"إنّها مهمة مقدسة.. شرعيًا واخلاقيًّا واجتماعيًا"... بتلك العبارة يصف أنور صباح الحربي المهام التي أُنيطت له منذ سنوات. فالحربي حثيث السعي في رأب الصدع الذي يقع بين الناس، مستعينًا بالشريعة الإسلامية وتعاليم مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، والدعم المادي والمعنوي الذي توفره الأمانة العامة للعتبة العباسية المقدسة. فهو كما يقول يعمل في شعبة الشؤون الاجتماعية منذ ما يقرب من سبعة عشر عامًا، وبات مضطلعًا في تسوية المشاكل الاجتماعية التي تحدث داخل العوائل، أو بين الجيران وأيضا الصراعات التي تندلع بين أبناء العشائر. وحاليًا يشغل الحربي منصب معاون رئيس قسم الشؤون الدينية في العتبة العباسية المقدسة، ذلك القسم الذي أفرد هامشًا كبيرًا للإصلاح الاجتماعي عبر الشعبة المشار اليها. ويقول، "المشاكل والصراعات الاجتماعية تمثل ظاهرة في مختلف المجتمعات حول العالم، وهو أمر طبيعي ينشأ طالما هناك حراك إنساني مستمر". ويضيف، "كثير من العراقيين يلجؤون إلى العتبات المقدسة، وخصوصًا مرقد أبي الفضل العباس (عليه السلام) لحلّ ما يصادفهم من إشكالات طارئة". مبينًا، أن "المسلمين يتوجهون إلى العتبة العباسية، لما لها من قيمة دينية، ولمكانة أبي الفضل (عليه السلام) وكراماته المقدسة". ويتفق معظم العراقيين على أنّ لأبي الفضل (عليه السلام) خصوصية ربانية وكرامة سامية جعلت من مرقده ملاذًا أخيرًا لهم في مواجهة المشاكل المستعصية.
فيقول الحاج جواد الفتلاوي، "ورثت عن أبي وعن أجدادي أنّ للعباس (عليه السلام) شارةً تلحق كلّ من يحنث باليمين في حضرته أو يتلفظ شهادة زور أو بهتان". و(الشارة) يقصد بها لعنة تصيب الشخص المفتري أو المعتدي، ويتناقل كثير من الناس أنّ أشخاصًا أُصيبوا باللعنة سواء بشكل فوري أو خلال أسابيع، بعد أن حنثوا باليمين في مرقد أبي الفضل (عليه السلام). والعباس بن علي بن أبي طالب الذي يقع مرقده جنوب غرب العاصمة العراقية بغداد، وتحديدًا وسط المدينة القديمة لمحافظة كربلاء المقدسة، هو أحد شهداء معركة الطف الشهيرة الذي استشهد على إثرها الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب وأهل بيته (عليهم السلام) عام 61 للهجرة. ويشير الفتلاوي إلى، أنّ "هناك شواهدًا كثيرة على أنّ لعنة أصابت جميع من استخف بحرمة أبي الفضل العباس (عليه السلام)". فيما يرى سلمان إبراهيم العوادي الوافد من مدينة الحمزة الغربي (أحد أقضية محافظة بابل) إلى مدينة كربلاء لأداء زيارة العتبتين المقدستين أنّ العتبات المقدسة تمثّل ملاذًا إصلاحيًا أساسيًا في العراق. ويقول، "الخوف من شارة العباس (عليه السلام) تمثّل رادعًا لمن يتجاوز على حقوق الآخرين". مبينًا، "في هذا المرقد الشريف تسقط جميع الاعتبارات الدنيوية، فلا مشيخة أو ثراء أو وجاهة تغني صاحبها عن قول الحق". الاحتكام لدى أبي الفضل العباس (عليه السلام) إلى ذلك يروي الحاج مظهر صالح الصفار كيف أنّ المرقد الطاهر كان أشبه بمحكمة ناجزة لجميع الأطراف التي تلجأ إليها لحلّ مشكلة مستعصية. فيقول، "مجرد أن يحتكم الطرفان إلى العباس (عليه السلام) ويقتربان من ضريحه الشريف يتراجع أحد الأطراف المتنازعة عن إصراره ويرتضي ما يدعيه الطرف المقابل". موضحًا، "مجرد ترديد الإنسان القسم في العتبة العباسية المقدسة له رهبة عظيمة في النفوس". ويضيف، "هذه الرهبة جاءت لما تتناقله الناس عن إصابة من يردد القسم زورًا وبهتانًا بصعقة مباشرة". ويختتم، "هناك العشرات من الحالات التي شهدها أهالي المدينة لأشخاص صُعقوا بعد ترديد القسم كذبًا". ويؤكد الأستاذ أنور صباح الحربي حديث الحاج مظهر الصفار عمليًّا، فيقول، "هناك الكثير من الحالات التي يعترف بها المتجاوز مجرد أن يتم تحذيره من خطورة القسم". موضحًا، "قبل إجراء القسم يوجه أحد المشايخ في الشعبة النصح للمتخاصمين والإرشاد وتوضيح عواقب الحنث باليمين مع الاستشهاد بوقائع حقيقية لبعض الأشخاص وما لحقهم من لعنة بسبب اليمين الكاذب".
أعراف وقوانين عاجزة بدوره يعزو الباحث الاجتماعي حسنين عباس متخصّص في علم النفس إقبال كثير من الأطراف المتخاصمة على مرقد أبي الفضل العباس (عليه السلام) لحلّ المشاكل إلى عاملي العقيدة والأعراف الاجتماعية السائدة. ويقول، "شخصية الفرد العراقي بمختلف مذاهبه الدينية أو الفكرية يعتقد بقدسية العتبات المقدسة العائدة لأئمة أهل البيت (عليهم السلام) وذراريهم الأشراف". ويضيف، "لمرقد أبي الفضل العباس (عليه السلام) خصوصية متوارثة منذ أجيال في حل الإشكاليات الاجتماعية نابعة عن إيمان واحترام كبيرين لشخصه (عليه السلام)". مبينًا، "نلاحظ لجوء كثير من الأهالي بمختلف مستوياتهم الفكرية إلى المرقد الطاهر لحل الإشكاليات التي تواجههم". مشيرًا، "عندما تكون القوانين والسنن العشائرية عاجزة عن إيجاد حلّ عادل للخصومة، يلجأ المتخاصمون إلى أبي الفضل العباس (عليه السلام)". ويرى الباحث حسنين عباس أنّ تصدّي الأمانة العامة للعتبة العباسية المقدسة لعلاج الإشكاليات الاجتماعية تسهم بشكل كبير في تعزيز الأمن والسلم الاجتماعي في العراق. ويقول، "تمثّل النزاعات العشائرية مصدر قلق على مستوى الفرد ومستوى الأسرة والمجتمع ومصدر قلق على مستوى النظام الاجتماعي". ويتابع، "تلك الإشكاليات المتنامية باتت تثمل تحديًا حتّى على صعيد الأسرة الواحدة". موضحًا، أنّ "هناك ارتفاعًا كبيرًا في معدلات الطلاق، نتيجة التفكك الأسري الذي يحدث بعدة اسباب منها، استخدام مواقع التواصل الاجتماعي بوجه غير لائق، إذ أخذت بالمجتمع إلى الاتجاه السلبي. ويبيّن، أنّ "الجهات الدينية تسهم في الحد من الاشكاليات المجتمعية عن طريق رجالاتها الذين يهتمون بفضّ النزاعات ولها دور مهم في التخفيف والحد من المشاكل والنزاعات القبلية التي تهتك حرمة الفرد والأسرة والمجتمع". ويتفق العميد زهير الياسري "مدير قسم شؤون العشائر في محافظة كربلاء المقدسة" مع ما يراه الباحث حسنين عباس، فيقول، "العتبات المقدسة هي مركز إصلاحي مهم، لما تمثله من طابع روحي دينيّ عالٍ يشعر من يلجئ إليها بالطمأنينة والرضا". ويضيف، "تحترم الناس العتبات، لما ترمز له من قدسية أهل البيت (عليهم السلام) وإنّ القائمين على العتبات المقدسة ينطقون بما تراه المرجعية مناسب للمجتمع، لذلك الناس يشعرون بالطمأنينة والارتياح لتوجيهات العتبة المقدسة، وخير مثال ما شهدناه في فترة الجهاد الكفائي لسماحة المرجع الأعلى السيد علي الحسيني السيستاني دام ظله".
أبرز الإشكاليات الاجتماعية ويشير أنور الحربي إلى أنّ شعبة الإصلاح الاجتماعي في العتبة العباسية المقدسة مقسّمة على وحدات عدة، وكل وحدة تُعنى بتسوية المشاكل الاجتماعية ومواجهتها، التي تتباين بين المشاكل الزوجية، والخصومات الشخصية المصحوبة بالاتهامات الجنائية، فضلاً عن بعض الخصومات العشائرية التي تهدد باقتتال بين أبناء القبائل المتخاصمة. إذ تُقسّم وحدة الشؤون الاجتماعية إلى أربع وحدات، وحدة اليمين، ووحدة العقود، ووحدة الطلاق، ووحدة التوجيه والإرشاد الديني". يقول، "وحدة اليمين، وهي وحدة فضّ النزاعات والخلافات بين المتخاصمين من القبائل والأفراد". مبينّا، "اليمين الذي يُؤدّى داخل الوحدة معترف به في المحاكم ولدى شيوخ العشائر، وأسبوعيًا تصل ورقة "تأييد" أو أكثر من المحكمة إلى الأمانة العامة للعتبة العباسية المقدسة تطالب بها "تبيان" أنّ اليمين قد حدث فعلاً داخل العتبة المقدسة أو لا، ليُعترف به رسميًا". لافتًا، "كما تتعامل وحدة اليمين مع حالات الاتهام بالسرقة أو القتل أو الاعتداء أو الخطف أو السحر والشعوذة". ويضيف، "وحدة العقود تتولى إبرام العقود الزوجية للراغبين بالارتباط". موضحًا، "يصل عدد عقود الزواج التي تبرمها الوحدة في الأيام العادية الخالية من المناسبات إلى (25) عقدًا، بينما في أيام المناسبات يصل عدد العقود إلى (70) عقدًا في اليوم".
ويتابع، "أمّا وحدة الطلاق فيُجرى خلال هذه الوحدة تقديم النصح والإرشاد للزوجين قبل عملية التطليق". مشيرًا إلى، أنّ "هناك كثيرًا من الحالات التي عُولجت ولم يحصل الطلاق". كما تتولى الشعبة بحسب الحربي تسوية المشاكل الخاصة بمنتسبي العتبة المقدسة، سواء كانت عائلية أو بين منتسب وآخر. راية أبي الفضل العباس (عليه السلام) لوقف القتال بدوره يبيّن الشيخ عقيل العبودي مسؤول وحدة التوجيه والإرشاد الديني أنّ ملاكات شعبة الإصلاح الاجتماعي يضطرون أحيانًا إلى المبادرة بالتدخل لحلّ النزاعات التي تطرأ بين الفينة والأخرى. ويقول، "اضطررنا ذات مرة إلى الذهاب لمحافظة ذي قار بصحبة السيد عدنان جلو خان والحاج فاضل عوز من العتبة الحسينية المقدسة، لوأد فتنة اندلعت بين عشيرتي آل إبراهيم وأبناء أعمامهم من عشيرة الهصاصرة".
موضحًا، "كانت الأمور محتدمة بسبب جريمة قتل ارتكبها أحد أفراد العشيرتين". ويروي الشيخ العبودي أنّ "الأطراف المتخاصمة كانت خلف السواتر ولا يمكن الوصول إلى المنطقة إلا ليلاً وبشقّ الأنفس". كاشفًا عن "تعذر شيوخ ووجهاء العشيرتين تسوية الأزمة أو الحد من اندلاع اقتتال عنيف". هذا الأمر دفع بوفد العتبتين إلى فرض أمر واقع على طرفي النزاع بقوة غيبية تتمثل برفع راية أبي الفضل العباس (عليه السلام) بين منطقتي الطرفين لإرغامهما على عدم الاعتداء والركون إلى الحوار والمصالحة. فيقول الشيخ العبودي، "بعد أن يأسنا من التفاهم مع الشباب المتخندقين خلف السواتر، بادرنا إلى رفع الراية في المنطقة العازلة بين العشيرتين على الرغم من التهديدات التي طالتنا بالقتل في حال الإقدام على ذلك الأمر". مختتمًا، "رفع الراية ألزم الطرفين بضبط النفس والركون إلى التفاوض لحلّ الأزمة حينها".