التوحيد
النظر و المعرفة
اثبات وجود الله تعالى و وحدانيته
صفات الله تعالى
الصفات الثبوتية
القدرة و الاختيار
العلم و الحكمة
الحياة و الادراك
الارادة
السمع و البصر
التكلم و الصدق
الأزلية و الأبدية
الصفات الجلالية ( السلبية )
الصفات - مواضيع عامة
معنى التوحيد و مراتبه
العدل
البداء
التكليف
الجبر و التفويض
الحسن و القبح
القضاء و القدر
اللطف الالهي
مواضيع عامة
النبوة
اثبات النبوة
الانبياء
العصمة
الغرض من بعثة الانبياء
المعجزة
صفات النبي
النبي محمد (صلى الله عليه وآله)
الامامة
الامامة تعريفها ووجوبها وشرائطها
صفات الأئمة وفضائلهم
العصمة
امامة الامام علي عليه السلام
إمامة الأئمة الأثني عشر
الأمام المهدي عجل الله فرجه الشريف
الرجعة
المعاد
تعريف المعاد و الدليل عليه
المعاد الجسماني
الموت و القبر و البرزخ
القيامة
الثواب و العقاب
الجنة و النار
الشفاعة
التوبة
فرق و أديان
علم الملل و النحل ومصنفاته
علل تكون الفرق و المذاهب
الفرق بين الفرق
الشيعة الاثنا عشرية
أهل السنة و الجماعة
أهل الحديث و الحشوية
الخوارج
المعتزلة
الزيدية
الاشاعرة
الاسماعيلية
الاباضية
القدرية
المرجئة
الماتريدية
الظاهرية
الجبرية
المفوضة
المجسمة
الجهمية
الصوفية
الكرامية
الغلو
الدروز
القاديانيّة
الشيخية
النصيرية
الحنابلة
السلفية
الوهابية
شبهات و ردود
التوحيـــــــد
العـــــــدل
النبـــــــوة
الامامـــــــة
المعـــاد
القرآن الكريم
الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام)
الزهراء (عليها السلام)
الامام الحسين (عليه السلام) و كربلاء
الامام المهدي (عليه السلام)
إمامة الائمـــــــة الاثني عشر
العصمـــــــة
الغلـــــــو
التقية
الشفاعة والدعاء والتوسل والاستغاثة
الاسلام والمسلمين
الشيعة والتشيع
اديان و مذاهب و فرق
الصحابة
ابو بكر و عمر و عثمان و مشروعية خلافتهم
نساء النبي (صلى الله عليه واله و سلم)
البكاء على الميت و احياء ذكرى الصاحين
التبرك و الزيارة و البناء على القبور
الفقه
سيرة و تاريخ
مواضيع عامة
مقالات عقائدية
مصطلحات عقائدية
أسئلة وأجوبة عقائدية
التوحيد
اثبات الصانع ونفي الشريك عنه
اسماء وصفات الباري تعالى
التجسيم والتشبيه
النظر والمعرفة
رؤية الله تعالى
مواضيع عامة
النبوة والأنبياء
الإمامة
العدل الإلهي
المعاد
القرآن الكريم
القرآن
آيات القرآن العقائدية
تحريف القرآن
النبي محمد صلى الله عليه وآله
فاطمة الزهراء عليها السلام
الاسلام والمسلمين
الصحابة
الأئمة الإثنا عشر
الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
أدلة إمامة إمير المؤمنين
الإمام الحسن عليه السلام
الإمام الحسين عليه السلام
الإمام السجاد عليه السلام
الإمام الباقر عليه السلام
الإمام الصادق عليه السلام
الإمام الكاظم عليه السلام
الإمام الرضا عليه السلام
الإمام الجواد عليه السلام
الإمام الهادي عليه السلام
الإمام العسكري عليه السلام
الإمام المهدي عليه السلام
إمامة الأئمة الإثنا عشر
الشيعة والتشيع
العصمة
الموالات والتبري واللعن
أهل البيت عليهم السلام
علم المعصوم
أديان وفرق ومذاهب
الإسماعيلية
الأصولية والاخبارية والشيخية
الخوارج والأباضية
السبئية وعبد الله بن سبأ
الصوفية والتصوف
العلويين
الغلاة
النواصب
الفرقة الناجية
المعتزلة والاشاعرة
الوهابية ومحمد بن عبد الوهاب
أهل السنة
أهل الكتاب
زيد بن علي والزيدية
مواضيع عامة
البكاء والعزاء وإحياء المناسبات
احاديث وروايات
حديث اثنا عشر خليفة
حديث الغدير
حديث الثقلين
حديث الدار
حديث السفينة
حديث المنزلة
حديث المؤاخاة
حديث رد الشمس
حديث مدينة العلم
حديث من مات ولم يعرف إمام زمانه
احاديث متنوعة
التوسل والاستغاثة بالاولياء
الجبر والاختيار والقضاء والقدر
الجنة والنار
الخلق والخليقة
الدعاء والذكر والاستخارة
الذنب والابتلاء والتوبة
الشفاعة
الفقه
القبور
المرأة
الملائكة
أولياء وخلفاء وشخصيات
أبو الفضل العباس عليه السلام
زينب الكبرى عليها السلام
مريم عليها السلام
ابو طالب
ابن عباس
المختار الثقفي
ابن تيمية
أبو هريرة
أبو بكر
عثمان بن عفان
عمر بن الخطاب
محمد بن الحنفية
خالد بن الوليد
معاوية بن ابي سفيان
يزيد بن معاوية
عمر بن عبد العزيز
شخصيات متفرقة
زوجات النبي صلى الله عليه وآله
زيارة المعصوم
سيرة وتاريخ
علم الحديث والرجال
كتب ومؤلفات
مفاهيم ومصطلحات
اسئلة عامة
أصول الدين وفروعه
الاسراء والمعراج
الرجعة
الحوزة العلمية
الولاية التكوينية والتشريعية
تزويج عمر من ام كلثوم
الشيطان
فتوحات وثورات وغزوات
عالم الذر
البدعة
التقية
البيعة
رزية يوم الخميس
نهج البلاغة
مواضيع مختلفة
الحوار العقائدي
* التوحيد
* العدل
* النبوة
* الإمامة
* المعاد
* الرجعة
* القرآن الكريم
* النبي محمد (صلى الله عليه وآله)
* أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله)
* فضائل النبي وآله
* الإمام علي (عليه السلام)
* فاطمة الزهراء (عليها السلام)
* الإمام الحسين (عليه السلام) وكربلاء
* الإمام المهدي (عجل الله فرجه)
* زوجات النبي (صلى الله عليه وآله)
* الخلفاء والملوك بعد الرسول ومشروعية سلطتهم
* العـصمة
* التقيــة
* الملائكة
* الأولياء والصالحين
* فرق وأديان
* الشيعة والتشيع
* التوسل وبناء القبور وزيارتها
* العلم والعلماء
* سيرة وتاريخ
* أحاديث وروايات
* طُرف الحوارات
* آداب وأخلاق
* الفقه والأصول والشرائع
* مواضيع عامة
عقيدتنا في القضاء والقدر
المؤلف:
آية الله السيد محسن الخرّازي
المصدر:
بداية المعارف الإلهية في شرح عقائد الإمامية
الجزء والصفحة:
ج1 ، ص 153 - 189
2025-07-14
34
وقد أنكروا السببية الطبيعية بين الأشياء، إذ ظنوا أن ذلك هو مقتضى كونه تعالى هو الخالق الذي لا شريك له، ومن يقول بهذه المقالة فقد نسب الظلم إليه، تعالى عن ذلك (أ).
وذهب قوم آخرون وهم " المفوضة " إلى أنه تعالى فوض الأفعال إلى المخلوقين ورفع قدرته وقضاءه وتقديره عنها، باعتبار أن نسبة الافعال إليه تعالى تستلزم نسبة النقص إليه وإن للموجودات أسبابها الخاصة وان انتهت كلها إلى مسبب الأسباب والسبب الأول وهو الله تعالى.
ومن يقول بهذه المقالة فقد اخرج الله تعالى من سلطانه وأشرك غيره معه في الخلق (ب).
واعتقادنا في ذلك تبع لما جاء عن أئمتنا الأطهار - عليهم السلام - من الأمر بين الأمرين والطريق الوسط بين القولين الذي كان يعجز عن فهمه أمثال أولئك المجادلين من أهل الكلام ففرط منهم قوم وأفرط آخرون ولم يكتشفه العلم والفلسفة إلا بعد عدة قرون (ج) وليس من الغريب ممن لم يطلع على حكمة الأئمة - عليهم السلام - وأقوالهم أن يحسب أن هذا القول وهو الأمر بين الأمرين من مكتشفات بعض فلاسفة الغرب المتأخرين، وقد سبقه إليه أئمتنا قبل عشرة قرون.
فقد قال إمامنا الصادق - عليه السلام - لبيان الطريق الوسط كلمته المشهورة: " لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين الأمرين " (د).
ما أجل هذا المغزى وما أدق معناه وخلاصته أن أفعالنا من جهة هي أفعالنا حقيقة، ونحن أسبابها الطبيعية وهي تحت قدرتنا واختيارنا، ومن جهة أخرى هي مقدورة لله تعالى وداخلة في سلطانه، لأنه هو مفيض الوجود ومعطيه، فلم يجبرنا على أفعالنا حتى يكون قد ظلمنا في عقابنا على المعاصي، لأن لنا القدرة والاختيار فيما نفعل، ولم يفوض إلينا خلق أفعالنا حتى يكون قد أخرجها عن سلطانه، بل له الخلق والحكم والأمر وهو قادر على كل شئ ومحيط بالعباد (هـ).
وعلى كل حال فعقيدتنا أن القضاء والقدر سر من أسرار الله تعالى، فمن استطاع أن يفهمه على الوجه اللائق بلا افراط ولا تفريط فذاك، وإلا فلا يجب عليه أن يتكلف فهمه والتدقيق فيه، لئلا يضل وتفسد عليه عقيدته، لأنه من دقائق الأمور، بل من أدق مباحث الفلسفة التي لا يدركها إلا الأوحدي من الناس، ولذا زلت به أقدام كثير من المتكلمين (و).
فالتكليف به تكليف بما هو فوق مستوى مقدور الرجل العادي.
ويكفى أن يعتقد به الإنسان على الاجمال اتباعا لقول الأئمة الأطهار - عليهم السلام - من أنه أمر بين الأمرين ليس فيه جبر ولا تفويض.
وليس هو من الأصول الاعتقادية حتى يجب تحصيل الاعتقاد به على كل حال على نحو التفصيل والتدقيق (ز).
____________________
وعلى هذا الأساس المزعوم ذهبوا إلى أن أفعال العباد مخلوقة له تعالى، من دون دخل للعباد، نعم يطلق على أفعال العباد عنوان المكسوب، لمقارنة مجرد الإرادة وهو الفارق عندهم بين الفعل الاختياري والاضطراري.
والذي أوجب هذا الزعم الفاسد فيهم، هو عدم درك معنى التوحيد الأفعالي، وتخيلوا أنه لا يمكن الجمع بين التوحيد الافعالي وسببية الأشياء.
وفيه أولا: أن انكار السببية والعلية خلاف الوجدان، فإنا نرى أنفسنا علة ايجادية بالنسبة إلى التصورات والتفكرات الذهنية ونحوها من أفعال النفس، لأن هذه الأمور مترشحة عن النفس ومتوقفة عليها من دون العكس، وليس معنى السببية إلا ذلك، و الوجدان أدل دليل على ثبوت السببية والعلية فلا مجال لانكارها.
وثانيا: أن التزاحم المشاهد بين الماديات مما يشهد على وجود رابطة العلية والتأثير و التأثر بالمعنى الأعم فيها، وإلا فلا مجال لذلك، إذ المفروض أنه لا تأثير لها، وإرادته تعالى لا تكون متزاحمة، لعدم التكثر في ذاته، والمفروض أنه لا دخل لغيره تعالى في السببية، فالتزاحم ليس إلا لتأثير الماديات بعضها في بعض.
وثالثا: بأن النصوص الشرعية تدل على وجود الرابطة السببية، كقوله تعالى: " فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا * قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا * قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا " (1) حيث نسب التمثل وهكذا هبة الغلام إلى الروح.
وكقوله عز وجل: " قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم " (2) إذ أسند عذاب الكفار إلى أيدي المؤمنين وغير ذلك من الآيات، فلا وجه لإنكار السببية.
وأما توهم المنافاة بينها وبين التوحيد الأفعالي فهو مندفع، بأن السببية المذكورة ليست مستقلة حتى تنافيه، بل هي السببية الطولية، وهي منتهية إليه تعالى في عين كونها حقيقية، نعم يختص بالله تعالى السببية الاستقلالية، وهو المراد من قولهم: لا مؤثر في الوجود إلا الله تعالى.
وبالجملة فكما أن وجود المخلوقين لا يتنافى مع التوحيد الذاتي، لأن وجودهم منه تعالى وفي طول وجوده، كذلك تأثيرهم في الأشياء لا ينافي حصر المؤثر الاستقلالي فيه تعالى، كما يقتضيه التوحيد الأفعالي، لأن تأثيرهم بإذنه تعالى وينتهي إليه، ولذلك قال العلامة الطباطبائي - قدس سره -: انتساب الفعل إلى الواجب تعالى بالايجاد لا ينافي انتسابه إلى غيره من الوسائط، والانتساب طولي لا عرضي (3).
فالعباد هم المباشرون للأفعال وكانت الأفعال أفعالا اختيارية لهم، لقدرتهم على تركها وتمكنهم من خلافها، والأفعال مستندة إليهم بالحقيقة، ومع ذلك لا يكونون مستقلين في الوجود والفاعلية، بل متقومون به تعالى، وليس هذا إلا لكونهم في طول وجود الرب المتعال، ومنه ينقدح فساد ما استدلوا به على مختارهم، من أن التأثير مستند إلى قدرة الله تعالى دون العباد، وإلا لزم اجتماع قادرين على مقدور واحد، والتالي باطل، فالمقدم مثله بيان الشرطية أنه تعالى قادر على كل مقدور، فلو كان العبد قادرا على شئ، لاجتمعت قدرته وقدرة الله تعالى عليه، وأما بطلان التالي، فلأنه لو أراد الله ايجاده وأراد العبد اعدامه، فإن وقع المرادان أو عدما لزم اجتماع النقيضين، وإن وقع مراد أحدهما دون الآخر لزم الترجيح من غير مرجح (4).
وذلك لما عرفت من أن قدرة العبد في طول قدرة الرب وبإذنه وارادته، ومن المعلوم أن ما يكون كالظل للشئ وطورا له، لا يمكن أن يعارض ذا الظل، وعليه فلو أراد الله تعالى فعلا تكوينا لوقع بإرادته ولو لم يرده العبد، لقوة قدرته وارادته دون العكس، ولعل إليه يؤول ما أشار إليه المحقق الطوسي - قدس سره - في متن تجريد الاعتقاد حيث قال: " ومع الاجتماع يقع مراده تعالى ".
قلت: إنه تعالى في مثل ما ذكر لا يريد تكوينا إلا ما اختاره العباد ولو بالإرادة التبعية، فما وقع عن العباد لا يخرج عن ارادته وإن منعهم وزجرهم عنه تشريعا، لأنه أراد أن يفعل الإنسان ما يشاء بقدرته واختياره، حتى يتمكن من النيل إلى الكمال الاختياري، فمقتضى كونه مختارا في أفعاله هو أن يتمكن من السعادة والشقاوة كليهما، فلا معنى لأن يكون مختارا ومع ذلك لا يكون متمكنا من الشقاوة فاللازم هو التمكن بالنسبة إلى كل واحد من السعادة والشقاوة، وهذا التمكن أعطي للإنسان من ناحية الله تعالى مع منعه إياهم عن سلوك مسلك الشقاوة ففي نظائر ما ذكر لا يغلب إرادة الكفار والعصاة على ارادته تعالى، بل هو المريد لفعل العبد عن اختياره وارادته لا جبرا وبدون الاختيار، ولعل إليه يرجع قوله عز وجل: " وما تشاؤون إلا أن يشاء الله " (5).
إذ الآية المباركة في عين كونها في مقام إثبات المشيئة له تعالى، أثبت المشيئة للإنسان أيضا، وليس هذا إلا الطولية المذكورة، ويؤيدها ما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وآله - " إن الله يقول: يا بن آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء، وبارادتي كنت أنت الذي تريد لنفسك ما تريد " (6).
فالقول بمعارضة إرادة العباد مع إرادة الله تعالى، لا يوافق الطولية، بل مناسب مع الإرادة الاستقلالية، وهي ممنوعة عندنا.
ورابعا: أن دعوى الجبر وعدم الاختيار لا يساعدها الوجدان، ضرورة أنا ندرك بالعلم الحضوري قدرتنا على ايجاد الأفعال مع التمكن من الخلاف، نحن نقدر على التكلم مثلا ونتمكن من تركه، وهكذا، والوجدان أدل دليل على وجود الاختيار فينا، إذ لا خطأ في العلم الحضوري.
لا يقال: إن الإرادة ليست باختيارية، لانبعاثها عن الأميال الباطنية التي ليست تحت اختيارنا، بل تكون متأثرة عن العوامل الطبيعية الخارجية، فلا مجال لاختيارية الافعال، لأنا نقول:
إن هذه الأميال معدة لا علة، فالإرادة مستندة إلى الاختيار، ويشهد لذلك إمكان المخالفة للأميال المذكورة، كترك الأكل والشرب، لغرض إلهي في شهر رمضان، مع أن الأميال موجودة، وليس ذلك إلا لوجود الاختيار، هذا مضافا إلى أن حصول الترديد والشك عند بعض الأميال، بالنسبة إلى الفعل أو الترك في بعض الأوقات، بحيث يحتاج الترجيح إلى التأمل والاختيار، شاهد آخر على أن الأميال ليست سالبة للاختيار.
ومما ذكر يظهر ما في توهم أن المؤثر التام في الإرادة هو الوراثة، أو عوامل المحيط الاجتماعي، ولا مجال للاختيار، وذلك لما عرفت من أن تلك الأمور لا تزيد على الاعداد، ولا توجب أن تترتب عليها الإرادة، ترتب المعلول على العلة، بل غايتها هو الاقتصاء، بل الإرادة تحتاج إلى ملاحظة الإنسان، الشئ الذي تقتضيه العوامل المحيطية، أو الوراثة، وفائدتها وضررها، ثم تزاحمهما مع سائر الأميال والموجبات، ثم الترجيح بينها، فالإرادة مترتبة على اختيار الانسان(7).
فالمؤثر في الأفعال إرادتنا باختيارنا، فمن أنكر الإرادة والاختيار، أنكر ما يقتضيه الوجدان، قال أبو الهذيل: " حمار بشر أعقل من بشر " (8) ولعله لأن الحمار عند رؤية الحفرة لا يدخل فيها، بل يمشي مع الاختيار، فكيف يكون الإنسان في أفعاله بلا اختيار؟
وقد يتخيل الجبر بتوهم أن الجبر مقتضي علمه تعالى بالأمور من الأزل، وغاية تقريبه أن الله تعالى علم بكل شئ من الأزل، فحيث لا تبديل ولا تغيير في علمه الذاتي، فما تعلق العلم به في الأزل يقع في الخارج، طبقا لما علمه من دون اختيار، وإلا فلا يكون علمه علما، فمن كان في علمه تعالى عاصيا لا يمكن أن يصير مطيعا.
ولكن الجواب عنه واضح، حيث أن العلم الذاتي لا يسلب الاختيار عن المختار، فمن كان في علمه عاصيا بالاختيار يصير كذلك بالاختيار، وإلا لزم أن يكون علمه جهلا وهو محال.
ثم إنه يظهر من بعض كلمات المتكلمين من الأشاعرة، أن مجرد مقارنة الإرادة في أفعالنا مع الفعل الصادر عن الله تعالى، يكفي في تسمية الفعل بالمكسوب، مع أنه كما ترى، إذ لا أثر للإرادة على المفروض في الفعل، ولذا قال في قواعد المرام: " فأما حديث الكسب فهو اسم بلا مسمى " (9).
كما حكي عن مولانا أمير المؤمنين - عليه السلام - أنه قال في الجواب عن السؤال عن الجبر: " لو كان كذلك، لبطل الثواب والعقاب، والأمر والنهي والزجر، ولسقط معنى الوعد والوعيد، ولم تكن على مسئ لائمة، ولا لمحسن محمدة، الحديث " (10).
وقد روي عن أبي الحسن موسى بن جعفر - عليهما السلام - " أنه سأل عنه أبو حنيفة عن أفعال العباد ممن هي؟ فقال: إن أفعال العباد لا تخلو من ثلاثة منازل، إما أن تكون من الله تعالى خاصة، أو منه ومن العبد على وجه الاشتراك فيها، أو من البعد خاصة، فلو كانت من الله تعالى خاصة، لكان أولى بالحمد على حسنها، والذم على قبحها، ولم يتعلق بغيره حمد ولا لوم فيها، ولو كانت من الله ومن العبد لكان الحمد لهما معا فيها، والذم عليهما جميعا فيها - لأن المفروض أنهما مستقلان فيها - وإذا بطل هذان الوجهان، ثبت أنها من الخلق، فإن عاقبهم الله تعالى على جنايتهم بها فله ذلك، وإن عفا عنهم فهو أهل التقوى وأهل المغفرة " (11).
وظاهره أن مباشرة الأفعال من الإنسان وهو لا يمكن إلا بالاختيار، وهو المصحح للعقاب والعفو كما لا يخفى.
ثم إن إثبات كون الأفعال صادرة من الخلق لا ينافي استنادها إليه تعالى بالطولية وبواسطتهم، كما سيأتي تصريح الأدلة به، وإنما المنافي هو استنادها إليه تعالى في عرض صدورها من الخلق فلا تغفل.
هذا كله مضافا إلى أن الفكر الجبري يؤدي إلى رفض المسؤولية كلها، لأنه لا يرى لنفسه تأثيرا في شئ من الأشياء فلذا ينظلم، ولا يسعى في التخلق بالأخلاق الحسنة، وإصلاح الاجتماع، ودفع الظلم والجور، ولعله لذلك كان ترويج عقيدة الجبر من أهداف الحكومات الظالمة، لأن الناس إذا كان ذلك اعتقادهم خضعوا لسلطة الظلمة ولم يروهم مقصرين فيما يفعلون.
وقد اشتهرت هذه الجملة في الألسنة من أن الجبر والتشبيه أمويان والعدل والتوحيد علويان.
هذا بخلاف الإنسان المعتقد بالاختيار، فإنه يرى نفسه مسؤولا في الأمور، ولذلك الاعتقاد يسعى ويجاهد مع كل ظالم ويصل إلى ما يصل من الحرية والعزة والمجد والسعادة (12).
وقد قال الله تبارك وتعالى: " وأن ليس للإنسان إلا ما سعى * وأن سعيه سوف يرى * ثم يجزيه الجزاء الأوفى (13).
هذا تمام الكلام في الجبر.
وفيه أولا: أن لازم ما ذكر أن الانسان لا يحتاج في مقام الفاعلية إليه تعالى، بل هو مستقل في ذلك، وهو ينافي التوحيد الأفعالي وانحصار المؤثرية الاستقلالية فيه تعالى.
وثانيا: أن الفعل والفاعل وكل شأن من شؤونه من الممكنات، والممكن ما لم يجب لم يوجد، فإن استند الفعل إلى الواجب المتعال ولو بوساطة المختارين في الأفعال، صار واجبا بالغير ووجد، وإلا فلا يمكن وجوده وإن استند إلى جميع الممكنات. فكما أن الفاعل يستند إلى مسبب الأسباب بالآخرة كذلك فعله مع الاختيار، فلا وجه للتفكيك بينهما مع أنهما كليهما من الممكنات.
وثالثا: أن قبح استناد القبايح إليه تعالى، فيما إذا لم يكن واسطة في البين، وأما مع وساطة المختارين والقادرين، فلا مانع منه ولا قبح فيه، لأن معناه حينئذ هو أن الله تعالى خلق العباد قادرين ومختارين لأن يختاروا ما يشاؤون ويصلوا إلى الكمال الاختياري، والخلق المذكور عين لطف وحكمة، لأن التكامل الاختياري الذي هو من أفضل أنواع الكمالات، لا يحصل بدون اختيار العباد فيما يشاؤون. فما هو القبيح من الاستناد بدون وساطة المختارين لا وقوع له، وما وقع لا قبح فيه، وعليه يحمل ما ورد عن أبي الحسن الثالث - عليه السلام - من أنه سئل عن أفعال العباد أهي مخلوقة لله تعالى، فقال: " لو كان خالقا لها - أي بدون وساطة المختارين والقادرين - لما تبرأ منها، وقد قال سبحانه: " إن الله برئ من المشركين " ولم يرد البراءة من خلق ذواتهم وإنما تبرأ من شركهم وقبائحهم " (17).
ورابعا: أن المدح والذم يصحان فيما إذا كان الفعل صادرا بالقدرة والاختيار، للتمكن من الخلاف، ولا يشترط فيهما الاستقلال، إذ ملاك المدح والذم هو القدرة والاختيار في الفعل والترك، وهو موجود في أفعالنا، ولذا يكتفى في المحاكم القضائية عند العقلاء بذلك للمجازاة والمثوبات.
وخامسا: أن التفويض لا تساعده الآيات الدالة على أنه ما من شئ إلا ويكون بإرادته وإذنه وقدرته، كقوله تعالى: " وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين " (18)، وقوله عز وجل: " والله خلقكم وما تعملون " (19)، وقوله تعالى: " وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله " (20).
وهذه الآيات ونحوها صريحة في أن التفويض لا واقع له، بل كل الافعال سواء كانت قلبية أو خارجية، غير خارجة عن دائرة قدرته ومشيئته وارادته وإذنه، ومقتضى الجمع بين هذه الآيات وما تمسك به المفوضة من الآيات، هو أن المراد من استناد الأفعال إلى العباد ليس هو التفويض، بل يكفي في الاستناد كون مباشرة الأفعال باختيارهم وقدرتهم وتمكنهم من الخلاف، وإن كان قدرتهم تحت قدرته وإذنه ومشيئته تعالى، فالمباشرة منهم بالاختيار لا يستلزم التفويض فلا تغفل، هذا.
مضافا إلى نفي التفويض في الأخبار الكثيرة.
منها: ما روي عن الصادق - عليه السلام - قال: " الناس في القدر على ثلاثة أوجه: رجل زعم أن الله عز وجل أجبر الناس على المعاصي، فهذا قد ظلم الله عز وجل في حكمه وهو كافر، ورجل يزعم أن الأمر مفوض إليهم، فهذا وهن الله في سلطانه فهو كافر، ورجل يقول إن الله عز وجل كلف العباد ما يطيقون، ولم يكلفهم ما لا يطيقون، فإذا أحسن حمد الله وإذا أساء استغفر الله فهذا مسلم بالغ " (21).
ومنها: ما روي عن الوشاء عن أبي الحسن الرضا - عليه السلام - قال:
" سألته فقلت: الله فوض الأمر إلى العباد؟ قال: الله أعز من ذلك، قلت:
فأجبرهم على المعاصي؟ فقال: الله أعدل وأحكم من ذلك " (22).
لا يقال: إن القبائح لو كانت مستندة إليه تعالى لما حكم سبحانه بحسن جميع ما خلق، مع أنه قال عز وجل: " الذي أحسن كل شئ خلقه " (23)، لأنا نقول: نعم، هذا لو كان الاستناد من دون وساطة الاختيار للعباد وأما مع الوساطة المذكورة فلا قبح فيه، بل هو حسن، لأن مرجعه إلى خلقة العباد مختارين وقادرين وغير مجبورين في الأفعال، بحيث يتمكنون من الإطاعة والعصيان، حتى يمكن لهم أن يصلوا إلى اختيار الكمال مع وجود المزاحمات، وهو أفضل أنواع الكمالات، فخلقة الاختيار في الإنسان - ولو اختار بعض الناس الكفر والعصيان بسوء اختيارهم - خلقة حسنة، بملاحظة أن الكمال الاختياري، المتقوم بالمزاحمات الداخلية والخارجية لا يمكن وجوده إلا بخلقة الاختيار في العباد، والمفروض أن الكمال المذكور من أحسن الأمور في النظام، فمراعاته حسنة والاخلال به لا يساعده الحكمة واللطف كما لا يخفى.
ثم إن الظاهر من عبارة الشيخ المفيد - قدس سره - أن التفويض هو القول برفع الحظر عن الخلق في الأفعال، والإباحة لهم ما شاؤوا من الأعمال ونسبه إلى بعض الزنادقة وأصحاب الإباحات (24).
وأنت خبير بأن المعروف من التفويض، هو ما نسب إلى أكثر المعتزلة، وهو المبحوث عنه في المقام، لأنه ينافي التوحيد الأفعالي، وأما ما نسبه إلى بعض الزنادقة، فهو لا يناسب المقام، بل ينافي لزوم التكليف وعدم جواز إهمال الناس، وقد مر في البحث عن التكليف أنا نعتقد أنه تعالى لا بد أن يكلف عباده ويسن لهم الشرايع وما فيه صلاحهم وخيرهم فراجع.
ثم ينقدح مما ذكرنا في نفي الجبر والتفويض، واستناد الأفعال إليه تعالى بوساطة المباشرين، ما في عبارة شيخنا الصدوق - رحمه الله - حيث قال على المحكي: " أفعال العباد مخلوقة خلق تقدير لا خلق تكوين، ومعنى ذلك أنه لم يزل عالما بمقاديرها. انتهى " (25).
وذلك لأن لازم كلامه أن الأفعال بحسب التكوين مفوضة إلى العباد، وليس هذا إلا قول المفوضة. هذا مضافا إلى ما أورد عليه الشيخ المفيد - قدس سرهما - من أنه ليس يعرف في لغة العرب أن العلم بالشئ هو خلق له، فخلق تقدير لا معنى له (26).
ثم لا يخفى عليك ما في يتراءى من التجريد وشرحه، حيث قال في التجريد: " والقضاء والقدر إن أريد بهما خلق الفعل، لزم المحال "، وقال العلامة - قدس سره - في شرحه: " فنقول للأشعري: ما تعني بقولك أنه تعالى قضى أعمال العباد وقدرها؟ إن أردت به الخلق والايجاد فقد بينا بطلانه، وأن الافعال مستندة إلينا " (27).
لما عرفت من أن انتهاء خلق الأفعال إليه تعالى بواسطة خلق القدرة واختيار العباد لا مانع منه، بل هو مقتضى التوحيد الأفعالي، ويمكن ارادتهما نفي الخلق بدون وساطة القدرة والاختيار، كما يقتضيه خطاب الشارح للأشعري، وبالجملة:
إن النظام السببي والمسببي في العالم مستند إليه تعالى، ومن جملته الأفعال المسببة عن العباد باختيارهم، فكما لا معنى للتفويض في سائر الأسباب لحاجتها إليه تعالى في الوجود والبقاء والتأثير، كذلك لا معنى له في سببية الإنسان للأعمال مع كونه ممكنا من الممكنات. هذا تمام الكلام في التفويض.
(ج) قال الأستاذ الشهيد المطهري - قدس سره - ما حاصله: " إن هذا النظر - أي الأمر بين الأمرين - ابتدأ به من ناحية أئمة الدين - عليهم السلام - ثم بعد مضي مدة من الزمن نظر حوله وتأمل فيه الحكماء الإلهيون حق التأمل، فرأوه مطابقا للموازين الدقيقة العقلية المنطقية " (28).
وقال في موضع آخر ما حاصله: " إن الذي يوجب كثرة الاعجاب للمحقق العارف بمسائل التوحيد، هو المنطق الخاص الذي يسلكه القرآن والسنة المروية عن رسول الله والأئمة الأطهار - صلوات الله عليهم - حول مسائل التوحيد، إذ هذا المنطق الخاص لم يطابق المنطق الرائج في ذلك العصر، بل لم يطابق مع منطق القرون والعصور العديدة التي كانت بعد ذلك العصر، وصار علم الكلام والمنطق والفلسفة رائجا فيها، لأن هذا المنطق الخاص كان فوق مستوى المسائل الكلامية والعقلية الرائجة فيها.
ومن جملة هذه المسائل مسألة القضاء والقدر والجبر والاختيار، وهذا يدل على أن القرآن الكريم كتاب وحي نزل من الله تعالى على رسوله، وأن من خوطب به أدرك كمال الادراك ما خوطب به، وشهده في مستوى آخر، ويدل عليه أن أهل البيت - عليهم السلام - كانوا يعرفون القرآن بنحو آخر غير ما جرت به العادة، ولذا بينوا الحقايق بأتقن بيان وأحسن أسلوب وأرشدوا الناس إلى الحقائق الإلهية عند تحير الآخرين " (29).
منها: ما رواه الصدوق - عليه الرحمة - عن أبي الحسن الرضا - عليه السلام - أنه ذكر عنده الجبر والتفويض، فقال: " ألا أعطيكم في هذا أصلا لا تختلفون فيه ولا يخاصمكم عليه أحد إلا كسرتموه؟ قلنا: إن رأيت ذلك، فقال: إن الله عز وجل لم يطع باكراه، ولم يعص بغلبة، ولم يهمل العباد في ملكه.
هو المالك لما ملكهم والقادر على ما أقدرهم عليه، فإن ائتمر العباد بطاعته لم يكن الله عنها صادا ولا منها مانعا وإن ائتمروا بمعصيته فشاء أن يحول بينهم وبين ذلك فعل، وإن لم يحل وفعلوه فليس هو الذي أدخلهم فيه، ثم قال - عليه السلام -: من يضبط حدود هذا الكلام فقد خصم من خالفه " (31).
ولا يخفى عليك أن قوله: " هو المالك لما ملكهم، والقادر على ما أقدرهم عليه " يدل على أن قدرة المخلوقين وتمكنهم من الفعل أو الترك تحت قدرته وملكه تعالى، وليس ذلك إلا الملكية الطولية، إذ مع إسناد الملك والقدرة إليهم أسندهما إلى نفسه أيضا، كما إن قوله - عليه السلام - في الذيل: " فليس هو الذي أدخلهم فيه " يدل على أن الفعل واقع بمباشرتهم واختيارهم فالمحصل أن الأفعال مع كونها صادرة عن العباد بالاختيار، تكون تحت قدرة الخالق وملكيته تعالى.
ومنها: ما رواه الطبرسي - عليه الرحمة - عن أبي حمزة الثمالي - أنه قال: قال أبو جعفر - عليه السلام - للحسن البصري: " إياك أن تقول بالتفويض، فإن الله عز وجل لم يفوض الأمر إلى خلقه وهنا منه وضعفا ولا أجبرهم على معاصيه ظلما. الحديث " (32).
ومنها ما رواه الطبرسي - عليه الرحمة - أيضا عن هشام بن الحكم، قال:
" سأل الزنديق أبا عبد الله - عليه السلام - فقال: أخبرني عن الله عز وجل كيف لم يخلق الخلق كلهم مطيعين موحدين وكان على ذلك قادرا؟
قال - عليه السلام -: لو خلقهم مطيعين لم يكن لهم ثواب، لأن الطاعة إذا ما كانت فعلهم لم تكن جنة ولا نار، ولكن خلق خلقه فأمرهم بطاعته ونهاهم عن معصيته واحتج عليهم برسله وقطع عذرهم بكتبه، ليكونوا هم الذين يطيعون ويعصون ويستوجبون بطاعتهم له الثواب وبمعصيتهم إياه العقاب، قال:
فالعمل الصالح من العبد هو فعله والعمل الشر من العبد هو فعله؟ قال: العمل الصالح، العبد يفعله والله به أمره، والعمل الشر العبد يفعله والله عنه نهاه.
قال: أليس فعله بالآلة التي ركبها فيه؟ قال: نعم، ولكن بالآلة التي عمل بها الخير قدر بها على الشر الذي نهاه عنه.
قال: فإلى العبد من الأمر شئ؟ قال: ما نهاه الله عن شئ إلا وقد علم أنه يطيق تركه، ولا أمره بشئ إلا وقد علم أنه يستطيع فعله، لأنه ليس من صفته الجور والعبث والظلم وتكليف العباد ما لا يطيقون. الحديث " (33).
ومنها: ما رواه في البحار عن أمير المؤمنين - عليه السلام - حين سأله عباية الأسدي عن الاستطاعة أنه قال - عليه السلام - في جوابه: " تملكها من دون الله أو مع الله؟ فسكت الأسدي، فقال له: قل يا عباية، قال: وما أقول؟ قال: إن قلت تملكها مع الله قتلتك، وإن قلت تملكها من دون الله قتلتك، قال: وما أقول يا أمير المؤمنين؟ قال: تقول: تملكها بالله الذي يملكها من دونك، فإن ملككها كان ذلك من عطائه، وإن سلبكها كان ذلك من بلائه، وهو المالك لما ملكك، والمالك لما عليه أقدرك، أما سمعت الناس يسألون الحول والقوة حيث يقولون: لا حول ولا قوة إلا بالله؟ فقال الرجل: وما تأويلها يا أمير المؤمنين؟ قال: لا حول لنا عن معاصي الله إلا بعصمة الله، ولا قوة لنا على طاعة الله إلا بعون الله، قال: فوثب الرجل وقبل يديه ورجليه " (34).
ومنها: ما رواه في الإحتجاج عن موسى بن جعفر - عليهما السلام - قال:
إن الله خلق الخلق فعلم ما هم إليه صائرون، فأمرهم ونهاهم فما أمرهم به من شئ فقد جعل لهم السبيل إلى الأخذ به وما نهاهم عنه من شئ، فقد جعل لهم السبيل إلى تركه، ولا يكونون آخذين ولا تاركين إلا بإذنه، وما جبر الله أحدا من خلقه على معصيته، بل اختبرهم بالبلوى، كما قال تعالى: " ليبلوكم أيكم أحسن عملا " (35).
ومنها: ما رواه في الخصال وغيره عن الحسين بن علي - عليهما السلام - قال:
" سمعت أبي علي بن أبي طالب - عليه السلام - يقول: الأعمال على ثلاثة أحوال: فرائض وفضائل ومعاصي، فأما الفرائض فبأمر الله تعالى وبرضى الله وبقضائه وتقديره ومشيته وعلمه، وأما الفضائل فليست بأمر الله - أي الأمر الوجوبي - ولكن يرضى الله وبقضاء الله وبقدر الله وبمشية الله وبعلم الله، وأما المعاصي فليست بأمر الله ولكن بقضاء الله وبقدر الله وبمشية الله وبعلمه ثم يعاقب عليها " (36) ودلالته على أن كل شئ حتى المعاصي تحت قضائه وقدره ومشيته واضحة.
ومنها: ما رواه في الكافي عن حمزة بن حمران قال: " سألت أبا عبد الله - عليه السلام - عن الاستطاعة، فلم يجبني، فدخلت عليه دخلة أخرى فقلت:
أصلحك الله، إنه قد وقع في قلبي منها شئ لا يخرجه إلا شئ أسمعه منك، قال: فإنه لا يضرك ما كان في قلبك، قلت: أصلحك الله، إني أقول: إن الله تبارك وتعالى لم يكلف العباد ما لا يستطيعون ولم يكلفهم الا ما يطيقون، وانهم لا يصنعون شيئا من ذلك إلا بإرادة الله ومشيته وقضائه وقدره، قال: فقال هذا دين الله الذي أنا عليه وآبائي. الحديث " (37) حمله الصدوق - رحمه الله - على أن مشية الله وارادته في الطاعات، الأمر بها، وفي المعاصي النهي عنها والمنع منها بالزجر والتحذير، ولكنه بلا موجب فافهم.
ومنها: ما رواه في التوحيد عن أمير المؤمنين - عليه السلام - أنه مر بجماعة بالكوفة وهم يختصمون بالقدر - في القدر - فقال لمتكلمهم: " أبا الله تستطيع، أم مع الله، أم من دون الله تستطيع؟ فلم يدر ما يرد عليه، فقال أمير المؤمنين - عليه السلام -: إن زعمت أنك بالله تستطيع فليس إليك من الأمر شئ، وإن زعمت أنك مع الله تستطيع، فقد زعمت أنك شريك معه في ملكه، وإن زعمت أنك من دون الله تستطيع، فقد ادعيت الربوبية من دون الله تعالى.
فقال: يا أمير المؤمنين، لا، بل بالله أستطيع، فقال: أما انك لو قلت غير هذا لضربت عنقك " (38) ولا يخفى عليك أن قوله: " إن زعمت أنك بالله تستطيع، الخ " بيان صورة الجبر جمعا بينه وبين قوله في الذيل، كما يشهد له قوله بعده:
" فليس إليك من الأمر شئ " فإنه لا يساعد إلا مع الجبر.
ومنها: ما رواه في الخصال عن أبي الحسن الأول - عليه السلام - قال: " لا يكون شئ في السماوات والأرض الا بسبعة بقضاء وقدر وإرادة ومشية وكتاب وأجل واذن، فمن قال غير هذا فقد كذب على الله أو رد على الله عز وجل " (39).
ومنها: ما رواه في التوحيد " جاء رجل إلى أمير المؤمنين - عليه السلام - فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرني عن القدر، فقال: بحر عميق فلا تلجه، فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرني عن القدر، قال: طريق مظلم فلا تسلكه، قال: يا أمير المؤمنين، أخبرني عن القدر، قال: سر الله فلا تتكلفه، قال: يا أمير المؤمنين، أخبرني عن القدر، قال: فقال أمير المؤمنين - عليه السلام -: أما إذا أبيت فاني سائلك، أخبرني أكانت رحمة الله للعباد قبل أعمال العباد أم كانت أعمال العباد قبل رحمة الله؟ قال: فقال له الرجل: بل كانت رحمة الله للعباد قبل أعمال العباد. فقال أمير المؤمنين - عليه السلام -: قوموا فسلموا على أخيكم، فقد أسلم وقد كان كافرا. قال: وانطلق الرجل غير بعيد، ثم انصرف إليه، فقال له: يا أمير المؤمنين، أبا لمشية الأولى نقوم ونقعد ونقبض ونبسط؟ فقال له أمير المؤمنين - عليه السلام -: وإنك لبعيد في المشية، أما إني سائلك عن ثلاث لا يجعل الله لك في شئ منها مخرجا.
أخبرني أخلق الله العبا كما شاء أو كما شاؤوا؟ فقال: كما شاء، قال:
فخلق الله العباد لما شاء أو لما شاؤوا؟ فقال: لما شاء، قال: يأتونه يوم القيامة كما شاء أو كما شاؤوا؟ قال: يأتونه كما شاء، قال: قم فليس إليك من المشية شئ " (40).
قال العلامة الطباطبائي - قدس سره - في ضمن ما قاله في توضيح الرواية:
" والأشياء إنما ترتبط به تعالى من جهة صفاته الفعلية التي بها ينعم عليها ويقيم صلبها ويدبر أمرها كالرحمة والرزق والهداية والإحياء والحفظ والخلق وغيرها وما يقابلها، فلله سبحانه من جهة صفات فعله دخل في كل شئ مخلوق وما يتعلق به من أثر وفعل، إذ لا معنى لإثبات صفة فيه تعالى متعلقة بالأشياء وهي لا تتعلق بها.
ولذلك فإنه - عليه السلام - سأل الرجل عن تقدم صفة الرحمة على الاعمال، ولا معنى لتقدمها مع عدم ارتباطها بها وتأثيرها فيها، فقد نظم الله الوجود بحيث تجري فيه الرحمة والهداية والمثوبة والمغفرة وكذا ما يقابلها، ولا يوجب ذلك بطلان الاختيار في الأفعال، فإن تحقق الاختيار نفسه مقدمة من مقدمات تحقق الأمر المقدر، إذ لولا الاختيار لم يتحقق طاعة ولا معصية، فلم يتحقق ثواب ولا عقاب ولا أمر ولا نهي، ولا بعث ولا تبليغ، ومن هنا يظهر وجه تمسك الإمام - عليه السلام - بسبق صفة الرحمة على العمل، ثم بيانه - عليه السلام - أن لله مشية في كل شئ وأنها لا تغلو ولا تغلبه مشية العبد، فالفعل لا يخطئ مشيته تعالى، ولا يوجب ذلك بطلان تأثير مشية العبد، فإن مشية العبد إحدى مقدمات تحقق ما تعلقت به مشيته تعالى، فإن شاء الفعل الذي يوجد بمشية العبد فلا بد لمشية العبد من التحقق والتأثير، فافهم ذلك.
وهذه الرواية الشريفة على ارتفاع مكانتها ولطف مضمونها يتضح بها جميع ما ورد في الباب من مختلف الروايات وكذا الآيات المختلفة من غير حاجة إلى أخذ بعض وتأويل بعض آخر"(41).
ومنها: ما رواه في المحاسن عن حمران، عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال:
كنت أنا والطيار جالسين فجاء أبو بصير فأفرجنا له، فجلس بيني وبين الطيار، فقال: في أي شئ أنتم؟ فقلنا: كنا في الإرادة والمشية والمحبة. فقال أبو بصير: قلت لأبي عبد الله - عليه السلام -: شاء لهم الكفر وأراده؟ فقال: نعم، قلت: فأحب ذلك ورضيه؟ فقال: لا، قلت: شاء وأراد ما لم يحب ولم يرض؟
قال: هكذا خرج إلينا (اخرج إلينا، في المصدر) (42).
وتقريب الرواية بأن يقال: إن ارادته تعالى أصالة تعلقت نحو إمكان التكامل الاختياري للإنسان، وكل ما يلزم في هذا الطريق أعده تعالى من المعد الخارجي والداخلي، فلذا أرسل رسله بالهدى لإرشادهم وجهز الناس بالعقل والاختيار، فالله تعالى خلق الناس على نحو يمكن لهم أن يصلحوا ويتكاملوا، وأراده ورضي به، ولكن مقتضى جعل المشية والاختيار في الناس لأن يتمكنوا من التكامل الاختياري، هو إمكان جهة المخالف أيضا، فالتنزل والسقوط والعصيان والكفر ناش من سوء اختيارهم ولازم كونهم مختارين، وإلا فلا يحصل التكامل الاختياري، فالكفر أو العصيان الناشئ من سوء اختيارهم أيضا مراد تبعا لله تعالى، لأنه تعالى جعلهم مختارين، وإن لم يرض به لهم، بل المرضي هو أن يستفيدوا من الاختيار ويسلكوا مسلك الكمال والصلاح، فلا يخرج شئ في التكوين، عن ارادته ومشيته، غايته أن بعض الأمور مراد أصالة وبعضها مراد تبعا، وهذا التفصيل المستفاد من الرواية يصلح للجواب عن قبح استناد القبائح كالكفر والعصيان أو الشرور إليه ولو بواسطة الإنسان المختار فافهم واغتنم.
ويقرب منه ما رواه في الكافي عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله -: " من زعم أن الله يأمر بالسوء والفحشاء فقد كذب على الله، ومن زعم أن الخير والشر بغير مشيئة الله، فقد أخرج الله من سلطانه، ومن زعم أن المعاصي بغير قوة الله، فقد كذب على الله، ومن كذب على الله أدخله الله النار " (43).
وبالجملة هذه عمدة الأخبار الواردة في حقيقة الأمر بين الأمرين، ومعناها بعد حمل بعضها على بعض واضح، وكلها متفقة على أنه لا جبر بحيث لا يكون للعباد قدرة واختيار وعلى أنه تفويض بحيث خرج عمل العاملين عن سلطانه، بل خلق الناس مع القدرة والاختيار، فالخلق يستطيعون من الطاعات والمعاصي بالقدرة والاختيار المفاضة من ناحيته تعالى لأن يستفيدوا منها للاستكمال الاختياري، وهو الذي ذهب إليه المصنف كما سيأتي توضيحه إن شاء الله تعالى، فلا يكون شئ في عالم التكوين خارجا عن إرادته تعالى، وإنما الفرق في الإرادة الأصلية والتعبية، فإن ما يكون في صراط الكمال مراد أصالة، وما لا يكون كذلك، ولكن كان من لوازم الاختيار والتكامل الاختياري مراد تبعا، فالمشية الاستقلالية منحصرة فيه تعالى وجميع الإرادات والمشيات منتهية إلى مشيئته وكانت في طول مشيئته.
ومما ذكر يظهر أنه لا معارضة بين الأخبار، كما لا معارضة بين الآيات بعد الوقوف على حقيقة المراد كما لا يخفى.
(هـ) ولا يخفى عليك أن المحصل من الأدلة النقلية والعقلية، هو نفي الجبر، لوجدان القدرة والاختيار، والوجدان أدل دليل، لأنه علم حضوري بالشئ، ولا خطأ في العلم الحضوري.
كما أن المحصل من الأدلة هو نفي التفويض، لأن الممكن كما لا يقتضي الوجود في حدوثه وبقائه، كذلك لا يقتضي الوجود في فاعليته، وإلا لزم الانقلاب في ذات الممكن، وهو خلف، فلا يتصور الاستقلال في الممكن، لا في أصل وجوده ولا في صفاته ولا في بقائه ولا في فاعليته.
فملكيته تعالى لا تقايس بالملكية الاعتبارية حتى يتصور تفويضها إلى الغير، بل هي ملكية تكوينية وهي لا تنفك عن مالكها وإلا فلا وجود لها.
ألا ترى أنك بالنسبة إلى ما تصورت في ذهنك من الصور الذهنية، مفيض الوجود إليها بالإفاضة التكوينية، وهذه الإفاضة لا يمكن تفويضها إلى الصور المذكورة، بل هي موجودة بتصورك، فما دام تكون أنت مصورا لها فلها الوجود، وإذا أعرضت عنها فلا وجود لها، فلا استقلال لها في الوجود، فالملكية التكوينية لا تجتمع مع التفويض، وعليه فلا يكون شئ من الموجودات، خارجا عن ملكه وسلطانه، بل كل شئ موجود بوجوده وقدرته وسلطانه.
فالأعمال الاختيارية كسائر الموجودات، داخلة في قضائه وقدره، ولا تخرج عنهما، وإنما الفرق بينهما هو وساطة الاختيار في الأعمال دون غيرها.
فالأعمال ليست مستندة إليه تعالى فقط، بحيث لا مباشرة للإنسان ولا تأثير له، كما يقوله الجبري، كما ليست مستندة إلى الإنسان فقط، بحيث يخرج عن سلطانه وقدرته، كما يقوله التفويضي، بل الأفعال في عين كونها مستندة إلى الإنسان بالحقيقة، لصدورها عنه بالاختيار، مستندة إليه تعالى، لأنه معطي الوجود والقدرة، فالاستناد إليه تعالى طولي وملكيته ملكية طولية، كما أشير إليه في الروايات من أنه " هو المالك لما ملكهم، والقادر على ما أقدرهم عليه " (44) وهذا هو معنى الأمر بين الأمرين، وذهب إليه المحققون من علماء الإمامية على ما نسب إليهم المحقق اللاهيجي - قدس سره - (45) واختاره المحقق الطوسي في شرح رسالة العلم على المحكي (46) وقال المحقق الإصفهاني - قدس سره - بعد الرد على الجبرية والمفوضة: " والتنزيه الوجيه ما تضمنته هذه الكلمة الإلهية المأثورة في الأخبار المتكاثرة عن العترة الطاهرة - عليهم صلوات الله المتواترة - أعني قولهم عليهم السلام: " لا جبر ولا تفويض، بل أمر بين الأمرين " ثم قال:
وتقريب هذا الكلمة المباركة بوجهين: أحدهما: أن العلة الفاعلية ذات المباشر بإرادته، وهي العلة القريبة، ووجوده وقدرته وعلمه وإرادته لها دخل في فاعلية الفاعل، ومعطي هذه الأمور هو الواجب المتعال، فهو الفاعل البعيد، فمن قصر النظر على الأول حكم بالتفويض، ومن قصر النظر على الثاني حكم بالجبر، والناقد البصير ينبغي أن يكون ذا عينين، فيرى الأول - أي فاعلية ذات المباشر - فلا يحكم بالجبر ويرى الثاني - أي كون معطي هذه الأمور هو الواجب المتعال - فلا يحكم بالتفويض ، الخ (47).
وكيف كان، فقد اعترف العلامة المجلسي - رحمه الله - بأن المعنى المذكور، أي الملكية الطولية، ظاهر بعض الأخبار، ولكن مع ذلك ذهب إلى أن معنى الأمر بين الأمرين، هو أن لتوفيقاته وهداياته تعالى مدخلية في أفعال العباد، ونسبه إلى ظاهر الأخبار، وأيده بما رواه في الكافي عن أبي عبد الله - عليه السلام - أنه سأله رجل: " أجبر الله العباد على المعاصي؟ قال: لا، فقال: ففوض إليهم الأمر؟ قال: لا، قال فماذا؟ قال: لطف من ربك بين ذلك " (48).
وفيه أولا: منع كون ما ذكر ظاهر الأخبار، فإن الأخبار كما عرفت ظاهرة في أن المراد من الأمر بين الأمرين، هو عدم استقلال العبد فيما ملكه الله تعالى وأقدره عليه، كما نص عليه الإمام علي بن موسى الرضا - عليه السلام - في قوله:
". هو المالك لما ملكهم والقادر على ما أقدرهم عليه " (49) والإمام علي بن أبي طالب - عليه السلام - في جواب الأسدي، حيث قال: " وما أقول يا أمير المؤمنين؟ قال: تقول تملكها بالله الذي يملكها من دونك، فإن ملككها كان ذلك من عطائه، وإن سلبكها كان ذلك من بلائه، وهو المالك لما ملكك والمالك لما عليه أقدرك " (50) وقرر ذلك أيضا الإمام الصادق - عليه السلام - عند قول حمزة بن حمران: " إن الله تبارك وتعالى لم يكلف العباد ما لا يستطيعون، ولم يكلفهم إلا ما لا يطيقون، وإنهم لا يصنعون شيئا من ذلك إلا بإرادة الله ومشيته وقضائه وقدره " بقوله: " هذا دين الله الذي أنا عليه وآبائي " (51) وأيضا صرح الإمام أبو الحسن الأول - عليه السلام - بذلك في قوله : " لا يكون شئ في السماوات والأرض إلا بسبعة: بقضاء، وقدر، وإرادة، ومشية، وكتاب، وأجل، وإذن، فمن قال غير هذا فقد كذب على الله أو رد على الله عز وجل " (52) وكلام مولانا أمير المؤمنين - عليه السلام - هو الملخص في ذلك وهو بأن يقول الإنسان: " بالله أستطيع " (53)، لا مع الله، ولا من دون الله وغير ذلك من الأخبار، وهذه الأخبار الصريحة تصلح للجمع بين الأخبار، لو كانت منافاة بينها، مع أنه لا منافاة بين الأخبار كما لا يخفى.
وثانيا: إن التوفيق والهداية لا نزاع فيهما، وإنما النزاع في استقلال العبد في الأفعال، كما ذهب إليه المفوضة، فاللازم هو الجواب عن محل النزاع، والاكتفاء بالتوفيق والهداية مشعر بالالتزام بما ذهب إليه المفوضة، مع أن الإمام الصادق - عليه السلام - قال: " ورجل يزعم أن الأمر مفوض إليهم فهذا وهن الله في سلطانه فهو كافر " (54).
وثالثا: إن ما استدل به ليس بظاهر في مدعاه، بل لعله اجمال للتفصيل المذكور في سائر الأخبار، ولذلك أورد عليه العلامة الطباطبائي - قدس سره - بأن مرجع الخبر المذكور، مع الخبر الذي اعترف بظهوره في المعنى المختار واحد، وهو الذي يشاهده كل إنسان من نفسه عيانا، وهو أنه مع قطع النظر عن سائر الأسباب من الموجبات والموانع، يملك اختيار الفعل والترك، فله أن يفعل وله أن يترك، وأما كونه مالكا للاختيار فإنما ملكه إياه ره سبحانه، كما في الأخبار، ومن أحسن الأمثلة لذلك مثالى المولى إذا ملك عبده ما يحتاج إليه في حياته، من مال يتصرف فيه، وزوجة يأنس إليها، ودار يسكنها وأثاث ومتاع، فإن قلنا: إن هذا التمليك يبطل ملك المولى كان قولا بالتفويض، وإن قلنا: إن ذلك لا يوجب للعبد ملكا والمولى باق على مالكيته كما كان، كان قولا بالجبر، وإن قلنا إن العبد يملك بذلك، والمولى مالك لجميع ما يملكه في عين ملكه، وأنه من كمال ملك المولى كان قولا بالأمر بين الأمرين (55).
ثم لا يخفى أن صاحب البحار حكى عن بعض، أنه ذهب إلى أن المراد من الأمر بين الأمرين، هو أن الأسباب القريبة للفعل يرجع إلى قدرة العبد، والأسباب البعيدة كالآلات والأسباب والأعضاء والجوارح والقوى إلى قدرة الرب تعالى فقد حصل الفعل بمجموع القدرتين (56).
وفيه أولا: أنه غير واضح المراد، فإن الآلات والأسباب والأعضاء والجوارح والقوى، إذا رجعت إلى قدرة الرب المتعال، فأي شئ يبقى حتى يرجع إلى قدرة العبد، اللهم إلا أن يريد من الأسباب القريبة، إرادة الفاعل. هذا مضافا إلى ما في جعل الأعضاء والجوارح والقوى من الأسباب البعيدة.
وثانيا: أن التفويض بهذا المعنى عين ما ورد النصوص على خلافه، فإن حاصله أن العبد يكون بملاحظة الأسباب القريبة مستقلا، وإذا كان مستقلا يصير شريكا مع الله، مع أنك عرفت قول مولانا أمير المؤمنين - عليه السلام -:
" وإن زعمت أنك مع الله تستطيع، فقد زعمت أنك شريك معه في ملكه ".
وثالثا: أن هذا التفسير يرجع إلى الجمع بين الجبر والتفويض في الأفعال، باختلاف الأسباب في القرب والبعد، مع أن الظاهر من قوله: " ولكن أمر بين الأمرين " أن المراد من الأمر الوسط هو أمر آخر وراءهما لا مجموعهما.
ومما ذكر يظهر الجواب أيضا عن تفسير آخر، وهو أن المراد من قوله: " أمر بين الأمرين " هو كون بعض الأشياء باختيار العباد وهي الأفعال التكليفية، وكون بعضها بغير اختياره كالصحة والمرض والنوم واليقظة والذكر والنسيان وأشباه ذلك (57).
وفيه: أن مرجع هذا الجواب إلى التفويض بالنسبة إلى الأفعال التكليفية، فإنه أراد بهذا، الجمع بين التفويض والجبر، فاختص الجبر بالأحوال العارضة، وهو كما ترى، إذ التفويض في الأفعال التكليفية مردود بما عرفت من الأدلة العقلية والسمعية. هذا مضافا إلى خروج الأحوال العارضة عن محل النزاع، على أنك عرفت أن المراد من قوله: " أمر بين الأمرين " ليس مجموعهما، بل أمر وراءهما، فكل حمل يؤول إلى الجمع بينهما مردود جدا.
ثم لا يخفى عليك أن الأستاذ الشهيد المطهري - قدس سره - بعد ذهابه إلى ما ذكرناه، جعله معنى كلاميا لقوله: " أمر بين الأمرين " وقال ما حاصله:
" ليست أفعال الإنسان مستندة إليه تعالى، بحيث يكون الإنسان منعزلا عن الفاعلية والتأثير، كما ليست مستندة إلى نفس الإنسان بحيث ينقطع رابطة الفعل مع ذاته تعالى، بل الأفعال في عين كونها مستندة إلى الانسان بالحقيقة مستندة إليه تعالى. غايته أن أحد الاستنادين في طول الآخر لا في عرضه، ولا مع انضمامه، وهذا هو المراد من قوله: " ولكن أمر بين الأمرين ".
ثم زاد على معناه الكلامي معناه الفلسفي ومعناه الأخلاقي، ولكنهما في عين كونهما صحيحين أجنبيان عن ظاهر هذه الجملة، وبعيد عن مساق الأخبار المذكورة، وعن ظاهر الكلمات. هذا مضافا إلى أن المعنيين المذكورين، لا يختصان بالأفعال الاختيارية للإنسان، إذ الضرورة بالغير جارية في كل ممكن موجود، كما أن قابلية تغيير الخلق والطينة الموروثة خارجة عن دائرة الأفعال، ولعل مراده من تفسيره بهما مجرد اقتباس لا تفسير حقيقي له فراجع " (58).
وكيف كان فالمحصل هو أن المراد من الأمر بين الأمرين، هو المالكية الطولية، وهي مالكية الله تعالى لمالكية العباد، فالعباد في عين كونهم مالكين للقدرة والاختيار، وفاعلين للأفعال بالحقيقة، مملوكون لله تعالى، ومعلولون له وليسوا بمفوضين ومستقلين عنه عز وجل، كما يشهد به الوجدان فلا تغفل.
والقدر بمعنى التقدير وهو تقدير الأشياء بحسب الزمان والمقدار والكيفيات والأسباب والشرائط ونحوها.
وقال الراغب في المفردات: " القضاء هو فصل الأمر، قولا كان ذلك أو فعلا. ثم جعل جميع موارد استعمال القضاء من هذا الباب - إلى أن قال -:
والقضاء من الله تعالى أخص من القدر، لأنه الفصل بين التقدير. فالقدر هو التقدير والقضاء هو الفصل والقطع، انتهى " ويظهر من المسالك اختيار المعنى المذكور للقضاء حيث قال: " سمي القضاء الفقهي قضاء، لأن القاضي يتم الأمر بالفصل ويمضيه ويفرغ عنه " (60).
ثم لا يخفى عليك أن القضاء بالمعنى المذكور ليس إلا واحدا، لأن الانجاز والا تمام لا يتعدد، فالقضاء واحد وهو حتم، هذا بخلاف التقدير، فإنه يختلف بحسب المقادير والأزمنة والكيفيات ونحوها، فالعمر مثلا يمكن أن يقدر لزيد ستين سنة إن لم يصل رحمه، وتسعين سنة إن وصلهم وهكذا. نعم اختص الأستاذ الشهيد المطهري - قدس سره - التقديرات المتغيرة بالماديات، معللا بأن المجردات لا تقع تحت تأثير العوامل المختلفة (61) فافهم، وكيف كان فالقضاء حتم والتقدير حتم وغير حتم.
ومما ذكر يظهر أن القضاء متأخر عن القدر، فإن انجاز جميع التقديرات المختلفة لا يمكن بعد تنافيها، فالواقع منها ليس إلا واحدا بحسب تعينه وفقا للشرائط والأسباب، وهو القضاء، فمرتبة القضاء بعد مرتبة التقدير ومسبوق به.
هذا كله بالنسبة إلى المعنى الحقيقي فيهما، ولكن قد يطلق القضاء بمعنى القدر، والقدر بمعنى القضاء أو كليهما، وبهذا المعنى لا مانع من تقسيم القضاء إلى الحتم وغير الحتم، ولعله من هذا الباب ما روي عن ابن نباتة قال: " إن أمير المؤمنين - عليه السلام - عدل من عند حائط مائل إلى حائط آخر، فقيل له: يا أمير المؤمنين: تفر من قضاء الله؟ قال: أفر من قضاء الله إلى قدر الله عز وجل " (62).
الثاني: في أنواع القضاء والقدر. فاعلم أنهما يستعملان تارة ويراد منهما القضاء والقدر العلميان، بمعنى أنه تعالى قدر الأشياء قبل خلقتها، وأنجز أمرها وقضاها، والقضاء والقدر بهذا المعنى هو مساوق لعلمه الذاتي، ومن المعلوم أن القضاء والقدر بالمعنى المذكور من صفاته الذاتية، فضرورة الوجود لكل موجود وتقديره، ينتهي إلى علمه الذاتي، ولعل إليه يؤول ما روي عن علي - عليه السلام - في القدر حيث قال: " سابق في علم الله " (63).
وأخرى يستعملان ويراد منهما العلمي في مرحلة الفعل، لا في مرحلة الذات، بأن يطلق التقدير ويراد منه لوح المحو والاثبات، ويطلق القضاء ويراد منه اللوح المحفوظ، ومن المعلوم أنهما معنى كانا، فعلان من أفعاله تعالى.
وأخرى يستعملان ويراد منهما القضاء والقدر الفعليان، ومن المعلوم أنهما بهذا المعنى والمعنى السابق من صفاته الفعلية، لأنهما منتزعان عن مقام الفعل، لأن كل فعل مقدر بالمقادير، ومستند إلى علته التامة الموجبة له، ولعل قوله تعالى: " إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون " (64) يشير إلى الأخير.
قال العلامة الطباطبائي - قدس سره -: " لا ريب أن قانون العلية والمعلولية ثابت، وأن الموجود الممكن معلول له سبحانه، إما بلا واسطة أو معها، وأن المعلول إذا نسب إلى علته التامة كان له منها الضرورة والوجوب، إذ ما لم يجب لم يوجد، وإذا لم ينسب إليها كان له الامكان، سواء اخذ في نفسه ولم ينسب إلى شئ، كالماهية الممكنة في ذاتها، أو نسب إلى بعض أجزاء علته التامة، فإنه لو أوجب ضرورته ووجوبه كان علة له تامة، والمفروض خلافه.
ولما كانت الضرورة هي تعين أحد الطرفين، وخروج الشئ عن الابهام، كانت الضرورة المنبسطة على سلسلة الممكنات، من حيث انتسابها إلى الواجب تعالى الموجب لكل منها في ظرفه الذي يخصه، قضاء عاما منه تعالى، كما أن الضرورة الخاصة بكل واحد منها، قضاء خاص به منه، إذا لا نعني بالقضاء إلا فصل الأمر، وتعينه عن الابهام والتردد، ومن هنا يظهر أن القضاء من صفاته الفعلية وهو منتزع من الفعل، من جهة نسبته إلى علته التامة الموجبة له " (65) فالشئ قبل وقوعه له تقديرات مختلفة، ثم يتعين منها واحد ووقع عليه وقضى أمره لو لم يمنع عنه مانع، فكل شئ واقع في الخارج مقدر وقضاء إلهي، فمثل النطفة تقديرها أن تتكامل إلى الإنسانية أو أن تتساقط قبل تكاملها إن حدث مانع وعائق، فكل واحد من التقديرات إذا تعين، وقع عليه وقضى أمره، وهكذا.
ثم المستفاد من ذكر القضاء والقدر هنا أنه عند المصنف من الصفات الفعلية، ومن ذلك ما روي عن جميل عن أبي عبد الله - عليه السلام - أنه قال:
" سألته عن القضاء والقدر، فقال: هما خلقان من خلق الله والله يزيد في الخلق ما يشاء " (66) ومن المعلوم أن ما يقبل الزيادة هو الفعل لا العلم الذاتي كما لا يخفى.
الثالث: أن القضاء والقدر سواء كان من الصفات الذاتية أو الصفات الفعلية، يعم أفعال العباد، كما عرفت في البحث عن الجبر والتفويض، ولا محذور فيه لوساطة القدرة والاختيار، فيجمع بين القضاء الحتم واختيارية الأفعال، بكون القضاء الحتم متعلقا بوجود القدرة والاختيار في العباد، فالعبد المختار مع وجوده وكونه مختارا، ممكن معلول محتاج إليه تعالى، ولو كان العبد مضطرا ومجبورا، تخلف قضاؤه الحتم في وجود العبد المختار كما لا يخفى.
الرابع: في تأكيد الايمان بالقضاء والقدر، وقد ورد في ذلك روايات:
منها: ما عن الخصال عن رسول الله - صلى الله عليه وآله -: " أربعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، عاق ومنان ومكذب بالقدر ومدمن خمر " (67).
ومنها ما في البحار عن العالم - عليه السلام - أنه قال: " لا يكون المؤمن مؤمنا حقا حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه " (68).
ومنها: ما عن تحف العقول عن أبي محمد الحسن بن علي - عليهما السلام - " أما بعد، فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره، أن الله يعلمه فقد كفر، الحديث " (69).
ومنها: ما عن الخصال بطرق مختلفة عن رسول الله - صلى الله عليه وآله - من أن المكذب بقدر الله ممن لعنهم الله وكل نبي مجاب (70).
وبالجملة الإيمان بالقضاء والقدر من مقتضيات الايمان بصفاته الذاتي وتوحيده الأفعالي، وعليه فلا بد من الايمان به.
ثم إن الايمان بالقضاء والقدر يوجب أن ينظر الإنسان إلى كل ما قدره الله وقضاه، بنظر الحكمة والمصلحة، إذ القدر والقضاء من أفعاله، ولا يصدر منه شئ إلا بالحكمة والمصلحة، وإن لم يظهر وجهها لأحد، فإذا أراد الله الصحة لأحد كانت هي مصلحته، وإذا أراد لآخر المرض كان هو مصلحته، وهكذا سائر الأمور من الشدة والرخاء، والفقر والغنى، وغيرها، ويستتبع هذا النظر تحمل الشدائد والمصائب، للعلم بأن وراءها مصلحة وحكمة، بل ينتهي إلى مقام الرضا بما اختاره الله تعالى في أمره، وهو مقام عال لا يناله إلا الأوحدي من الناس، ومن ناله فلا حرص ولا طمع له بالنسبة إلى الدنيا الدنية، للعلم بأن ما قدره الله تعالى وقضاه هو خيره ويصل إليه، ولذا لا يضطرب من رقابة الآخرين أو حسادتهم، كما أنه لا حسد له بالنسبة إلى ذوي العطايا، لعلمه بأن المقسم حكيم وعادل ورؤوف. فالمؤمن الراضي بالقضاء والقدر لا يزيده قضاؤه وقدره إلا ايمانا وتصديقا وفضيلة وعلوا، ولذا سئل هذا المقام في الأدعية والزيارات ومن جملتها ما ورد في زيارة أمين الله حيث قال: " اللهم اجعل نفسي مطمئنة بقدرك، راضية بقضائك " وما ورد في دعاء أبي حمزة الثمالي من قوله: " اللهم إني أسألك ايمانا تباشر به قلبي ويقينا حتى أعلم انه لن يصيبني الا ما كتبت لي ورضني من العيش بما قسمت لي يا ارحم الراحمين " (71).
الخامس: فيما ورد من النهي عن الغور في القضاء والقدر، وقد روي في ذلك روايات:
منها: ما عن عبد الملك بن عنترة الشيباني، عن أبيه، عن جده، قال: جاء رجل إلى أمير المؤمنين - عليه السلام - فقال: " يا أمير المؤمنين! أخبرني عن القدر، فقال: بحر عميق فلا تلجه. فقال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر، قال:
طريق مظلم فلا تسلكه. قال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر، فقال: سر الله فلا تتكلفه، الحديث" (72).
ومنها ما روي عنه - عليه السلام - أنه قال في القدر: " ألا إن القدر سر من سر الله، وحرز من حرز الله، مرفوع في حجاب الله، مطوي عن خلق الله، مختوم بخاتم الله، سابق في علم الله، وضع الله عن العباد علمه، ورفعه فوق شهاداتهم، لأنهم لا ينالونه بحقيقة الربانية، ولا بقدرة الصمدانية، ولا بعظمة النورانية، ولا بعزة الوحدانية، لأن ه بحر زاخر مواج، خالص الله عز وجل، عمقه ما بين السماء والأرض، عرضه ما بين المشرق والمغرب، أسود كالليل الدامس، كثير الحيات والحيتان، تعلو مرة وتسفل أخرى، في قعره شمس تضئ، لا ينبغي أن يطلع عليها إلا الواحد الفرد، فمن تطلع (يطلع) عليها فقد ضاد الله في حكمه، ونازعه في سلطانه، وكشف عن سره وستره، وباء بغضب من الله، ومأواه جهنم، وبئس المصير " (73) والمحصل من الخبر ان التقديرات الإلهية ليست واضحة للخلق وان كانت حكمها عن حكمة ومصلحة ولكنه لا يعلمها الا الله تعالى ولذا نهى عن الغور فيها لعدم تمكنهم من واقعها.
ومنها: ما رواه السيوطي عن النبي - صلى الله عليه وآله - أنه قال: " إذا ذكر القدر فأمسكوا " (74).
ومنها ما روي عن علي - عليه السلام - أيضا أنه سئل عن القدر، فقيل له:
" أنبئنا عن القدر، يا أمير المؤمنين فقال: سر الله فلا تفتشوه، فقيل له الثاني:
أنبئنا عن القدر يا أمير المؤمنين قال: بحر عميق فلا تلحقوه (فلا تلجوه - خ ل) " (75).
ولتلك الأخبار ذهب الصدوق - رحمه الله - في الاعتقادات إلى أن الكلام في القدر منهي عنه.
والجواب عن تلك الأخبار.
أولا: بضعف السند، لذلك قال الشيخ المفيد - قدس سره -: " إن الشيخ أبا جعفر عمل في هذا الباب على أحاديث شواذ، لها وجوه يعرفها العلماء متى صحت وثبتت أسنادها، ولم يقل فيه قولا محصلا " (76) نعم رواه السيد في نهج البلاغة أيضا أنه قال - وقد سئل عن القدر -: " طريق مظلم فلا تسلكوه، وبحر عميق فلا تلجوه، وسر الله فلا تتكلفوه " (77) فافهم.
وثانيا: بأن دلالتها على الحرمة التكليفية غير واضحة، لأن لحن جملة منها هو لحن الارشاد كالنهي عن التكليف، والأخبار بأن القضاء والقدر واد مظلم وبحر عميق. هذا، مضافا إلى شهادة ذيل الرواية الثانية على أن المنهي عنه هو السعي للاطلاق على كنه المقدرات والاشراف عليها، ومن المعلوم أنه أمر لا يناله الإنسان نيلا كاملا، ولا مصلحة فيه، بل لا يخلو عن المفسدة كما لا يخفى فكما أن التأمل حول كنه ذاته تعالى ممنوع، كذلك التأمل حول كنه المقدرات ممنوع، لأنه فوق مستوى مقدور البشر ولا يزيده إلا الحيرة والفساد، وأما فهم معنى القضاء والقدر فلا يكون موردا للنهي فيها.
وثالثا: بأن الغور في معنى القضاء والقدر لو كان حراما، لما أجاب الأئمة - عليهم السلام - عن السؤال فيه، مع أنهم أجابوا السائلين وأوضحوا المراد منهما، بل قد يكون الجواب في ذيل النهي المذكور، بعد اصرار السائل عن فهم معناه، كما في الرواية الأولى، حيث قال السائل في المرتبة الرابعة: " يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر، قال: فقال أمير المؤمنين - عليه السلام -: أما إذا أبيت فإني سائلك: أخبرني أكانت رحمة الله للعباد قبل أعمال العباد أم كانت أعمال العباد قبل رحمة الله؟ قال: فقال له الرجل: بل كانت رحمة الله للعباد قبل أعمال العباد " (78) إلى أخر ما قال - عليه السلام - في توضيح المراد منهما فراجع.
ويؤيد عدم الحرمة ما ورد من التأكيدات على الإيمان بالقضاء والقدر، إذ الايمان بهما لا يمكن بدون توضيح المراد منهما والمعرفة بهما.
ورابعا، بما ذكره الشيخ المفيد - قدس سره - من أن النهي في الأخبار خاص بقوم كان كلامهم في ذلك يفسدهم، ويضلهم عن الدين، ولا يصلحهم في عبادتهم إلا الامساك عنه، وترك الخوض فيه، ولم يكن النهي عنه عاما لكافة المكلفين، وقد يصلح بعض الناس بشئ يفسد به آخرون، ويفسد بعضهم بشئ يصلح به آخرون، فدبر الأئمة - عليهم السلام - أشياعهم في الدين بحسب ما علموه من مصالحهم فيه (79)، وعليه فلو سلم كون النهي نهيا تكليفيا، اختص بمن لا يتمكن، وأما من تمكن من فهمهما ودركهما، كالعلماء والفضلاء والحوزات العلمية ومن أشبههم، فلا نهي بالنسبة إليهم ولذلك حمل المصنف، النهي الوارد، على من لا يتمكن من أن يفهمهما على الوجه اللائق بهما.
(ز) ظاهره أن الاعتقاد التفصيلي بهما غير واجب، وأما الاعتقاد الاجمالي فهو واجب ويكفيه الاتباع عن الأئمة - عليهم السلام - وعلل ذلك بوجهين:
أحدهما عدم التمكن، لكون الاعتقاد التفصيلي فوق مستوى مقدور الرجل العادي، وثانيهما بأنه ليس من أصول الاعتقادات.
وفيه أن عدم التمكن لبعض لا يرفع التكليف عمن تمكن منه. هذا مضافا إلى أن مقتضى التعليل الثاني هو عدم وجوب الاعتقاد بذلك مطلقا لا تفصيلا ولا اجمالا، فالتفصيل بين الاعتقاد الاجمالي والاعتقاد التفصيلي لا وجه له.
والتحقيق أن القضاء والقدر بالمعنى الأول من تفصيلات العلم وصفة ذاته تعالى، وبالمعنى الأخير من تفصيلات التوحيد الأفعالي وتفصيلات الاعتقادات ليست بواجبة كما لا يخفى.
__________________
(1) مريم: 17 - 19.
(2) التوبة: 14.
(3) نهاية الحكمة: ص 267.
(4) راجع شرح تجريد الاعتقاد: ص 309 الطبعة الحديثة، كشف الفوائد: ص 60، قواعد المرام:
ص 109.
(5) الدهر: 30.
(6) بحار الأنوار: ج 5 ص 94.
(7) راجع أصول فلسفه: ج 3 ص 154 - 173، وآموزش عقائد: ج 1 ص 175.
(8) اللوامع الإلهية: ص 35.
(10) بحار الأنوار: ج 5 ص 4.
(11) كتاب تصحيح الاعتقاد: ص 13.
(12) كتاب إنسان وسرنوشت.
(13) النجم: 39 - 40.
(14) البقرة: 78.
(15) الرعد: 11.
(16) التوبة: 105.
(17) بحار الأنوار: ج 5 ص 20.
(18) التكوير: 29.
(19) الصافات: 96.
(20) يونس: 100.
(21) بحار الأنوار: ج 5 ص 10.
(22) بحار الأنوار: ج 5 ص 16.
(23) السجدة: 7.
(24) تصحيح الاعتقاد: ص 14.
(25) تصحيح الاعتقاد: ص 11.
(26) تصحيح الاعتقاد: ص 12.
(27) شرح تجريد الاعتقاد: ص 315 - 316، الطبعة الحديثة في قم المشرفة.
(28) أصول فلسفه: ج 3 ص 169.
(29) انسان وسرنوشت: ص 102.
(30) الأصول من الكافي: ج 1 ص 160.
(31) بحار الأنوار: ج 5 ص 16، نقلا عن التوحيد وعيون الأخبار.
(32) بحار الأنوار: ج 5 ص 17، نقلا عن الاحتجاج.
(33) بحار الأنوار: ج 5 ص 18 نقلا عن الاحتجاج ولعل كلمة واو سقطت قبل قوله: لم تكن جنة ولا نار.
(34) بحار الأنوار: ج 5 ص 24.
(35) بحار الأنوار: ج 5 ص 26.
(36) بحار الأنوار: ج 5 ص 29، نقلا عن التوحيد والخصال وعيون الأخبار.
(37) الأصول من الكافي: ج 1 ص 162 بحار الأنوار: ج 5 ص 36 مع تفاوت والأصح هو ما رواه في الكافي.
(38) بحار الأنوار: ج 5 ص 39.
(39) بحار الأنوار: ج 5 ص 88.
(40) بحار الأنوار: ج 5 ص 111.
(41) راجع تعليقه ص 111 من ج 5 من بحار الأنوار.
(42) بحار الأنوار: ج 5 ص 121.
(43) الأصول من الكافي: ج 1 ص 158 ح 6 وروي نحوه عن العياشي في بحار الأنوار: ج 5 ص 127.
(44) بحار الأنوار: ج 5 ص 16 - وراجع كتاب انسان وسرنوشت: ص 101.
(45) گوهر مراد: ص 235.
(46) گوهر مراد: ص 235.
(47) نهاية الدراية في شرح الكفاية: ج 1 ص 174 - 175.
(48) بحار الأنوار: ج 5 ص 83.
(49) بحار الأنوار: ج 5 ص 16.
(50) بحار الأنوار: ج 5 ص 24.
(51) بحار الأنوار: ج 5 ص 36، الأصول من الكافي: ج 1 ص 162.
(52) بحار الأنوار: ج 5 ص 88.
(53) بحار الأنوار: ج 5 ص 39.
(54) راجع بحار الأنوار: ج 5 ص 10.
(55) بحار الأنوار: ج 5 ذيل ص 83.
(56) بحار الأنوار: ج 5 ص 84 نقلا عن بعض.
(57) بحار الأنوار: ج 5 ص 84 نقلا عن بعض.
(58) أصول فلسفه: ج 3 ص 164.
(59) البقرة: 200.
(60) مسالك الأفهام: ج 2 كتاب القضاء.
(61) انسان وسرنوشت: ص 52.
(62) تفسير الميزان: ج 13 ص 78.
(63) بحار الأنوار: ج 5 ص 97.
(64) آل عمران: 47.
(65) الميزان: ج 13 ص 76.
(66) بحار الأنوار: ج 5 ص 120.
(67) بحار الأنوار: ج 5 ص 87.
(68) بحار الأنوار: ج 5 ص 54.
(69) بحار الأنوار: ج 5 ص 40.
(70) بحار الأنوار: ج 5 ص 88.
(71) مصباح المتهجد: 540.
(72) بحار الأنوار: ج 5 ص 110.
(73) بحار الأنوار: ج 5 ص 97.
(74) راجع يازده رسالة فارسي ص 449، نقلا عن الجامع الصغير للسيوطي وعن الطبراني.
(75) بحار الأنوار: ج 5 ص 123.
(76) تصحيح الاعتقاد: ص 19.
(77) بحار الأنوار: ج 4 ص 124.
(78) بحار الأنوار: ج 5 ص 111.
(79) تصحيح الاعتقاد: ص 20 - 21.
الاكثر قراءة في القضاء و القدر
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة

الآخبار الصحية
