زهد يحيى عليه السلام
المؤلف:
الشيخ ماجد ناصر الزبيدي
المصدر:
التيسير في التفسير للقرآن برواية أهل البيت ( عليهم السلام )
الجزء والصفحة:
ج 4 ص433-436.
2025-08-07
278
زهد يحيى عليه السلام
قال تعالى : {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 89، 90].
قال علي بن إبراهيم في قوله تعالى : {وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ} قال : كانت لا تحيض فحاضت .
وقال : قوله تعالى : يَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً . راغبين راهبين « 1 ».
وقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم : « من زهد يحيى بن زكريا عليهما السّلام أنه أتى بيت المقدس ، فنظر إلى المجتهدين من الأحبار والرّهبان عليهم مدارع الشّعر ، وبرانس « 2 » الصوف ، وإذا هم قد خرقوا تراقيهم ، وسلكوا فيها السلاسل ، وشدّوها إلى سواري المسجد ، فلما نظر إلى ذلك أتى أمّه ، فقال : يا أمّاه ، انسجي لي مدرعة من شعر ، وبرنسا من صوف ، حتى آتي بيت المقدس فأعبد اللّه مع الأحبار والرّهبان . فقالت له أمّه : حتى يأتي نبي اللّه واستأمره « 3 » في ذلك .
فلما دخل زكريا عليه السّلام أخبرته بمقالة يحيى ، فقال له زكريا : يا بنيّ ، ما يدعوك إلى هذا ، وإنما أنت صبي صغير ؟ فقال له : يا أبت ، أما رأيت من هو أصغر سنّا مني وقد أدركه الموت ؟ قال : بلى ، ثم قال لأمّه : انسجي له مدرعة من شعر ، وبرنسا من صوف . ففعلت ، فتدرّع المدرعة على بدنه ، ووضع البرنس على رأسه ، ثم أتى بيت المقدس ، فأقبل يعبد اللّه عزّ وجلّ مع الأحبار حتى أكلت مدرعة الشعر لحمه .
فنظر ذات يوم إلى ما قد نحل من جسمه ، فبكى ، فأوحى اللّه عزّ وجلّ إليه ، يا يحيى ، أتبكي مما قد نحل من جسمك ! وعزتي وجلالي لو اطلعت إلى النار اطّلاعة لتدرّعت مدرعة الحديد فضلا عن المنسوج « 4 » . فبكى حتى أكلت الدموع لحم خدّيه ، وبدت للناظرين أضراسه ، فبلغ ذلك أمّه ، فدخلت عليه ، وأقبل زكريا عليه السّلام ، واجتمع الأحبار والرهبان فأخبروه بذهاب لحم خديه ، فقال : ما شعرت بذلك .
فقال زكريا عليه السّلام : يا بنيّ ، ما يدعوك إلى هذا ؟ إنما سألت ربّي أن يهبك لي لتقرّ بك عيني . قال : أنت أمرتني بذلك ، يا أبت . قال : ومتى ذلك ، يا بني . قال : ألست القائل : إن بين الجنة والنار لعقبة لا يجوزها إلّا البكاءون من خشية اللّه ؟ قال : بلى ؟ فجدّ واجتهد ، وشأنك غير شأني .
فقام يحيى فنفض مدرعته ، فأخذته أمّه ، فقالت : أتأذن لي - يا بني - أن أتخذ لك قطعتي لبود تواريان أضراسك ، وتنشّفان دموعك ؟ قال لها : شأنك ، فاتّخذت له قطعتي لبود تواريان أضراسه ، وتنشفان دموعه ، فبكى حتى ابتلتا من دموع عينيه . فحسر عن ذراعيه ، ثم أخذهما فعصرهما ، فتحدرت الدموع من بين أصابعه ، فنظر زكريا إلى ابنه ، وإلى دموع عينيه ، فرفع رأسه إلى السماء ، فقال : اللهم إن هذا ابني ، وهذه دموع عينيه ، وأنت أرحم الراحمين .
وكان زكريّا عليه السّلام إذا أراد أن يعظ بني إسرائيل يلتفت يمينا وشمالا ، فإن رأى يحيى عليه السّلام لم يذكر جنّة ولا نارا ، فجلس ذات يوم يعظ بني إسرائيل ، وأقبل يحيى وقد لفّ رأسه لعباءة ، فجلس في غمار الناس ، والتفت زكريا يمينا وشمالا فلم ير يحيى عليه السّلام ، فأنشأ يقول : حدّثني حبيبي جبرئيل عن اللّه تبارك وتعالى : أن في جهنم جبلا يقال له السكران ، وفي أصل ذلك الجبل واد يقال له الغضبان ، لغضب الرحمن تبارك وتعالى ، في ذلك الوادي جبّ قامته مائة عام ، في ذلك الجبّ توابيت من نار ، في تلك التوابيت صناديق من نار ، وثياب من نار ، وسلاسل من نار ، وأغلال من نار .
فرفع يحيى عليه السّلام رأسه ، فقال : واغفلتاه عن ( السكران ) . ثم أقبل هائما على وجهه ، فقام زكريا عليه السّلام من مجلسه ، فدخل على أم يحيى ، فقال لها :
يا أمّ يحيى ، قومي فاطلبي يحيى ، فإني قد تخوّفت أن لا نراه إلا وقد ذاق الموت . فقامت ، فخرجت في طلبه حتى مرّت بفتين من بني إسرائيل ، فقالوا لها : يا أم يحيى ، أين تريدين ؟ قالت : أريد أن أطلب ولدي يحيى ، ذكرت النار بين يديه ، فهام على وجهه .
فمضت أم يحيى والفتية معها ، حتى مرّت براعي غنم ، فقالت له : يا راعي ، هل رأيت شابا من صفته كذا وكذا ؟ فقال لها : لعلّك تطلبين يحيى بن زكريا ؟ قالت : نعم ، ذاك ولدي ، ذكرت النار بين يديه ، فهام على وجهه ، فقال : إني تركته الساعة على عقبه ثنيّة كذا وكذا ، ناقعا قدميه في الماء ، رافعا نظره إلى السماء ، يقول : وعزّتك - يا مولاي - لا ذقت بارد الشراب حتى أنظر إلى منزلتي منك .
فأقبلت أمه ، فلما رأته أم يحيى دنت منه ، فأخذت برأسه ، فوضعته بين يديها ، وهي تناشده باللّه ينطلق معها إلى المنزل ، فانطلق معها حتى أتى المنزل ، فقالت له أمه : هل لك أن تخلع مدرعة الشعر ، وتلبس مدرعة الصوف ، فإنه ألين ؟ ففعل ، وطبخ له عدس ، فأكل واستوفى ، فنام ، فذهب به النوم فلم يقم لصلاته ، فنودي في منامه : يا يحيى بن زكريا أردت دارا خيرا من داري ، وجوارا خيرا من جواري ؟ فاستيقظ فقام ، فقال : يا ربّ ، أقلني عثرتي ، إلهي فو عزّتك لا أستظل [ بظل ] سوى بيت المقدس .
وقال لأمّه : ناوليني مدرعة الشعر ، فقد علمت أنكما ستورداني المهالك . فتقدّمت أمه فدفعت إليه المدرعة ، وتعلقت به ، فقال لها زكريا عليه السّلام : يا أمّ يحيى ، دعيه ، فإنّ ولدي قد كشف له عن قناع قلبه ، ولن ينتفع بالعيش . فقام يحيى عليه السّلام فلبس مدرعته ، ووضع البرنس على رأسه ، ثم أتى بيت المقدس ، فجعل يعبد اللّه عزّ وجلّ مع الأحبار حتى كان من أمره ما كان » « 5 ».
____________
( 1) تفسير القمي : ج 2 ، ص 75 .
( 2 ) البرنس : كل ثوب رأسه منه ملزوق به . « مجمع البحرين - برس - ج 4 ، ص 52 » .
( 3 ) أي أستشيره .
( 4 ) المنسوج : وهي الألبسة المتخذة من الشعر .
( 5 ) الأمالي : ص 33 ، ح 2 ابن بابويه .
الاكثر قراءة في قصة النبي زكريا وابنه يحيى
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة