أقرأ أيضاً
التاريخ: 23-2-2018
8093
التاريخ: 23-2-2018
14918
التاريخ: 23-2-2018
3635
|
قال تعالى : {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا} [النبأ: 31 - 40].
عقب سبحانه وعيد الكفار بالوعد للمتقين الأبرار فقال {إن للمتقين} الذين يتقون الله باجتناب الشرك والمعاصي {مفازا} أي فوزا ونجاة إلى حال السلامة والسرور وقيل المفاز موضع الفوز وقالوا للمهلكة مفازة على طريق التفاؤل كأنهم قالوا وقيل مفازا منجى إلى متنزه وهو النجاة من النار إلى الجنة ثم بين ذلك الفوز فقال {حدائق وأعنابا} يعني أشجار الجنة وثمارها {وكواعب أترابا} أي جواري تكعب ثديهن مستويات في السن عن قتادة ومعناه استواء الخلقة والقامة والصورة والسن حتى يكن متشاكلات وقيل أترابا على مقدار أزواجهن في الحسن والصورة والسن عن أبي علي الجبائي {وكأسا دهاقا} أي مترعة مملوءة عن ابن عباس والحسن وقتادة وقيل متتابعة على شاربيها أخذ من متابعة الشد في الدهق عن مجاهد وسعيد بن جبير وقيل دمادم عن أبي هريرة وقيل على قدر ريهم عن مقاتل.
{لا يسمعون فيها} أي في الجنة {لغوا} أي كلاما لغوا لا فائدة فيه {ولا كذابا} ولا تكذيب بعضهم لبعض ومن قرأ بالتخفيف يريد ولا مكاذبة عن أبي عبيدة وقيل كذبا عن أبي علي الفارسي {جزاء من ربك} أي فعل بالمتقين ما فعل بهم جزاء من ربك على تصديقهم بالله ونبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) {عطاء} أي أعطاهم الله عطاء {حسابا} أي كافيا عن أبي عبيدة والجبائي وقيل حسابا أي كثيرا وقيل حسابا على قدر الاستحقاق وبحسب العمل قال الزجاج معناه ما يكفيهم أي إن فيه ما يشتهون {رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن} مر ذكره والمعنى أن الذي يفعل بالمؤمنين ما تقدم ذكره هورب السماوات والأرض ومدبرهما ومدبر ما بينهما والمتصرف فيهما على ما يشاء الرحمن المنعم على خلقه مؤمنهم وكافرهم.
{لا يملكون منه خطابا} أي لا يملكون أن يسألوه إلا فيما أذن لهم فيه كقوله ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وقوله لا تكلم نفس إلا بإذنه والخطاب توجيه الكلام إلى مدرك له بصيغة منبئة عن المراد على طريقة أنت وربك قال مقاتل لا يقدر الخلق على أن يكلموا الرب إلا بإذنه {يوم يقوم الروح والملائكة صفا} أي في ذلك اليوم اختلف في معنى الروح هنا على أقوال (أحدها) أن الروح خلق من خلق الله تعالى على صورة بني آدم وليسوا بناس وليسوا بملائكة يقومون صفا والملائكة صفا هؤلاء جند وهؤلاء جند عن مجاهد وقتادة وأبي صالح قال الشعبي هما سماطا(2) رب العالمين يوم القيامة سماط من الروح وسماط من الملائكة (وثانيها) أن الروح ملك من الملائكة ما خلق الله مخلوقا أعظم منه فإذا كان يوم القيامة قام وهو وحده صفا وقامت الملائكة كلهم صفا واحدا فيكون عظم خلقه مثل صفهم عن ابن مسعود وعن عطاء عن ابن عباس.
(وثالثها) أن أرواح الناس تقوم مع الملائكة فيما بين النفختين قبل أن ترد الأرواح إلى الأجساد عن عطية عن ابن عباس (ورابعها) أنه جبريل (عليه السلام) عن الضحاك وقال وهب إن جبرائيل (عليه السلام) واقف بين يدي الله عز وجل ترتعد فرائصه يخلق الله عز وجل من كل رعدة مائة ألف ملك فالملائكة صفوف بين يدي الله تعالى منكسو رءوسهم فإذا أذن الله لهم في الكلام قالوا لا إله إلا أنت وقال صوابا أي لا إله إلا الله وروى علي بن إبراهيم بإسناده عن الصادق (عليه السلام) قال هو ملك أعظم من جبرائيل وميكائيل (وخامسها) أن الروح بنو آدم عن الحسن وقوله {صفا} معناه مصطفين {لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن} وهم المؤمنون والملائكة {وقال} في الدنيا {صوابا} أي شهد بالتوحيد وقال لا إله إلا الله وقيل إن الكلام هاهنا الشفاعة أي لا يشفعون إلا لمن أذن له الرحمن أن يشفع عن الحسن والكلبي وروى معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال سئل عن هذه الآية فقال نحن والله المأذون لهم يوم القيامة والقائلون قال جعلت فداك ما تقولون قال نمجد ربنا ونصلي على نبينا (صلى الله عليه وآله وسلّم) ونشفع لشيعتنا فلا يردنا ربنا رواه العياشي مرفوعا {ذلك اليوم الحق} الذي لا شك في كونه وحصوله يعني القيامة {فمن شاء اتخذ إلى ربه م آبا} أي مرجعا للطاعة والمعنى فمن شاء عمل عملا صالحا يؤوب إلى ربه فقد أزيحت العلل وأوضحت السبل وبلغت الرسل والم آب مفعل من الأوب وهو الرجوع قال عبيد
وكل ذي غيبة يؤوب *** وغائب الموت لا يؤوب
ثم خوف سبحانه كفار مكة فقال {إنا أنذرناكم عذابا قريبا} يعني العذاب في الآخرة فإن كل ما هو آت قريب {يوم ينظر المرء ما قدمت يداه} أي ينتظر جزاء ما قدمه فإن قدم الطاعة انتظر الثواب وإن قدم المعصية انتظر العقاب وقيل معناه أن كل أحد ينظر إلى عمله في ذلك اليوم من خير وشر مثبتا عليه في صحيفته فيرجو ثواب الله على صالح عمله ويخاف العقاب على سوء عمله.
{ويقول الكافر} في ذلك اليوم {يا ليتني كنت ترابا} أي ليتمنى أن لوكان ترابا لا يعاد ولا يحاسب ليتخلص من عقاب ذلك اليوم قال الزجاج إن معنى {يا ليتني كنت ترابا} يا ليتني لم أبعث قال عبد الله بن عمر إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مد الأديم وحشر الدواب والبهائم والوحوش ثم يجعل القصاص بين الدواب حتى يقتص للشاة الجماء(3) من الشاة القرناء التي نطحتها وقال مجاهد يقاد يوم القيامة للمنطوحة من الناطحة وقال المقاتلان إن الله يجمع الوحوش والهوام والطير وكل شيء غير الثقلين فيقول من ربكم فيقولون الرحمن الرحيم فيقول لهم الرب بعد ما يقضي بينهم حتى يقتص للجماء من القرناء إنا خلقناكم وسخرناكم لبني آدم وكنتم مطيعين أيام حياتكم فارجعوا إلى الذي كنتم كونوا ترابا فتكون ترابا فإذا التفت الكافر إلى شيء صار ترابا يتمنى فيقول يا ليتني كنت في الدنيا على صورة خنزير رزقي كرزقه وكنت اليوم أي في الآخرة ترابا وقيل إن المراد بالكافر هنا إبليس عاب آدم بأن خلق من تراب وافتخر بالنار فيوم القيامة إذا رأى كرامة آدم وولده المؤمنين قال يا ليتني كنت ترابا .
__________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج10 ، ص246-249.
2- السماط : صف الجنود الذين يتقدمون بين يدي الملك.
3- الجماء : التي لا قرن لها.
{إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً} بثواب اللَّه ومرضاته ، ومنجاة من عذابه وغضبه {حَدائِقَ وأَعْناباً} . خص سبحانه الأعناب بالذكر لأهميتها عند المخاطبين {وكَواعِبَ أَتْراباً} حورا في سن واحدة ولم تتدل أثداءهن {وكَأْساً دِهاقاً} طافحة بما لذ وطاب {لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً ولا كِذَّاباً} . لا يقولون ولا يسمعون كلاما لا يعتد به ولا أساس له من الحق والواقع ، وفيه إيماء إلى ان أهل الجنة وإن كانوا بلا عمل فإنهم لا يخوضون بما يخوض فيه أهل البطالة في الحياة الدنيا {جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً} . كلمة جزاء تشير إلى ان الثواب على العمل الصالح حق لا بد منه ، وكلمة عطاء تومئ إلى ان اللَّه يزيدهم من فضله زيادة كافية وافية بما يحبّون ويشتهون . وتقدم مثله في عشرات الآيات ، منها الآية 6 وما بعدها من سورة مريم .
{رَبِّ السَّماواتِ والأَرْضِ وما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً} . ضمير لا يملكون يعود إلى الخلائق الذين يومئ إليهم ذكر السماوات والأرض لأن اللَّه ربهما ورب من فيهما ، والمعنى ان تلك الحدائق وغيرها مما أنعم اللَّه بها على المتقين ، هي من الرحمن الرحيم ومالك الملك الذي لا أحد يملك ان يخاطبه يوم القيامة في شأن الثواب والعقاب ، فهو وحده يتصرف {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ والْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وقالَ صَواباً} . قيل : المراد بالروح هنا جبريل لأن اللَّه سبحانه أسماه بالروح الأمين في الآية 193 من سورة الشعراء : {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} . وقال الشيخ عبده : {الروح من مخلوقات اللَّه المغيبة عنا التي لم نكلف بالبحث عن حقائقها} . والمعنى ان الملائكة يصطفون في يوم القيامة ، ويملئون الجو هيبة ورهبة ، وهم على طاعتهم وقربهم من اللَّه لا يتحركون بأية حركة ، ولا ينطقون بأية كلمة إلا بإذن منه تعالى ، وهولا يأذن بالكلام لهم ولغيرهم إلا من كانت حياته كلها صوابا وصدقا ، وعدلا وحقا ، وأيضا لا يقول المأذون له إلا ما شاء اللَّه وأراد .
{ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً} . يوم القيامة حق لا ريب فيه ، والناس يومذاك فريقان : فريق إلى النار والبعد عن اللَّه ورحمته ، وفريق إلى القرب من اللَّه وجنته ، والطريق إليها واضح وممهد . وهو العمل الصالح مع صدق السريرة ، وما على الإنسان إلا أن يشاء ، ويعمل مخلصا بموجب مشيئته ورغبته في دخول الجنةِ إنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً} وهو عذاب القيامة لأن كل آت قريب ، ولأن من مات فقد قامت قيامته ، وهل من شيء أقرب إلى الإنسان من الموت ؟ يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ} في الحياة الدنيا خيرا كان أوشرا ، ومثله : {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ} - 30 آل عمران ج 2 ص 44 {ويَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً} .
في يوم الحق يتمنى المجرم أن يكون ترابا تدوسه الأقدام لشدة ما هو فيه ويأسه من الخلاص . . وهكذا كل مضيع تذهب نفسه مع الحسرات والعبرات .
____________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7 ، ص503-504.
قوله تعالى: {إن للمتقين مفازا - إلى قوله - كذابا} الفوز الظفر بالخير مع حصول السلامة - على ما قاله الراغب - ففيه معنى النجاة والتخلص من الشر والحصول على الخير، والمفاز مصدر ميمي أواسم مكان من الفوز والآية تحتمل الوجهين جميعا.
وقوله: {حدائق وأعنابا} الحدائق جمع حديقة وهي البستان المحوط، والأعناب جمع عنب وهو ثمر شجرة الكرم وربما يطلق على نفس الشجرة.
وقوله: {وكواعب} جمع كاعب وهي الفتاة التي تكعب ثدياها واستدار مع ارتفاع يسير، والترائب جمع ترب وهي المماثلة لغيرها من اللذات.
وقوله: {وكأسا دهاقا} أي ممتلئة شرابا مصدر بمعنى اسم الفاعل.
وقوله: {لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا} أي لا يسمعون في الجنة لغوا من القول لا يترتب عليه أثر مطلوب ولا تكذيبا من بعضهم لبعضهم فيما قال فقولهم حق له أثره المطلوب وصدق مطابق للواقع.
قوله تعالى: {جزاء من ربك عطاء حسابا} أي فعل بالمتقين ما فعل حال كونه جزاء من ربك عطية محسوبة فقوله: {جزاء} حال وكذا {عطاء} و{حسابا} بمعنى اسم المفعول صفة لعطاء، ويحتمل أن يكون عطاء تمييزا أو مفعولا مطلقا.
قيل: إضافة الجزاء إلى الرب مضافا إلى ضميره (صلى الله عليه وآله وسلم) تشريف له، ولم يضف جزاء الطاغين إليه تعالى تنزها منه تعالى فليس يغشاهم شر إلا من عند أنفسهم قال تعالى: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [الأنفال: 51].
ووقوع لفظ الحساب في ذيل جزاء الطاغين والمتقين معا لتثبيت ما يلوح إليه يوم الفصل الواقع في أول الكلام.
قوله تعالى: {رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن} بيان لقوله: {ربك} أريد به أن ربوبيته تعالى عامة لكل شيء وأن الرب الذي يتخذه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ربا ويدعو إليه رب كل شيء لا كما كان يقول المشركون: إن لكل طائفة من الموجودات ربا والله سبحانه رب الأرباب أو كما كان يقول بعضهم: أنه رب السماء.
وفي توصيف الرب بالرحمن - صيغة مبالغة من الرحمة - إشارة إلى سعة رحمته وأنها سمة ربوبية لا يحرم منها شيء إلا أن يمتنع منها شيء بنفسه لقصوره وسوء اختياره فمن شقوة هؤلاء الطاغين أنهم حرموها على أنفسهم بالخروج عن طور العبودية.
قوله تعالى: {لا يملكون منه خطابا يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا} وقوع صدر الآية في سياق قوله: {رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن} - وشأن الربوبية هو التدبير وشأن الرحمانية بسط الرحمة - دليل على أن المراد بخطابه تعالى تكليمه في بعض ما فعل من الفعل بنحو السؤال عن السبب الداعي إلى الفعل كان يقال: لم فعلت هذا؟ ولم لم تفعل كذا؟ كما يسأل الفاعل منا عن فعله فتكون الجملة {لا يملكون منه خطابا} في معنى قوله تعالى: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } [الأنبياء: 23] وقد تقدم الكلام في معنى الآية.
لكن وقوع قوله: {يوم يقوم الروح والملائكة صفا} بعد قوله: {لا يملكون منه خطابا} الظاهر في اختصاص عدم الملك بيوم الفصل مضافا إلى وقوعه في سياق تفصيل جزاء الطاغين والمتقين منه تعالى يوم الفصل يعطي أن يكون المراد به أنهم لا يملكون أن يخاطبوه فيما يقضي ويفعل بهم باعتراض عليه أو شفاعة فيهم لكن الملائكة - وهم ممن لا يملكون منه خطابا - منزهون عن وصمة الاعتراض عليه تعالى وقد قال فيهم: {عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون{: الأنبياء: 27 وكذلك الروح الذي هو كلمته وقوله، وقوله حق، وهو تعالى الحق المبين والحق لا يعارض الحق ولا يناقضه.
ومن هنا يظهر أن المراد بالخطاب الذي لا يملكونه هو الشفاعة وما يجري مجراها من وسائل التخلص من الشر كالعدل والبيع والخلة والدعاء والسؤال قال تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ } [البقرة: 254] ، وقال: {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ } [البقرة: 123] ، وقال: { يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ } [هود: 105].
وبالجملة قوله: {لا يملكون منه خطابا} ضمير الفاعل في {لا يملكون} لجميع المجموعين ليوم الفصل من الملائكة والروح والإنس والجن كما هو المناسب للسياق الحاكي عن ظهور العظمة والكبرياء دون خصوص الملائكة والروح لعدم سبق الذكر ودون خصوص الطاغين كما قيل لكثرة الفصل، والمراد بالخطاب الشفاعة وما يجري مجراها كما تقدم.
وقوله: {يوم يقوم الروح والملائكة صفا} ظرف لقوله: {لا يملكون} وقيل: لقوله: {لا يتكلمون} وهو بعيد مع صلاحية ظرفيته لما سبقه.
والمراد بالروح المخلوق الأمري الذي يشير إليه قوله تعالى: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85].
وقيل: المراد به أشراف الملائكة، وقيل حفظة الملائكة وقيل: ملك موكل على الأرواح.
ولا دليل على شيء من هذه الأقوال.
وقيل: المراد به جبريل، وقيل: أرواح الناس وقيامها مع الملائكة صفا إنما هوبين النفختين قبل أن تلج الأجساد، وقيل: القرآن والمراد من قيامه ظهور آثاره يومئذ من سعادة المؤمنين به وشقاوة الكافرين.
ويدفعها أن هذه الثلاثة وإن أطلق على كل منها الروح في كلامه تعالى لكنه مع التقييد كقوله: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي } [الحجر: 29] ، وقوله: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ } [الشعراء: 193] ، وقوله: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ} [النحل: 102] ، وقوله: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} [مريم: 17] ، وقوله: {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا{: الشورى: 52 والروح في الآية التي نحن فيها مطلق، على أن في القولين الأخيرين تحكما ظاهرا.
و{صفا} حال من الروح والملائكة وهو مصدر أريد به اسم الفاعل أي حال كونهم صافين، وربما استفيد من مقابلة الروح للملائكة أن الروح وحده صف والملائكة جميعا صف.
وقوله: {لا يتكلمون} بيان لقوله: {لا يملكون منه خطابا} وضمير الفاعل لأهل الجمع من الروح والملائكة والإنس والجن على ما يفيده السياق.
وقيل: الضمير للروح والملائكة، وقيل: للناس ووقوع {لا يملكون} بما مر من معناه و{لا يتكلمون} في سياق واحد لا يلائم شيئا من القولين.
وقوله: {إلا من أذن له الرحمن} بدل من ضمير الفاعل في {لا يتكلمون} أريد به بيان من له أن يتكلم منهم يومئذ بإذن الله فالجملة في معنى قوله: {يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ } [هود: 105] على ظاهر إطلاقه.
وقوله: {وقال صوابا} أي قال قولا صوابا لا يشوبه خطأ وهو الحق الذي لا يداخله باطل، والجملة في الحقيقة قيد للإذن كأنه قيل: إلا من أذن له الرحمن ولا يأذن إلا لمن قال صوابا فالآية في معنى قوله تعالى: { وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86].
وقيل: {إلا من أذن} إلخ استثناء ممن يتكلم فيه والمراد بالصواب التوحيد وقول لا إله إلا الله والمعنى لا يتكلمون في حق أحد إلا في حق شخص أذن له الرحمن وقال ذلك الشخص في الدنيا صوابا أي أقر بالوحدانية وشهد أن لا إله إلا الله فالآية في معنى قوله تعالى: { وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى } [الأنبياء: 28] .
ويدفعه أن العناية الكلامية في المقام متعلقة بنفي أصل الخطاب والتكلم يومئذ من كل متكلم لا بنفي التكلم في كل أحد مع تسليم جواز أصل التكلم فالمستثنون هم المتكلمون المأذون لهم في أصل التكلم من دون تعرض لمن يتكلم فيه.
كلام فيما هو الروح في القرآن
تكررت كلمة الروح - والمتبادر منه ما هو مبدأ الحياة - في كلامه تعالى ولم يقصرها في الإنسان أوفي الإنسان والحيوان فحسب بل أثبتها في غيرهما كما في قوله: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} [مريم: 17] ، وقوله: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52] إلى غير ذلك فللروح مصداق في الإنسان ومصداق في غيره.
والذي يصلح أن يكون معرفا لها في كلامه تعالى ما في قوله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] حيث أطلقها إطلاقا وذكر معرفا لها أنها من أمره وقد عرف أمره بقوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} [يس: 82، 83] فبين أنه كلمة الإيجاد التي هي الوجود من حيث انتسابه إليه تعالى وقيامه به لا من حيث انتسابه إلى العلل والأسباب الظاهرية.
وبهذه العناية عد المسيح (عليه السلام) كلمة له وروحا منه إذ قال: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ } [النساء: 171] لما وهبه لمريم (عليها السلام) من غير الطرق العادية ويقرب منه في العناية قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59] .
وهو تعالى وإن ذكرها في أغلب كلامه بالإضافة والتقيد كقوله: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي } [الحجر: 29] ، وقوله: { وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} [السجدة: 9] ، وقوله: { فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} [مريم: 17] ، وقوله: {وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء: 171] وقوله: {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [البقرة: 87] إلى غير ذلك إلا أنه أوردها في بعض كلامه مطلقة من غير تقييد كقوله: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ } [القدر: 4] وظاهر الآية أنها موجود مستقل وخلق سماوي غير الملائكة، ونظير الآية بوجه قوله تعالى: { تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } [المعارج: 4].
وأما الروح المتعلقة بالإنسان فقد عبر عنها بمثل قوله: {ونفخت فيه من روحي} {ونفخ فيه من روحه} وأتي بكلمة {من} الدالة على المبدئية وسماه نفخا وعبر عن الروح التي خصها بالمؤمنين بمثل قوله: {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة: 22] فأتى بالباء الدالة على السببية وسماه تأييدا وتقوية، وعبر عن الروح التي خصها بالأنبياء بمثل قوله: {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [البقرة: 87] فأضاف الروح إلى القدس وهو النزاهة والطهارة وسماه أيضا تأييدا.
وبانضمام هذه الآيات إلى مثل آية سورة القدر يظهر أن نسبة الروح المضافة التي في هذه الآيات إلى الروح المطلقة المذكورة في سورة القدر نسبة الإفاضة إلى المفيض والظل إلى ذي الظل بإذن الله.
وكذلك الروح المتعلقة بالملائكة من إفاضات الروح بإذن الله، وإنما لم يعبر في روح الملك بالنفخ والتأييد كالإنسان بل سماه روحا كما في قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا } [مريم: 17] ، وقوله: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ} [النحل: 102] ، وقوله: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ } [الشعراء: 193] لأن الملائكة أرواح محضة على اختلاف مراتبهم في القرب والبعد من ربهم، وما يتراءى من الأجسام لهم تمثلات كما يشير إليه قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} [مريم: 17] وقد تقدم الكلام في معنى التمثل في ذيل الآية بخلاف الإنسان المخلوق مؤلفا من جسم ميت وروح حية فيناسبه التعبير بالنفخ كما في قوله {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي } [الحجر: 29] .
وكما أوجب اختلاف الروح في خلق الملك والإنسان اختلاف التعبير بالنفخ وعدمه كذلك اختلاف الروح من حيث أثرها وهو الحياة شرفا وخسة أوجب اختلاف التعبير بالنفخ والتأييد وعد الروح ذات مراتب مختلفة باختلاف أثر الحياة.
فمن الروح الروح المنفوخة في الإنسان قال: {ونفخت فيه من روحي}.
ومن الروح الروح المؤيد بها المؤمن قال: { أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة: 22] وهي أشرف وجودا وأعلى مرتبة وأقوى أثرا من الروح الإنسانية العامة كما يفيده قوله تعالى وهو في معنى هذه الآية: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122] فقد عد المؤمن حيا ذا نور يمشي به وهو أثر الروح والكافر ميتا وهو ذو روح منفوخة فللمؤمن روح ليست للكافر ذات أثر ليس فيه.
ومن ذلك يظهر أن من مراتب الروح ما هو في النبات لما فيه من أثر الحياة يدل على ذلك الآيات المتضمنة لإحياء الأرض بعد موتها.
ومن الروح الروح المؤيد بها الأنبياء قال: {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [البقرة: 87] وسياق الآيات يدل على كون هذه الروح أشرف وأعلى مرتبة من غيرها مما في الإنسان.
وأما قوله: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ} [غافر: 15]، وقوله: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا } [الشورى: 52] فيقبل الانطباق على روح الإيمان وعلى روح القدس والله أعلم.
وقد تقدم بعض ما ينفع من الكلام في المقام في ذيل هذه الآيات الكريمة.
قوله تعالى: {ذلك اليوم الحق} إشارة إلى يوم الفصل المذكور في السورة الموصوف بما مر من الأوصاف وهو في الحقيقة خاتمة الكلام المنعطفة إلى فاتحة السورة وما بعده أعني قوله: {فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا} إلخ فضل تفريع على البيان السابق.
والإشارة إليه بالإشارة البعيدة للدلالة على فخامة أمره والمراد بكونه حقا ثبوته حتما مقضيا لا يتخلف عن الوقوع.
قوله تعالى: {فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا} أي مرجعا إلى ربه ينال به ثواب المتقين وينجو به من عذاب الطاغين، والجملة كما أشرنا إليه تفريع على ما تقدم من الإخبار بيوم الفصل والاحتجاج عليه ووصفه، والمعنى إذا كان كذلك فمن شاء الرجوع إلى ربه فليرجع.
قوله تعالى: {إنا أنذرناكم عذابا قريبا} إلخ المراد به عذاب الآخرة، وكونه قريبا لكونه حقا لا ريب في إتيانه وكل ما هو آت قريب.
على أن الأعمال التي سيجزي بها الإنسان هي معه أقرب ما يكون منه.
وقوله: {يوم ينظر المرء ما قدمت يداه} أي ينتظر المرء جزاء أعماله التي قدمتها يداه بالاكتساب، وقيل: المعنى ينظر المرء إلى ما قدمت يداه من الأعمال لحضورها عنده قال تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ} [آل عمران: 30].
وقوله: {ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا} أي يتمنى من شدة اليوم أن لوكان ترابا فاقدا للشعور والإرادة فلم يعمل ولم يجز.
__________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج20 ، ص145-155.
ممّا وعد اللّه المتقين:
كان الحديث في الآيات السابقة منصباً حول خاتمة المجرمين والطغاة وما يلاقونه من أليم العذاب وموجباته، وينتقل الحديث في الآيات أعلاه لتفصيل بعض ما وعد اللّه المؤمنين والمتقين من النعم الخالدة والثواب الجزيل، عسى أن يرعوي الإنسان ويتبع طريق الحق من خلال مقايسته لما يعيشه كلّ من الفريقين، على ضوء تفكيره بمصيره الأبدي.
وكذا هو الحال في الاُسلوب القرآني، كما في بقية السور الاُخرى، فهو يضع متضادات الحالات والأحوال في طبق واحد، ليتمكن الإنسان بسهولة من اكتشاف خصائص وشؤون أيّاً منها.
فيقول، مبتدءً الحديث: {إنّ للمتقين مفازاً}.
«المفاز»: اسم مكان، أو مصدر ميمي من (الفوز) بمعنى الوصول إلى الخير بسلام، ويأتي بمعنى النجاة أيضاً وهومن لوازم المعنى الأوّل.
وقد جاءت «مفازاً» بصيغة النكرة للإشارة إلى الفتح العظيم والوصول إلى خير وسعادة لا يعلم قدرهما إلاّ اللّه عزّوجلّ.
ومن مفردات الفوز والسعادة: {حدائق وأعناباً}(2).
«الحدائق»: جمع «حديقة»، وهي قطعة أرض مزروعة بالورود والأشجار ومحاطة بسور لحفظها، ويقول الراغب في مفرداته «الحديقة» قطعة من الأرض ذات ماء، سمّيت تشبيهاً بحدقة العين في الهيئة وحصول الماء فيها.
أمّا ذكر «العنب» دون بقية الفواكه فلما له من مزايا تفضله على بقية الفواكه، ويقول علماء التغذية في هذا المجال: إضافة لكون العنب غذاءً كاملاً من حيث الخاصية الغذائية الموجودة فيه والتي تشبه حليب الاُم في كونه ثري بالمواد الغذائية اللازمة للإنسان، إضافة لكل هذا، فهو يعطي للبدن ضعف ما يعطيه اللحم من سعرات حرارية، حتى وصف بصيدلية متكاملة لما يحويه من مواد مفيدة.
ومن خواص وفوائد العنب، أنّه: مقاوم للسموم، مفيد لتصفية الدم، يقي من الروماتيزم والنقرس، مضاد فعّال ضد زيادة السموم الحاصلة في الدم، مقو للأعصاب ومنشط ويعطي للإنسان القوّة والقدرة الكافية لما فيه من كميات مناسبة لأنواع (الفيتامينات).
وقد روي عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في خصوص العنب أنّه قال: «خير فواكهكم العنب».
ويتطرق القرآن إلى نعمة اُخرى ممّا وعد اللّه به المتقين في الجنّة، فيقول: {وكواعب أتراباً}.
«الكواعب»: جمع «كاعب»، وهي البنت حديثة الثدي، للإشارة إلى شباب زوجات المتقين في الجنّة.
«الأتراب»: جمع «ترب»، ويطلق على مجموعة الأفراد المتساويين في العمر، واستعماله في الإناث أكثر، قيل: إنّها من «الترائب» وهي: اضلاع الصدر، وذلك لما بينهما من شبه من حيث التساوي والتماثل.
ويحتمل أن يكون المراد من «أتراب» التساوي بين نساء أهل الجنّة في العمر، فيكون شابات متساويات في القد والقامة والجمال، أو تساوي العمر بينهن وبين أزواجهن من المؤمنين، لأنّ للتساوي في العمر له أثره النفسي على إدراك مشاعر الطرف الآخر.. إلاّ أن المعنى الأوّل أكثر تناسباً.
وتأتي النعمة الرابعة: {وكأساً دهاقاً}.
شراب ليس كأي شراب، فلا يُهب بالعقول ولا يحدر الإنسان إلى دركات الحيوانية، بل هو مُذكر للعقل، منشط للروح ومنعش للقلب.
«الكأس»: هو القدح المملوء بالشراب، وقد يطلق على القدح دون الشراب أو على شراب القدح.
«دهاقاً»: بمعنى الإمتلاء، عند أكثر المفسّرين وأهل اللغة، لكنّ (ابن منظور) قد ذكر معنيين آخرين هما: التتابع على شاربيها، صافية.
وعليه.. فيمكن حمل معنى الآية، على ضوء ما ذكر من معان، على أنّ لأهل الجنّة أقداح مملوءة بشراب زلال طاهر.
ودفعاً لما يتبادر إلى الأذهان من تبعات شراب الدنيا الشيطاني، يقول القرآن: {لا يسمعون فيها لغواً ولا كذّاباً}.
إنّ شراب الدنيا.. يُذهب العقل، يفقد الإحساس، يوقع شاربه بالهذيان واللغو.. وأمّا شراب الآخرة فنفحاته الطاهرة تضفي على العقل والروح نوراً وصفاء.
وثمّة احتمالات بخصوص ضمير «فيها».
الأوّل: إنّه يعود إلى الجنّة.
الثّاني: إنّه يعود إلى الكأس.
فعلى الإحتمال الأوّل، يكون معنى الآية إنّ أهل الجنّة لا يسمعون فيها لغواً، كما جاء في الآيتين (10 و11) من سورة الغاشية: { فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً } [الغاشية: 10، 11].
وعلى الإحتمال الثّاني، يكون معنى الآية: إنّه سوف لا يصدر اللغو والهذيان والكذب من أهل الجنّة بعد شرابهم ما في كأس الجنّة من شراب، كما جاء في الآية (23) من سورة الطور: {يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ} [الطور: 23].
وعلى أيّة حال، فالجنّة خالية من: الأكاذيب، الهذيان، التهم، الإفتراءات، تبرير الباطل، بل وكلّ ما كان يؤذي قلوب المتقين في الحياة الدنيا.. إنّها الجنّة! وخير تصوير لها ما جاء في الآية (62) من سورة مريم: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا } [مريم: 62].
وفي آخر المطاف يذكر القرآن الكريم تلك النعمة المعنوية التي تفوق كلّ النعم علوّاً: {جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا} [النبأ: 36](3)
وأيّة بشارة ونعمة أسمى وأجل، من أن أكون وأنا العبد الضعيف، موضع ألطاف وإكرام اللّه جلّ وعلا، فيطعمني ويكسوني ويغرف عليّ بنعمه التي لا تحصى عدداً ولا تضاهى حبّاً وكرماً، وفطوبى للمؤمنين في دار الخلد وهم منعمون بكل ما لذّ وطاب.
والتعبير بكلمة «ربّ» مع ضمير المخاطب، وكلمة «عطاء»، لتبيان ما اُودع من لطف خاص في النعم التي وعِدَ بها أهل التقوى.
«حساباً»: يعتقد الكثير من المفسّرين إن معناها هنا (كافياً): من أحسبه الشيء إذا كفاه حتى قال حسبي(4).
وروي عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنّه قال: «حتى إذا كان يوم القيامة حسب لهم حسناتهم ثمّ أعطاهم بكل واحدة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال اللّه عزّوجلّ: (جزاء من ربّك عطاءً حساباً)»(5).
ونستفيد من الرواية المذكورة أنّ نعم اللّه في الآخرة وإن كانت بصفة الفضل. واللطف والزيادة، إلاّ أن مقدمتها الأعمال الصالحة التي يقوم بها الإنسان في حياته الدنيا، وعليه.. فيمكن تفسير «حساباً» في الآية بمعنى (الحساب)، ولا مانع من إرادة كلا المعنيين ـ فتأمل.
وفي آخر آية من الآيات المبحوثة، يضيف: {ربّ السموات والأرض وما بينهما الرحمن}.
نَعم: إنّه مالك العالم، ومدبّر ما فيه، وموجه كلّ حركاته وسكناته، إنّه الرحمن الذي شملت رحمته كلّ شيء، وهو واهب الصالحين ما وعدهم به القرآن الكريم.
وبما أنّ صفة «الرحمن» تشمل رحمة اللّه العامّة لكلّ خلقه، فيمكن حمل إشارة الآية إلى أنّ اللّه تبارك وتعالى يشمل برحمته أهل السماوات والأرض في الحياة الدنيا، إضافة لما وعد به المؤمنين من عطاء دائم في الجنّة.
وذيل الآية، يقول: (لا يملكون منه خطاباً).
ويمكن شمول «لا يملكون» جميع أهل السماوات والأرض، أو جميع المتقين والعاصين الذين يجمعون في عرصة المحشر للحساب والجزاء.
وعلى أيّ القولين.. فالآية تشير إلى عدم القدرة على الإعتراض أو الردّ من قبل كلّ المخلوقات أمام محكمة العدل الإلهي، لأنّ حسابه جلّ اسمه من الدقّة والعدل واللطف ما لا يفسح المجال أمام أي اعتراض.
بل ولا يسمح في ذلك اليوم بالتشفع لأيٍّ كان إلاّ بإذن خاص منه جلّت عظمته، وهوما تشير إليه الآية (255) من سورة البقرة: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255].
وقوله تعالى : { يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا } [النبأ: 38 - 40] :
الندم الشديد:
رأينا في الآيات السابقة أنّها تحدثت عن بعض عقوبات الظالمين والطواغيت، وبعض المواهب والنعم والمتعلقة بالصالحين في يوم القيامة، وتتناول الآيات أعلاه بعض الصفات وحوادث يوم القيامة، وتشرع بالقول بـ {يوم يقوم الروح والملائكة صفاً لا يتكلمون إلاّ مَن أذِنَ له الرحمن وقال صواباً}(6).
وبلا شك فإنّ قيام الروح والملائكة صفّاً يوم القيامة، وعدم تكلمهم إلاّ بإذنه سبحانه، إنّما هو مثولاً للأوامر الإلهية وطاعة، كما هو حالهم قبل قيام القيامة، فهم بأمره يعملون ولكنّ في يوم القيامة سيتجلّى أمتثالهم للّه أكثر وبشكل أوضح.
أمّا عن المقصود بكلمة «الروح» فقد بسط المفسّرون في كتبهم تفاسير كثيرة، حتى وصل معناها في بعض التفسير إلى ثمانية احتمالات(7).. وإليك أهم ما قيل فيه:
1 ـ هو مخلوق من غير الملائكة وأعظم منها.
2 ـ هو أمين الوحي الإلهية جبرائيل أشرف الملائكة.
3 ـ هو أرواح اُناس يقومون مع الملائكة.
4 ـ هو ملك عظيم الشأن، وأشرف من جميع الملائكة قاطبة (حتى جبرائيل): وهو الذي يصاحب الأنبياء والأوصياء(عليهم السلام) على الدوام.
وقد جاءت كلمة «الروح» في القرآن الكريم بصور شتى.. فتارة تأتي مجرّدة عن أيّة قرينة، وغالباً ما تأتي في قبال الملائكة، كقوله تعالى في الآية (4) من سورة المعارج: { تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4] ، وفي الآية (4) من سورة القدر: { تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ } [القدر: 4].
ونلاحظ أنّ ذكر كلمة «الروح» في الآيتين أعلاه قد جاء بعد ذكر «الملائكة»، في حين جاء ذكرها في الآيات المبحوثة قبل «الملائكة»... ويمكن حمل هذا التغاير على باب ذكر العام بعد الخاص، أو ذكر الخاص قبل العام.
وذكرت كذلك كلمة «الروح» مع الإضافة، أو صيغة الوصف المقارن كـ «روح القدس» كما جاء في الآية (102) من سورة النحل: { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } [النحل: 102] ، وكـ «الروح الأمين» كما جاء في الآية (193) من سورة الشعراء {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ } [الشعراء: 193].
وقد أضاف سبحانه وتعالى صفة «الروح» إلى ذاته المقدسة، كما في الآية (29) من سورة الحجر: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي } [الحجر: 29] ، والآية (17) من سورة مريم: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا } [مريم: 17].
وكما هو ظاهر أنّ لكلمة «الروح» في القرآن معان متفاوتة، وقد تطرقنا لمعانيها حسب ورودها في الآيات.
وأقرب ما يمكن التعويل عليه من معاني «الروح» في الآية المبحوثة هو كونه أحد ملائكة اللّه العظام، والذي يبدو من بعض الآيات أنّه أعظم من جبرائيل وبدلالة ما روي عن الإمام الصادق(عليه السلام) قوله: «هو ملك أعظم من جبرائيل و مكائيل»(8).
وجاء في تفسير علي بن إبراهيم: «الروح ملك أعظم من جبرائيل ومكائيل وكان مع رسول اللّه وهو مع الأئمّة»(9).
وجاء في تفاسير أهل السنة، إنّ رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «الروح جند من جنود اللّه ليسوا بملائكة لهم رؤوس وأيدي وأرجل، ثمّ قرأ: {يوم يقوم الروح والملائكة صفّاً}، قال: هؤلاء جند وهؤلاء جند»(10).
(وقد بحثنا موضوع روح الإنسان وتجردّها واستقلالها بشكل مفصل في ذيل الآية (85) من سورة الإسراء ـ فراجع).
وعلى أيّة حال، فسواء كان «الروح» من الملائكة أومن غيرهم، فإنّه سيقف يوم القيامة مع الملائكة صفّاً بانتظار أوامر الخالق سبحانه، وسيكون هول المحشر بشكل بحيث لا يقوى أيّ من الخلق للتحدث معه، والذين سيتكلمون أو يشفعون لا يقومون بذلك إلاّ بعد إذنه جلّ شأنه، وما واقع الكلام إلاّ حمد اللّه وثناؤه أو التشفع لمن هم أهلاً للشفاعة.
وقد روي أنّه حينما سُئِل الإمام الصادق(عليه السلام) عن هذه الآية، قال: «نحن واللّه المأذون لهم يوم القيامة والقائلون».
فقال الراوي: وأيّ شيء تقولون؟
فقال(عليه السلام): «نُمجد ربّنا، ونصلّي على نبيّنا، ونشفع لشيعتنا، فلا يردنا ربّنا»(11).
ونستفيد من هذه الرواية: إنّ الأنبياء والأئمّة(عليهم السلام) سيقفون صفّاً يوم القيامة مع الملائكة والروح، وسيكونون من المأذون لهم في الكلام والشفاعة، وسيكون حديثهم منصبّاً حول الذكر والثناء والتسبيح للباري عزّوجلّ.
ثمّ إنّ وصف قولهم بكملة «صواباً» للدلالة على أنّهم لا يشفعون إلاّ لمن ملك مقدمات الشفاعة والتي لا تتعارض والحساب(12).
ويشير القرآن واصفاً ذلك اليوم الذي يقوم فيه الناس والملائكة أجمعون يوم الفصل، يوم عقاب العاصين وثواب المتقين، يشير بقوله: {ذلك اليوم العظيم}.
«الحقّ»: هو الأمر الثابت واقعاً، والذي تحققه قطعي. وهذا المعنى ينطبق تماماً على يوم القيامة، لأنّه سيعطي كلّ إنسان حقّه، إرجاع حقوق المظلومين من الظالمين، وتتكشف كلّ الحقائق التي كانت مخفية على الآخرين.. فانّه بحق: يوم الحقّ، وبكل ما تحمل الكلمة من معنى.
وإذا ما التفت الإنسان إلى هذه الحقيقة (حقيقة يوم القيامة) فسيتحرك بدافع قوي نحو اللّه عزّوجلّ للحصول على رضوانه سبحانه بإمتثال أوامره تعالى.. ولهذا يقول القرآن مباشرة: (فمن شاء اتّخذ إلى ربّه مآباً).
فجميع مستلزمات التوجه والحركة نحو اللّه متوفرة بعد أن بيّن طريق الحقّ وأشار إلى معالم سبل الشيطان، بلغ اللّه أوامره بواسطة الأنبياء والرسل وبالقدر الكافي، أودع في الإنسان العقل (النّبي الباطن)، رغّب للمتقين بالمفاز، أنذر المجرمين عذاباً أليماً، عيّن يوماً لمحكمة العدل الإلهي بيّن اُسلوب المحاكمة، ولم يبق للإنسان سوى اختيار ما يتخذه إلى ربّه مآباً، وبمحض إرادته.
و«المآب»: هو محل رجوع، ويأتي أيضاً بمعنى «الطريق».
ثمّ يؤكّد القرآن على مسألة عقاب المجرمين الذين يتوهمون أنّه يوم بعيد أو نسيئة، يقول القرآن... إنّ عقاب المجرمين لواقع، ويوم القيامة لقريب: {إنّا أنذرناكم عذاباً قربياً}.
وما عمر الدنيا بكامله إلاّ ساعة من زمن الآخرة الخالد، وكما قيل: {كل ما هو آت قريب}، وتقول الآيات (5 ـ 7) من سورة المعارج، في هذا المجال: {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا } [المعارج: 5 - 7].
ويقول أمير المؤمنين(عليه السلام): «كل آت قريب دان»(13).
ولِمَ لا يكون قريباً ما دام الأساس في العذاب الإلهي هو نفس أعمال الإنسان والتي هي معه على الدوام: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [العنكبوت: 54].
وبعد أن وجّه الإنذار للناس، يشير القرآن إلى حسرة الظالمين والمذنبين في يوم القيامة، حين لا ينفع ندم ولا حسرة، إلاّ مَن أتى اللّه بقلب سليم: {يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا } [النبأ: 40].
وذهب بعض المفسّرين أنّ كلمة «ينظر» في الآية بمعنى «ينتظر»، والمراد: انتظار الإنسان يوم القيامة لجزاء أعماله.
وفسّرها بعض آخر بـ : النظر في صحيفة الأعمال.
وقيل: النظر إلى ثواب وعقاب الأعمال.
وكل ما ذكر مبني على إهمال مسألة حضور وتجسّم الأعمال في يوم القيامة، ومعه ينتفي أيّ دور للتأويلات المذكورة.
وبنظرة إلى الآيات القرآنية والروايات والأحاديث الشريفة يتبيّن لنا أنّ أعمال الإنسان تتجسم في هذا اليوم بصورة معينة، وتظهر للإنسان فينظر إليها على حقيقتها فيسّر ويفرح عند رؤيته لأعماله الصالحة، ويتألم ويتحسر عن رؤيته لأعماله السيئة.
وأساساً فإنّ تجسّم الأعمال ومرافقتها للإنسان من أفضل المكافآت للمطيعين وأشدّ عقوبة للعاصين.
كما نجد في الآية (49) من وسورة الكهف: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا } [الكهف: 49] ، وكذا في آخر سورة الزلزال: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7، 8].
في جملة «ما قدمت يداه» تغليب، لأنّ كل إنسان يؤدي أعماله غالباً بيديه، ولكنه لا يعني الحصر، بل يشمل جميع ما ارتكبته الجوارح من لسان وعين واُذن، في الحياة الدنيا.
وينبه القرآن الناس قبل تحقق ذلك اليوم: { وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ } [الحشر: 18].
وعلى أيّة حال، فحينما يرى الكفّار أعمالهم مجسمة أمامهم سيهالهم الموقف وتصيبهم الحسرة والندامة، حتى يقولون يا ليتنا لم نتجاوز منذ البداية مرحلة التراب في خلقنا، وعندما خلقنا في الدنيا، ثمّ متنا وتحولنا إلى التراب، فيا ليتنا بقينا على تلك الحال ولم نبعث من جديد!
فهم يعلمون بأنّ التراب بات خيراً منهم، لأنّه: تغرس به حبّة واحدة فيعطي سنابلاً، وهو مصدر غني للمواد الغذائية والمعدنية والبركات الاُخرى، مهد لحياة الإنسان، ومع ما له من فوائد جمّة فهولا يضرّ قط، بعكس ما كانوا عليه في حياتهم، فرغم عدم صدور أيّة فائدة منهم، فليس فيهم إلاّ الضرر والاذى!
نعم، فقد يصل الأمر بالإنسان، وعلى الرغم من كونه أشرف المخلوقات، لأنّ يتمنى أن يكون والجمادات بدرجة واحدة، لما بدر منه كفر وذنوب!
وتصور لنا الآيات القرآنية أحوال الكافرين والمجرمين، وشدّة تأثرهم وتأسفهم وندمهم على ما فعلوا في دنياهم، يوم الفزع الأكبر، فتقول الآية (56) من سورة الزمر: {يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر: 56].
وتقول الآية (12) من سورة السجدة: { فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا } [السجدة: 12].
أو ما يقوله كل فرد منهم ـ كما جاء في الآية المبحوثة ـ: {يا ليتني كنت تراباً}.
_______________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج15، ص36-46.
2 ـ «الحدائق»: بدل «مفازة»، أو عطف بيان لها.
3 ـ «جزاء»: حال لإعطاء النعم التي ذكرت في الآيات السابقة، فيكون التقدير: أعطاهم جميع ذلك جزاء من ربّك، واحتمل البعض: إنّه مفعول مطلق لفعل محذوف. واعتبره آخرون: إنّه مفعول لأجله، لكنّ التّفسير الأوّل أقرب.
4 ـ تفسير البيضاوي في ذيل الآية المبحوثة.
5 ـ تفسير نور الثقلين، ج5، ص495، ح29.
6 ـ «يوم» ظرف متعلق بفعل «لا يملكون» ـ حسب اعتقاد كثير من المفسّرين ـ، وثمّة احتمال آخر: إنّه متعلق بكل ما جاء في الآيات السابقة، فيكون التقدير: (كل ذلك يكون يوم يقوم الروح).
7 ـ تفسير القرطبي، ج10، ذيل الآية المبحوثة.
8 ـ مجمع البيان، ج10، ص427.
9 ـ تفسير علي بن إبراهيم، ج2، ص402
10 ـ تفسير الدر المنثور، ج6، ص309.
11 ـ مجمع البيان، ج10، ص427.
12 ـ بحثنا مسألة «الشفاعة» من حيث: شروطها، خصائصها وفلسفتها، مع الإجابة على الإشكالات الواردة بشأنها في تفسير الآية (48) من سورة البقرة.
13 ـ نهج البلاغة، الخطبة 103.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
وفد كلية الزراعة في جامعة كربلاء يشيد بمشروع الحزام الأخضر
|
|
|