علم الحديث
تعريف علم الحديث وتاريخه
أقسام الحديث
الجرح والتعديل
الأصول الأربعمائة
الجوامع الحديثيّة المتقدّمة
الجوامع الحديثيّة المتأخّرة
مقالات متفرقة في علم الحديث
أحاديث وروايات مختارة
الأحاديث القدسيّة
علوم الحديث عند العامّة (أهل السنّة والجماعة)
علم الرجال
تعريف علم الرجال واصوله
الحاجة إلى علم الرجال
التوثيقات الخاصة
التوثيقات العامة
مقالات متفرقة في علم الرجال
أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله)
اصحاب الائمة من التابعين
اصحاب الائمة من علماء القرن الثاني
اصحاب الائمة من علماء القرن الثالث
علماء القرن الرابع الهجري
علماء القرن الخامس الهجري
علماء القرن السادس الهجري
علماء القرن السابع الهجري
علماء القرن الثامن الهجري
علماء القرن التاسع الهجري
علماء القرن العاشر الهجري
علماء القرن الحادي عشر الهجري
علماء القرن الثاني عشر الهجري
علماء القرن الثالث عشر الهجري
علماء القرن الرابع عشر الهجري
علماء القرن الخامس عشر الهجري
مكانة الحديث في التشريع
المؤلف:
الشيخ الدكتور صبحي الصالح
المصدر:
علوم الحديث ومصطلحه
الجزء والصفحة:
ص 289 ــ 300
2025-10-08
64
البَابُ الرَّابِعُ: مَكَانَةُ الحَدِيثِ فِي التَّشْرِيعِ وَاللُّغَةِ وَالأَدَبِ:
الفَصْلُ الأَوَّلُ: مَكَانَةُ الحَدِيثِ فِي التَّشْرِيعِ:
إِشَادَةُ القُرْآنِ بِطَاعَةِ الرَّسُولِ وَالْتِزَامِ سُنَّتِهِ:
انتهى العلماء المحقّقون إلى أنّ الحديث الصحيح حجّة على جميع الأمّة، وأيّدوا رأيهم هذا بالآيات القرآنيّة التي تفرض على المؤمنين اتّباع الرسول، والتسليم لحكمه، ورأوا من يحكي خلاف هذا المذهب غير خليق بالانتساب إلى العلم وأهله، وإن نسب نفسه أو نسبته العامّة إلى سعة المعرفة والتفقّه في الدين (1).
وكان طَبِيعِيًّا أن ينتهي التحقيق العلميّ الدقيق إلى هذا الحكم السديد؛ لأنّ الآيات التي فرضت على المؤمنين طاعة النبي - صَلّى اللهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ - صريحة لا تحتمل التأويل، وإنّما تكون طاعته بالتزام سنّته، والعمل بحديثه، والأخذ بمضمونه الصحيح في مسائل الدين، واعتباره الأصل الثاني من أصول التشريع بعد القرآن المجيد.
ومع أنّ تقرير هذا الأمر على هذه الصورة الواضحة يبدو بديهيًّا، نؤثر أن نجلو بعض الجوانب الشائكة التي تَحُفُّ بِحُجِّيَّةِ الحديث.
فهل النصوص القرآنية الحَاثَّةِ على طاعة النبيّ تُقِرُّ لحديثه بالاستقلال في التشريع، فيؤخذ بما فيه من الأحكام كما يؤخذ بما في الكتاب، أم لا تقر له بالاستقلال التشريعي، كما هو إلّا بيان للقرآن، وراجع إليه؟
وإن يكن الحديث مُبَيِّنًا للقرآن أو مُفَصِّلاً لإجماله، فكيف يعد مع الكتاب أصلاً من أصول التشريع مع أنّ أحكام الدين إنّما تستقى من أحدهما فقط وهو كتاب الله المجيد؟ وحين يؤخذ بالحديث أصلاً تشريعيًّا أو على غير استقلال، هل يقبل فيه خبر الآحاد، أم لا بد لتصحيحه من التقوية والتعزيز؟
وإنّ الإجابة الدقيقة عن هذه الأسئلة لتفرض علينا في البداية سرد أهمّ النصوص القرآنيّة الدالة على وجوب العمل بالسنّة النبويّة، مشفوعة بتطبيقها العمليّ في واقع السيرة المطهّرة، ومقرونة بفهم الرعيل الأول من الصحابة لمدلولها المتبادر من غير تكلف ولا اعتساف.
يرى عبد الرحمن بن يزيد رجلاً مُحْرِمًا في موسم الحج قد ارتدى ثوبًا مخيطًا، فرشده إلى نزع ثيابه والأخذ بسنّة النبي - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - في لباس الإحرام، فيقول الرجل لعبد الرحمن: اِئْتِنِي بِآيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ تَنْزِعُ ثِيَابِي، فلا يرى عبد الرحمن خيرًا من أن يقرأ عليه قول الله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7](2).
فَنَزْعُ الثوب المخيط لم يرد صريحًا في كتاب الله، وإنّما ورد في الحديث فقط.
وهكذا انفردت السُنَّةُ بهذا الحكم الشرعيّ، وكانت أصلاً مستقلّاً من أصول التشريع؛ لأنّ الله أمر المؤمنين بالانتهاء عمّا نهى عنه نبي الهدى - عَلَيْهِ السَّلاَمُ -.
ويصلّي طاووس (3) بعد العصر ركعتين، فيقول له الصحابي الجليل ابن عبّاس: اتركهما، فيجيبه طاووس بأنّ الرسول - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - إنّما نهى عنهما مخافة أَنْ تُتَّخَذَا سُنَّةً، ولا ضير في هاتين الركعتين إن صُلِّيَّتَا بغير نيّة الاستمرار، ولكن ابن عبّاس يُصِرُّ على نهي رسول الله - صَلّى اللهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ - عن الصلاة مطلقًا بعد العصر، ويؤكّد لطاووس أنّ ليس له الخيار، فما جاء به رسول الله، مستندًا إلى الآية الكريمة: "{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36] (4).
ولئن تكن للمؤمن خِيَرَة فيما مضت به سنّة الرسول، فما عليه إلّا أَنْ يُحَكِّمَ هذه السنّة في كلّ خلاف يَشْجُرُ، وفي كلّ دعوى ترفع، مع التسليم التّام لكلّ ما تصدره من أحكام، مصداقًا لقوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].
وجملة الروايات الواردة في سبب نزول هذه الآية تتلخّص في أنّ النبيّ - صَلّى اللهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ - قضى للزبير بن العوام بالشرب من شِرَاجِ الحَرَّةِ قبل رجل شهد بدرًا من الأنصار (5). ولا ريب أنّ حديث النبيّ هنا قد انفرد بالتشريع في هذه المسألة التي لم يعرض لها القرآن بحكم صريح.
وعندما خاطب الله نَبِيَّهُ بقوله: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] نَبَّهَ المؤمنين إِلى مكانة السنّة في التشريع، فإنّ أقوال الرسول وأعماله تبيّن المراد من القرآن، إذ تفصّل ما أجمله، وتقيّد ما أطلقه، وتخصّص فيه ألفاظ العموم، وتعيّن ما لم يعيّنه من المقادير والحدود والجزئيّات.
فللسنّة أن تنفرد في التشريع حين يسكت القرآن عن التصريح، ولها أن تقوم بوظيفة التبيان حين يترك لها التفصيل والتوضيح.
وذلك ما استنتجه عمران بن حصين لمّا رمى رجلاً بالغفلة الشديدة والفهم السقيم، وقال له مُؤَنِّبًا مقرعا: «إِنَّكَ امْرُؤٌ أَحْمَقُ! أَتَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ [الظُّهْرَ أَرْبَعًا]، لاَ يُجْهَرُ فِيهَا بِالقِرَاءَةِ؟» ثم سرد له بعض أحكام الصلاة ومقادير الزكاة وما أشبه ذلك من أركان الإسلام وفرائضه، ثم قال للرجل: «"أَتَجِدُ هَذَا فِي كِتَابِ اللهِ مُفَسَّرًا؟ إِنَّ كِتَابَ اللَّهِ أَبْهَمَ هَذَا وَأَجْمَلَهُ"، وَإِنَّمَا فَسَّرَتْهُ السُنَّةَ تَوْضِيحًا وَبَيَانًا» (6).
شُمُولُ السُنَّةِ كُلَّ آفَاقِ التَّشْرِيعِ:
وتكاد الأمثلة الواردة في تفصيل السنّة مجملاتِ القرآن تشمل كلّ آفاق التشريع الإسلاميّ في العبادات والمعاملات والحلال والحرام.
وينتهي النبي - صَلى اللهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ - في كلّ منها، على حدة، إلى التبيان الدقيق عن طريق القياس تارة، والمقارنة بين نظيرين تارة أخرى، والموازنة بين متقابلين تارة ثالثة. فاذا قال الله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] أدرك رسول اللَه - صَلى اللهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ - أنّ الزيادة من غير مقابل ولا عوض هي السرّ في تحريم الربا، فألحق قياسًا بالربا كلّ تعامل يشمل على زيادة من هذا النوع، وحكم بأن «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالفِضَّةُ بِالفِضَّةِ، وَالبُرُّ بِالبُرِّ، [وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ]، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالمِلْحُ بِالمِلْحِ، مِثْلاً بِمِثْلٍ، سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ، يَدًا بِيَدٍ، فَمَنْ زَادَ، أَوِ ازْدَادَ، فَقَدْ أَرْبَى» (7)، ثَم ينحّي عن مدلول الربا ما اختلفت فيه تلك الأصناف ولم تتماثل، فخلا من كلّ زيادة لا عوض فيها، فيقول - عَلَيْهِ السَّلاَمُ -: «فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَصْنَافُ، فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ، إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ».
وإذا حَرَّمَ القرآن الزنى وأباح النكاح في آيات معروفة، وسكت عن حكم النكاح المخالف للشرع، كزواج المرأة بغير إذن وليّها مثلاً، عقد النبي - صَلى اللهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ - مقارنة بين السفاح المحض وهذا اللون من النكاح المخالف للشرع، وقضى ببطلان ما لم تراعَ فيه أصول العقد الزوجي، فقال: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهَا، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ» (8).
وإذا عَدَّ القرآن صيد البحر حلالاً طيبًا فقال: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [المائدة: 96] وَحَرَّمَ الميتة تحريمًا قاطعًا في مواطن متعدّدة (9)، وَازَنَ رسول الله - صَلّى اللهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ - بين حِلِّ الصيد البحريّ المطلق وحرمة الميتة في صيغتها العامّة المطلقة، فخصّ ميتة البحر بالحلّ واستثناها من الحكم العام، وقال عن البحر: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الحِلُّ مَيْتَتُهُ» (10)، وأكّد هذا التخصيص بقوله في الحديث الاَخر: «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ، وَدَمَانِ، فَأَمَّا المَيْتَتَانِ: فَالحُوتُ وَالجَرَادُ، وَأَمَّا الدَّمَانِ: فَالكَبِدُ وَالطِّحَالُ»(11).
ولعلّ شعور العلماء الأوّلين بأثر السُنَّةِ العظيم في توضيح الأصول القرآنيّة، بأي طريق تم ذلك التوضيح، هو الذي حمل بعضهم على الحكم بأنّ السُنَّةَ قاضية على الكتاب، حتّى قال الأوزاعي: «الكِتَابُ أَحْوَجُ إِلَى السُنَّةِ مِنَ السُنَّةِ إِلَى الكِتَابِ» (12). وما أراد الأوزاعي ولا غيره بهذا إلّا التنبيه على أنّ أعلم الخلق بمعاني القرآن هو رسول الله الأمين الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى. وَمِنْ هُنَا قِيلَ لِمُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ (13): لاَ تُحَدِّثُونَا إِلّا بِالقُرْآنِ، فَقَالَ لِلْسَّائِلِينَ: «وَاللَّهِ مَا نُرِيدُ بِالقُرْآنِ بَدَلاً، وَلَكِنْ نُرِيدُ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ بِالقُرْآنِ مِنَّا» (14).
وما دامت الأمثلة التي ذكرناها تجعل السُنَّةَ بين أمرين: فهي إمّا مستقلة في التشريع بما ليس في القرآن، إمّا مفسّرة لمجملات القرآن، فلا مناص من الاعتراف - كما قال الشاطبي: بأنّ «[أَدِلَّةُ] القُرْآنِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَكُلَّ مَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى، فَهُوَ لاَحِقٌ فِي الحُكْمِ بِمَا جَاءَ فِي القُرْآنِ، فَلاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ زَائِدًا عَلَيْهِ (15).
وإن هذه الزيادة الملحوظة في التفصيلات النبويّة هي التي تجعل للحديث، على جميع الأقوال، المرتبة الثانية بعد القرآن، وهي التي تؤكّد أنّ الشرع الإسلاميّ يتكوّن من الأصلين مَعًا: القرآن والحديث....
اِسْتِقْلاَلُ السُنَّةِ بِالتَّشْرِيعِ وَلَوْ كَانَ أَصْلُهَا فِي الكِتَابِ:
فإن قيل بعد هذا: بل القرآن دَالٌّ على كلّ ما في الحديث إجمالاً وتفصيلاً، وما سنّ الرسول سُنَّةً قَطُّ إلّا كان في الكتاب أصلها؛ لأن الله أنزل القرآن {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]، وتمّم به الدين كلّه فقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، وقال: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38]، فليس للسنّة بأيّ صورة أن تزيد في التشريع شيئًا فضلاً على استقلالها بالتشريع، أحلنا أصحاب هذه الشبهة على القرآن نفسه الذي يشيد بطاعة الرسول، ويحذّر- من مخالفته، ولا يفرق في ذلك بين ما فَسَّرَهُ النبي من القرآن وما أمر به في سنّته أمرًا مستقلاً، فهو الذي يقول بلهجة الإنذار: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]، وبهذه يخصّه بشيء يطاع فيه ولا يعصى، وهو سنّته التي جاء بها ولم تكن من القرآن ولا أتت في القرآن. ويشبه هذا ما أمر الله به المؤمنين من رد النزاع إلى الله ورسوله في قوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]، وإنّما يكون الرد إلى الله رجوعًا إلى الكتاب، ولا يكون الرد إلى الرسول إلّا رجوعًا إلى سنّته بعد وفاته - عَلَيْهِ السَّلاَمُ -.
وَلْتَرْجَعْ السُنَّةُ بعد هذا إلى القرآن بمدلولاتها التفصيليّة كلّها، فإنّ أحدًا من أهل العلم لا يخالف في أنّ العمل بما جاءت به السنّة هو عمل بالقرآن؛ لأنّ القرآن هو الذي دلّ على وجوب العمل بالسنّة، ولأنّ القرآن أعمّ والحديث أخصّ ولا بُدَّ أن يشتمل الأعمّ بكليّاته على الأخصّ بجزئيّاته، وما بين القرآن والحديث من اتفاق في الأصول لا ينفي ما تفرّد الحديث بتشريعه أو توضيحه حتّى من تلك الأصول، فإنّما جعل الله رسوله إمامًا، وسنّته قدوة، وهديه النبويّ أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرًا.
ولقد تحدّث الشافعي في "رسالته" (16) عمّا سَنَّهُ رسول الله - صَلى اللهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ - ممّا ليس فيه نصّ قرآنيّ، فأداره على أربعة وجوه ترتد كلّها إلى الإقرار بوجود زيادة في السنّة على ما في الكتاب، وَأَوْشَكَ - وهو يعلّل مصدر هذه الزيادة ومدى حجيّتها في التشريع - أَنْ يُرَجِّحَ الوجه الثاني الذاهب إلى أنّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - «لَمْ يَسُنَّ سُنَّةً قَطُّ إِلّا وَلَهَا أَصْلٌ فِي الكِتَابِ كَمَا كَانَتْ سُنَّتُهُ لِتَبْيِينِ عَدَدَ الصَّلاَةِ، وَعَمَلِهَا عَلَى أَصْلِ جُمْلَةِ فَرْضِ الصَّلاَةِ، وَكَذَلِكَ ما سَنَّ مِنَ البُيُوعِ وَغَيْرِهَا مِنَ الشَّرَائِعِ، لأَنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}، وَقَالَ: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} فَمَا أَحَلَّ وَحَرَّمَ فَإِنَّمَا بَيَّنَ فِيهِ عَنْ اللهِ كَمَا بَيَّنَ الصَّلاَةَ» (17).
ويخيّل إلينا أنّ المذهب الأخير هو أصوب المذاهب لدى توضيح مكانة الحديث في التشريع، فإنّه يوفق بغير تكلّف ولا تعسف بين اشتمال القرآن على كلّ شيء، وتبيانه كلّ شيء، وأنّ الله لَمْ يُفَرِّطْ فيه من شيء، وَبَيَّنَ إثبات السنّة أحكامًا لم يثبتها القرآن ولم ينفها مع أنّ أصولها الأولى واردة في القرآن، وإن ّهذا المذهب المعتدل ليأذن لنا دون تردّد، بتسمية الحديث «الأصل الثاني من أصول التشريع في الإسلام»، ولا علينا بَعْدُ أَنْ يُعَدَّ هذا الأصل عند بعضهم مستقلاً فيما شرّعه من أحكام، وعند بعضهم الآخر غَيْرَ ذِي استقلال. وقديمًا قال العلماء وصدقوا: «تَرَكَ الكِتَابُ مَوْضِعًا لِلسُّنَّةِ، وَتَرَكَتِ السُّنَّةُ مَوْضِعًا لِلْقُرْآنِ» (18). ولا غرابة في هذا بعد قول الله: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) قارن بـ " قواعد التحديث ": ص 263.
(2) قارن بـ " جامع بيان العلم " لابن عبد البر: 2/ 188.
(3) هو طاووس بن كيسان الخولاني الهمداني بالولاء. كان من أكابر التابعين، ومن أشهر رواة الحديث المتفقهين فيه. توفي حَاجًّا بالمزدلفة سنة 106 هـ (" تهذيب التهذيب ": 5/ 28).
(4) " الموافقات ": 4/ 25.
(5) انظر تفصيل هذه الرواية - مع تخريج الأسانيد والمفاضلة بينها، في "تفسير ابن كثير": 1/ 520. ومغزى تفسير الآية - على جميع الآراء - أنّ الأنصاري الذي اعترض على سقي الزبير قبله كان جديرًا به قبول الحكم النبويّ دون أن يجد في نفسه منه حرجًا.
(6) قارن بـ " جامع بيان العلم ": 2/ 191 و" الموافقات ": 4/ 26.
(7) الحديث من رواية مسلم في "صحيحه" وأحم في "مسنده" وأبي داود في "سننه". وهو حديث مشهور.
(8) قارن بـ "سنن أبي داود": 2/ 308 رقم الحديث 2083 (باب في الولي) ....
(9) كما ورد في:
سورة البقرة: آية 173، وسورة المائدة: آية 3، وسورة الأنعام: آية 145.
(10) قارن بـ "سنن أبي داود": 1/ 54 رقم الحديث 83.
(11) قارن بـ "سبل السلام " لمحمد بن إسماعيل الصنعاني: 4/ 76 (" شرح بلوغ المرام " لابن حجر).
(12) "جامع بيان العلم": 2/ 191.
(13) مطرف بن عبد الله بن الشيخر، زاهد من كبار التابعين، ثقة فيما رواه من الأحاديث. توفّي بالبصرة سنة 87 هـ ("وفيات الأعيان": 2/ 67).
(14) "الموافقات": 4/ 26.
(15) " الموافقات ": 4/ 14.
(16) "الرسالة": ص 91.
(17) قارن هذا بقول الطبري في "التفسير": 1/ 25: «إِنَّ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ القُرْآنِ، عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ، مَا لاَ يُوصَلُ إِلَى عِلْمِ تَأْوِيلِهِ، إِلّا بِبَيَانِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ تَأْوِيلُ جَمِيعِ مَا فِيهِ، مِنْ وجُوهِ أَمْرِهِ: وَوَاجِبِهِ، وَنَدْبِهِ، وَإِرْشَادِهِ ... إِلَى آخرِهِ».
(18) "الموافقات": 4/ 16، 17.
الاكثر قراءة في علوم الحديث عند العامّة (أهل السنّة والجماعة)
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة

الآخبار الصحية
