موقف أنتيوكوس في سوريا
المؤلف:
سليم حسن
المصدر:
موسوعة مصر القديمة
الجزء والصفحة:
ج15 ص 352 ــ 356
2025-10-28
40
أما موقف «أنتيوكوس» في سوريا أثناء غيابه في الشرق فكان موقفًا فريدًا في بابه حقًّا؛ وذلك أنه عندما عاد وجد أن آسيا الصغرى لم تكن خاضعة له؛ إذ كان وقتئذٍ في يدي «آخاوس» الذي كان قد خرج عليه، ولكنه من المحتمل أن الأخير كان قد أسف فعلًا على خروجه هذا، وبخاصة عندما نعلم أنه كان صاحب سلطان هناك، ولم يكن هناك ما يدعو لهذا الخروج، يضاف إلى ذلك أنه على ما يظهر لم يكن في مقدوره أن يبادر «أنتيوكوس» بالهجوم وبخاصة أن «أتالوس» صاحب «برجام» كان له بالمرصاد من خلفه، إذا لم تشد مصر أزره وتأخذ بناصره، ومن جهة أخرى يُلحَظ أن مصر كانت تتخذ ظاهرًا موقف الحياد وإن كانت في الواقع شريكة في الجُرْم مع «آخاوس»، وعسكرت بجيشها عند «سليوسي»، وبذلك أصبح في مقدور جيشها أن يأخذ «أنتيوكوس» على غِرَّة إن هو ابتعد عن عاصمة ملكه ليقوم بحملة على آسيا الصغرى، وكان الأسلم «لأنتيوكوس» كي يضرب «آخاوس» أو يجعله يعتذر اعتذارًا شريفًا عن جرمه هو المبادرة بقهر هذا العدو المقنَّع الذي كان يتحين الفرصة، والذي كان يعتقد أنه يمكنه أن يختار ساعة هجومه.
وقد وطد «أنتيوكوس» العزم على مهاجمة «سوريا الجوفاء» وأن يقضي على عدوه في «سليوسي» فجمع في ربيع عام 219ق.م جنوده في «أباما» وأرسل طليعة بقيادة القائد «تيودوتوس هميولوس» Theodots Hemioleos واحتل المضايق التي كانت تؤدي إلى «سوريا الجوفاء»، وبعد ذلك نجده على حين غفلة بدلًا من أن يُشاهَد سائرًا في نفس الجهة التي كان ينتظر أن يتبعها، نجده قد تحول مع الجزء الأعظم من جيشه متجهًا نحو «سليوسي» التي كانت وقتئذٍ محاطة برًّا وبحرًا، ومن ثَم اتخذ تدابير تنطوي على مهارة أدت إلى اختصار المقاومة؛ فبعد أن قام «أنتيوكوس» بهجوم أدَّى إلى إشاعة الجبن في نفوس أولئك الذين لم يمكن شراؤهم بالمال؛ رأى القائد الأكبر «ليونتيوس» Leontios أنه محاط بخونة، ومن أجل ذلك أسرع بوضع سلاحه، وبهذا انتهى الاحتلال المصري لمدينة «سليوسي»، وهذا يذكرنا بهزيمة السليوكيين منذ عشرين عامًا وحصارهم في عاصمتهم، وبعد هذا الفتح كان في مقدور «أنتيوكوس» أن يبتدئ — بثقة أكثر من ذي قبل — الحملة التي كان مضطرًا أن يتخلَّى عنها في عام 221ق.م وكانت فرص نجاحه من هذه الناحية تفوق آماله، ومن الغريب أنه جهل أو تجاهل أنه كان له فعلًا حليف في «سوريا الجوفاء» لا يمكن الاعتماد عليه بل كان يعد خائنًا، وليس هناك حاجة لشرائه بالمال، ولأنه كان مستعدًا لتقديم خدماته لينتقم لنفسه وحسب عما أصابه من أضرار، وهذا الحليف هو مناهضه في حمله عام 221ق.م المسمى «تيودوتوس» الأيتولي، ولا يخفي أن رئيس الجنود المرتزقة الجامح هذا؛ كان قد اعتقد أنه سينال بعض الحقوق باعتراف «بطليموس الرابع» له بالجميل، ولكنه لما رأى أنه لم يُقابَل منه إلا بعدم الاكتراث ونكران الجميل، أخذ يتحدث عن خدماته بصوت عالٍ بعض الشيء؛ فكان ذلك إيذانًا لعدِّه بين المشكوك في إخلاصهم، ومن ثَم عُدَّ بين الأفراد الخطرين، وهم الذين تعوَّد «سوسيبيوس» أن يتخلَّص منهم بالقتل؛ غير أن «تيودوتوس» نجا من الكمين الذي نُصِب له؛ ومن ثَم فَهِم من أين صُوِّبت له الضربة، وعلم أنه لا عيش له في القطر المصري، ولا بد من مغادرته هذه البلاد، ومن المحتمل أنه كان يعرف القرار الذي اتُّخذ لتعيين خلفه «نيكولاس الأيتولي» الذي كان في طريقه ليحل محله، وذلك عندما عزم على دعوة «أنتيوكوس» إلى «سوريا الجوفاء» … وعلى ذلك استولى على «بطالمايس» وجعل صديقه «باناتولوس» Panaetolos يستولي على صور، وكتب إلى «أنتيوكوس» الذي كان لا يزال في «سليوسي» أن يسرع بكل ما لديه من قوة؛ واعدًا أن يسلمه المدينتين اللتين يمكن أن يُعدَّا مفتاحي «فينيقيا» و«سوريا الجوفاء».
وعندما وصلت «أنتيوكوس» هذه الرسالة التي لا يُحتَمل تصديقها تردد لحظة ليتأكد من حقيقة الأمر، وعما إذا كانت هذه الرسالة تخفي وراءها فخًّا نُصِب له؛ غير أنه لم يكن بالرجل الذي يتردد طويلًا، وعلى ذلك اتخذ أقصر طريق، وسار بأقصى سرعة مخترقًا وادي «مارسياس»، غير أن «تيودوتوس هميوليوس» لم يكن في مقدوره دون أي شك تمهيد الطريق، ومن أجل ذلك نجد أن الجيش السوري قد تصادم كذلك مع حصني «بروخي» و«جرها» وهما اللذان وقفًا في طريقه منذ عامين مضيا، ولم يتمكن من اختراقهما، ولكنه في هذه المرة تغلَّب المهاجمون على حصن «جرها» واقتحموه، أما حصن «بروخي» فقد قاوم العدو؛ ولذلك فإن «أنتيوكوس» خوفًا من ضياع الوقت ترك معظم الجيش أمام «بروخي» وأسرع بجنوده المسلحين بأسلحة خفيفة لنجدة «تيودوتوس» الأيتولي الذي كان محاصرًا في «بطاليمايس» بجيش يقوده «نيكولاوس»، ولم ينتظر هذا القائد الملك، بل حاول بطريقة قطع طريق التقهقر، غير أن «أنتيوكوس» فهم الفخ الذي نُصِب له، وعندئذ عاد أدراجه دون أن يدخل «بطاليمايس» زاحفًا بجيشه ودَاهَم في ممرِّ «بريت» Bryet الضباط «نيكولاوس» و«لاجوراس» Lagoras والأيتولي و«دروي مين» Droymene ثم انضم إلى جيشه الذي كان في هذا الوقت قد استولى على حصن «بروخي»(1).
وبعد ذلك زحف «أنتيوكوس» على رأس جيشه على طول الشاطئ، وقد استقبله «باناتولوس» في «صور» كما استقبله «تيودوتوس» في «بطاليمايس» وقد وجد في دار صناعة كل من هذين الثغرين مواد كثيرة، وبوجه خاص أربعين سفينة منها عشرون مسلحة، وسطحها عالٍ يحتوي كل منها على أربعة صفوف على الأقل من المجدفين(2)، وكان من نتائج هذا النصر السريع أن انتشر الذعر في الإسكندرية والظاهر أن «سوسيبيوس» لم يكن ينتظر شيئًا من ذلك، أو على الأقل لم يكن قد اتَّخذ أي استعداد لملاقاة العدو، زعمًا منه أن «مولون» و«آخاوس» كانا كافيين لشغل «أنتيوكوس» ومناوشته، وقد حسب أنه باستثناء خيانة «تيودوتوس» الأيتولي أنه سيكون من دواعي فخره أنه سيجعله يختفي في الوقت المناسب. والآن نرى أن السليوكي «أنتيوكوس» بعد أن أصبح السيد المسيطر على أكبر ثغور ساحليَّة في سوريا وفلسطين، ويقود جيشًا عظيمًا محاربًا، ولواء النصر معقود على جبينه، أخذ يزحف على ما يُظَن لغزو مصر نفسها قبل أن يتخذ المصريون العدة لحماية حدودها.
وعندما سمع «بطليموس» بزحف جيش العدو على بلاده أخذ يفيق من خموله، ودعته وسكره، في حين بدأ «سوسيبيوس» ومعه «أجاتوكليس» سمير الملك يظهران بعض النشاط الضعيف فوضعا كلَّ ما لديهم من قوة حربية عند بلوز (الفرما) وصدرت الأوامر بفتح الترع في هذا الإقليم لمياه النيل، وملأ الآبار بالماء العذب؛ لتكون بمثابة خط دفاع أمام العدو، وفي الوقت نفسه نُقِل مقر الحكم من «الإسكندرية» إلى «منف» التي كانت — في حالة غزو البلاد بطريق البر — أكثر تهديدًا من «الإسكندرية»، وكذلك كان زحف العدو واقترابه منها قد يؤدي لقيام ثورة تهدد سلطان البطالمة.
والواقع أن هذه الاستعدادات الأولية كانت كافية لإلقاء الرعب والفزع في نفس «أنتيوكوس» الذي كان يفكر في الانكسارات المريعة التي أصابت فيما مضى «برد يكاس» ومن بعده «أنتيجونوس» الأعور في أحوال أكثر ملائمة، وقد فصلنا القول في ذلك في الجزء السابق من هذه الموسوعة؛ ولذلك فإنه رأى من الحزم أن يؤمِّن أولًا ممتلكاته في «سوريا الجوفاء» التي كان قد دخلها دون أن يمشق الحسام، لا سيما أنه لم يخرج منها حتى الآن القائد المصري «نيكولاوس»؛ فقد أمضى زمنًا في حصار «دورا» وهي حصن صغير كنعاني كان قد احتمى فيه «نيكولاوس»، ولم يمكنه الاستيلاء عليه، يُضاف إلى ذلك أنه كان قلقًا من حركات «آخاوس»؛ ولذلك فإنه لما رأى فصل الشتاء قد حلَّ، أصغى إلى اقتراحاتٍ قُدِّمت له في هذا الوقت المناسب من جانب مبعوثَيْن أوفدهما «بطليموس الرابع» للمفاوضة، وانتهى الأمر بعقد هدنة مع عاهل مصر لمدة أربعة أشهر كان «أنتيوكوس» على حسب تصوره يظن أنها ستكون مقدمة لعقد صلح نهائي.
حمل السفيران المصريان إلى «منف» مقر الملك وقتئذٍ التأكيداتِ بأن «أنتيوكوس» قد وافق على مجموع النقاط المتنازع عليها، كما وافق على كل العروض المعقولة، وإن ملك مصر كان على استعداد لفتح باب المفاوضات في «سليوس» الواقعة على نهر الأرنت، وكان «أنتيوكوس» قد ذهب ليقضي فصل الشتاء تاركًا حاميات في «سوريا الجوفاء» كما كلف «تيودوتوس» الأيتولي العناية بكل الشئون (3).
ومما تجدر ملاحظته هنا الموقف الذي اتخذه «آخاوس» في عام 219ق.م؛ فقد قال «بولبيبوس» فقط أن «أنتيوكوس» أراد أن يُمضِي فصل الشتاء في «سليوسي»، لأن «آخاوس» كان يتآمر بطبيعة الحال عليه، وساعد جهارًا «بطليموس الرابع» غير أن مساعدته كانت محصورة في تبادل الآراء والمشاريع.
..........................................................
1- Polyb. V, 61, 3.
2- Polyb. V, 62.
3- Polyb., V, 66.
الاكثر قراءة في العصور القديمة في مصر
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة