x
هدف البحث
بحث في العناوين
بحث في اسماء الكتب
بحث في اسماء المؤلفين
اختر القسم
موافق
الأدب
الشعر
العصر الجاهلي
العصر الاسلامي
العصر العباسي
العصر الاندلسي
العصور المتأخرة
العصر الحديث
النثر
النقد
النقد الحديث
النقد القديم
البلاغة
المعاني
البيان
البديع
العروض
تراجم الادباء و الشعراء و الكتاب
كتاب من النباهي إلى لسان الدين
المؤلف: أحمد بن محمد المقري التلمساني
المصدر: نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب
الجزء والصفحة: مج5، ص: 122-131
2024-01-07
937
كتاب من النباهي إلى لسان الدين
وقد وقفت بفاس المحروسة على كتاب مطول كتبه للسان الدين بعد تحوله عن الأندلس، ونص ما تعلق به الغرض هنا(1):
فشرعتم في الشراء، وتشييد البناء، وتركتم الاستعداد لهاذم اللذات، هيهات هيهات تبنون ما لا تسكنون، وتدخرون ما لا تأكلون، وتؤملون ما لا تدركون {أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة} (النساء: 78) فأين المهرب مما هو كائن، ونحن إنما نتقلب في قدرة الطالب، شرقتم أو غربتم، الأيام تتقاضى الدين، وتنادي بالنفس الفرارة إلى أين إلى أين، ونترك الكلام مع الناقد في ما ارتكبه من تزكية نفسه، وعد ما جلبه من مناقبه، ما عدا ما هدد به من حديد لسانه، خشية اندراجه في نمط من قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن من شر الناس من تركه الناس اتقاء فحشه " ولا غيبة في من ألقى جلباب الحياء عن وجهه، ونرحمه (2) على ما أبداه أو أهداه من العيوب التي نسبها لأخيه، واستراح على قوله بها فيه، ونذكره على طريقة نصيحة الدين بالحديث الثابت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قوله: " أتدرون من المفلس قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإذا فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار ".ويعلم الله أن معنى هذا الحديث الثابت
122
عن النذير الصادق، هو الذي حملني على نصحكم، ومراجعتكم في كثير من الأمور: منها الإشارة عليكم بإذهاب عين ما كتبتم به في التاريخ وأمثاله، فإنكم نفعتم فيما وقعتم فيه من الغيبة المحرمة أحياء وأموات بغير شيء حصل بيدكم وضررتم نفسكم بما رتبتم لهم من المطالبات بنص الكتاب والسنة قبلكم، والرضى بهذه الصفقة الخاسرة أمر بعيد من الدين والعقل. وقد قلت لكم غير مرة عن أطراسكم المسودة بما دعوتم إليه من البدعة والتلاعب بالشريعة إن حقها التخريق والتحريق، وإن من أطراها لكم فقد خدع نفسه وخدعكم، والله الشهيد بأني نصحتكم وما غششتكم، وليس هذا القول وإن كان ثقيلاً عليكم بمخالف كل المخالفة لما ذنبتم به من تقدم المواجهة بالملاطفة والمعاملة بالمكارمة، فليست المداراة بقادحة في الدين، بل هي محمودة في بعض الأحوال، مستحسنة على ما بينه العلماء، إذا هي مقاربة في الكلام أو مجاملة بأسباب الدنيا لصلاحها أو صلاح الدين، وإنما المذموم المداهنة، وهي بذل الدين لمجرد الدنيا، والمصانعة به لتحصيلها، ومن خالط للضرورة مثلكم، وزايله بأخلاقه ونصحه مخاطبة ومكاتبة، واستدل له بكتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، على صحة مقالته، فقد سلم والحمد لله من مداهنته، وقام لله تعالى بما يجب عليه في حقكم من التحذير والإنكار مع الإشفاق والوجل.
وأكثرتم في كتابكم من المن بما ذكرتم أنكم صنعتم، وعلى تقدير الموافقة لكم ليتكم ما فعلتم، فسلمنا من المعرة وسلمتم، وجل القائل سبحانه {قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى، والله غني حليم} (البقرة: 263) وقلما شاركتم أنتم في شيء إلا بأغراض حاصلة في يدكم، ولأغراض دنيوية خاصة بكم، فالملام إذاً في الحقيقة إنما هو متوجه إليكم، والتعلل بأخبار قطركم وأهلكم، فتناقض منكم وإن كنتم فيه بغدركم:
123
أتبكي على ليلى وأنت تركتها ... فكنت كآت غيه وهو طائع
وما كل ما منتك نفسك مخلياً ... تلاقي، ولا كل له أنت تابع
فلا تبكين في إثر شيء ندامة ... إذا نزعته من يديك النوازع
وعلى أن تأسفكم لما وقعتم فيه من الغدر لسلطانكم، والخروج لا للضرورة غالبة على أوطانكم، من الواجب بكل اعتبار عليكم، سيما وقد مددتم إلى التمتع بغيرها عينيكم، ولو لم يكن بهذه الجزيرة الفريدة من الفضيلة إلا ما خصت به من بركة الرباط ورحمة الجهاد لكفاها فخراً على ما يجاورها من سائر البلاد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم في ما سواه " وقال عليه الصلاة والسلام " الروحة يروحها العبد في سبيل الله والغدوة خير من الدنيا وما فيها " وعلى كل تقدير فإذا لم يكن يا أخي فراركم من الأندلس إلى الله وحد بالتوبة المكملة، والاستغفار من الانقطاع في أحد المواطن المكرمة المعظمة بالإجماع، وهي طيبة أو مكة أو بيت المقدس، فقد خسرتم صفقة رحلتكم، وتبين أن لغير وجه الله العظيم كانت نية هجرتكم، اللهم إلا إن كنتم قد لاحظتم مسألة الرجل الذي قتل مائة نفس، وسأل أعلم أهل الأرض فأشار إليه بعد إزماع التوبة بمفارقة المواطن التي ارتكب فيها الذنوب، واكتسب بها العيوب، فأمر آخر، مع أن كلام العلماء في هذا الحديث معروف. ويقال لكم من الجواب الخاص بكم: فعليكم إذاً بترك القيل والقال، وكسر حربة الجدال والقتال، وقصر ما بقي من مدة العمر على الاشتغال بصالح الأعمال.
ووقعت في مكتوبكم كلمات أوردها النقد في قالب الاستهزاء والازدراء، والجهالة بمقادير الأشياء، ومنها " ريح صرصر " وهو لغة القرآن، و " قاع قرقر " وهو لفظ سيد العرب والعجم محمد صلى الله عليه وسلم، ثبت في الصحيح في باب التغلظ فيمن لا يؤدي زكاة ماله. قيل: يا رسول الله، والبقر والغنم قال، ولا صاحب بقر ولا غنم لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان
124
يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر لا يفقد منها شيئاً، تنطحه بقرونها، وتطأه بأظلافها، الحديث الشهير. قال صاحب المعلم: بطح لها بقاع قرقر: أي ألقي على وجهه، والقاع: المستوي من الأرض، والقرقر: كذلك، هذا ما حضر من الجواب، وبقي في مكتوبكم حشو كثير من كلام إقذاع وفحش بعيد من الحشمة والحياء ورأيت من الصواب الإعراض عن ذكره، وصون اليد عن الاستعمال فيه، والظاهر أنه إنما صدر منكم وأنتم بحال مرض، فلا حرج فيه عليكم، أنسأ الله تعالى أجلكم، ومكن أمنكم، وسكن وجلكم، ومنه جل اسمه نسأل لي ولكم حسن الخاتمة، والفوز بالسعادة الدائمة، والسلام الأتم يعتمدكم، والرحمات والبركات من كاتبه علي بن عبد الله بن الحسن وفقه الله، وذلك بتاريخ أخريات جمادى الأولى من عام ثلاثة وسبعين وسبعمائة.
وقيد رحمه الله تعالى في مدرج طي هذا الكتاب ما نصه: يا أخي - أصلحني الله وإياكم - بقي من الحديث شيء الصواب الخروج عنه لكم، إذ هذا أوانه، وتأخير البيان عن وقت الحاجة فيه ما فيه، وليكون البناء بعد أن كان على أصل صحيح بحول الله، وحاصله أنكم عددتم ما شاركتكم فيه بحسب الأوقات، وقطعتم بنسبة الأمور كلها إلى أنفسكم، وأنها إنما صدرت عن أمركم وبإذنكم، من غير مشارك في شيء منها لكم، ثم مننتم بها المن القبيح المبطل لعمل برككم على تقدير التسليم في فعله لكم، ورميتم غيركم بالتقصير في حاله كله، طريقة من يبصر القذى في عين أخيه ويدع الجذع في عينه، وأقصى ما تسنى للمحب أيام كونكم بالأندلس تقلد كل فتى قضاء الجماعة، وما كان إلا أن وليتها بقضاء الله وقدره، فقد تبين لكل ذي عقل سليم أنه لا موجد إلا الله، وأنه إذا كان كذلك كان الخير والشر والطاعة والمعصية حاصلاً بإيجاده سبحانه وتعالى وتخليقه وتكوينه من غير عاضد له على تحصيل مراده ولا معين، ولكنه جلت قدرته وعد فاعل الخير بالثواب فضلاً منه، وأوعد فاعل الشر بالعقاب عدلاً منه، وكأني بكم تضحكون من تقرير هذه المقدمة، وما أحوجكم إلى
125
تأملها بعين اليقين، فكابدت أيام تلك الولاية النكدة من النكاية باستحقاركم للقضايا الشرعية، وتهاونكم بالأمور الدينية، ما يعظكم الله به الأجر، وذلك في جملة مسائل: منها مسألة ابن الزبير المقتول على الزندقة بعد تقضي موجباته على كره منكم، ومنها مسألة ابن أبي العيش المثقف في السجن على آراءه المضلة التي كان منها دخوله على زوجته إثر تطليقه إياها بالثلاث، وزعمه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمره مشافهة بالاستمتاع بها، فحملت أحد ناسكم تناول إخراجه من الثقاف من غير مبالاة بأحد، ومنها أن أحد الفتيان المتعلقين بكم توجهت عليه المطالبة بدم قتيل، وسيق المدعى عليه بالذبح بغير سكين، فما وسعني بمقتضى الدين إلا حبسه على ما أحمته السنة، فأنفتم لذلك، وسجنتم الطالب ولي الدم، ولا يجمل بي ولا بكم ذكره، والمسألة الأخرى أنتم توليتم كبرها حتى جرى فيها القدر بما جرى به من الانفصال، والحمد لله على كل حال، وأما الرمي بكذا وكذا مما لا علم لنا بسببه، ولا عذر لكم من الحق في التكلم به، فشيء قلما يقع مثله من البهيان ممن كان يرجو لقاء ربه، وكلامكم في المدح والهجو، هو عندي من قبيل اللغو، الذي نمر به كراماُ والحمد لله، فكثروا أو قللوا من أي نوع شئتم، أنتم وما ترضونه لنفسكم، وما فهت لكم بما فهت من الكلام، إلا على جهة الإعلام، لا على جهة الانفعال، لما صدر أو يصدر عنكم من الأقوال والأفعال، فمذهبي غير مذهبكم، وعندي غير ما ليس عندكم.
وكذلك رأيتكم تكثرون في مخاطباتكم من لفظ الرقية في معرض الإنكار لوجود نفعها، والرمي بالمنقصة والحمق لمستعملها، ولو كنتم فد نظرتم في شيء من كتب السنة أو سير الأمة المسلمة نظر مصدق لما وسعكم إنكار ما أنكرتم، وكتبه بخط يدكم، فهو قادح كبير في عقيدة دينكم، فقد ثبت بالإجماع في سورة الفلق أنها خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وأنه المراد بها هو وآحاد
126
أمته، وفي أمهات الإسلام الخمس أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى رقاه جبريل، فقال: بسم الله يبريك، ومن كل داء يشفيك، ومن شر حاسد إذا حسد، ومن شر كل ذي عين. وفي الصحيح أيضاً أن ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا في سفر، فمروا بحي من أحياء العرب، فاستضافوهم، فلم يضيفوهم، فقالوا: هل فيكم راق فإن سيد الحي لديغ، أو مصاب، فقال رجل من القوم: نعم، فأتاه فرقاه بفاتحة الكتاب، فبرئ الرجل، فأعطى قطيعاً من غنم - الحديث الشهير -. قال أهل العلم: فيه دليل على جواز أخذ الأجرة على الرقية والطب وتعليم القرآن، وهو قول مالك وأحمد والشافعي وأبي ثور وجماعة من السلف، وفيه جواز المقارضة، وإن كان ضد ذلك أحسن، وفي هذا القدر كفاية. وما رقيت قط أحداُ على الوجه الذي ذكرتم، ولا استرقيت والحمد لله، وما حملني على تبيين ما بينته الآن لكم في المسألة إلا إرادة الخير التام لجهتكم، والطمع في إصلاح باطنكم وظاهركم، فإني أخاف عليكم من الإفصاح بالطعن في الشريعة، ورمي علمائها بالمنقصة إلى عادتكم وعادة المستخف ابن هذيل شيخكم منكر علم الجزئيات، القائل بعدم قدرة الرب جل اسمه على جميع الممكنات. وأنتم قد انتقلتم إلى جوار أناس أعلام قلما تجوز عليهم - حفظهم الله - المغالطات، فتأسركم شهادة العدول التي لا مدفع لكم فيها، وتقع الفضيحة، والدين النصيحة، أعاذنا الله من درك الشقاء، وشماتة الأعداء، وجهد البلاء.
وكذلك أحذركم من الوقوع بما لا ينبغي في الجناب الرفيع، جناب سيد المرسلين، وقائد الغر المحجلين، صلوات الله وسلمه عليه، فإنه نقل عنكم في هذا الباب أشياء منكرة، يكبر في النفوس التكلم بها، أنتم تعلمونها، وهي التي زرعت في القلوب ما زرعت من بغضكم وإيثار بعدكم، مع استشعار الشفقة والوجل من وجه أخر عليكم، ولولا أنكم سافرتم قبل تقلص ظل السلطنة عنكم لكانت الأمة المسلمة امتعاضاً لدينها ودنياها، قد برزت بهذه الجهات
127
لطلب الحق منكم، فليس يعلم أنه صدر عن مثلكم من خدام الدول ما صدر عنكم من العيث في الأبشار والأموال، وهتك الأعراض، وإفشاء الأسرار، وكشف الأستار، واستعمال المكر، والحيل والغدر، في غالب الأحوال للشريف والمشروف، والخديم والمخدوم، ولو لم يكن في الوجود من الدلائل على صحة ما رضيتم به لنفسكم من الاتسام بسوء العهد والتجاوز المحض وكفران النعم والركون إلى ما تحصل من الحطام الزائل إلا عملكم مع سلطانكم مولاكم وابن مولاكم أيده الله بنصره وما ثبت من مقالاتكم السيئة فيه وفي الكثير من أهل قطره لطفاكم وصمة لا يغسل دنسها البحر، ولا ينسى عارها الدهر، فإنكم تركتموه أولاً بالمغرب عند تلون الزمان، وذهبتم للكدية والأخذ بمقتضى المقامة الساسانية إلى أن استدعاه الملك، وتخلصت له بعد الجهد الأندلس، فسقطتم عليه سقوط الذباب على الحلواء، وضربتم وجوه رجاله بعضاً ببعض، حتى خلا لكم الجو، وتمكن الأمر والنهي، فهمزتم ولمزتم، وجمعتم من المال ما جمعتم، ثم وريتم بتفقد ثغر الجزيرة الخضراء، مكراً منكم، فلما بلغتم أرض الجبل انحرفتم عن الجادة، وهربتم بأثقالكم الهروب الذي أنكره عليكم كل من بلغه حديثكم أو يبلغه إلى آخر الدهر في العدوتين من مؤمن وكافر وبر وفاجر، فكيف يستقيم لكم بعد المعرفة بتصرفاتكم حازم، أويثق بكم في قول أو فعل صالح أو طالح ولو كان قد بقي لكم من العقل ما تتفكرون به في الكيفية التي ختمتم بها عملكم في الأندلس من الزيادة في المغرم وغير ذلك مما لكم وزره ووزر من عمل به بعدكم إلى يوم القيامة حسب ما ثبت في الصحيح لحملكم على مواصلة الحزن، وملازمة الأسف والندم على ما أوقعتم فيه نفسكم الأمارة من التورط والتنشب في أشطان الآمال ودسائس الشيطان، ونعوذ بالله من شرور الأنفس وسيئات الأعمال.
وأما قولكم عن فلان إنه كان حشرة في قلوب اللوز وإن فلانا كان برغوثاً في تراب الخمول فكلام سفساف، يقال لكم من الجواب عليه: وأنتم يا هذا أين كنتم منذ خمسين سنة مثلاً خلق الله الخلق لا استظهاراً بهم
128
ولا استكثاراً، وأنشأهم كما قدر أحوالاً وأطوارا، واستخلفهم في الأرض بعد أمة أمماً وبعد عصر أعصاراً، وكلفهم شرائعه وأحكامه ولم يتركهم هملاً، وأمرهم ونهاهم ليبلوهم أيهم أحسن عملاً " إن أكرمكم عند الله أتقاكم " وبكل اعتبار فلا نعلم في نمط الطلبة تدريجاً كان أسمج من تدريجكم، ونبدأ من كذا فإنه كان كذا وأكثر أهل زمانه تحملاً وتقللاً بالنسبة إلى منصبه كان الشيخ أبو الحسن ابن الجياب، ولكنه حين علم رحمه الله تعالى من نشأتكم وحالتكم ما علم نبذ مصاهرتكم وصرف عليكم صداقكم، وكذلك فعلت بنت جزي زوج الرهيصي معكم، حسبما هو مشهور في بلدكم، وذكرتم أنكم ما زلتم من أهل الغنى حيث نقرتم بذكر العرض - وهو بفتح العين والراء، حطام الدنيا على ما حكى أبو عبيد، وقال أبو زيد: هو، بسكون الراء، المال الذي لا ذهب فيه ولا فضة - وأي مال خالص يعلم لكم أو لأبيكم بعد الخروج من الثقاف على ما كان قد تبقى عنده من مجبى قرية مترايل (3) ثم من العدد الذي برز قبلكم أيام كانت أشغال الطعام بيدكم على ما شهد به الجمهور من أصحابكم، وأما الفلاحة التي أشرتم إليها فلا حق لكم فيها إذ هي في الحقيقة لبيت مال المسلمين، مع ما بيدكم على ما تقرر في الفقهيات، والمعدوم شرعاً كالمعدوم حساً، ولو قبل من أهل المعرفة بكم بعض ما لديهم من سقطاتكم في القال والقيل، ولم يصرف إلى دفع معرتها عنكم وجه التأويل، لكانت مسألتكم ثانية لمسألة أبو الخير، بل أبي الشر، الحادثة أيام خلافة الحكم، المسطورة في نوازل أبي الإصبع ابن سهل، فاعلموا ذلك، ولا تهملوا إشارتي عليكم قديماً وحديثاً بلزوم الصلوات، وحضور الجماعات، وفعل الخيرات، والعمل على التخلص من التبعات {إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور} (لقمان: 33) .
129
" وقلم في كتابكم: " أين الخطط المتوارثة عن الآباء والأجداد وقد أذهب الله عنا ببركة الملة المحمدية عيبة الجاهلية في التفاخر بالأباء، ولكني أقول لكم على جهة المقابلة لكلامكم: إن كانت الإشارة إلى المجيب بهذا فمن المعلوم المتحقق عند أفاضل الناس أنه من حيث الأصالة أحد أماثل قطره، قال القاضي أبو عبد الله ابن عسكر (4) وقد ذكر في كتابه من سلفي فلان بن فلان، ما نصه: وبيته بيت قضاء وعلم وجلالة لم يزالوا يرثون ذلك كابراً عن كابر، استقضى جده المنصور ابن أبي عامر، وقال غيره وغيره، وبيدي من عهود الخلفاء وصكوك الأمراء المكتتبة بخطوط أيديهم من لدن فتح جزيرة الأندلس وإلى هذا العهد القريب ما تقوم به الحجة القاطعة للسان الحاسد والجاحد، والمنة لله وحده. وإن كانت الإشارة للغير من الأصحاب في الوقت حفظهم الله فكل واحد منهم إذا نظر إليه بعين الحق وجد أقرب منكم نسباً للخطط المعتبرة، وأولى بميراثها بالفرض والتعصيب أو مساوياً على فرض المسامحة لكم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، حرام دمه وماله وعرضه ".
ونرجع إلى طريقة أخرى فنقول: من كان يا فلان من قومكم في عمود نسبكم نبيهاً مشهوراً، أو كاتباً قبلكم معروفاً، أو شاعراً مطبوعاً، أو رجلاً نبيها ُ مذكوراً ولو كان يا لوشي وكان، لكان من الواجب الرجوع إلى التناصف والتواصل والتواضع، وترك التحاسد والتباغض والتقاطع: " إن الله لا ينظر إلى صوركم وأبدانكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ". وكذلك العجب كل العجب، من تسميتكم الخربات التي شرعتم في بنائها بدار السلامة، وهيهات هيهات، المعروف من الدنيا أنها دار بلاء وجلاء وعناء وفناء، ولو لم يكن من الموعظة الواقعة بتلك الدار في الوقت إلا موت سعيدكم عند دخولها، لأغناكم عن العلم اليقين بمآلها.
وأظهرتم سروراً كثيراً بما قلتم إنكم نلتم، حيث أنتم، من الشهوات التي
130
ذكرتم أن منها الإكثار من الأكل والخرق والقعود بإزاء جارية الماء على نطع الجلد، والإمساك أولى بالجواب على هذا الفصل، فلا خفاء بما فيه من الخسة والخبائث والخبث، وبالجملة فسرور العاقل إنما ينبغي أن يكون بما يجمل تقدمه من زاد التقوى بالدار الباقية، فما العيش - كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - إلا عيش الآخرة، فقدموا إن قبلتم وصاة الحديد أو البغيض بعضاً عسى أن يكون لكم، ولا تخلفوا كلاُ يكون عليكم، هذا الذي قلته لكم، وإن كان لدى من يقف عليه من نمطه الكثير، فهو باعتبار المكان وما مر من الزمان في حيز اليسير، وهو في نفسه قول حق وصدق، ومستند أكثره كتاب الله وسنة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى سائر أنبيائه. فاحمدوا الله العلي العظيم على تذكيركم به إذ هو جار مجرى النصيحة الصريحة، يسرني الله وإياكم لليسرى، وجعلنا ممن ذكر فانتفع بالذكرى، والسلام. انتهى كلام القاضي ابن الحسن النباهي في كتابه الذي خاطب به لسان الدين رحمه الله تعالى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) راجع هذا الكتاب في أزهار الرياض 1: 212.
(2) ق ص: وزحمه.
(3) ق ص: منزايل.
(4) هو محمد بن علي بن هارون الغساني (- 636) ، والإشارة إلى كتاب له عن تاريخ مالقة.