علم الحديث
تعريف علم الحديث وتاريخه
أقسام الحديث
الجرح والتعديل
الأصول الأربعمائة
الجوامع الحديثيّة المتقدّمة
الجوامع الحديثيّة المتأخّرة
مقالات متفرقة في علم الحديث
أحاديث وروايات مختارة
الأحاديث القدسيّة
علوم الحديث عند العامّة (أهل السنّة والجماعة)
علم الرجال
تعريف علم الرجال واصوله
الحاجة إلى علم الرجال
التوثيقات الخاصة
التوثيقات العامة
مقالات متفرقة في علم الرجال
أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله)
اصحاب الائمة من التابعين
اصحاب الائمة من علماء القرن الثاني
اصحاب الائمة من علماء القرن الثالث
علماء القرن الرابع الهجري
علماء القرن الخامس الهجري
علماء القرن السادس الهجري
علماء القرن السابع الهجري
علماء القرن الثامن الهجري
علماء القرن التاسع الهجري
علماء القرن العاشر الهجري
علماء القرن الحادي عشر الهجري
علماء القرن الثاني عشر الهجري
علماء القرن الثالث عشر الهجري
علماء القرن الرابع عشر الهجري
علماء القرن الخامس عشر الهجري
الحديث الصحيح حجّة في التشريع
المؤلف:
الشيخ الدكتور صبحي الصالح
المصدر:
علوم الحديث ومصطلحه
الجزء والصفحة:
ص 301 ــ 314
2025-10-08
65
الفَصْلُ الثاَّنِي: الحَدِيثُ الصَّحِيحُ حُجَّةٌ فيِ التَّشْرِيعِ:
لاَ فَرْقَ بَيْنَ السُنَّةِ وَالكِتَابِ فِي الحَلاَلِ وَالحَرَامِ:
لكأنّي برسول الله - صَلّى اللهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ - استشف حجاب الغيب فرأى في القرون من بعده قومًا يفرقون بين كتاب الله وسنّة رسوله، ولا يعملون إلّا بما نصّ عليه القرآن وحده، فإذا هو يُصَوِّرُ لنا هؤلاء تصويرًا ينبئنا عن فداحة خطئهم، وضلالهم عن الصراط المستقيم، فيقول: «أَلاَ إِنِّي أُوتِيتُ القُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ، أَلاَ يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعَانُ عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ: عَلَيْكُمْ بِهَذَا القُرْآنِ فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلاَلٍ فَأَحِلُّوهُ، وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ، وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ كَمَا حَرَّمَ اللَّهُ» (1).
ويفسّر الشافعي اعتناء النبي نفسه بضمّ سنّته إلى كتاب الله في الحلال والحرام، وفي كلّ أمر تشريعي ذي بال، بأنّ رسول الله - صَلّى اللهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ - لم يحلّ إلّا ما أحلّ الله في كتابه، ولم يحرّم إلّا ما حرّم الله في كتابه، ثم يؤكّد بلهجة جازمة حاسمة أنّ «جميع ما تقوله الأئمّة شرح للسنّة، وجميع السنّة شرح للقرآن» (2).
ويكاد غير الشافعي يغلو في تفسير هذه الظاهرة حين يعد السنّة «وحيًا ينزل به جبريل على رسول الله كما ينزل عليه بالقرآن، ويعلّمه إيّاه كما يعلّمه القرآن» (3)، ويصرّح أبو البقاء بهذا التفسير حين يقول في "كليّاته" (4) دون تجوّز ولا اتساع: «والحاصل أنّ القرآن والحديث يتحدّان في كونهما وحيًا منزلا من عند الله بدليل: {إن هو إلا وحي يوحى} إلا أنّهما يتفارقان من حيث إنّ القرآن هو المنزل للإعجاز والتحدّي به بخلاف الحديث، وإنّ ألفاظ القرآن مكتوبة في اللوح المحفوظ، وليس لجبريل عليه السلام ولا للرسول عليه الصلاة والسلام أن يتصرّفا فيها أصلاً. وأمّا الأحاديث فيحتمل أن يكون النازل على جبريل معنى صرفًا فكساه حلّة العبارة».
ولقد نكون أشدّ ميلاً - من ناحية الوحي - إلى التفرقة بين نزول القرآن على قلب النبي وإلهامه النطق ببعض الأحاديث، ثم نجنح - بسبب هذه التفرقة - إلى استقلال القرآن وحده بظاهرة الوحي على النحو الذي أوضحناه في كتابنا "مباحث في علوم القرآن"(5)، إذ «كان - عليه السلام - يفرّق بوضوح بين الوحي الذي ينزل عليه وبين أحاديثه الخاصّة التي كان يعبر عنها بإلهام من الله: فما يجول في نفسه من خواطر وأفكار كان ذا صفة إنسانيّة محضة لا يمكن أن يختلط بالكلام الربانيّ» (6).
ونؤثر إذا - لتبيان المعنى «التوفيقي» في الأحاديث النبوية التبليغيّة - أن نسمّيها «بالحكمة» كما سماها القرآن في قوله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164]، فقد اختار معظم العلماء المحقّقين أنّ الحكمة في الآية هي شيء آخر غير القرآن، وهي مجموعة ما اطّلع الله عليه رسوله من مقاصد الشرع وتعاليمه وأسراره، التي لا يمكن أن تكون غير سنّة الرسول القوليّة والفعليّة؛ لأنّ الله أمنّ على خلقه - كما قال الشافعي - «بتعليمهم الكتاب والحكمة، فلم يجز - والله أعلم - أن يقال: الحكمة هنا إلّا سنّة رسول الله، وذلك أنّها مقرونة مع الكتاب، وأنّ الله افترض طاعة رسوله، وحتم على الناس اتّباع أمره، فلا يجوز أن يقال لقول: (فرض) إلّا لكتاب الله وسنّة رسوله، لما وصفنا من أنّ الله جعل الإيمان برسوله مقرونان بالإيمان به» (7).
تفاوت علم الصحابة بسنّة رسول الله:
ولو رجعنا إلى العصر النبوي لرأينا رسول الله في البيت والمسجد والسوق وساحة المعركة، وفي الحضر والسفر، معلما للرعيل الأول من الصحابة الكرام، يرشدهم بأقواله وأفعاله إلى فهم القرآن في كل نازلة تقع لهم، ولرأينا من عناية أولئك الصحابة بسنّته - عليه السلام - ما لا تدرك العبارة وصفه، حتى كان بعضهم يتناوبون مجلسه يوما بعد يوم، ينزل هذا يوما وينزل ذاك يوما آخر، ثم يخبر كل منهما صاحبه بما سمعه من أقوال رسول الله وتوجيهاته، مخافة أن يفوت أحدهم منها شيء، بعد أن شوّقهم - عليه السلام - إلى العلم وأروى ظمأهم إليه بمثل قوله: «رحم الله امرءًا سمع مقالتي فأدّاها كما سمعها، فرُبَّ مبلّغ أوعى من سامع» (8).
لكن الصحابة لم يبلغوا جميعا مرتبة الاجتهاد، بل تفاوتوا في علمهم بسنّة الرسول وأقواله، إذ كان فيهم القرويّ والبدويّ، والصانع والتاجر، وفيهم من صحب النبي - صلى الله عليه [وآله] وسلم - مرّة واحدة، ومن سمع منه حديثًا واحدًا.
«ولا شك أنّ من سمع [منهم] حديثا عن رسول الله أو عن واحد من الصحابة كان يعمل به حسب فهمه، مجتهدا كان أو لا، ولم يعرف أنّ غير المجتهد منهم كلّف بالرجوع إلى المجتهد فما سمعه من الحديث، لا في زمانه - صلى الله عليه [وآله] وسلم -، ولا بعده في زمان الصحابة - رضي الله عنهم -. وهذا تقرير منه - صلى الله عليه [وآله] وسلم - بجواز العمل بالحديث لغير المجتهد وإجماع من الصحابة عليه ولولا ذلك لأمر الخلفاء غير المجتهد منهم - سيما أهل البوادي أن لا يعملوا بما بلغهم من النبي - صلى الله عليه [وآله] وسلم - مشافهة أو بواسطة حتّى يعرضوا على المجتهدين منهم ولم يرد من هذا عين ولا أثر» (9).
ولم يكن بُدٌّ - وقد تفاوت علم الصحابة بسنّة الرسول - من أن يختلفوا في تعليل بعض الأحكام، وفي ضبط بعض الألفاظ، وفي مقدار موافقتهم للسنّة فما اجتهدوا فيه واستنبطوه، إذ «رأى كلّ صحابي ما يسره الله له من عبادة النبيّ وفتاواه وأقضيته، فحفظها وعقلها، وعرف لكلّ شيء وجهًا من قبل حفوف القرائن به، فحمل بعضها على الإباحة، وبعضها على النسخ لأمارات وقرائن كانت كافية عنده، ولم يكن العمدة عندهم إلّا وجدان الاطمئنان والثلج من غير التفات إلى طرق الاستدلال» (10).
تمرّ بالنبي وصحابته جنازة، فيقوم لها ويقوم الصحابة معه اقتداء به، ولكنّهم لا يعرفون سرّ قيامه لها، ولا يكتم أحد الصحابة عجبه، فيقول: يا رسول الله إنّها جنازة يهوديّ، ويجيبه النبي - صلى الله عليه [وآله] وسلم - بقوله: «أليست نفسًا؟!» ثم يردف معلّمًا مرشدًا: «إذا رأيتم الجنازة، فقوموا لها» (11).
وقد اختلف الصحابة في تعليل القيام للجنازة، وتفسير عموم الأمر به للمؤمن والكافر على السواء، فقيل: تعظيمًا لهول الموت: وقيل: إعظامًا للملائكة الحافّين بالميت(12)، ولكن مقتضى التعليل بقوله - عليه السلام -: «أليست نفسًا» أنّ القيام يستحب لكلّ جنازة (13).
ويروي عبد الله بن عمر عن النبي - صلى الله عليه [وآله] وسلم -: «إنّ الميت يعذّب ببكاء أهله عليه» فتقضي عليه عائشة أم المؤمنين بأنّه لم يأخذ الحديث على وجهه، ولم يضبط لفظه، فإنما مر رسول الله - صلى الله عليه [وآله] وسلم - على يهودية يبكي عليها أهلها، فقال: «إنّهم ليبكون عليها وإنّها لتعذّب في قبرها»، فلم يكن العذاب لبكاء أهلها عليها، وليس عذاب كلّ ميت في قبره معلولا للبكاء، كما يستنتج من ألفاظ الحديث برواية ابن عمر بل الحديث - على رواية عائشة - تقرير لمشهد حكاه النبي - عليه السلام - كما سمعه ورآه، فلا يتضمّن حكمًا شرعيًّا ولا تعليمًا نبويًّا (14).
وقد يقع اجتهاد الصحابيّ موافقًا للحديث كما في رواية "النسائي" أنّ ابن مسعود - رضي الله عنه - سُئِلَ عن امرأة مات عنها زوجها ولم يفرض لها صداقًا، فقال: «لم أرَ رسول الله - صلى الله عليه [وآله] وسلم - يقضي في ذلك»، فاختلفوا عليه شهرًا وألحّوا، فاجتهد برأيه وقضى في ذلك، فاختلفوا عليه شهرًا وألحّوا، فاجتهد برأيه وقضى بأنّ لها مهر نسائها لا وكس ولا شطط، وعليها العدّة، ولها الميراث، فقام معقل بن سنان فشهد بأنّه - صلى الله عليه [وآله] وسلم - قضى بمثل ذلك في امرأة منهم. ففرح بذلك ابن مسعود فرحة لم يفرح بمثلها قطّ بعد الإسلام (15).
وهكذا اختلفت مذاهب أصحاب النبي - عليه السلام -، وأخذ عنهم التابعون، فحفظ كلٌّ ما تيسّر له، وعرف مذاهب الصحابة، ووثق بين المختلف منها على ما تيسّر له، ورجّح بعض الأقوال على بعض، وصار لكلّ عالم من أئمّة التابعين مذهب مستقل، وانتصب في كلّ بلد إمام، واستفتاهم المستفتون، ودارت بينهم المسائل، ورفعت إليهم الأقضية والأحكام (16).
نشأة المذاهب واحتجاج أصحابها بالحديث:
وسمع أتباع التابعين فتاوى المفتين، وسألوا عن قضاياهم ومسائلهم في الأمصار، ولم يألوا جهدًا في الاجتهاد والاستنباط، وفي القضاء والفتوى، ثم كانت المذاهب، وكثر أتباعها، واستند كلٌّ - تأييدًا لرأيه - إلى السنّة يستنطقها الحكم الصحيح في إيضاح المشكلات، والفصل في النازعات، وصرّح أصحاب تلك المذاهب كلّها بتعيين العمل بالسنّة، ووجوب الاحتجاج بها، وأمسوا - عند اختلاف أحاديث الرسول في مسألة ما - يرجعون إلى أقوال الصحابة؛ لأنّهم أقرب إلى نبع الإسلام الأصيل، وأقرب الناس عهدا برسول الله - صلى الله عليه [وآله] وسلم -.
على أنّ أصحاب المذاهب المشهورة - مهما يزعم الباحثون من تفاوتهم في حفظ الحديث والعلم به - قد أجمعوا كلّهم على أنّ الحديث إذا صحّ يقدّم على القياس والنظر، فما فيهم إمام إلّا قال: «إذا صح الحديث فهو مذهبيّ» أو عبارة تشبه هذه. حتى أبو حنيفة الذي «أفرط أصحاب الحديث في ذمّه، وتجاوزوا الحد في ذلك» (17)، لم يوجّه وجهه إلّا للعمل بالسنّة متى ظفر بها وصحّت لديه. وقد فسّر الشعراني وجهة نظر أبي حنيفة أدقّ التفسير حين قال: «ويحتمل أنّ الذي أضاف إلى أبي حنيفة أنّه يقدّم القياس على النصّ، ظفر بذلك في كلام مقلّديه الذين يلزمون العمل بما وجدوه عن إمامهم من القياس، ويتركون الحديث الذي صحّ بعد موت الإمام، فالإمام معذور، وأتباعه غير معذورين، وقولهم: (إنّ إمامنا لم يأخذ بهذا الحديث) لا ينهض حجّة، لاحتمال أنّه لم يظفر به أو ظفر به لكن لم يصحّ عنده» (18).
وربّما عذرنا أبا حنيفة في إدخاله الرأي والقياس على الآثار واعتبارهما وردّه كثيرًا من أخبار الآحاد، إذا عرفنا أنّ الكذب على سول الله فشا في عهده فشوًا مخيفًا، فكان لزامًا على إمام الرأي أن يتشدّد في قبول الأحاديث، ويشترط للعمل بأخبار الآحاد شروطًا غلا في بعضها، فحمل الأئمّة على انتقاد بعض [مواقفه]، وعلى ذمّ مذهبه أحيانًا. وأهمّ شروطه في هذا الباب ألّا يعارض خبر الآحاد الأصول المجتمعة بعد استقراء موارد الشرع، وألّا يعارض عمومات القرآن وألّا يخالف السنّة المشهورة، سواء أكانت قوليّة أم فعليّة، وألّا يخالف العمل المتوارث بين الصحابة والتابعين دون تخصيص بلد، وألّا يعوّل الراوي على خطّه ما لم يذكر مرويه، وألّا يعمل الراوي بخلاف حديثه، وألّا يترك أحد المختلفين في الحكم من الصحابة الاحتجاج بالخبر الذي رواه أحدهم، وألّا يكون الخبر منفردًا بزيادة، سواء أكانت في المتن أم في السند، وألّا يكون ممّا تعمّ به البلوى (19).
أمّا الشافعي فإجلاله للحديث أشهر من أن يعرف به، فهو القائل: «وهل لأحد مع قول رسول الله - صلى الله عليه [وآله] وسلم -حجّة؟ بأبي هو وأمي» (20).
وهو الذي أفرد في "رسالته" فصلا برمته لتبيان «الحجّة في تثبيت خبر الواحد»(21).
وأمّا مالك بن أنس فحسبك أنّه إمام أهل المدينة، دار السنّة المشرّفة، وأنّ كتابه "الموطأ" نمط من الفقه على طريقة أهل الحديث. وقد جاء احتجاجه بالحديث عمليًّا تطبيقيًّا، فلن تزيده الأقوال المرويّة عنه في هذا الصدد إيضاحا ولا تفصيلا. وكان مالك - على كل حال - يرى أن خبر الآحاد قطعي يوجب العلم والعمل معا (22).
وأمّا أحمد بن حنبل فـ "مسنده" في الحديث ينبئ عن مكانة السنة العظمى لديه في التشريع، وما من ريب في أنّه من أكبر حفّاظ الحديث، بل كان الحديث أغلب عليه من الفقه، «فإذا وجد النصّ أفتى بموجبه، ولم يلتفت إلى ما خالفه ولا من خالفه كائنًا من كان» (23).
وإنّ هذا كلّه ليؤكّد أنّ كبار الأئمّة كانوا يعرفون للحديث مكانته، ويعدونه الأصل الثاني للتشريع، وإنّما يختلفون في مدى اطمئنانهم إلى أخبار الآحاد.
الاحتجاج بخبر الآحاد وشروطه:
ومن لم يحتجّ بخبر الآحاد إلا بشروط - كما صنع أبو حنيفة - كان يلتمس العذر لنفسه فيما ورد من آثار عن الصحابة ربّما استؤنس بها على أنّ بعضهم لم يكن يعمل بهذا الضرب من الخبر الآحادي: فقد ردّ أبو بكر خبر المغيرة في ميراث الجدّة حتّى انضمّ إليه خبر محمد بن مسلمة، وردّ عمر خبر أبي موسى في الاستئذان حتّى انضمّ إليه أبو سعيد، وردّ أبو بكر وعمر خبر عثمان في إذن رسول الله - صلى الله عليه [وآله] وسلم - في ردّ الحكم بن العاص،...، وردّت عائشة خبر ابن عمر في تعذيب الميت ببكاء أهله (24).
والحق أنّ الصحابة احتجّوا بخبر الآحاد، وعملوا بمضمونه، وإنّما توقّفوا في قبول بعضه دفعًا للريبة، أو رغبة في اليقن، أو تواصيًا بالحيطة البالغة في رواية الحديث. ويفسّر هذا قول عمر لأبي موسى: «أما إنّي لم أتّهمك ولكنّه الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه [وآله] وسلم -»! ويزيل اللبس في هذا مرّة واحدة علمنا بحقيقة الخبر الآحاديّ، فليس المراد منه ما رواه واحد فقط، بل ما يقابل المتواتر كما أوضحنا في بحث الصحيح (25)، فانضمام صحابي آخر إلى الصحابي الأوّل في الروايات المذكورة ليس كافيًا لإخراجها من صفة «الآحاديّة»، بل لو انضم إلى الصحابيّ الأوّل اثنان أو ثلاثة أو حتّى جمع كثير لا يؤمن تواطؤهم على الكذب لم تخرج تلك الأخبار عن حيّز الآحاد. ولهذا قال الآمديّ: «وما ردّوه من الأخبار أو توقّفوا فيه إنّما كان لأمور اقتضت ذلك من وجود معارض أو فوات شرط، لا لعدم الاحتجاج بها في جنسها، مع كونهم متّفقين على العمل بها» (26)، وعلى هذا متى صحّ الخبر صار أصلاً من الأصول. فلم يكن الباحث بحاجة إلى عرضه على أصل آخر؛ لأنّ الأصل الثاني إن وافقه عضده وقواه، وإن خالفه لم يجز ردّ أحدهما؛ لأنّ هذا من قبيل ردّ الخبر بالقياس، وهو مرفوض بالاتفاق، فإنّ السنة مقدّمة على القياس (27)، «ولو أنّ امرءًا قال: لا نأخذ إلّا ما وجدنا في القرآن لكان كافرًا بإجماع الأمّة، ولكان لا يلزمه إلّا ركعة واحدة ما بين دلوك الشمس إلى غسق الليل (28)، وأخرى عند الفجر؛ لأنّ ذلك هو أقل ما يقع عليه اسم صلاة، ولا حدّ للأكثر في ذلك» (29).
لكن صحّة العمل بخبر الواحد شيء، والقطع به شيء آخر، فالجمهور على أنّ خبر الواحد الثقة حجّة يلزم به العمل (30)، ويظلّ هذا النوع من الخبر ظنّيّ الدلالة لا يفيد القطع عند أكثرهم (31)، وذهب قوم، منهم أحمد، والحارث بن أسد المحاسبي، الحسين بن علي الكرابيسي، وأبو سليمان - وروي عن مالك - إلى أنّه قطعي موجب للعلم اليقينيّ (32)، حتّى قال ابن حزم: «إنّ خبر الواحد العدل عن مثله إلى رسول الله - صلى الله عليه [وآله] وسلم - يوجب العلم والعمل معًا» (33)، ومن هنا تصدّى الخطيب البغداديّ لنقد هذا الرأي فعقد في "الكفاية" فصلاً للرد على من قال: يجب القطع على خبر الواحد (34).
وآخر لذكر شبهة من زعم أنّ خبر الواحد يوجب العلم، وإبطال تلك الشبهة (35)، ولم يرَ في الوقت نفسه مانعًا من الإفاضة في التزام العمل بأخبار الآحاد، والاحتجاج على ذلك بما صحّ من الروايات، إذ تكلّم على ذلك كلّه في بحث مستقل بعنوان: «ذكر بعض الدلائل على صحّة العمل بخبر الواحد ووجوبه» (36)، ثُمَّ فصّل ما يقبل فيه خبر الواحد وما لا يقبل فيه، وانتهى إلى أنّ هذا الضرب من الخبر لا يقبل في «منافاة حكم العقل وحكم القرآن الثابت المحكم والسنّة المعلومة والفعل الجاري مجرى السنّة وكلّ دليل مقطوع به»(37).
ولئن دلّ هذا على شيء فإنّما يدل على مكانة الحديث الصحيح في التشريع ولو روي آحاديا، فإنّه ليبدو عسيرًا، بل شبه مستحيل، أن تروى أخبار العلوم الوضعيّة، فضلاً على الدينيّة السماويّة، بطرق أدقّ إسنادًا، وأصدق ورعًا، وأكمل أمانة. وأشدّ حذرًا، وأبلغ احتياطًا، وأوسع شهرة واستفاضة وانتشارًا، من أحاديث هذا الرسول العربي العظيم، ولو لم يبلغ معظمها درجة التواتر، ولم نورث أجيال الأمّة كلّها شعورًا واحدًا - أو متماثلاً - في العلم القطعيّ اليقينيّ.
ولذلك لا يضرّ الخبر الصحيح عمل أكثر الأمة بخلافه؛ لأنّ قول الأكثرين ليس بحجّة(38)، ولأنّ العمل بالحديث خاضع لمقاييس نقديّة تتناول - كما أوضحنا (39) - المتن قبل السند، المضمون قبل الشكل، والمعنى قبل المبنى.
الاحتجاج بالخبر المحتف بالقرائن، واستبعاد الضعيف:
من أجل هذا لم يكتفِ المحقّقون من العلماء بالاحتجاج بما صحّ سنده من أخبار الآحاد، بل احتجوا أيضا بالخبر المحتفّ بالقرائن، وعدّوه مفيدا للعلم (40)، وجنّحوا إلى اعتباره أقوى في إفادة العلم من مجرّد كثرة الطرق القاصرة عن التواتر، وإن كانوا قد خصّوا هذا المزيّة «بما لا ينتقده أحد من الحفّاظ...، وبما لم يقع التجاذب بين مدلوليه، حيث لا ترجيح لاستحالة أن يفيد المتناقضان العلم بصدقهما من غير ترجيح لأحدهما على الآخر» (41).
فإن يقبل الخبر المحتفّ بالقرائن، وتكن قرائنه هي التي تقويه، فإنّ للحسن - ولا سيما الحسن لذاته (42) - من الشبه بالصحيح ما يكاد يدرجه فيه، وما يكاد يشركه معه في الاحتجاج، وإن كان دونه قوّة ودرجة وإشعارًا باليقين. فلا عجب إذا قال أكثر الأئمّة: إنّ الحسن كالصحيح في الاحتجاج به، فعليه - كما ذكر الخطّابيّ - «مدار أكثر الحديث؛ لأنّ غالب الأحاديث لا تبلغ درجة الصحيح، وعمل به عامّة الفقهاء، وقبله أكثر العلماء» (43)، بيد أنّ الذي ينحى عن مدار الاحتجاج، مكانا قصيًّا، هو الضعيف بجميع أضربه وصوره، وذلك أمر طبيعي لا يحتاج إلى التفسير، فإنّ أنواع الضعيف كلّها تثير الريبة، سواء أكانت آفتها في المتن أم في الإسناد، ولسنا براجعين كرّة أخرى إلى جميع ما وصفناه من المصطلحات الخاصّة للضعف لكشف اللثام عن سرّ الضعف في كلّ منها على حدة، فما غادرنا مصطلحًا منها إلّا ختمناه بالحديث عن المانع الجوهريّ من الاحتجاج به، وإنّما نودّ هنا أن نذكّر القارئ بالروح النقديّ المنهجيّ الذي ساد أبحاث المحدّثين، فحال دون اعتبار أي لون من الضعف، مهما يكن يسيرًا، مصدرا لحكم شرعيّ ولا لفضيلة خلقيّة، على التحقيق (44).
ونودّ أيضًا أن يظلّ القارئ على ذكر من اصطلاحات النقّاد في التعديل والجرح، وكونها في الجرح أشدّ منها في التعديل (45)، ليستيقن أنّ تلك المقاييس النقديّة الدقيقة جعلت جرح الرواة جائزًا بل واجبًا (46) لتصحيح الحديث الذي يؤخذ به، ولتنقيته من كلّ شائبة، فما يكون صالحا للاحتجاج إلّا الحديث الذي ثبتت نسبته إلى رواته الصالحين، وأدرك كلّ من رواه أنّ هذا الأمر دين!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) رواه أبو داود والدارمي وابن ماجه من طريق المقدام بن معد يكرب، وقد عدّ الشاطبي هذا الحديث دليلاً على أنّ في السنّة ما ليس في الكتاب ("الموافقات": 4/ 15).
(2) قارن بـ"قواعد التحديث": ص 33.
(3) عزا القاسمي هذا إلى حسان بن عطيّة في رواية بهذا المعنى ذكرها في "قواعد التحديث": ص 32.
(4) "كليّات" أبي البقاء: ص 288 (المطبعة الأميريّة سنة 1281 هـ، الطبعة الثانية). وقارن بـ"الإحكام" لابن حزم: 1/ 96.
(5) راجع من كتابنا هذا بعناية خاصّة الفصل الثاني من الباب الأول: ص 22 (مبحث ظاهرة الوحيّ) الطبعة الثالثة، دار العلم للملايين.
(6) انظر كتابنا " مباحث في علوم القرآن ": ص 32 وما بعدها.
(7) الرسالة ص 78.
(8) " جامع بيان العلم ": 1/ 39.
(9) من أقوال السنديّ الحنفيّ، نقلها علم الدين الفلانيّ في ("إيقاظ الهمم"): ص 90. (مطبعة رياض الهند، سنة 1298 هـ) 3333.
(10) قارن بـ "حجّة الله البالغة": ص 113 (لوليّ الله الدهلويّ) طبع بمصر سنة 1341 هـ.
(11) الحديث في "الصحيحين" من طريق جابر بن عبد الله مرة، ومن طريق سهل بن حنيف مرة أخرى. وقارن بـ "سنن أبي داود": 3/ 277 رقم الحديث 3174 (باب القيام للجنازة).
(12) قارن بـ "حجّة الله البالغة": ص 114.
(13) إلى هذا التعليل ذهب الشوكاني في "نيل الأوطار".
(14) انظر "حجة الله البالغة": ص 113.
(15) قارن بـ "قواعد التحديث": ص 314.
(16) "حجّة الله البالغة": ص 114 بشيء من التصرّف.
(17) هذه عبارة ابن عبد البرّ في "جامع بيان العلم": 2/ 148.
(18) " الميزان " للشعراني: ص 71.
(19) قارن بـ " أصول السرخسي ": 1/ 364.
(20) " الميزان " للشعراني: ص 65.
(21) انظر " الرسالة ": ص 401.
(22) " الإحكام " للآمدي: 1/ 108.
(23) " إعلام الموقّعين " لابن القيّم: 1/ 32، مطبعة النيل، سنة 1325 هـ.
(24) " الإحكام " للآمدي: 1/ 94.
(25) ارجع إلى صفحة 150 وقارن بـ " شرح النخبة ": ص 6.
(26) " الإحكام " للآمدي: 1/ 97. وقارن بـ " إغاثة اللهفان في طلاق الغضبان " لابن القيم ": ص 160.
(27) ذكر نحو هذا ابن السمعاني في كتابه " الاصطلام "، نقله القاسمي في " قواعد التحديث ": ص 77.
(28) أخذا من قوله تعالى في سورة الإسراء: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78].
(29) " الإحكام في أصول الأحكام " لابن حزم: 2/ 80.
(30) " شرح مقدمة مسلم " (للنووي): 1/ 63.
(31) علّل النووي في (" التقريب ": ص 41) عدم قطعيّة الآحاديّ ولو كان صحيحًا بقوله: «لجواز الخطأ والنسيان على الثقة» وعزا هذا الرأي للأكثرين والمحقّقين.
(32) " الإحكام " (للآمدي): 1/ 108.
(33) " الإحكام في أصول الأحكام " لابن حزم: 1/ 119 - 137.
(34) " الكفاية في علم الرواية ": ص 18 - 20.
(35) نفسه: 25، 26.
(36) نفسه: ص 26.
(37) نفسه: ص 432.
(38) قارن بـ "حصول المأمول من علم الأصول" (لصديق حسن خان): ص 59. مطبعة الجوائب 1296 هـ بالقسطنطينيّة.
(39) راجع فصل (الحديث بين الشكل والمضمون) من كتابنا هذا: ص 275 - 288.
(40) عبارة ابن حجر في "شرح النخبة": ص 7: «الخبر المحتف بالقرائن يفيد العلم خلافا لمن أبى ذلك».
(41) انظر أيضًا شرح النخبة 7.
(42) خصّصنا الحسن لذاته بالذكر؛ لأنّ حسنه ذاتي قائم فيه، غير ناشئ عن سبب أجنبيّ آخر كما في الحسن لغيره عندما يعضد ببعض الشواهد والمتابعات. وراجع ما ذكرناه عن الحديث الحسن ص 156.
(43) قارن بـ " قواعد التحديث ": ص 87 (بيان كون الحسن حجّة في الأحكام).
(44) اقرأ بإمعان بحثنا السابق (رواية الأحاديث الضعيفة والعمل بها) ص: 210 - 214.
(45) أوضحنا ذلك في فصل (شروط الراوي ومقاييس المحدّثين) ص: 126 - 140.
(46) " شرح صحيح مسلم " (للنووي): ص 60.
الاكثر قراءة في علوم الحديث عند العامّة (أهل السنّة والجماعة)
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة

الآخبار الصحية
