الموقف السياسي والحرب في سوريا
المؤلف:
سليم حسن
المصدر:
موسوعة مصر القديمة
الجزء والصفحة:
ج16 ص 330 ــ 335
2025-12-15
60
عندما رأى ملك «بارثيا» أن «أنتيوكوس السابع سيدتيس» قد قام بحملة على بلاده لتخليص أخيه «ديمتريوس» من الأسر؛ فطن لذلك وأطلق سراحه. وعلى أثر ذلك أتى «ديمتريوس» إلى بلاده، غير أنه وجد نفسه في موقف غريب حقًّا؛ وتفسير ذلك أن الملك «فرات الثاني» Phrate ملك «بارثيا» كان يعتمد على ما عساه أن يحدث من اضطرابات بسبب المنافسة بين الأخوين على الملك؛ إذ الواقع أنه لم يكن هناك في «سوريا» إلا عرش واحد وامرأة واحدة مشتركة بين الأخوين؛ وذلك لأن «أنتيوكوس السابع» كان قد تزوج من «كليوباترا تيا» بعد وقوع أخيه في الأسر، وكانت في الوقت نفسه لا تزال على ذمة أخيه الأسير. ولما كان «أنتيوكوس السابع» محبوبًا من الشعب بقدر ما كان أخوه مكروهًا، فإنه من أجل ذلك لم يكن في استطاعته أن ينزل لأخيه عن الملك حتى لو أراد ذلك، ولكن موت «أنتيوكوس السابع» على يد أهل «بارثيا» قد حل المشكل، وعلى الرغم من ذلك فإن هذا الحادث لم يجعل «ديمتريوس» يروق في أعين الشعب؛ بل الواقع أن الشعب قد زاد كرهه له في تلك الآونة أكثر من قبل أسره. يُضاف إلى ذلك أن زوجه التي أراد أن يعيد معاشرتها من جديد كانت تمقته؛ وذلك لأنها كانت لا ترى فيه إلا زوج «روديجين» ابنة ملك «بارثيا». هذا فضلًا عن أنه كان يظهر أمام الشعب بمظهر المتكبر العاتي. ويُلحظ أنه في تلك الفترة كان قد أرخى لحيته على الطريقة الشرقية، ومن ذلك يُفهم أنه كان مُرْتَدًّا عن الهيلانستيكية (1). ولقد بلغ من كره الشعب ﻟ «ديمتريوس» بسبب سوء أخلاقه أن أصبحت دائرة حكمه محصورة في قصره؛ ومن ثم كانت الحروب الداخلية قاب قوسين أو أدنى، وأنه بقيام هذه الفتنة يمكن طرده من البلاد. وتدل الأحوال على أن «كليوباترا تيا» كانت هي التي تدبر العدة بنفسها لهذه الحرب، للخلاص من هذا الخائن لعهوده معها؛ وتفسير ذلك أنها قد آوت «سيزيك» Cyzique آخر ابن رُزِقَتْهُ من «أنتيوكوس السابع» في مكان أمين؛ ليتولى عرش الملك في اللحظة المناسبة، وهو الذي عُرِفَ بعد توليه العرش ﺑ «أنتيوكوس التاسع»، وكان يُطْلَق عليه لقب «سيزيك». وقد كان هذا الأمير مؤهلًا تمامًا لتولي عرش الملك؛ فقد كان حزب والده يعاضده، وقد كان العزم على الأخذ بهذا الرأي في حالة بقاء بكر أولادها وهو «سليوكوس» ومعه أخته «لأوديس» في «بارثيا» كما كان له الحق في الملك ويعاضده تمامًا حزب والده.
(1) كليوباترا الثانية تصل إلى أنطاكية
غير أن وصول «كليوباترا الثانية» ملكة مصر إلى «أنطاكية» في هذه اللحظة المشحونة بالمتاعب والعقبات والاضطرابات ما لبث أن حول سوء الحال إلى حالة أحسن؛ إذ من المحتمل أن هذه الملكة قد عملت جل طاقتها لإصلاح ذات البين لتجعل الأمور تعود إلى مجاريها بين «كليوباترا تيا» ابنتها وبين زوجها، وذلك بما يتفق مع خطتها التي رسمتها لنفسها، وبما يتفق مع رأي «ديمتريوس» أن قيام حرب بينه وبين مصر يكون فيها خلاصه؛ وذلك لأن الجنود — الذين لم يجرؤ على جعلهم يزحفون على «جان هيركان» و«أدوم» في «فلسطين» خوفًا من أن يخونوه — كان من المحتمل أن يتبعوه عندما يهيئ لهم فتح مصر وإطلاق أيديهم في نهبها.
(2) وصول ديمتريوس في زحفه على مصر حتى «بلوز» وارتداده
وقد أفلحت «كليوباترا» في الوصول إلى تنفيذ خطتها، كما أفلح «ديمتريوس» في الزحف بجيشه حتى «بلوز»، غير أنه عندما لاقى بعض المقاومة تخاذل جنوده الذين كانوا يعقدون الآمال ويبنون القصور في خيالهم بما ينتظرهم من ثراء وفير دون عناء. وقد عصا الجنود أوامره (2)؛ ومن ثم كان لزامًا عليه أن ينكص على عقبيه مذمومًا مدحورًا.
(3) قيام ثورة في أنطاكية
وقد زاد الطين بلة أنه في خلال هذه الفترة اندلعت نار الثورة في «أنطاكية»، وحذت حذوها «أبامي»، وعلى أثر ذلك امتدت الثورة شيئًا فشيئًا إلى المدن الأخرى، ولم يَمْضِ طويل زمن حتى سمعنا أن الثوار اتصلوا بالملك «إيرجيتيس الثاني» يرجونه أن يرسل إليهم ملكًا يختاره هو على شريطة أن يكون من سلالة «السليوكيين» (3). ولقد كان من أكبر دواعي سرور «إيرجيتيس الثاني» من المفاجآت السارة أن يسمع ويرى أنه يوجد ملك آخر في العالم غيره مكروهًا من شعبه أكثر منه، كما أنه اغتبط برؤية العاصفة التي كانت ستنقض عليه قد أخطأته، وانقضت على رأس أعدائه.
(4) مساعدة إيرجيتيس للثوار في سوريا
وسرعان ما عمل «البطين» على إجابة طلب أهل «أنطاكية»، غير أنه لما لم يجد في متناوله أميرًا من «السليوكيين» الحقيقيين فإنه أرسل وريثًا للملك من صنع يديه؛ إذ اختار شابًّا مصريًّا ابن تاجر يُدْعَى «بروتاركوس» Protarchos، وهو على حسب ما رواه المؤرخ «جوستن» (4) قد رُشِّحَ بوصفه أنه ابن كان قد تبناه «أنتيوكوس السابع». أما المؤرخ «يوزيب» (5) فيقول: إنه كان ابن «الإسكندر بالاس». وعلى أية حال أطلق «بطليموس إيرجيتيس الثاني» على صنيعته اسم «الإسكندر»، وهذا الاسم يعيد للذاكرة اسم «الإسكندر بالاس» الذي رشحه للملك فيما مضى في أحوال مشابهة «بطليموس فيلومتور»، وقد جهزه بجيش جرار. وفعلًا أبحر هذا المدعي الجديد قاصدًا «أنطاكية» وعند وصوله رحب به الشعب. ولم يَمْضِ على توليه العرش مدة حتى صك نقودًا مُثلت عليها صورته عام 128ق.م. وعلى الرغم من تولي هذا الدعي عرش الملك، فإن الأحوال لم تستقر له إلا بعد ثلاث سنوات قضاها في حرب مع مناهضه. وفي نهاية الأمر هُزِمَ «ديمتريوس» في «دماس»، كما هجرته «كليوباترا تيا»؛ فقد أوصدت أبواب «بطليمايس» في وجهه بعد أن أتى إليها فارًّا من ساحة القتال، وبعد ذلك نجده قد قُتِلَ في مدينة «صيدا» بأمر من الحاكم هناك، وذلك عندما كان يحاول الإبحار ليلتجئ إلى معبد «ملقارت»(6) Melqart عام 125ق.م، وبعد هذه الحروب نرى «الإسكندر الثاني» الذي لُقِّبَ «زابيناس» Zabinas (أو العبد الذي اشتراه سيده من السوق) قد أصبح ملكًا على «سوريا» دون منازع، ولم يَبْقَ أمامه إلا إخضاع «فنيقيا» حيث كانت «كليوباترا تيا» لا تزال تحكم فيها باسم الأسرة الشرعية.
وتدل الأحوال أن الحظ قد ابتسم للملك «إيرجيتيس الثاني» أكثر مما كان يأمل عندما أراد أن يحذو حذو أخيه «فليومتور»؛ وتفسير ذلك أن «الإسكندر زابيناس» ملك سوريا كان مثله كمثل «الإسكندر بالاس» قد اعتبر نفسه صنيعة ملك مصر. ومن المحتمل أن الملك «البطين» أراد أن يسير في تقليده لأخيه حتى النهاية، فحاول أن يستغل خدماته لملك «سوريا» الجديد بأن يجعله ينزل له عن «سوريا الجوفاء» غير أن «الإسكندر زابيناس» لم ينزل على إرادة الملك «البطين»، وعندئذ رأى «بطليموس البطين» أن يفيد من سوء تقديره للأحوال التي كانت تجري حوله؛ ومن أجل ذلك وجد أنه من الخير له أن يعقد صلحًا مع أخته «كليوباترا الثانية»، وعلى أثر ذلك ولت وجهها شطر الإسكندرية لتأخذ مكانها على عرش مصر في الإسكندرية بوصفها الملكة الأخت بجوار ابنتها «كليوباترا الثالثة» الملكة الزوجة، وذلك في عام 124ق.م(7).
(5) سياسة كليوباترا تيا في سوريا بعد قتل أبيها
وهذا الصلح أو التراضي الرسمي كان من آثاره انقلاب في مجرى السياسة المصرية؛ وذلك أن «بطليموس البطين» عرض وقتئذ على ابنة أخته «كليوباترا تيا» أن يعيد لها كل ملك «سوريا» وذلك بخلع «الإسكندر زابيناس». على أن «كليوباترا تيا» لم تعد بعد بالمرأة المستسلمة الخاضعة التي تنتقل من يد إلى يد أخرى بحد السيف؛ لأن مرارة تجارب الحياة وما قاسته من أهوال خلال حياتها التعسة قد جعلها تتحول إلى امرأة طموحة، ومن ثم أرادت أن تكون هي الآمرة بعد أن سئمت الاستسلام (8)؛ ومن ثم قبلت عرض «إيرجيتيس الثاني».
ونحن نعلم أنها خانت زوجها «ديمتريوس» ولم تعارض في قتله، وبعد ذلك نجدها قد أمرت بقتل ابنها الأكبر «سليوكوس الخامس» الذي كان قد استولى على لقب ملك دون إذن منها عام 125ق.م، وفعلت فعلتها هذه لتعطي تاج الملك لابنها الثاني ابن «ديمتريوس الثاني»، وقد سُمِّيَ «أنتيوكوس الثامن» وهو الذي كان يُلَقَّبُ «جريبوس» Grypos (أي صاحب الأنف المعقوف)، وكان قد وعدها الأخير بأن يكون طوع بنانها، وأن يتركها تحكم البلاد بدلًا منه. ويقول المؤرخ «أبيان»(9) إن سبب قتلها لابنها «سليوكوس الخامس» كان لأحد أمرين؛ إما لأنه كان يريد أن ينتقم منها لقتلها والده، أو لأنها كانت ثائرة على الكل. وعلى أية حال فإن ارتكاب مثل هذه الجرائم لم تكن تدعو الملك «البطين» لأن يبتعد عنها؛ إذ إنها في الواقع كانت تسير على نهج إجرامه فكلاهما سفاك … وعلى أثر توقيع المعاهدة بينها وبين «إيرجيتيس» بما عرضه عليها نجد أنه قد حافظ على عهده، ووضع جيشًا تحت تصرف «أنتيوكوس الثامن» ابنها؛ هذا فضلًا عن أنه زوَّجه من ابنته «كليوباترا تريفانا» Tryphaena؛ وذلك ليبرهن لسكان البلاد أنه قد وطد العزم على ألا يتخلى عن مرشحه لملك «سوريا».
والظاهر أن السوريين عندما رأوا أن الحظ كله قد تحول إلى «أنتيوكوس جريبوس» أسرعوا إلى الانفضاض من حول «الإسكندر زابيناس» وتخلوا عن معاضدته، وفعلًا دارت عليه الدائرة في أول واقعة التقى فيها مع عدوه، وقد حاول أن يقاوم في «أنطاكية»، غير أنه لما لم يكن لديه مال للاستمرار في الحرب فقد عرج على خزائن المعابد فاستولى على ما فيها، وقد كان من جراء التعدي على حرمة المعابد أن هب القوم في وجهه لانتهاك قدسية تلك المعابد، وقد كانت نتيجة ذلك أن فر «الإسكندر زابيناس»؛ ولكنه وقع في يد الناهبين الذين سلموه بدورهم ﻟ «أنتيوكوس الثامن» الذي أنهى الحرب الداخلية هذه بقتل مناهضه عام 123ق.م (راجع Justin, XXXIX, 2, 3–6.)
ومما تجدر ملاحظته هنا أنه منذ أن استتب الأمر في «سوريا» لم نَرَ «إيرجيتيس الثاني» — على ما يظهر — يهتم بأحوال هذه البلاد، ولا مراء في أنه كان في مقدوره أن يتتبع سير الأحوال في «سوريا» بما فُطِرَ عليه من برود الرجل الخبير بالدسائس الإجرامية التي كانت قائمة هناك، وهي التي أدت في النهاية إلى إنزال العقاب الإلهي على «كليوباترا تيا» عام 121ق.م؛ إذ لاقت حتفها بيدها هي.
(6) موت كليوباترا تيا بالسم
وذلك أن هذه الملكة السفاكة الطموحة بعد أن ضحت بدم زوجها ومن بعده بدم ابنها؛ أرادت — تلبية لإرضاء شهوة الحكم التي كانت تسيطر عليها — أن تقضي على حياة ابنها «أنتيوكوس» (الأعقف الأنف) بدس السم له في كأس قدمتها له، غير أنه كان قد علم بذلك من قبل، ورفض تجرع الكأس، وفي الحال أجبرها على أن تشربها؛ وبذلك قضت نحبها بيدها (10)، فكان جزاءً وفاقًا.
والظاهر أن «بطليموس إيرجيتيس الثاني» — الذي كان قد أخذ يطعن في السن — أمضى السنين السبع التي بقيت له من عمره في تنظيم أحوال أسرته بعد أن تدخل سنين عدة في شئون «سوريا» دون نتيجة فعالة (123–116ق.م)، كما أخذ يكفر عن سيئاته وما ارتكبه من آثام.
....................................................
- راجع: Justin XXXIX, 1, 3.
- راجع: Euseb. I. p. 254-258.
- راجع: Joseph, A. Jud., XIII, 9, 3.
- راجع: Justin, XXXIX, 1, 4-5.
- راجع: Euseb., I. p. 257-8 schoene.
- راجع: Justin, XXXIX, 1, 8.
- راجع: Justin, XXX, 2, 1-2.
- راجع: Appien, Syr. 68.
- راجع: Appien, Syr. 69.
- راجع: Justin, Ibid 7-8; Appien Syr. 69.
الاكثر قراءة في العصور القديمة في الشام
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة