من مراتب الموجودات للُالوهيّة والإمكان
المؤلف:
السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
المصدر:
معرفة الله
الجزء والصفحة:
ج1/ ص171-174
2025-07-08
520
لأنّ النشأة الإنسانيّة، وشأن جامعيّة كمالها، يقتضيان العلم بكلّ مراتب الموجودات، والاطّلاع على كلّ المسمّيات بحكم {وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها}[1] يقول:
بيا بنما كه جابُلقا كدام است *** جهان شهر جابُلسا كدام است[2]
جاء في القصص والروايات التأريخيّة، أن جابلقا، هي مدينة كبيرة جدّاً في الشرق، وجابلسا أيضاً، كبيرة جدّاً وتقع في الغرب، وبالمقابل من جابلقا، وقد علّق أهل التأويل في هذه المسألة بما يكفي، ولكن خطر ببالي معنيين على سبيل الإشارة وهما:
الأوّل: جابلقا هي العالم المثاليّ، والتي تقع في الجانب الشرقيّ للأرواح، وهي البرزخ بين الغيب والشهادة، وتشتمل على صور العالم، فهي بلا شكّ، مدينة كبيرة، وواسعة جدّاً. وأمّا جابلسا، فهي عالم المثال وعالم البرزخ، وهي مستقرّ الأرواح بعد مفارقتها دار الدنيا، ومكان صور كلّ ما ارتُكِبَ من الأعمال، والأفعال، والأخلاق، الحسن منها والسيّئ المكتسبة في الحياة الدنيا- كما هو وارد في الأحاديث والآيات-، ويقع هذا البرزخ في الجانب الغربيّ من الأجسام، وهي مدينة عظيمة السعة، وتقع قبالة جابلقا.
و هنا يكون أهل مدينة جابلقا، أكثر لطافةً ونقاءً، ذلك لأنّ أهل مدينة جابلسا، وبسبب أعمالهم وأخلاقهم الرديئة التي اكتسبوها في الدنيا، قد صُوّروا بصور مظلمة.
و معظم الخلق على هذا التصوّر، بأنّ هذين البرزخين هما شيء واحد، ولكن يجب العلم، بأنّ البرزخ الذي يستقبل الأرواح بعد مفارقتها للحياة الدنيا، هو غير البرزخ الكائن بين الأرواح المجرّدة والأجسام؛ هذا لأنّ مراتب تنزّلات الوجود ومعارجه دوريّة، على اعتبار أن اتّصال النقطة الاولى بالنقطة الأخيرة غير ممكن، إلّا في حالة الحركة الدورانيّة؛ والبرزخ الذي هو كائن قبل النشأة الدنيويّة، هو في مراتب تنزّلاتها، ويشكّل النقطة الاولى بالنسبة إلى هذه النشأة، وأمّا البرزخ الذي يأتي بعد النشأة الدنيويّة، فهو من مراتب الأوج، وعليه، فهو يعتبر النقطة الأخيرة بالنسبة إلى النشأة الدنيويّة.
و المسألة الأخرى هي أن الصور التي تلحق بالأرواح، هي صور الأعمال ونتائج الأفعال والأخلاق والملكات التي حصلت في النشأة الدنيويّة، على عكس صور البرزخ الأوّل.
فكلّ واحد منهما، هو غير الآخر، ولكنّهما يشتركان في كونهما عالمين روحانيّين، ولكلّ منهما جوهر نورانيّ غير مادّيّ، ويحويان على مثال صور العالم.
و يروي الشيخ داود القيصريّ بقوله: قال الشيخ محيي الدين الأعرابيّ قدّس سرّه في «الفتوحات»، أن البرزخ الأخير، هو غير البرزخ الأوّل. وقد أطلق على الأوّل اسم (الغيب الإمكانيّ)، وعلى الأخير بـ (الغيب المحاليّ)، وذلك لأنّ كلّ صورة في البرزخ الأوّل، يمكن لها أن تظهر في الشهادة أيضاً، وأمّا الصور في البرزخ الأخير، فهي ممتنعة عن الرجوع للشهادة، اللهمّ إلّا في الآخرة.
و كثير هم أهل المكاشفة الذين ظهرت لهم صور البرزخ الأوّل، والذين كانوا على دراية بآت الزمان، ولكن بالمقابل، يندر أن يطّلع أحد منهم على أحوال الموتى.
و أمّا المعنى الثاني، فهو: أن مدينة جابلقا، هي مرتبة إلهيّة، وهي مجمع البحرين بالنسبة للوجوب والإمكان، حيث تكمن فيها صور أعيان جميع الأشياء، ابتداءً من المراتب الكلّيّة والجزئيّة؛ واللطائف والقبائح والأعمال والأفعال والحركات والسكنات، ومحيطة بما كانَ وما يكونُ، وهي بالمشرق، حيث تَلِي مرتبة الذات ولا توجد فاصلة بينهما، وكلّ شموس الأسماء والصفات والأعيان وأقمارها ونجومها قد بزغت وتلألأ نورها من المشرق.
و أمّا مدينة (جابلسا)، فهي لسان حال النشأة الإنسانيّة، وهي مجلى جميع حقائق الأسماء الإلهيّة، والحقائق الكونيّة. فما يطلع من مشرق الذات، يغرب في مغرب التعيُّن الإنسانيّ ويختفي في صورته. شعر: با مغربى مغارب اسرار گشتهايم *** بى مغربى مشارق انوار گشتهايم[3]
و هذان السوادان الأعظمان في موازاة بعضهما، وخلقهما مع بعض لا يعنى النهاية، لأنّ كلّ عالم يحوي المشرق والمغرب معاً، بل أن كلّ مرتبة وكلّ فرد من الموجودات، يمتلك هذه الميزة، وهو يقول: مشارق با مغارب هم بينديش *** چو اين عالم ندارد از يكى بيش[4]
و اعلم أن عالم الالوهيّة بالقياس إلى عالم الربوبيّة، هو المشرق الذي يفيض من نوره على عالم الربوبيّة، وهكذا، عالم الربوبيّة بالقياس إلى البرزخ المثاليّ، والبرزخ المثاليّ بالقياس إلى عالم الشهادة، كلٌّ يفيض من نوره على من هو دونه، وكذلك فإنّ كلّ عالم من العوالم، وكلّ مرتبة من المراتب، وكلّ فرد من الأفراد هو مشرق، قد سطعت منه شمس من الأسماء الإلهيّة، ومن جهة أخرى، فهو مغرب كَمَنَ في تعيّنه نور ذلك الاسم. وأن القلب الإنسانيّ، وبحسب كمال المظهريّة، له مائة مشرق، بل مئات الآلاف من المشارق التي تسطع منها نجوم الأسماء الإلهيّة، وهكذا، وفي إزاء ذلك، فإنّ كلّا منها هو مغرب. وأن عجائب وغرائب القلب الإنسانيّ لا تظهر إلّا لعيان أهل الصفاء والسالكين إلى الله.
[1] صدر الآية 31، من السورة 2: البقرة.
[2] يقول: «خبّر بجابلقا لعلّك ناطق *** وأرني حاضرة جابلسا لعلّك صادق»
[3] يقول: «طويت مغارب الأسرار مع المغربيّ، وبدونه طوينا مشارق الأنوار».
[4] يقول: «طالع المشارق والمغارب، إذ ليس لهذا العالم أكثر من مشرق واحد ومغرب واحد».
الاكثر قراءة في التوحيد
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة