القرآن يهدي الناس بواسطة الإمام
المؤلف:
السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
المصدر:
معرفة الإمام
الجزء والصفحة:
ج2/ص76-82
2025-11-10
13
كلّ إنسان بلغ مقام التوحيد الحقيقيّ واليقين الكامل، فإنّه نال درجة الإنسانيّة. وإذا لم يبلغ ذلك المقام، فهو ناقص؛ وبحاجة إلى تربية. وينبغي أن يكون معلّم الناس إنساناً كاملًا. فالناقص لا يستطيع أن يعلّم الناس ويقودهم نحو الكمال. والهدف من الدين ليس مجرّد القيام ببعض الأعمال الصالحة حتى يحلو للقائل أن يقول: كَفَانَا كِتابُ اللهِ. والقرآن وحده لا يستطيع أن يقود الناس، إذ لا بدّ من إنسان مُلمّ ضليع بحقائق القرآن، فمن هو ذلك الإنسان؟إنّه الإمام، معلّم القرآن، والعارف بمبدأ الأحكام ومنشئِها، يتربّع على منهل القانون، وينظر بعين الحقّ إلى عمق المصالح والمفاسد من المنشأ والأصل.
{ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها ولا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ، إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ واللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ}[1].
»ثمّ جعلناك على منبع الأمر ومبدأ نزوله فتنظر القوانين والأوامر على أصلها وحقيقتها فاتّبعها ولا تتّبع آراء وأفكار الناس الجهلاء الذين لا عقل لهم، إنّهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً ولن يبلغوا بك ما تهدفه وتقصده وهو رضا الله ولقاؤه«، فالإمام يستطيع أن يأخذ بيد الإنسان، ويقوده نحو الحقيقة المطلقة. لأنّنا عرفنا أنّ خلق السماوات والأرض والإنسان، وإنزال القرآن وإرسال الرسول، كلّ اولئك بالحقّ. وكذلك الإنسان فإنّه ينبغي أن يسلك سبيل الحقّ، ويقطع طريقه إلى أن يصل أقصى درجات التوحيد. فهل يستطيع أن يقطع هذا الطريق بدون إمامٍ ومربّ؟ وهل انتهت عمليّة التربية والتعليم بعد وفاة النبيّ الأكرم؟ وهل أنّ اللطف الإلهيّ كان فقط في عصر رسول الله، ثمّ ترك الله الامّة بعده مهملة ضائعة غير ملتزمة؟ وهل أنّ روح النبيّ بعد الممات كفيلة بمساعدة الامّة وإيصالها إلى مقام الكمال فلا تعد هناك حاجة إلى شخص حيّ من أهل اليقين؟ وهل أنّ العمل بالقرآن وفقاً لفهم الناس البسطاء يكفي بدون تعريف للحقائق؟ وهل أنّ العمل الصالح نفسه، مثل الصلاة والصوم، والصدق، واجتناب السرقة والقمار، يوصل الإنسان إلى مقام الإنسانيّة؟ يُنقَل أنّ الناس في سويسرا وبعض الدول الاخرى لا يكذبون، ولا يسرقون، ولا يخونون، ولا يفعلون أمثال هذه الأشياء. صحيح أنّ الإنسان متى تلقّى تربيّة في مجال معين، فإنّه يتخرّج في ذلك المجال ويعمل به. بَيدَ أنّ هذه الصفات الحسنة عند شعوب تلك البلدان منبعثة عن العقل والعلم ومعرفة الله وإدراك المصالح الصادقة، أو أنّ تلك الشعوب عاشتها تلقيناً وتربّت عليها؟1 أنا رأيتُ بنفسي في القرى والأرياف أنّ الرعاة عند ما يسوقون أغنامهم ومعزهم للرعي صباحاً، ويمرّون على البيوت، فإنّ الأغنام والمعز العائدة إلى تلك البيوت تخرج على عادتها لتلتحق بالقطيع. وحينما يرجع القطيع عند الغروب، ويمرّ على نفس البيوت، فإنّ تلك الأغنام والمعز تنفصل عن القطيع تلقائيّاً لتعود إلى أصحابها. فهذا العمل عند الحيوان من وحي العادة، ولا يستحقّ حمداً وتمجيداً. وكذلك جهاز التسجيل فإنّه يسجّل الصوت جيّداً، ويعيده دون أن يتدخّل فيه، ويعيد حتى نَفَس القارِئ أو صوت الورق. فعمله هذا لا يستحقّ حمداً وثناءً. والإنسان الاوروبيّ الذي لا يتلقّى تعليمه وتربيته على أساس التوحيد، والرأفة بالآخرين، والمروءة، والإيثار، والصفح فإنّ صدقه، ونظمه، وأمانته (مهما كان نصيبها من الصحّة) هي من وحي التلقين والعادة. فما قيمة ذلك؟ والعامل الاوروبيّ الذي يذهب إلى مقرّ عمله صباحاً، وينجز أعماله في المعمل بدون رقابة ربّ العمل على سبيل طبيعيّاً، إذا صحّ النقل، وإلّا فإنّ شعوب تلك البلدان لا تختلف عن غيرها من الشعوب إلّا في بعض التقاليد والآداب الظاهريّة والعادات المتعارفة.
الفرض، ما هي الدرجة التي يدركها من الإنسانيّة؟ وأنّ كثيراً من المكائن تُؤدّي أعمالها أوتوماتيكيّاً لساعات متواليّة بدون إشراف أحد، وتقدّم منتوجاً سليماً ونظيفاً. وبعد إنجاز مقدار معيّن من إعداد المنتوج الذي يحتاجه الناس، تنطفئ تلقائيّاً. فتتوقّف عن العمل. فهل تستحق هذه المكائن بما عليها من نظم مدحاً وثناءً؟! فأولئك الأشخاص قد تربّوا وتعوّدوا على نفس النمط، وهم يعيشون حركة دائبة في هذا الطريق. ومن الأفضل أن نطلق على أمثال هؤلاء: الناس الآليّين. إذ ينجزون العمل المطلوب فقط، ولا خِلاق لهم من المعرفة، والحقيقة، والصفاء والمحبّة والآثار التوحيديّة، ويراوحون في طريقهم كالجماد وفقاً للتوجيهات الصادرة إليهم، بَيدَ أنّ هذا لا يعطينا معنى الإنسانيّة. ولمّا خلقت ذات الإنسان على أساس الفطرة، فليس ذلك طريق كماله، والارتقاء في سلّم العلم والمعرفة، والعثور على الأسرار الإلهيّة، وسرّ الخلق والتكوين والوقوف على الصراط والميزان والحقّ والباطل، كلّ ذلك لا يتحقق بهذا النسق.
ينبغي على الإنسان أن يضع قدمه على طريق التوحيد، ولكن من ذا الذي يطلعه على ذلك بعد النبيّ؟ أنّ المعلّم الذي لا تتجاوز معلوماته العمليّات الحسابيّة الأصليّة الأربع، كيف يستطيع أن يعلّم طلابه المعادلات ذات المجاهيل المتعدّدة، وكذلك الجذور، ورسم المنحنى، والهندسة الفضائيّة، والمثلّثات، والحساب الاستدلاليّ؟ هذا مستحيل، فإنّ أقصى ما يستطيع أن يفعله هو إيصال الطالب إلى مستوى ما يحمله من معلومات وفي ضوء ذلك، فكيف يستطيع الشخص اللاموحّد الناقص الذي لم يتحرّر من رتبة الشيطان وهوى النفس أن يكون معلّماً للناس يهديهم نحو التوحيد ويوصلهم إلى كمال الإنسانيّة؟! أنّ هذا مستحيل، أو نقول: أنّ مشيئة الله في إرشاد الناس وهدايتهم إلى كمالهم قد تراجعت وتركتهم ضائعين. وهذا غير صحيح؛ لأنّه قد ثبت أنّ السماء والارض، والإنسان، كلّ اولئك قد خُلقوا بالحقّ، وهو يعني عدم البطلان والعبث، أو أن نقول: لم يُهمَل الناس، وإنّما يحتاجون إلى مربّ ومكمّل، وفي هذه الحالة ينبغي أن يكون المربّي أكمل الناس، وإلّا فلا يكون مكمّلًا، وهو المطلوب ونستخلص من هذا البحث أنّه كما أنّ تشريع القوانين مرتكز على أساس الحقّ، وكذلك بعثة الرسول الأعظم، ونصب الإمام الذي يتمتّع بمقام الكمال، وهو المربّي والمعلّم للبشريّة، إلى أعلى درجة من الإنسانيّة وفعليّة القوى المودعة من الله فيه ومقام التوحيد؛ كل ذلك على أساس الحقّ أيضاً. وكلا المسألتان من أصل واحد، والوردتان أصلهما شجرة الورد الواحدة، وتتغذّيان من ثدي واحدة وأمّا الإنسان الذي لم يبلغ مقام التوحيد المطلق، ولم يصل إلى أعلى درجة من الإنسانيّة، ولا زالت بين جنبيه نفسه الأمّارة، ولم يتركه الشيطان، ولم يتّضح موقفه، ولا زال يعيش في ظلمات الشرك (و إن كان شركاً خفيّاً)، ولم يتيقَّن طريق الحقّ ولا زال إيمانه من وحي التقليد، أو مشوباً ببعض الشوائب الاخرى، ولم يُفتَن على إيمانه، وما فَتَأ فريسة لذئب الأمانيّ الباطلة، وفي قبضة هوى النفس، نعم فالإنسان بهذه المواصفات لا يمكن أن يكون معلّماً وموجّهاً وقائداً.
فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ واجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ، حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ ومَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَو تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ[2].
»اجتنبوا الأرجاس المتمثّلة بعبادة الأوثان (والنفس الأمّارة هي الصنم الحقيقيّ واحترزوا من القول الباطل، وسيروا على أساس دين التوحيد المستقيم المنزّه عن الإفراط والتفريط، والمطهّر من الاعوجاج والنقص، ولا تشركوا بالله أحداً أبداً، ولا تجعلوا معه مؤثّراً آخر؛ ومن جعل معه مؤثّراً آخر وأقحمه في تسيير العالم فمثَلُه مثل من سقط من مراتب الوجود وخرّ من سماء الفضيلة إلى الحضيض فتخطّفه طير الهوى المفترسة للبشر، وتجعله فريسة لها، أو تقذفه رياح الحوادث والاضطراب فتلقيه في مكان بعيد«.
فالشخص الذي لم يبلغ مقام الكمال، وما زال محجوباً بحجاب النفس، وما فتئت نفسه هي المحور إذ يحوم حولها دائماً، وما برح عاجزاً عن أن يفتح منفذاً يخترق فيه حجب قلبه المظلمة ليخرج منه، ويحلّق في فضاء عالم القدس، وليعيش منشرح الصدر، مطمئنّ القلب، مرضيّاً عنه، فيصدق عليه الخطاب القائل: {ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً}[3] ويُكلّل بقوله عزّ من قائل: {فَادْخُلِي فِي عِبادِي ، وادْخُلِي جَنَّتِي}[4] نعم فالإنسان بهذه المواصفات، مهما بلغ من المقام والمنزلة، فإنّه يظلّ في غشاوته، وينطبق ليه عنوان الكفر الحقيقيّ حسب حالته ودرجته، ويهتزّ عند المحن والشدائد والاختبارات، وتجرفه صاعقة الهوى وحبّ الرئاسة والجاه الذي هو بدرجات أشدّ من دويّ وبرق حبّ المال والأولاد وحتى حبّ الحياة. تجرفه نحو بيداء الضياع، ومفازة البؤس، فتسلّمه إلى الهلاك والفناء.
{وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ}[5].
فهل يستطيع مثل هذا الشخص المصاب بقارعة السماء، والمهدّد قلبه بسيل الخطرات النفسانيّة دائماً، والمحاصر بإبليس وجنوده، أن يأخذ بِيَدِ الامّة، ويهدي ضعفاءها إلى طريق التوحيد وأقوياءها إلى مقام الكمال.
[1]الآيتان 18 و19، من السورة 45: الجاثية.
[2]الآيتان 30و 31، من السورة 22: الحجّ.
[3]الآية 28، من السورة 89: الفجر.
[4]الآيتان 29 و30، من السورة 89: الفجر.
[5]الآية 31، من السورة 13: الفجر.
الاكثر قراءة في الامامة
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة