ولما رجعت قريش إلى مكة قام فيهم أبو سفيان بن حرب ، وقال : يا معشر قريش لا تبكوا على قتلاكم ولا تنح عليهم نائحة ولا يندبهم شاعر ، واظهروا الجلد والعزاء فإنكم إذا نحتم عليهم بالشعر اذهب ذلك غيظكم فأكلّكم عن عداوة محمد وأصحابه وإذا بلغ محمدا وأصحابه شمتوا بكم فيكون أعظم المصيبتين ولعلكم تدركون ثأركم فالدهن والنساء علي حرام حتى اغزو محمدا فمكثت قريش شهرا لا يبكيهم شاعر ولا تنوح عليهم نائحة .
وكان الأسود بن المطلب قد أصيب له ثلاثة أولاد زمعة وعقيل والحارث ، وذهب بصره وكاد ان يموت كمدا ، ولم يستطع ان يفرج عن نفسه بالبكاء الا إذا خرج من مكة ، وقد يخرج منها أحيانا لهذه الغاية .
وجاء في رواية الواقدي ان غلامه كان يقوده إلى الطريق التي سلكها ولده زمعة في طريقه إلى بدر ، فإذا بلغها سقاه خمرا حتى ينتشي ، ثم يأخذ بالبكاء ويحثو على رأسه التراب ، ويقول لغلامه : إياك ان تخبر قريشا بذلك .
وسمع نائحة في الليل فقال لغلامه : انظر هل بكت قريش على قتلاها حتى أبكي على أبي حكيمة - وكانت كنية ولده زمعة - فإن جوفي قد احترق ، فذهب الغلام ورجع إليه ، فقال انما هي امرأة تبكي على بعير لها قد أضلته فقال :
أتبكي إذ يضل لها بعير * ويمنعها عن النوم السهود
فلا تبكي على بكر ولكن * على بكر تصاغرت الخدود
فبكي ان بكيت على عقيل * وبكي حارثا أسد الأسود
وبكيهم ولا تسمي جميعا * وما لأبي حكيمة من نديد
على بدر سراة بني هصيص * ومخزوم ورهط أبي الوليد
وروى الواقدي ان نساء من قريش مشين إلى هند بنت عتبة وقلن لها : الا تبكين على أبيك وأخيك وعمك وأهل بيتك ، فقالت : أخاف ان ابكيهم فيبلغ ذلك محمدا وأصحابه فيشمتوا بنا ونساء بني الخزرج لا واللّه حتى أثأر من محمد وأصحابه والدهن علي حرام ان يدخل رأسي حتى نغزو محمدا ، واللّه لو اعلم أن الحزن يذهب عن قلبي لبكيت ، ولكن لا يذهبه الا ان أرى ثأري بعيني من قتلة الأحبة فمكثت على حالها لا تقرب الدهن ولا فراش أبي سفيان من يوم حلفت حتى كانت وقعة أحد .
وفي شرح النهج عن الواقدي انه لما رجع المشركون إلى مكة اقبل عمير بن وهب بن عمير الجمحي وجلس إلى صفوان بن أمية في الحجرة فقال صفوان : قبح اللّه العيش بعد قتلى بدر ، فقال عمير بن وهب : اجل واللّه ما في العيش بعدهم من خير ولولا دين علي لا أجد له قضاء وعيال لا أدع لهم شيئا لرحلت إلى محمد حتى أقتله ان ملأت عيني منه ، فلقد بلغني انه يطوف في الأسواق ، فإن لي عندهم علة ، أقول لهم قدمت على ابني هذا الأسير ، ففرح صفوان بقوله : وقال يا أبا أمية : وهل تراك فاعلا قال اي ورب هذه البنية ، قال صفوان فعلي دينك ، وعيالك أسوة بعيالي وأنت تعلم أنه ليس في مكة رجل أشد توسعا على عياله مني ، قال عمير قد عرفت ذلك يا أبا وهب .
ثم قال صفوان : ان عيالك مع عيالي لا يسعني شيء ويعجزهم ودينك علي ، فحمله صفوان على بعيره وجهزه واجرى على عياله مثل ما اجرى على عائلته وامر عمير بسيفه فشحذه وسمه ، ثم خرج متوجها إلى المدينة ، وقال لصفوان : اكتم علي أياما حتى اقدمها ، وسار عمير حتى انتهى إلى المدينة ، فنزل على باب المسجد وعقل راحلته واخذ السيف وتقلد به ، ثم اتجه نحو محمد ( ص ) وعمر بن الخطاب في نفر من المسلمين يتحدثون ويذكرون نعمة اللّه عليهم في بدر ، فرأى عميرا وعليه السيف فنزع وقال لأصحابه دونكم الكلب هذا عمير بن وهب عدو اللّه الذي حرش بيننا يوم بدر وقدرنا للقوم وصعد فينا وصوب واخبر قريشا انه لا مدد لنا ولا كمين فقاموا إليه وأخذوه وانطلقوا به إلى رسول اللّه ، فقال عمر بن الخطاب : هذا عمير بن وهب يا رسول اللّه قد دخل المسجد ومعه السلاح وهو الغادر الخبيث الذي لا يؤمن على شيء ، فقال النبي ( ص ) : ادخله علي فخرج عمر واخذ بحمائل سيفه بعد ان احتوشه المسلمون وادخله على رسول اللّه ( ص ) فلما رآه النبي ( ص ) قال تأخر عنه يا عمر ، فلما دنا عمير من النبي ، قال له : أنعم صباحا يا محمد وكانت تحية الجاهلية فقال له النبي لقد أكرمنا اللّه عن تحيتك وجعل تحيتنا السلام وهي تحية أهل الجنة فقال عمير ان عهدك بها لحديث ، قال النبي لقد أبدلنا اللّه خيرا منها ، فما الذي أقدمك يا عمير قال : قدمت في أسيري عندكم تفادونه وتقاربونا فيه فإنكم العشيرة والأصل ، فقال النبي ( ص ) فما بال السيف معك ، قال عمير قبحها اللّه من سيوف ، وهل اغنت من شيء يوم بدر ، إني نسيته حين نزلت وهو في رقبتي ، ولعمري ان لي لهما غيره .
فقال رسول اللّه اصدقني يا عمير ما الذي أقدمك ، قال ما قدمت الا في أسيري قال ( ص ) فما شرطت لصفوان بن أمية في الحجر ففزع عمير ، وقال ما ذا شرطت له ، قال تعهدت بقتلي على أن يقضي دينك ويعول بعيالك واللّه حائل بينك وبين ذلك ، قال عمير : أشهد ان لا إله إلا اللّه وانك رسول اللّه ، كنا يا رسول اللّه نكذبك بالوحي وبما يأتيك من السماء ، وان هذا الحديث كان بيني وبين صفوان كما قلت لم يطلع عليه غيره وامرته بأن يكتمه أياما فاطلعك اللّه عليه ، وانا قد آمنت باللّه ورسوله واشهد ان ما جئت به حق من عند اللّه ، واحمده الذي ساقني هذا المساق ، فقال النبي ( ص ) : علموا أخاكم القرآن وأطلقوا له أسيره .
فقال عمير يا رسول اللّه اني كنت جاهدا على اطفاء نور اللّه ، فله الحمد ان هداني فأذن لي ان ألحق بقريش فادعوهم إلى اللّه وإلى الإسلام فلعل اللّه يهديهم ويستنقذهم من الهلكة فأذن له النبي ( ص ) فخرج من المدينة متجها إلى مكة .
وكان صفوان يسأل عن عمير كل راكب يقدم من ناحية المدينة ، ويقول هل حدث بالمدينة من حدث ، وأحيانا يقول لقريش أبشروا بوقعة تنسيكم وقعة بدر ، ثم قدم رجل من المدينة فسأله صفوان عن عمير بن وهب ، فقال لقد اسلم ، فلعنه صفوان والمشركون ، وحلف صفوان ان لا يكلمه ابدا ولا ينفعه بشيء وترك عياله ، ولما بلغ عمير بن وهب مكة نزل في بيته واظهر الإسلام ، فبلغ ذلك صفوان بن أميّة ، فقال لقد عرفت ذلك منه حين نزل في أهله ولم يبدأ بي قبل منزله ، وكان رجل قد أخبرني انه ارتكس لا أكلمه من رأسي ابدا ولا أنفعه بشيء ولا عياله ، فوقع عليه عمير وهو في الحجر فتحدث معه ، ولكن صفوان بن أميّة قد اعرض عنه ، فقال له عمير : أنت سيد من ساداتنا : أرأيت الذي نحن عليه من عبادة الأحجار والذبح لها ، ان ذلك ليس بدين ، وأنا أشهد ان لا إله إلا اللّه وان محمدا رسول اللّه ، فأعرض عنه صفوان ولم يكلمه ، وأسلم جماعة بواسطة عمير في مكة وخارجها .
وحدث ابن إسحاق عن عكرمة عن عبد اللّه بن العباس ان أبا رافع مولى رسول اللّه ( ص ) قال : كنت غلاما للعباس بن عبد المطلب وكان الاسلام قد دخلنا ، وأسلمت أمّ الفضل وأسلمت أنا ، اما العباس فقد تهيب ان يظهر اسلامه كراهية ان يعادي قومه وبقي متسترا في اسلامه ، وقد تخلف أبو لهب عدو اللّه عن بدر ، وبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة[1]، فلما جاء الخبر عن مصاب المشركين في بدر كبته اللّه وأخزاه ، ووجدنا في أنفسنا قوة وعزا ، وكنت رجلا ضعيفا اعمل القداح انحتها في حجرة زمزم ، فو اللّه إني لجالس فيها أنحت القداح وعندي أمّ الفضل زوجة العباس ، وقد سرنا ما جاءنا من خبر المشركين إذ أقبل الفاسق أبو لهب يجر رجليه بشر حتى جلس على طنب الحجرة فكان ظهره قريبا من ظهري ، فبينا هو جالس إذ قال الناس : هذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب قد قدم من بدر ، فقال أبو لهب هلم إلي يا ابن أخي فعندك الخبر ، فجلس الحارث إليه ، والناس قيام عليه ، فقال أخبرني يا ابن أخي كيف كان امر الناس ، قال لا شيء ، واللّه ما كان ، الا ان لقيناهم فمنحناهم أكتافنا يقتلون ويأسرون كيف شاءوا ، وأيم اللّه مع ذلك ما لمت الناس لقينا رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء والأرض لا يقوم لها شيء .
قال أبو رافع : فرفعت طنب الحجرة بيدي وقلت تلك هي الملائكة ، فرفع أبو لهب يده فضرب وجهي ضربة شديدة ثم احتملني فضرب بي الأرض وبرك علي يضربني وكنت رجلا ضعيفا فقامت أمّ الفضل إلى عمود من أعمدة الحجرة فأخذته وضربته به ضربة فلقت في رأسه شجة منكرة ، وقالت لقد استضعفته مذ غاب عنه سيده ، فقام موليا ذليلا ، فو اللّه ما عاش بعدها الا سبع ليال حتى رماه اللّه بالعدسة فقتلته ، وتركه ابناه ليلتين أو ثلاثا لم يدفناه حتى أنتن في بيته .
وكانت قريش تتقي العدسة وعدوتها كما يتقي الناس الطاعون ، ولما أنتن وانتشرت رائحته خارج البيت وفي الشوارع المحيطة به قال الناس لولديه عتبة وعتيبة ويحكما الا تستحيان ان أباكما قد أنتن في بيته فادفناه وغيباه في التراب ، فقالا انا نخشى هذه القرحة ، ثم إنهما قذفا عليه الماء وحملاه إلى مكان في أعلى مكة فوضعاه في حفرة وقذفا عليه الحجارة حتى واروه بها .
وجاء في أكثر الروايات ان الذين قتلوا في معركة بدر من المشركين اثنان وسبعون رجلا وان عدد الأسرى سبعون رجلا ، ولكن الذي ذكرهم الواقدي من القتلى اثنان وخمسون رجلا ذكرهم بأسمائهم وأسماء قاتليهم وحسب احصائه فإن الذين قتلهم علي بن أبي طالب ( ع ) وحده أربعة وعشرون رجلا من أصل اثنين وخمسين ، وثمانية وعشرون اشترك في قتلهم جميع المسلمين .
وفي رواية المفيد في ارشاده ان الذين قتلهم علي ( ع ) بلغوا خمسا وثلاثين رجلا سوى من اختلف فيه أو اشترك مع غيره في قتله .
ومن الغريب ان الأستاذ هيكل في كتابه حياة محمد ذكر معركة بدر واخذها من المصادر التي لم تتجاهل جهاد علي ( ع ) فيها وبطولاته الرائعة التي لم يحدث بها التاريخ لأحد من الناس ، وقد نصت جميع المصادر التي استمد منها هيكل على أن عليا كان البطل الأول في تلك المعركة وان العدد الأكبر من القتلى كان بسيفه ومع ذلك لم يزد على قوله : بأن عليا والحمزة وأبطال المسلمين خاضوا المعركة ونسي كل نفسه ، ومع أن كتب التاريخ والسيرة لم تذكر ان عمر بن الخطاب وأبا بكر قد قتلا أحدا أو اشتركا مع أحد المسلمين في قتل أحد ، ولكن هيكل أبى الا ان يذكر لهما فضيلة ترفعهما على جميع من خاضوا المعارك مع النبي في بدر وغيرها .
فقد ذكر ان النبي ( ص ) قال لأبي بكر : ان مثلك في الملائكة كمثل ميكائيل وفي الأنبياء كمثل عيسى وإبراهيم ، وقال لعمر بن الخطاب : ان مثلك في الملائكة كجبرائيل وفي الأنبياء كنوح وعيسى ، وذلك حينما أشار عليه أبو بكر بالعفو عن الأسرى ، وأشار عليه عمر بن الخطاب بقتلهم ، وان يبادر هو إلى قتل عمه العباس ، وعلي إلى قتل أخيه عقيل ، والحمزة إلى قتل ابن أخيه نوفل بن الحارث بن عبد المطلب حيث كانوا ثلاثتهم بين الأسرى ، ويأمر المسلمين بقتل بقية الأسرى ، في حين ان عمر بن الخطاب نفسه يعلم بأن الثلاثة كانوا يدافعون عن النبي ( ص ) في مكة وكانوا مع المحاصرين في شعب أبي طالب ، ويعلم بأنهم خرجوا مع المشركين مكرهين وان نفوسهم كانت مطوية على الإسلام والإيمان بكل ما جاء به محمد بن عبد اللّه ، واللّه هو العالم بما انطوت عليه نية ابن الخطاب ان صحت هذه الرواية عنه .
وعلى أي الأحوال فلم يقتل من المسلمين في تلك المعركة سوى أربعة عشر رجلا ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار .
وبعد انتهاء المعركة امر النبي ( ص ) بجمع الغنائم ودفن القتلى من المسلمين ، وامر بقتلى المشركين فألقاهم في القليب ، ونظر ( ص ) إلى أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة حينما سحب المسلمون أباه عتبة وألقوه في القليب ، فرآه كئيبا حزينا ، فقال له يا أبا حذيفة : لعله دخلك من امر أبيك شيء ، فقال لا واللّه يا نبي اللّه ما شككت في أبي ولا في مصرعه ، ولكنني كنت اعرف من أبي رأيا وحلما وفضلا ، وكنت أرجو ان يهديه ذلك إلى الإسلام ، فلما رأيت ما أصابه وذكرت ما مات عليه من الكفر بعد الذي كنت أرجوه له احزنني ذلك ، فدعا له رسول اللّه بالخير .
ولما جمع المسلمون ما في معسكر قريش وفي خيامهم من الغنائم ، ولم يكونوا يعرفون لمن ستكون وكيف سيوزعها النبي بدءوا يتساءلون عن مصيرها ولعبت الأطماع دورها في النفوس وأحس النبي ( ص ) بتلك الخواطر التي كانت تجول في أذهانهم ، فأمر بها ان تحمل إلى المدينة حتى يرى فيها رأيه وأخيرا قسمها بين المسلمين بعد ان اخرج خمسها كما نصت ذلك الآية .
وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( الأنفال 41 ) .
وبعث النبي ( ص ) إلى المدينة عبد اللّه بن رواحة وزيد بن حارثة بشيرين بما فتح عليه وسار الرجلان حتى إذا كانا بالعقيق افترقا فدخل عبد اللّه بن رواحة عوالي المدينة ، وصاح : يا معشر الأنصار أبشروا بسلامة نبيكم وقتل المشركين وأسرهم ، قتل ابنا ربيعة وابنا الحجاج وأبو جهل وزمعة بن الأسود وأميّة بن خلف ومضى يسرد عليهم أسماء القتلى والأسرى من المشركين ، وانتشر الخبر في دور الأنصار ، واجتمعوا عليه يستفهمون منه حقيقة الموقف .
ودخل زيد بن حارثة المدينة على ناقة النبي القصوى يبشر أهلها ، فلما بلغ المصلى صاح بأعلى صوته قتل عتبة وشيبة وفلان وفلان والناس لا يصدقون .
وأشاع المنافقون في المدينة ان محمدا قد قتل وتفرق عنه المسلمون ، وأضافوا إلى ذلك ان زيد بن حارثة لا يدري ما يقول من الخوف والاضطراب ، وعلامة ذلك ان ناقته مع زيد ، فلو كان هو المنتصر لبقيت ناقته معه وبلغ أسامة بن زيد ما يقوله المنافقون واليهود ، فجاء إلى أبيه وخلا به ثم قال له : أحقا ما تقول يا أبت ، فقال اي واللّه يا بني وغدا يقدم رسول اللّه بمن معه من المسلمين والأسرى ، واطمأن المسلمون لصحة الخبر واستبشروا بما فتحه اللّه على رسوله وانطوى المنافقون واليهود على أنفسهم من الفشل والخذلان الذي لحق المشركين وخرج المسلمون في شوارع المدينة يهللون ويكبرون ويهنىء بعضهم بعضا .
وخرج النبي من بدر متجها إلى المدينة بمن معه من المسلمين والأسرى حتى بلغ الأثيل قبل غروب الشمس فبات فيها ، وكان بين الأسرى النضر بن الحارث بن كلدة الثقفي من بني عبد الدار ، وقد أسره المقداد بن الأسود فنظر إليه النبي وأمعن النظر إليه ، فقال النضر لرجل إلى جنبه إن محمدا واللّه قاتلي ، لقد نظر إلي بعينين فيهما الموت ، فقال له الرجل : واللّه ما هذا منك إلا الخوف والرعب ، والتفت النضر إلى مصعب بن عمير وكان رحما له وقال له : كلم صاحبك ان يجعلني كرجل من الأسرى ، فقال له مصعب : انك كنت تعذب أصحابه ، فقال له اما واللّه لو أسرتك قريش ما قتلت ابدا وانا حي ، فقال مصعب : واللّه اني لأراك صادقا ، ولكني لست مثلك لقد قطع الإسلام العهود .
ثم إن النبي قال لعلي ( ع ) قم يا علي واضرب عنق النضر ، فصاح المقداد أسيري يا رسول اللّه وكان يطمع في فدائه ، فقال النبي : اللهم اغن المقداد من فضلك فقام علي ( ع ) وضرب عنقه وذلك بالأثيل في طريقهم إلى المدينة .
ولما بلغ خبره أخته قتيلة رثته بالأبيات التي تقول فيها :
يا راكبا ان الأثيل مظنة * من صبح خامسة وأنت موفق
بلغ به ميتا فإن تحية * ما ان تزال بها الركائب تخفق
مني إليك وعبرة مسفوحة * جادت لمائحها وأخرى تخنق
فليسمعن النضر ان ناديته * ان كان يسمع ميت أو ينطق
ظلت سيوف بني أبيه تنوشه * للّه أرحام هناك تمزق
صبرا يقاد إلى المدينة راغما * رسف المقيد وهو عان موثق
محمد ولأنت نجل نجيبة * في قومها والفحل فحل معرق
ما كان ضرك لو مننت وربما * منّ الفتى وهو المغيظ المحنق
النضر أقرب من قتلت وسيلة * وأحقهم ان كان عتق يعتق
وجاء في كتب السيرة ان النبي ( ص ) لما سمع هذه الأبيات رق لها وقال واللّه لو بلغني شعرها قبل قتله لما قتلته .
ولما بلغ النبي عرق الظبية امر بقتل عقبة بن أبي معيط فصاح عقبة لما أحس بالقتل من للصبية يا محمد ، قال لهم النار وامر عليا بقتله فقتله .
ودخل النبي مع جماعة من المسلمين المدينة قبل الاسرى ، فلما دخلوا المدينة ونظرت سودة بنت زمعة زوجة النبي ( ص ) إلى سهيل بن عمرو أحد الأسرى مجموعة يداه إلى عنقه بحبل لم تملك نفسها ان توجهت إليه قائلة : اي أبا يزيد أسلمتم أنفسكم وأعطيتم بأيديكم الا متم كراما ، فناداها النبي ( ص ) من خارج البيت يا سودة أعلى اللّه عز وجل وعلى رسوله تحرضين يا سودة ، فأجابت يا رسول اللّه والذي بعثك بالحق ما ملكت نفسي حين رأيت أبا يزيد مجموعة يداه إلى عنقه ان قلت ما قلت .
وفرق النبي ( ص ) الأسارى بين أصحابه وقال لهم استوصوا بهم خيرا ، ومضى يفكر ما ذا يصنع بهم أيقتلهم كما يرى عمر بن الخطاب حيث أشار عليه بأن يبادر هو إلى قتل عمه العباس ويأمر عليا بقتل أخيه عقيل والحمزة بقتل ابن أخيه نوفل ، ويأمر المسلمين بقتل بقية الأسرى ، أم يعفو عنهم ويأخذ الفداء منهم كما كان رأي أكثر المسلمين .
وبات ليلته يقارن بين كلا الأمرين ويضع في حسابه جميع الاحتمالات والنتائج التي يمكن ان تنتج منهما ، وأخيرا رأى أن العفو الفضل واجدى ، ولعلهم يرجعون إلى رشدهم بعد ذلك ، وفيهم من خرج مكرها ولم يقابله بسوء خلال قيامه بالدعوة في مكة ، وفرض عليهم ان يفتدوا أنفسهم بالمال ليستعين به المسلمون في حياتهم .
وفي بعض المرويات انه قد فرض على من يحسن القراءة والكتابة ان يعلمها لأطفال المسلمين في مقابل فدائه ، وكانت الفدية تتراوح بين أربعة آلاف درهم وألفي درهم وانزل اللّه عليه الآيات التي تعرضت لأحكام الأسرى من سورة الأنفال فقال سبحانه : ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ . لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ( الأنفال 67 - 68 ) .
فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ .
واختلف المفسرون في أن الخطاب متجه في هذه الآيات إلى النبي ( ص ) أو إلى المسلمين ، والقائلون بأنه متجه إلى النبي وقعوا في حيرة من امرهم ، حيث إنه بظاهره يدل على حرمة اتخاذ الأسرى قبل ان تتمكن الدعوة وتنتشر وتبلغ من القوة حدا لم يعد يخشى عليها من تسريح الأسرى في مقابل الفداء ، وكيف اباحه النبي ( ص ) والحال هذه . والرأي الراجح ان الخطاب في هذه الآيات متجه إلى المسلمين ، لأنهم هم الذين أسروا المشركين وقد عاتبهم اللّه سبحانه وارشدهم إلى أنه لا ينبغي لنبي ان يكون له أسرى قبل ان يستقر دينه وينتشر بين الناس ، وهذه هي السنة بين الأنبياء السابقين فلقد كانوا إذا حاربوا أعداءهم وظفروا بهم ينكلون بهم بالقتل ليعتبر بذلك غيرهم ، فإذا انتشر الدين وأصبح في امن وأمان من أعدائه ، يباح لهم ان يأسروا ويأخذوا الفداء ، ومع أن سنة الأنبياء السابقين على ذلك فقد اباحه اللّه لهم كما يستفاد من الآية .
لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ، اي لولا ما قدره اللّه من الإباحة لكم لأصابكم على اخذ الفدية من الأسرى عذاب عظيم ، لأنكم قد خالفتم سنن الأنبياء السابقين ، وجاءت الآية الثانية لتؤكد إباحة ما اخذوه من الغنائم التي تشمل فداء الأسرى حيث قال سبحانه : فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً ، ثم امر اللّه نبيه ان يقول للأسرى الذين افتدوا أنفسهم بأموالهم ، إذا دخلتم في الاسلام وتراجعتم عن ضلالكم يعوض اللّه عليكم خيرا مما دعوتموه فداء لأنفسكم .
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ .
ومجمل القول : ان الآيات ليس فيها ما يدل على تحريم الأسر كما وانها ليست موجهة للنبي ( ص ) وانما هي ارشاد للمسلمين إلى سيرة الأنبياء السابقين الذين كانوا لا يأسرون ليأخذوا الفداء من الأسرى قبل ان يتمكن دينهم في الأرض وفي الوقت ذاته تدل على إباحة الفداء كما يستفاد من قوله :
لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ .
ولما استقر المسلمون في المدينة وابتدأ الأسرى يفادون أنفسهم ، قال النبي لعمه العباس : يا عباس افد نفسك وابني أخويك عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث وحليفك عتبة بن عمرو بن جحدم فإنك ذو مال كثير ، فقال يا رسول اللّه : اني كنت مسلما ولكن القوم استكرهوني ، فقال اللّه اعلم باسلامك ، ان يكن ما تذكر حقا فاللّه يجزيك به ، فاما ظاهر امرك فقد كان علينا .
وكان رسول اللّه قد اخذ منه عشرين أوقية من ذهب ، فقال العباس احسبها لي في فدائي ، فقال لا : ذاك شيء أعطانا اللّه إياه منك فقال ليس لي مال غيرها فقال رسول اللّه : فأين المال الذي وضعته بمكة حيث خرجت من عند أمّ الفضل بنت الحارث ، وقلت لها : ان أصبت في سفري هذا فللفضل كذا وكذا ولعبد اللّه كذا وكذا ولقثم كذا وكذا ، ولعبيد اللّه كذا وكذا ، فقال والذي بعثك بالحق ما علم بهذا أحد غيري وغيرها ، واني لأعلم انك رسول اللّه ، ففدى نفسه وابني أخويه وحليفه .
ومضى المكيون يرسلون في فداء أسراهم ، وكان من بين الأسرى عمرو بن أبي سفيان فقيل لأبيه الا ترسل في فداء ابنك ، فقال لا اجمع علي مالي ودمي لقد قتلوا حنظلة وافدي عمرا دعوه في أيديهم يمسكوه ما بدا لهم .
وبقي عمرو بن أبي سفيان أسيرا في أيدي المسلمين إلى أن سافر سعد بن النعمان بن اكال من بني عمرو بن عوف إلى مكة معتمرا ، وهو يحسب أن قريشا لا تتعرض لمعتمر ولا لحاج فعدا عليه أبو سفيان فحبسه بمكة مقابل ابنه عمرو وكان شيخا كبيرا فمشى بنو عمرو بن عوف إلى رسول اللّه فأخبروه بحاله وسألوه ان يسلمهم عمرو بن أبي سفيان ليفكوا به أسيرهم من أبي سفيان فأجابهم رسول اللّه إلى ذلك فأرسلوه إلى أبي سفيان وترك لهم أسيرهم .
وذكر المؤرخون والمؤلفون في السيرة ان أبا العاص بن الربيع بن عبد العزى زوج زينب بنت رسول اللّه كان مع المشركين في بدر ووقع أسيرا في أيدي المسلمين وأمه هالة شقيقة خديجة كما ذكرنا من قبل وكان النبي قد زوجه ابنته زينب بناء لرغبة خديجة وقد أحسن عشرتها ولم يستجب لطلب قريش بفراقها كما صنع ابنا أبي لهب بالرغم من عروضهم المغرية .
ولما علمت زينب بوقوعه أسيرا في أيدي المسلمين أرسلت في فدائه بمال فيه قلادة أهدتها لها أمها يوم زفافها ، فلما رآها رسول اللّه رق لها وتذكر أيام خديجة واحسانها ووفاءها إليه ، فقال للمسلمين ان رأيتم ان تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها المال الذي أرسلته في فدائه فافعلوا فقالوا لك ذلك يا رسول اللّه : فاطلقوه بدون فداء ، واخذ رسول اللّه منه وعدا ان يرسل له ابنته زينب حين وصوله إلى مكة .
وفور وصوله جهزها وأرسلها مع أخيه كنانة بن الربيع وأرسل زيد بن حارثة رجلا من الأنصار إلى مكان عينه لهم في القرب من مكة ليكونا معها إلى المدينة ، ولكن أبا سفيان لما علم بالأمر خرج مع جماعة من المشركين في طلبها وبعد ان روعها القوم وقف كنانة موقف الحازم المستميت في الدفاع عنها ، فأشار عليه أبو سفيان ان يرجع بها ويخرجها في اليوم الثاني في جوف الليل حتى لا يعلم أحد بذلك ، وتم الأمر كما أشار به أبو سفيان واستقرت بالمدينة مع أبيها إلى أن خرج زوجها في السنة السادسة للهجرة في تجارة لقريش إلى الشام ، وعند رجوعه التقى بسرية لرسول اللّه فأصابوا ما معه من الأموال وفر هاربا وبعد رجوع السرية بالأموال إلى المدينة تسلل ليلا ودخل بيت زوجته زينب ، وكان الإسلام قد فرق بينهما ولكنه استجار بها فاجارته .
ولما خرج النبي إلى صلاة الصبح خرجت مع النساء للصلاة ، فلما انتهى النبي من صلاته وأراد ان ينصرف قامت زينب من بين صفوف النساء وقالت : أيها الناس اني قد اجرت أبا العاص بن الربيع ، فقال رسول اللّه : والذي نفسي بيده ما علمت بشيء مما كان حتى سمعت ما سمعتم ، ثم انصرف إلى منزلها فقال لها : اي بنية أكرمي مثواه ولا يخلص إليك فإنك لا تحلين له .
وجاء في أكثر كتب السيرة ان رسول اللّه ( ص ) اتصل بالسرية التي استولت على الأموال التي كانت معه وقال لهم : ان هذا الرجل منا حيث علمتم وقد أصبتم له مالا فإن تحسنوا ان تردوا الذي اخذتموه منه فاني أحب ذلك ، وان أبيتم فهو شيء أفاءه اللّه عليكم وأنتم أحق به ، فقالوا يا رسول اللّه بل نرده عليه ، واستجابوا لرغبة النبي ( ص ) وارجعوا إليه المال بكامله فاحتمله إلى مكة وسلمه لأصحابه .
ثم قال : يا معشر قريش هل بقي لأحد منكم عندي مال لم يأخذه فقالوا جزاك اللّه خيرا لقد أديت الأمانة ووجدناك وفيا كريما ، فقال لهم اما انا فاني أشهد أن لا إله إلا اللّه وان محمدا عبده ورسوله ، واللّه ما منعني عن الإسلام عنده الا اني تخوفت ان تظنوا اني أردت ان آكل أموالكم ، اما وقد أديتها إليكم وفرغت منها فاني اعلن اسلامي .
ثم خرج متجها إلى المدينة مسلما .
وجاء في كتب السيرة ان رسول اللّه ( ص ) قد رد عليه ابنته زينب بالنكاح الأول بعد ان فرق الإسلام بينهما مدة خمس سنوات ، ومن المقطوع به ان النبي ( ص ) قد ردها عليه ، اما انه قد ردها بالنكاح الأول وبدون عقد جديد ، فذلك مما لم يثبت لأن النصوص الإسلامية تؤكد ان الزوجة إذا أسلمت قبل الزوج وبقي هو على شركه إلى أن خرجت من عدتها تبين منه وتحل لغيره من الأزواج ، ومعنى ذلك ان مفعول النكاح الأول يصبح باطلا ، فلا بد لها من عقد جديد وهو مذهب الأئمة الهداة من أهل البيت الذي لن يفترق عما انزله اللّه على جدهم الرسول الأعظم .
اما إذا اسلم الزوج قبل انتهاء العدة فهو أحق بها ، ولازم ذلك ان النبي ( ص ) لا بد وان يكون قد ردها عليه بعقد جديد حسبما تقتضيه أصول التشريع .
[1] وقيل بأنه لم يرسل أحدا مكانه وكان متشائما من رؤيا شقيقته عاتكة بنت عبد المطلب كما ذكرنا سابقا .
الاكثر قراءة في حاله بعد الهجرة
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة