عقيدتنا في أحكام الدين
المؤلف:
آية الله السيد محسن الخرّازي
المصدر:
بداية المعارف الإلهية في شرح عقائد الإمامية
الجزء والصفحة:
ج1، ص 202 -205
2025-07-12
426
نعتقد أنه تعالى جعل أحكامه من الواجبات والمحرمات وغيرهما طبقا لمصالح العباد في نفس أفعالهم، فما فيه المصلحة الملزمة جعله واجبا، وما فيه المفسدة البالغة، نهى عنه، وما فيه مصلحة راجحة ندبنا إليه، وهكذا في باقي الأحكام وهذا من عدله ولطفه بعباده ولا بد أن يكون له في كل واقعة حكم، ولا يخلو شئ من الأشياء من حكم واقعي لله فيه، وإن انسد علينا طريق علمه.
ونقول أيضا: إنه من القبيح أن يأمر بما فيه المفسدة أو ينهى عما فيه المصلحة، غير أن بعض الفرق من المسلمين يقولون: إن القبيح ما نهى الله تعالى عنه، والحسن ما أمر به، فليس في نفس الأفعال مصالح أو مفاسد ذاتية، ولا حسن أو قبيح ذاتيان، وهذا قول مخالف للضرورة العقلية، كما أنهم جوزوا أن يفعل الله تعالى القبيح فيأمر بما فيه المفسدة، وينهى عما فيه المصلحة، وقد تقدم أن هذا القول فيه مجازفة عظيمة، وذلك لاستلزامه نسبة الجهل أو العجز اليه سبحانه تعالى علوا كبيرا (أ).
والخلاصة أن الصحيح في الاعتقاد أن نقول: إنه تعالى لا مصلحة له ولا منفعة في تكليفنا بالواجبات ونهينا عن فعل ما حرمه، بل المصلحة والمنفعة ترجع لنا في جميع التكاليف. ولا معنى لنفي المصالح والمفاسد في الأفعال المأمور بها والمنهي عنها، فإنه تعالى لا يأمر عبثا ولا ينهى جزافا وهو الغني عن عباده (ب).
______________
(أ) ولا يخفى عليك أن هذا البحث من متفرعات الأصل الثابت الذي مضى تحقيقه، وهو أنه تعالى لا يفعل القبيح ولا يخل بالواجب، وقد عرفت فيما مضى أن الدليل عليه أمران: أحدهما: أنه مقتضى اطلاق كماله ورحمته ورحمانيته تعالى، وثانيهما: أنه مقتضى حكم العقل بالحسن والقبح الذاتي. أشار المصنف إلى الوجه الأول في السابق، وإلى الثاني هنا، وكيف كان فقد مر البحث عنه ولا حاجة إلى إعادة الكلام، وعليه كما أن أصل التكليف مما يقتضيه لطفه ورحمانيته، كذلك تطبيق التكليف، مع ما في الأفعال من المصالح والمفاسد، فالمصلحة الراجحة لا تقتضي الوجوب، بل الندب، والمصلحة الملزمة تقتضي الوجوب لا الندب، والمفسدة الملزمة تقتضي النهي التحريمي لا التنزيهي، والمفسدة الغير الملزمة لا تقتضي إلا النهي التنزيهي، ولا يمكن سلوك الإنسان نحو كماله وسعادته إلا إذا كلف بما تقتضيه الأفعال من المصالح والمفاسد، والاخلال به ينافي لطفه ورحمته، كما أنه ينافي حكمته، لأن الحكمة في خلقة الإنسان هو امكان أن يسلك نحو كماله، فإذا كلف بما لا يطابق مقتضى الأفعال، فلا يمكن له ذلك. هذا مضافا إلى منافاته مع عدله فيما إذا كلف بما زاد أو نقص عن الحد اللازم الذي يستحقه المكلف كما لا يخفى.
(ب) حاصله أن التكاليف حيث لا تصدر عنه تعالى جزافا، فلا تكون إلا ناشئة عن المصالح والمفاسد، ولكن المصالح والمفاسد ترجع إلينا لا إليه تعالى، لأنه غني مطلق.
ثم إنه لا يلزم أن تكون المصالح في الأفعال المأمور بها، بل يكفي وجودها في نفس التكاليف ضرورة كفاية وجودها في التكاليف، لحسنها ورفع العبث والجزاف.
بقي شئ، وهو أن أفعاله تعالى سواء كانت تكوينية أو تشريعية ناشئة عن كماله المطلق، وليست لاستكمال ذاته تعالى، لأنه غني مطلق، ولا يحتاج إلى شئ، ولذلك ذهبوا إلى أن العلة الغائية متحدة مع العلة الفاعلية فيه تعالى، إذ لا غاية وراء ذاته تعالى، ولا ينافي ذلك أن للأفعال غاية أو غايات متوسطة ونهائية، لأنها غاية الفعل لا غاية الفاعل. قال العلامة الطباطبائي - قدس سره -: " وبالجملة فعلمه تعالى في ذاته بنظام الخير غاية لفاعليته التي هي عين الذات " (1).
وينقدح مما ذكر ما في كلام الأشاعرة من أن أفعاله تعالى يستحيل تعليلها بالاغراض والمقاصد، فإن كل فاعل لغرض وقصد، فإنه ناقص بذاته، مستكمل بذلك الغرض والله تعالى يستحيل عليه النقصان (2) وذلك لما عرفت من أن الغاية في فاعليته تعالى، ليست إلا ذاته وصفاته، فذاته لذاته منشأ للإفاضة، ومن المعلوم أن تعليل أفعاله بذاته، لا يستلزم النقصان، حتى يستحيل، بل هو حاك عن كمال ذاته، ولعل إليه يؤول ما قاله العلامة الطباطبائي - قدس سره -:
من أنه ليس من لوازم وجود الغاية حاجة الفاعل إليها: لجواز كونها عين الفاعل (3).
وينقدح أيضا مما ذكر ضعف ما ذهب إليه المعتزلة وبعض المتكلمين من الإمامية، من أن غاية أفعاله هي انتفاع الخلق، فإنه وإن لم يستلزم استكمال الذات بالغايات المترتبة على الأفعال، ولكن ذلك يوجب أن يكون لغير ذاته تأثير في فاعليته مع أنه تام الفاعلية ولا يتوقف في فاعليته على شئ (4).
فالصحيح هو أن يقال: إن انتفاع الخلق هو غاية الفعل لا غاية فاعلية الفاعل، إذ لا حاجة له تعالى إلى شئ من الأشياء، ولا يتأثر من شئ (5).
نعم ذهب بعض المحققين إلى إمكان الجمع بين الأقوال، بأن يقال: إن من حصر الغاية في ذاته تعالى أراد الغاية الأصلية والذاتية، ومن نفى الغاية في أفعاله أراد نفي داع زائد على ذاته في فاعليته، ومن جعل العلة الغائية انتفاع الخلق أراد بيان الغاية الفرعية والتبعية. انتهى (6) إلا أن هذا التوجيه وإن كان حسنا في نفسه ولكن لا يساعده عبائر القوم فراجع، ولله الحمد.
_______________
(1) راجع نهاية الحكمة: ص 163 - 164.
(2) شرح تجريد الاعتقاد: ص 306 الطبعة الحديثة.
(3) راجع نهاية الحكمة: ص 163.
(4) راجع نهاية الحكمة: ص 163.
(5) راجع شرح منظومة: ج 2 ص 62 للأستاذ الشهيد المطهري - قدس سره -.
(6) آموزش فلسفه: ج 2 ص 402.
الاكثر قراءة في التكليف
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة