تحويل القبلة إلى جهة الكعبة
المؤلف:
هاشم معروف الحسني
المصدر:
سيرة المصطفى "ص"
الجزء والصفحة:
ص281-285
2025-11-01
53
لقد اتفق أكثر المؤرخين على أن النبي ( ص ) كان يصلي منذ ان بعثه اللّه نبيا إلى جهة بيت المقدس ، واستمر على ذلك حتى مضى عليه سبعة عشر شهرا في المدينة ، وقيل سبعة اشهر كما جاء في الرواية عن الإمام الصادق ( ع ) وقيل إنه كان يتجه خلال إقامته في مكة إلى الكعبة ، فلما هاجر إلى المدينة أمره اللّه ان يتجه إلى بيت المقدس وقيل غير ذلك .
وفي الشهر السابع أو السابع عشر على اختلاف الروايات أمره اللّه أن يتجه في صلاته إلى الكعبة أينما كان كما جاء في الآية من سورة البقرة سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ .
وفي الآيتين 144 ، 145 قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ * وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ * وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ ، وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ ، وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ .
وجاء في الآية 149 وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ .
وجاء في مجمع البيان للطبرسي عن الإمام جعفر بن محمد الصادق ( ع ) أنه قال : تحولت القبلة إلى الكعبة بعد ما صلى النبي ثلاث عشرة سنة إلى بيت المقدس ، وبعد مهاجرته إلى المدينة صلى إلى بيت المقدس سبعة أشهر ثم وجهه اللّه إلى الكعبة ، وذلك ان اليهود كانوا يعيرون رسول اللّه ويقولون له : أنت تابع لنا تصلي إلى قبلتنا فاغتم رسول اللّه لذلك غما شديدا وخرج في جوف الليل ينظر إلى آفاق السماء وينتظر من اللّه تعالى امرا في ذلك .
فلما أصبح وحضر وقت الظهر كان في مسجد بني سالم وصلى فيه الظهر ركعتين فنزل عليه جبريل وأخذ بعضده وحوله إلى الكعبة وأنزل اللّه عليه ، قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ، فصلى ركعتين إلى بيت المقدس من صلاة الظهر وركعتين إلى جهة الكعبة .
وفي تفسير الرازي ما يؤيد رواية الطبرسي عن الإمام الصادق ( ع ) فقد جاء فيه عن ابن عباس ان النبي ( ص ) كان يكره التوجه إلى بيت المقدس في صلاته ، ولما هاجر إلى المدينة قال لجبريل : وددت ان اللّه صرفني عن قبلتهم إلى غيرها فقد كرهتها ، فقال له جبريل : انا عبد مثلك فاسأل ربك ذلك فجعل رسول اللّه يطيل النظر إلى السماء رجاء نزول الوحي عليه بتغيير القبلة ، وكان من جملة الأسباب لكراهتها ان اليهود كانوا يقولون :
يخالفنا ثم يتبع قبلتنا ، لولا نحن لم يدر أين يستقبل ، وقيل في أسباب تغيير القبلة غير ذلك ، ولكن الرأي الشائع بين المحدثين موافق لما رواه الطبرسي عن الإمام الصادق ( ع ) ورواه الرازي عن ابن عباس بتفاوت يسير لا يتنافى مع رواية الطبرسي .
كما وان المشهور الذي عليه أكثر المفسرين والمؤرخين هو انه كان يصلي خلال المدة التي قضاها في مكة نبيا إلى بيت المقدس ، وفي رواية أخرى انه كان يجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس ومعنى ذلك أنه كان يتجه لهما في صلاته .
اما القول بأنه كان خلال اقامته في مكة يصلي إلى الكعبة ، فلما هاجر إلى المدينة توجه في صلاته إلى بيت المقدس ، فلا استبعد ان يكون من موضوعات المنافقين ، ومعنى ذلك أنه ترك قبلته التي كان عليها منذ ان بعثه اللّه واتجه في المدينة إلى بيت المقدس مجاراة لليهود وتقربا إليهم ، ولازم ذلك أنه كان يستوحي من ظروفه لا من اللّه سبحانه ، ولما رأى أنه لم يستطع استجلاب اليهود بهذه المحاباة ترك قبلتهم ورجع إلى الكعبة .
وجاء حسب ترتيب القرآن الكريم قبل الآية 144 قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ جاءت الآية سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ .
لقد سبقت هذه الآية آية تحويل القبلة حسب ترتيب القرآن كما ذكرنا ، ويدعي بعضهم انها نزلت بعدها لأنها متفرعة عليها ، ولكن الذين رتبوا القرآن قدموها خطأ منهم .
والأرجح انها نزلت قبلها كما وردت في القرآن الكريم ، وجاءت تمهيدا لما سيأمر اللّه به من حيث التوجه إلى الكعبة والغاية منها ارشاد النبي ( ص ) لهذا الحادث الخطير ولما يتفرع عنه من استغلال اليهود والمنافقين والمشركين للتشهير به ، وقد مهد القرآن لذلك بما ذكره قبل هذه الآية من قصص إبراهيم وإسماعيل وكرامتهما على اللّه ودعوتهما للكعبة والأمر بتطهيرها للطائفين والعاكفين والركع السجود .
ومن المعلوم ان تحويل القبلة من جهة بيت المقدس إلى جهة الكعبة بعد أربعة عشر عاما ونصف على مبعثه من الحوادث الدينية التي شاع امرها واشتهرت بين العرب في خارج المدينة وتناقلها الناس بسرعة خاطفة إلى أن بلغ خبرها مكة وجوارها .
ومن غير المعقول ان يسكت اليهود والمشركون في المدينة وجوارها عن هذا التشريع ، وقد وجدوا فيه مجالا للدس ومحاولة ناجحة لتشكيك المغفلين والمرتابين ، وقد تراجع جماعة عن الاسلام بسبب تلاعب المنافقين والمشركين في عقولهم بعد هذا الحادث ، كما جاء في رواية ابن جريج[1] من غير المعقول ان يسكتوا عن هذا التشريع ، أولا لأنه أبطل التشريع الأول الذين كانوا يفخرون به ويتباهون باتباع محمد لقبلتهم في صلاته التي هي من أعظم أركان شريعته .
وثانيا فلأنهم مفطورون على الدس والكذب والتشويش على جميع الأديان والشرائع والمثل ، ولا يفوتهم ذلك إذا وجدوا سبيلا إليه ، في حين ان محمدا ( ص ) حينما دخل المدينة أراد ان يتقي شرهم فحاول في معاهدته التي وضعها ان يجعل من سكان المدينة وجوارها على اختلاف اتجاهاتهم وحدة متراصة ، وأعطاهم ما للمسلمين من الحقوق والواجبات ، وأكد لهم ضمانة حرياتهم ومعتقداتهم وعاهدهم على ضمانة تلك الحريات والدفاع عنها إذا اقتضى الأمر ما داموا مسالمين يحترمون ما لغيرهم من الحقوق والواجبات كما تشير إلى ذلك الوثيقة التي أوردناها قبل الحديث عن تحويل القبلة .
ومع أن النبي ( ص ) خطط لهذه الغاية وعاهدهم على ذلك ، فقد نقضوا عهده وتجاهلوا تلك الوثيقة ولما تمض عليها أشهر قليلات وبدءوا يدسون ويتعاونون مع المشركين والمنافقين ولا يتركون وسيلة من وسائل الكيد والمكر الا استعملوها ، وبعد تحويل القبلة ، ظنوا ان الفرصة قد سنحت لهم للتشويش عليه ، كما حكى اللّه سبحانه عنهم بقوله :
سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها ، وقالوا لو كان على بينة من امره لما تغير رأيه ، وقال آخرون : لقد اشتاق إلى بلد أبيه ومولده ، وأضاف اليهود إلى ذلك أنه لو ثبت على قبلتنا لعلمنا انه الرسول المنتظر الذي بشرت به التوراة ، وقال المشركون : لقد تحير في دينه ، فأمره اللّه سبحانه ان يكون لهم بالمرصاد ويكون على بينة من مكرهم وان يقول في جواب هؤلاء وهؤلاء ان الأمر بيد اللّه فهو الذي فرض علي أولا ان أتوجه إلى بيت المقدس لأمر اقتضاه علمه وامرني الآن ان أتوجه إلى الكعبة ، وليس علي إلا أن أنفذ وأبلغ ، ولا بد لكلا التشريعين من مصلحة يعلمها المشرع ، وكل ما في الأمر يكون التشريع الثاني كاشفا عن أن مصلحة التشريع الأول محدودة بزمان التشريع الثاني الناسخ له ، اما الاقتصار في جوابهم على خصوص المشرق والمغرب واهمال غيرهما من الجهات فلأن هاتين الجهتين أقرب من غيرهما إلى الأذهان من حيث إن حركة الكواكب تبتدئ من أحدهما وتنتهي بالآخر ، وهما الجهتان الرئيسيتان بنظر الناس فإذا كانا للّه فغيرهما أولى بأن يكون له .
[1] انظر الرازي جزء 2 ص 117 .
الاكثر قراءة في حاله بعد الهجرة
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة