلّ وجود فهو صادر عنه فائض من لدنه.
وفي هذه الحالة، صار الحقّ حينئذٍ بصره الذي به يبصر، وسمعه الذي به يسمع، وقدرته التي بها يفعل، وعلمه الذي به يعلم، ووجوده الذي به يوجد.
فصار العارف حينئذٍ متخلّقاً بأخلاق الله تعالى بالحقيقة؛ وهذا معنى قول الشيخ: الْعِرْفَانُ مُمْعِنٌ في جَمِيعِ صِفَاتٍ هِيَ صِفَاتُ الْحَقِّ لِلذَّاتِ المُريدَةِ بِالصِّدْقِ.
ثمّ إنّه بعد ذلك يعاين كون هذه الصفات وما يجري مجراها متكثّرة بالقياس إلى الكثرة، متّحدة بالقياس إلى مبدئها الواحد؛ فإنّ الذاتيّ هو بعينه قدرته الذاتيّة، وهي بعينها إرادته؛ وكذلك سائرها.
وإذ لا وجود ذاتيّاً لغيره فلا صفات مغايرة للذات ولا ذات موضوعة للصفات؛ بل الكلّ شيء واحد كما قال عزّ من قائل: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ}[3].
فهو هو لا شيء غيره. وهذا معنى قوله:مُنْتَهٍ إلى الْوَاحِدِ؛ وهناك لا يبقى واصف ولا موصوف، ولا سالك ولا مسلوك، ولا عارف ولا معروف، وهو مقام الوقوف.[4]
وقال ابن سينا أيضاً في النمط العاشر من «الإشارات»: وإذَا بَلَغَكَ أنّ عَارِفاً حَدَّثَ عَنْ غَيْبٍ فَأصَابَ مُتَقَدِّماً بِبُشْرَى أوْ نَذِيرٍ فَصَدِّقْ! ولَا يَتَعَسَّرَنَّ عليكَ الإيمانُ بِهِ![5]
ثمّ قال: التَّجْرِبَةُ والْقِياسُ مُتَطابِقَانِ علَى أنّ لِلنَّفْسِ الإنسانِيَّةِ أن تَنالَ مِنَ الْغَيْبِ نَيْلًا مَا في حالَةِ الْمَنَامِ؛ فَلَا مَانِعَ مِنْ أنْ يَقَعَ ذَلِكَ النَّيْلُ في حَالِ إليقَظَةِ؛ إلَّا ما كانَ إلى زَوَالِهِ سَبِيلٌ؛ ولِارْتِفَاعِهِ إمْكَانٌ.[6]
إلى أن قال: ولَعَلَّكَ قَدْ تَبْلُغُكَ عَنِ الْعَارِفِينَ أخْبَارٌ تَكادُ تَأتى بِقَلْبِ الْعادَةِ فَتُبَادِرُ إلى التَّكْذِيبِ؛ وذَلِكَ مِثْلُ مَا يُقَالُ: أنّ عَارِفاً اسْتَسْقَى لِلنَّاسِ فَسُقُوا؛ أوِ اسْتَشْفى لَهُمْ فَشُفُوا؛ أوْ دَعَا على هِمْ فَخُسِفَ بِهِمْ وزُلْزِلُوا؛ أوْ هَلَكُوا بِوَجْهٍ آخَرَ.
وَدَعَا لَهُمْ، فَصُرِفَ عَنْهُمُ الْوَبَاءُ؛ والْمَوَتَانُ؛ والسَّيْلُ، والطُّوفَانُ؛ أوْ خَشَعَ لِبَعْضِهِمْ سَبُعٌ، أوْ لَمْ يَنْفِرْ عَنْهُمْ طَائِرٌ؛ أوْ مِثْلُ ذَلِكَ مِمَّا لَا تُؤْخَذُ في طَرِيقِ الْمُمْتَنِعِ الصَّرِيحِ فَتَوَقفْ، ولَا تَعْجَلْ! فَإِنَّ لأمْثَالِ هَذِهِ أسْبَاباً في أسْرَارِ الطَّبِيعَةِ.[7]
ثمّ قال: أنّ الامورَ الْغَريبَةَ تَنْبَعِثُ في عَالَمِ الطَّبِيعَةِ مِنْ مَبَادِي ثَلَاثَةَ: أحَدُهَا الْهَيْئَةُ النَّفْسانِيَّةُ الْمَذْكُورَةُ. وعندها قال: والسِّحْرُ مِنْ قَبيلِ الأوَّلِ، بَلِ الْمُعْجِزَاتُ والْكَرَامَاتُ.
[1] «الإشارات»، الطبعة الحروفيّة ج 3، ص 91 إلي ص 93.
[2] نفس المصدر.
[3] الآية 171 من السورة 4: النساء.
[4] «الإشارات» وشرحها، الطبعة الحجريّة، أواخر النمط التاسع وهو في مقامات العارفين، وفي الطبعة الحديثة ج 3 ص 389 إلي 390 الطبعة الاولى: في المطبعة الحيدريّة سنة 1379 هـ.
[5] «الإشارات» الطبعة الحديثة ج 3، ص 119.
[6] «الإشارات» ج 3، ص 119 و120.
[7] «شرح الإشارات» النمط العاشر في أسرار الآيات، وفي الطبعة الحديثة ج 3، ص 150.
الاكثر قراءة في مقالات عقائدية عامة
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة