كان أبو زكريا يحيى بن زياد الديلمي المعروف بالفراء إماما في العربية، حتى قيل عنه (لو لا الفراء ما كانت عربية لأنه حصنها و ضبطها، و لو لا الفراء لسقطت العربية لأنها كانت تتنازع و يدعيها كل من أراد و يتعلم الناس فيه على مقادير عقولهم و قرائحهم تذهب)(1).
و قد جمع الفراء علمي الكسائي و سيبويه الذي تخرق كتابه تحت وسادته، و لسنا ندري هل نصدق ما يقوله عنه الجاحظ في هذا المجال، و هو أنه لم
ينتفع بالنظر في هذا الكتاب كبير نفع لأنه لم ينظر فيه نظر ناصح لنفسه و لا شاكر لمن وصل إليه العلم من جهته و لا صادق في روايته عنه ما أخذ منه، فإنه سرق بعضا و ادعاه لنفسه و ستر حق صاحبه فلم يشكره و نقل عنه مسائل و عزاها إلى الخليل (2).
و يعرف للفراء زهاء عشرين كتابا، من أهمها كتاب الحدود الذي فصل ابن النديم محتوياته (3) و كتاب معاني القرآن الذي طبع بتحقيق محمد أبي الفضل إبراهيم.
ص109
و أغلب النحاة و اللغويين في هذه الفترة كتبوا كثيرا من المؤلفات بعنوان «معاني القرآن» ، و بعضهم يسمي كتابه «مجاز القرآن» أو (تأويل مشكل القرآن) .
و من الكتب المتداولة و المعروفة من هذا النوع، كتاب «مجاز القرآن» لمعمر بن المثنى أبي عبيدة و كتاب معاني القرآن للأخفش، و كتاب «معاني القرآن» للفراء، و «تأويل مشكل القرآن» لابن قتيبة.
و الذي يهمنا في هذه الصفحات هو كتاب الفراء، بوصفه نموذجا يمثل المنهج السائد في تلك الفترة، و يبسط آراء نحاة الكوفة. و الكتاب لا يهتم بمعاني الألفاظ إلا في حالات نادرة يتعلق أكثرها بالغريب، مثل «المن» و «السلوى» حيث قال إن السلوى طائر (4)، كما فسر الجبت و الطاغوت بأنهما حيي بن أخطب، و كعب بن الأشرف(5)، و قد تعرض كذلك لتوضيح الكلمات التي يتقارب معناها، مثل الظن و الخوف، في قوله تعالى: مٰا لَكُمْ لاٰ تَرْجُونَ لِلّٰهِ وَقٰاراً) (نوح- الآية 13) . و قال إن الرجاء قد يأتي بمعنى الخوف مستشهدا بقول الشاعر:
إذا لسعته النحل يرج لسعها و خالفها في بيت نوب عوامل(6)
كما فسر «العصف» ببقل الزرع(7)، و الريحان بالرزق(8) و «النحاس» بالدخان، و أنشد قول الشاعر:
يضيء كضوء سراج السليط لم يجعل اللّه فيه نحاسا(9)
و «العبقري» بالطنافس الثخان(10).
و مادة الكتاب الأساسية هي الأحكام النحوية، ففيه استعراض قد يكون شاملا لآراء الكوفيين عامة، و لرأي المؤلف خاصة ذلك أنه حينما يذكر آية يتبع المنهج الآتي:
1. يذكر أوجه الإعراب: مع بيان الأوجه المقروءة، و الممكنة إذ يقول:
«. . . و لو قرأ بكذا كان صوابا. و لا تقتصر أوجه الإعراب عنده على ما تظهر فيه العلامات المعروفة، بل يبين كذلك، في الحديث عن الأسماء و الأفعال المبينة محل الإعراب، و عوامله، مع توسيع
ص110
دائرة العامل، حتى إنه يقول في إعراب قوله تعالى: (الر كِتٰابٌ) (هود- الآية 1) إن «كتاب» مرفوعة بحروف «الر» و يسميها (الهجاء) (11).
2. يستدل بأوجه القراءات و لو كانت من غير العشر: و يكاد يستقصي قراءة عبد اللّه بن مسعود في جميع الآيات التي استعرضها. و يدل أصلها عليها أنها في عصره ما زالت مدونة، و لقد ذكر مرة أنه رأى مصحفه، فقال و رأيت في بعض مصاحف عبد اللّه (وَ ثَمُودَ فَمٰا أَبْقىٰ) [النجم/51]بغير ألف (معاني القرآن ج 1 ص 102) و من المعروف أن ابن مسعود كان ممن استقر بالكوفة، و أخذ عنه قراؤها (12).
فمن ذلك قوله بحذف «القول» في عدة آيات منها( وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْرٰاهِيمُ اَلْقَوٰاعِدَ مِنَ اَلْبَيْتِ وَ إِسْمٰاعِيلُ رَبَّنٰا تَقَبَّلْ مِنّٰا ) (البقرة-الآية 127) فقبل «ربنا» حذفت «و يقولان» و هي في قراءة عبد اللّه بن مسعود(13) و يرجع الفراء النصب بعد حتى في قوله تعالى: وَ زُلْزِلُوا حَتّٰى يَقُولَ اَلرَّسُولُ ) (البقرة-الآية 214) و يذكر أن في قراءة عبد اللّه بن مسعود «و زلزلوا ثم زلزلوا و يقول الرسول» . و في هذا حسب رأيه دليل على تطاول الفعل قبل حتى. و هذا ما يؤيد النصب(14).
3. كلما استعرض آية تتضمن حكما من النحو، بيّن أحكام أهم المسائل المماثلة معطيا أمثلة مشابهة من القرآن الكريم: و غالبا ما يستأنس بالشواهد الشعرية، و من الأمثلة في هذا: عند قوله: (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا اَلْحَيٰاةُ اَلدُّنْيٰا ) (البقرة -الآية 212) . أوضح جواز تذكير الفعل إذا كان الفاعل مؤنثا و اسمه مشتق من فعل في مذهب المصدر. و مثله عنده فَمَنْ جٰاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ ) (البقرة-الآية 275) ، قَدْ جٰاءَكُمْ بَصٰائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ ) (الأنعام-الآية 104) . (وَ أَخَذَ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا اَلصَّيْحَةُ ) (هود-الآية 67) . لأن كل هذه الأسماء تتنزل منزلة المصدر و هو مذكر غالبا، و بعد ما يقول إن العرب لا تكاد تذكر الفعل المسند إلى الأسماء الموضوعة المؤنثة، و الاسم الموضوع عنده هو ما يعرف باسم العين.
و يتوسع في البحث، و يستطرد قول اللّه جل و علا: وَ إِنَّ لَكُمْ فِي اَلْأَنْعٰامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمّٰا فِي بُطُونِهِ (النحل-الآية 66) ، و يعلل عود الضمير المفرد المذكر على الأنعام باعتبار «النعم» و هو مذكر. و مثله في الشعر:
(ألا إن جيراني العشية رائح)
ص111
و يذكر أن يونس أنشده:
أرى رجلا منهم أسيفا كأنما يضمّ إلى كشحيه كفّا مخضّبا (15)
و في معرض حديثه عن قوله تعالى: اِبْعَثْ لَنٰا مَلِكاً نُقٰاتِلْ فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ (البقرة-الآية 246) . يأتي بتفصيل أحكام فعلي الجزاء و الجواب (16).
و عند قوله جل من قائل: (وَ مٰا لَنٰا أَلاّٰ نُقٰاتِلَ فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ ) (البقرة-الآية 246) . أوضح حدود «أنّ» و أن في حالتي التشديد و التخفيف، و في الخصوص إذا ما وردنا بعد إلا، كما بيّن مجمل حكم المستثنى بإلا، بعد قوله تعالى: (فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاّٰ قَلِيلاً مِنْهُمْ ) (البقرة-الآية 249) و بعد ذلك أتى بآرائه في إعراب الأسماء التي تلي «كم» استفهامية كانت أو خبرية (17).
4. و في أثناء عرضه لنظرياته النحوية نراه يبسط آراء أستاذه الكسائي، موضحا ما يكنه له من إعجاب، فمرة يقول (حدثني الكسائي و كان و اللّه ما علمته إلا صدوقا) (18). وعند قوله تعالى: (إِنّٰا كُنّٰا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ اَلْبَرُّ اَلرَّحِيمُ ) (الطور- الآية 28) ، يقول الفراء: «الكسائي يفتح راءه و أنا أكسر، و إنما قلت أنه (أي الفتح) وجه حسن لأن الكسائي قرأه» . و في سورة الحديد يقول قرأ المدنيون: (فإن الله الغني الحميد، و قراءتنا ( فَإِنَّ اَللّٰهَ هُوَ اَلْغَنِيُّ اَلْحَمِيدُ ) (الحديد-الآية 24) . بيد أن كثرة عزوه للكسائي، و توثيقه، و التزامه بقراءته لم يمنعه من مخالفته في كثير من المسائل:
أ- عند قوله تعالى: (وَ اِتَّقُوا يَوْماً لاٰ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً ) (البقرة-الآية 48) ، فيقول الفراء أن فيه إضمارا للصفة و هو يعني بها الجار و الجرور، فتقول: لا تجزئ «فيه» نفس عن نفس شيئا.
و يزيد الفراء قائلا: و كان الكسائي لا يجيز الصفة في الصلات و يقول لو أجزت إضمار الصفة ها هنا لأجزت: أنت الذي تكلمت و أنا أريد الذي تكلمت فيه. و قال غيره من أهل البصرة لا نجيز الهاء، و لا تكون (أي الهاء المحذوفة في رأي الكسائي في تجزيه) و إنما يضمر في مثل هذا الموضع الصفة.
ص112
و قد أنشدني بعض العرب:
قد صبحت صبحها السّلام بكبد خالطها سنام
في ساعة يحبّها الطعام
و لم يقل يحب فيها. و ليس يدخل على الكسائي ما أدخل على نفسه لأن الصفة و الهاء في هذا الموضع متفق معناها (19).
ب- و في إعراب قوله تعالى: (فَإِنَّمٰا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (البقرة-الآية 117) فإنها (يعني فَيَكُونُ) رفع، و كذلك قوله: وَ يَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ اَلْحَقُّ ) (الأنعام-الآية 73) ، رفع لا غير. و أما التي في سورة النحل (إِنَّمٰا قَوْلُنٰا لِشَيْءٍ إِذٰا أَرَدْنٰاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (النحل- الآية40)فإنها نصب و كذلك التي في يس، لأنها مردودة على فعل قد نصب بأن. و أكثر القراء على رفعها و الرفع صواب. . . و إنه لأحب الوجهين إليّ و أن الكسائي لا يجيز الرفع فيهما و يذهب إلى النسق (20).
ج- و في توجيهه لإعراب (وَ مٰا لَنٰا أَلاّٰ نُقٰاتِلَ فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ ((البقرة-الآية 246) يقول: قال الكسائي في إدخال «أن» في «مالك» هو بمنزلة قوله «ما لكم في أن لا تقاتلوا» ، و لو كان ذلك على ما قال لجاز في الكلام أن يقول «مالك أن قمت، و مالك أنك قائم» لأنك تقول في قيامك ماضيا و مستقبلا و ذلك غير جائز لأن المنع إنما يأتي بالاستقبال، تقول «منعتك أن تقوم» منعتك أن قمت) (21).
د- و عند قوله تعالى: (بِئْسَمَا اِشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا) (البقرة- الآية 90) يقول الفراء: «و لا يصلح أن تولي نعم و بئس الذي و لا من و لا ما إلا أن تنوي بهما الاكتفاء دون أن يأتي بعد ذلك اسم مرفوع (و هو يعني المخصوص) من ذلك قولك بئسما صنعت، فهذه مكتفية، و ساء ما صنعت، و لا يجوز: ساء ما صنيعك، و قد أجازه الكسائي» في كتابه على هذا المذهب، قال الفراء و لا نعرف ما جهته (22).
ص113
و عند قوله تعالى: بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اَللّٰهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلىٰ مَنْ يَشٰاءُ مِنْ عِبٰادِهِ (البقرة-الآية 90) ، يقول الفراء: موضع «أن» جزاء و كان الكسائي يقول في أن (هي في موضع خفض و إنما هي جزاء) .
ثم يفسر رأيه قائلا: «إذا كان الجزاء لم يقع عليه شيء قبله و كان ينوي بها الاستقبال كسرت «أن» و جزمت بها فقلت: أكرمك إن تاتني. فإن كانت ماضية قلت: أكرمك أن تاتيني، و أين من ذلك أن تقول: أكرمك أن تاتيني، كذلك قال الشاعر:
أتجزع أن بان الخليط المودعو حبل الصفا من عزّة المتقطع
يريد: أتجزع بأن، أو لأن كان ذلك، و لو أراد الاستقبال و محض الجزاء لكسر «أن و جزم بها (23)، كقوله جل ثناؤه: (فَلَعَلَّكَ بٰاخِعٌ نَفْسَكَ عَلىٰ آثٰارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهٰذَا اَلْحَدِيثِ أَسَفاً) (الكهف الآية 6) فقرأها الفراء بالكسر، و لو قرأت بفتح «أن» على معنى «إذ لم يؤمنوا» ، و لأن لم يؤمنوا و من أن لم يؤمنوا لكان صوابا. و تأويله أنّ «أن» في موضع نصب لأنها إنما كانت أداة بمنزلة (إذ) .
فهي في موضع نصب إذا ألقيت الخافض و تم ما قبلها، فإذا جعلت لها الفعل أو أوقعت عليها فهي في موضع ما يصيبها من الرفع و النصب و الخفض (24).
إن نظرة في كتاب معاني القرآن تبرهن على براعة هذا النحوي الكبير و تمكنه من قضايا العربية حتى استحق جميل الثناء نثرا و نظما و من ذلك قول محمد بن جهم المسري:
يا حبّذا ما حوت السّلّه من كتب القرآن و الملّه
و علمها أشهى إلى عالم من رطب يجنى من النخله
أمله شيخ قديم لنا في الجانب الشرقي من دجله
لم يمل أهل النحو أمثاله و لا رأينا بعده مثله
عنه عفا اللّه و عنا و لا أرهقنا قترا و لا ذله (25)
كما قال فيه يحيى بن زياد مولى بني أسد:
يا طالب النحو التمس علم ما ألّفه الفراء في نحوه
أفاد من يأتيه ما لم يكن يعلم من قبل و لم يحوه
ستّين حدا قاسها عالما أملّها بالحفظ من شدوه
ص114
على كلام العرب المنتقى من كل منسوب إلى بدوه
سوى لغات و معان لقد أرشده اللّه و لم يغوه
و جمع ما احتيج إلى جمعه و الوقف في القرآن أو بدوه
و مصدر الفعل، و تصريفه في كل فن جاء من نشوه
إلى حروف طرف أثبتت في أول الباب و في حشوه
و صنف المقصور و المد و التحويل في الخطين من شلوه
أو مثل بادي الرأي في قوله متخطف البرق لدى ضوّه
و في البه الكلم المرتضي من حسنه و النهي عن سوّه
رام سواه و انثنى خائبا و أخطأ المعنى و لم يشوه
فرحمة اللّه على شيخنا يحيى مع الأبرار في علوه
كافأه الرحمن عنا، كما أروى الصدى بالسيب من نوه
فاصطف ما أملاه من علمه و صنه و استمتع به واروه
و قول سيبويه و أصحابه و قطرب مشتبه فازوه (26)
عنك و ما أملى هشام و ما صنفه الأحمر في زهوه
أو قاسم مولى بني مالك من المعاني فاسم عن غروه
فليس من يغلط فيما روى كمثل من يؤمن من سهوه
و لا ذوو ضحك إذا ما اجتدوا كالبحر إذ يغرق في رهوه
و لا وضيع القوم مثل الذي يحتل بالإشراف من سروه
_____________________
(1) الزبيدي: طبقات النحويين، ص 132.
(2) الإنباه، ج 4 ص 14.
(3) الفهرست، ص 106.
(4) معاني القرآن، ج 1 ص 38.
(5) المصدر نفسه، ج 1 ص 273.
(6) المصدر نفسه، ج 2 ص 265 و خالفها: هاجمها.
(7) المصدر نفسه، ج 3 ص 113.
(8) المصدر نفسه، ج 3 ص 114.
(9) المصدر نفسه، ج 3 ص 7.
(10) المصدر نفسه، ج 3 ص 120.
(11) معاني القرآن، ج 2 ص 3.
(12) المصدر نفسه، ج 3 ص 102.
(13) المصدر نفسه، ج 1 ص 78.
(14) المصدر نفسه، ج 1 ص 133.
(15) معاني القرآن، ج 1 ص 125-127.
(16) المصدر نفسه، ج 1 ص 157.
(17) المصدر نفسه، ج 1 ص 163-165.
(18) المصدر نفسه، ج 3 ص 93.
(19) معاني القرآن، ج 3 ص 133.
(20) المصدر نفسه، ج 1 ص 74-75.
(21) المصدر نفسه، ج 1 ص 165.
(22) المصدر نفسه، ج 1 ص 57.
(23) معاني القرآن، ج 1 ص 58.
(24) المصدر نفسه، ج 1 ص 32.
(25) الخطيب: تاريخ بغداد، ج 14/294.
(26) تاريخ بغداد، 14/ 154.
الاكثر قراءة في أهم نحاة المدرسة الكوفية
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة