أقرأ أيضاً
التاريخ: 19-2-2018
6220
التاريخ: 19-2-2018
16150
التاريخ: 19-2-2018
4717
|
قال تعالى : { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26) أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [النازعات: 15 - 33].
ذكر سبحانه قصة موسى (عليه السلام) فقال {هل أتيك} يا محمد {حديث موسى} استفهام يراد به التقرير {إذ نادية ربه} أي حين ناداه الله ودعاه فالنداء الدعاء بطريقة يا فلان فالمعنى قال له يا موسى {بالواد المقدس} أي المطهر {طوى} اسم واد عن مجاهد وقتادة وقيل طوي بالتقديس مرتين وهو الموضع الذي كلم الله فيه موسى {اذهب إلى فرعون إنه طغى} أي علا وتكبر وكفر بالله وتجاوز الحد في الاستعلاء والتمرد والفساد {فقل هل لك إلى أن تزكى} أي تتطهر من الشرك وتشهد أن لا إله إلا الله عن ابن عباس وهذا تلطف في الاستدعاء ومعناه هل لك رغبة إلى أن تسلم وتصلح وتطهر.
{وأهديك إلى ربك} أي وأدلك إلى معرفة ربك وأنه خلقك ورباك وقيل وأهديك أي أرشدك إلى طريق الحق الذي إذا سلكته وصلت إلى رضاء الله وثوابه {فتخشى} أي فتخافه فتفارق ما نهاك عنه وفي الكلام حذف تقديره فأتاه ودعاه {فأريه الآية الكبرى} يعني العصا وقال الحسن هي اليد البيضاء {فكذب} بأنها من الله {وعصى} نبي الله وجحد نبوته {ثم أدبر} فرعون أي ولى الدبر ليطلب ما يكسر به حجة موسى في المعجزة العظيمة فما ازداد إلا غواية {يسعى} أي يعمل بالفساد في الأرض وقيل إنه لما رأى الحية في عظمها خاف منها فأدبر وسعى هربا عن الجبائي {فحشر} أي فجمع قومه وجنوده {فنادى} فيهم {فقال أنا ربكم الأعلى} أي لا رب فوقي وقيل معناه أنا الذي أنال بالضرر من شئت ولا ينالني غيري وكذب اللعين إنما هذه صفة الله الذي خلقه وخلق جميع الخلائق وقيل إنه جعل الأصنام أربابا فقال أنا ربها وربكم.
{فأخذه الله نكال الآخرة والأولى} نكال مصدر مؤكد لأن معنى أخذه الله نكل به نكال الآخرة والأولى بأن أغرقه في الدنيا ويعذبه في الآخرة وقيل معناه فعاقبه الله بكلمته الآخرة وكلمته الأولى فالآخرة قوله {أنا ربكم الأعلى} والأولى قوله ما علمت لكم من إله غيري فنكل به نكال هاتين الكلمتين وجاء في التفسير عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه كان بين الكلمتين أربعون سنة وقيل إنه إنما ناداهم {فقال أنا ربكم الأعلى} فامنعوني من هذا الثعبان ولم يعلم الجهال أن من يخاف ضرر حية ويستعين بأمثاله لا يكون إلها وعن وهب عن ابن عباس قال : قال موسى (عليه السلام) يا رب إنك أمهلت فرعون أربعمائة سنة وهو يقول أنا ربكم الأعلى ويجحد رسلك ويكذب ب آياتك فأوحى الله تعالى إليه أنه كان حسن الخلق سهل الحجاب فأحببت أن أكافيه وروى أبو بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال جبرئيل (عليه السلام) قلت يا رب تدع فرعون وقد قال أنا ربكم الأعلى فقال إنما يقول هذا مثلك من يخاف الفوت {إن في ذلك} الذي فعل بفرعون حين كذب وعصى {لعبرة} أي لعظة {لمن يخشى} الله تعالى ويخاف عقابه ونقمته ودلالة يمكن أن يعتبر بها العاقل ويميز بين الحق والباطل .
ولما قدم سبحانه ما أتى به موسى وما قابلة به فرعون وما عوقب به في الدارين عظة لمن كان على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) وتحذيرا لهم من المثلات خاطب عقيب ذلك منكري البعث فقال {أ أنتم} أيها المشركون المنكرون للبعث {أشد خلقا أم السماء} يعني أ خلقكم بعد الموت أشد عندكم وفي تقديركم أم السماء وهما في قدرة الله تعالى واحد وهذا كقوله لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ثم ابتدأ فبين سبحانه كيف خلق السماء فقال {بنيها} الله تعالى الذي لا يكبر عليه خلق شيء {رفع سمكها} سقفها وما ارتفع منها {فسواها} بلا شقوق ولا فطور ولا تفاوت وقيل سواها أحكمها وجعلها متصرفا للملائكة.
{وأغطش ليلها} أي أظلم ليلها عن ابن عباس ومجاهد وقتادة {وأخرج ضحيها} أي أبرز نهارها وإنما أضاف الليل والضحى إلى السماء لأن منها منشأ الظلام والضياء بغروب الشمس وطلوعها على ما دبرها الله عز وجل {والأرض بعد ذلك دحاها} أي بعد خلق السماء بسطها من الدحو وهو البسط قال ابن عباس إن الله تعالى دحا الأرض بعد السماء وإن كانت الأرض خلقت قبل السماء وكانت ربوة مجتمعة تحت الكعبة فبسطها وقال مجاهد والسدي معناه والأرض مع ذلك دحاها كما قال عتل بعد ذلك زنيم أي مع ذلك {أخرج منها} أي من الأرض {ماءها} والمعنى فجر الأنهار والبحار والعيون عن ابن عباس {ومرعيها} مما يأكل الناس والأنعام بين سبحانه بذلك جميع المنافع المتعلقة بالأرض من المياه التي بها حياة كل شيء من الحيوانات والأشجار والثمار والحبوب والعيون عن ابن عباس وبها يحصل جميع الأرزاق والنبات التي تصلح للمواشي فهي ترعاه بأن تأكله في موضعه.
{والجبال أرساها} أي أثبتها في أوساط الأرض {متاعا لكم ولأنعامكم} أي خلق سبحانه الأرض وأخرج منها المياه والمراعي وأثبت الجبال بما فيها من أنواع المعادن لمنفعتكم ومنفعة أنعامكم تنتفعون بها.
_________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج10 ، ص256-261.
{هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى} . هذه تسلية من اللَّه سبحانه لنبيه الكريم محمدا (صلى الله عليه واله وسلم) وان اللَّه سينصره على أعدائه كما نصر موسى الكليم . وتقدم بالحرف في الآية 9 من سورة طه {إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً} هو واد في أسفل جبل طور سيناء ، وطوى اسم للوادي . وتقدم مثله في الآية 12 من سورة طه {اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى} وتمادى في طغيانه حتى ادعى الربوبية . وأيضا تقدم بالحرف في الآية 25 من سورة طه {فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى} هل ترغب في التطهير من الشرك والرذائل ؟ {وأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى} ومن خشي اللَّه لا يطغى ويعثو في الأرض فسادا .
سخر فرعون من موسى وقال : {أهذا المهين} يهدى {رب العالمين} ! .
{فَأَراهُ} - موسى - {الآيَةَ الْكُبْرى} وهي انقلاب العصا حية {فَكَذَّبَ وعَصى} أنكر المعجزة وقال : هي سحر {ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى} في تدبير الكيد لموسى {فَحَشَرَ فَنادى} جمع السحرة وأعوانه {فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلى} ما علمت لكم من إله غيري . . هذا بيان وتفسير لندائه في سحرته وأعوانه ، وأكثر الناس اليوم وقبله وبعده يدّعون الربوبية لو وجدوا من يصدقهم {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الآخِرَةِ والأُولى} .
عذبه بالغرق في الدنيا ، وبالحريق في الآخرة {إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى} العواقب ، فيحتاط لها ، وينجو منها ، أما من يذهل عنها فتأخذه من مأمنه .
{أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها} . الخطاب في {أنتم} للذين كذبوا بالبعث ، والمعنى أيهما أعظم : إعادة الإنسان كما بدأه أول مرة أم إنشاء هذه السماء وإتقانها ونظامها ؟ ومثله : {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا} - 11 الصافات} ج 6 ص 332 قال الشيخ محمد عبده : البناء ضم الأجزاء المتفرقة بعضها إلى بعض حتى يتكون بناء واحد ، وهكذا صنع اللَّه الكواكب ، وضع كل كوكب في مكان على نسبة من الكوكب الآخر يتجاذبان ويتماسكان فكان المجموع بناء واحدا يسمى سماء ، وهذا هو معنى قوله تعالى :
{رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها} أي رفع أجرامها فوق رؤوسنا فعدلها بوضع كل جرم في موضعه .
{وأَغْطَشَ لَيْلَها وأَخْرَجَ ضُحاها} . أغطش أظلم ، وأخرج أضاء ، والضمير في ليلها وضحاها يعودان إلى السماء لأن منها الظلام بغروب الشمس ، ومنها الضياء بشروق الشمس . {والأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها} أي بسطها ومهدها بحيث تصبح صالحة للسكن والسير ، وفي كتاب محاولة لفهم عصري للقرآن ما نصه : {دحاها أي جعلها كالدحية {البيضة} وهوما يوافق أحدث الآراء الفلكية عن شكل الأرض . . ولفظة دحا تعني أيضا البسط ، وهي اللفظة العربية الوحيدة التي تشتمل على البسط والتكوير في ذات الوقت ، فتكون أولى الألفاظ على الأرض المبسوطة في الظاهر المكورة في الحقيقة . . وهذا منتهى الإحكام والخفاء في اختيار اللفظ الدقيق المبين} .
{أَخْرَجَ مِنْها ماءَها ومَرْعاها} . كل ما في الأرض من الماء هومن السماء ، قال تعالى : {وأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ} - 18 المؤمنون .
ثم يفجر سبحانه هذا الماء ينابيع وعيونا وأنهارا ، فيخرج النبات يأكله الناس والدواب {والْجِبالَ أَرْساها} . أثبتها كيلا تميد وتضطرب بمن فيها : {وأَلْقى فِي الأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} - 15 النحل {مَتاعاً لَكُمْ ولأَنْعامِكُمْ} . خلق سبحانه الأرض ومهدها وثبتها وفجر فيها المياه وأخرج النيات ، كل ذلك وغير ذلك لخير الإنسان والانعام التي ينتفع بها الإنسان ، فهل جاء هذا كله صدفة وجزافا ، أم ان الذي أوجده وأنشأه أول مرة يعجز عن إعادته وإنشائه ثانية ؟ :
{وهُو الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وهُو أَهْوَنُ عَلَيْهِ} - 27 الروم .
_________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7 ، ص509-510.
قوله تعالى: {هل أتاك حديث موسى} الآية إلى تمام اثنتي عشرة آية إشارة إلى إجمال قصة موسى ورسالته إلى فرعون ورده دعوته إلى أن أخذه الله نكال الآخرة والأولى.
وفيها عظة وإنذار للمشركين المنكرين للبعث وقد توسلوا به إلى رد الدعوة الدينية إذ لا معنى لتشريع الدين لولا المعاد، وفيها مع ذلك تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من تكذيب قومه، وتهديد لهم كما يؤيده توجيه الخطاب في قوله: {هل أتاك}.
وفي القصة مع ذلك كله حجة على وقوع البعث والجزاء فإن هلاك فرعون وجنوده تلك الهلكة الهائلة دليل على حقية رسالة موسى من جانب الله إلى الناس ولا تتم رسالته من جانبه تعالى إلا بربوبية منه تعالى للناس على خلاف ما يزعمه المشركون أن لا ربوبية له تعالى بالنسبة إلى الناس وأن هناك أربابا دونه وأنه سبحانه رب الأرباب لا غير.
ففي قوله {هل أتاك حديث موسى} استفهام بداعي ترغيب السامع في استماع الحديث ليتسلى به هو ويكون للمنكرين إنذارا بما فيه من ذكر العذاب وإتماما للحجة كما تقدم.
ولا ينافي هذا النوع من الاستفهام تقدم علم السامع بالحديث لأن الغرض توجيه نظر السامع إلى الحديث دون السؤال والاستعلام حقيقة فمن الممكن أن تكون الآيات أول ما يقصه الله من قصة موسى أو تكون مسبوقة بذكر قصته كما في سورة المزمل إجمالا - وهي أقدم نزولا من سورة النازعات - وفي سورة الأعراف وطه وغيرهما تفصيلا.
قوله تعالى: {إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى} ظرف للحديث وهو أول ما أوحى الله إليه فقلده الرسالة، وطوى اسم للوادي المقدس.
قوله تعالى: {اذهب إلى فرعون إنه طغى} تفسير للنداء، وقيل: الكلام على تقدير القول أي قائلا اذهب (إلخ) أو بتقدير أن المفسرة أي أن اذهب (إلخ) وفي الوجهين أن التقدير مستغنى عنه، وقوله: {إنه طغى} تعليل للأمر.
قوله تعالى: {فقل هل لك إلى أن تزكى} متعلق {إلى} محذوف والتقدير هل لك ميل إلى أن تتزكى أو ما في معناه، والمراد بالتزكي التطهر من قذارة الطغيان.
قوله تعالى: {وأهديك إلى ربك فتخشى} عطف على قوله: {تزكى} والمراد بهدايته إياه إلى ربه - كما قيل - تعريفه له وإرشاده إلى معرفته تعالى وتترتب عليه الخشية منه الرادعة عن الطغيان وتعدي طور العبودية قال تعالى: { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28].
والمراد بالتزكي إن كان هو التطهر عن الطغيان بالتوبة والرجوع إلى الله تعالى كانت الخشية مترتبة عليه والمراد بها الخشية الملازمة للإيمان الداعية إلى الطاعة والرادعة عن المعصية، وإن كان هو التطهر بالطاعة وتجنب المعصية كان قوله: {وأهديك إلى ربك فتخشى} مفسرا لما قبله والعطف عطف تفسير.
قوله تعالى: {فأراه الآية الكبرى} الفاء فصيحة وفي الكلام حذف وتقدير والأصل فأتاه ودعاه فأراه (إلخ).
والمراد بالآية الكبرى على ما يظهر من تفصيل القصة آية العصا، وقيل: المراد بها مجموع معجزاته التي أراها فرعون وملأه وهو بعيد.
قوله تعالى: {فكذب وعصى} أي كذب موسى فجحد رسالته وسماه ساحرا وعصاه فيما أمره به أو عصى الله.
قوله تعالى: {ثم أدبر يسعى} الإدبار التولي والسعي هو الجد والاجتهاد أي ثم تولى فرعون يجد ويجتهد في إبطال أمر موسى ومعارضته.
قوله تعالى: {فحشر فنادى} الحشر جمع الناس بإزعاج والمراد به جمعه الناس من أهل مملكته كما يدل عليه تفريع قوله: {فنادى فقال أنا ربكم الأعلى} عليه فإن كان يدعي الربوبية لأهل مملكته جميعا لا لطائفة خاصة منهم.
وقيل: المراد بالحشر جمع السحرة لقوله تعالى: {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ } [الشعراء: 53] ، وقوله: { فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى} [طه: 60] وفيه أنه لا دليل على كون المراد بالحشر في هذه الآية هو عين المراد بالحشر والجمع في تينك الآيتين.
قوله تعالى: {فقال أنا ربكم الأعلى} دعوى الربوبية وظاهره أنه يدعي أنه أعلى في الربوبية من سائر الأرباب التي كان يقول بها قومه الوثنيون فيفضل نفسه على سائر آلهتهم.
ولعل مراده بهذا التفضيل مع كونه وثنيا يعبد الآلهة كما يدل عليه قوله تعالى حكاية عن ملئه يخاطبونه: {أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [الأعراف: 127] إنه أقرب الآلهة منهم تجري بيده أرزاقهم وتصلح بأمره شئون حياتهم ويحفظ بمشيته شرفهم وسؤددهم، وسائر الآلهة ليسوا على هذه الصفة.
وقيل: مراده بما قال تفضيل نفسه على كل من يلي أمورهم ومحصله دعوى الملك وأنه فوق سائر أولياء أمور المملكة من حكام وعمال فيكون في معنى قوله فيما حكاه الله عنه إذ قال: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ} [الزخرف: 51].
وهو خلاف ظاهر الكلام وفيما قال قوله لملئه: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38] ، وقوله لموسى: { لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء: 29].
قوله تعالى: {فأخذه الله نكال الآخرة والأولى} الأخذ كناية عن التعذيب، والنكال التعذيب الذي يردع من رآه أو سمعه عن تعاطي مثله، وعذاب الآخرة نكال حيث إن من شأنه أن يردع من سمعه عن تعاطي ما يؤدي إليه من المعصية كما أن عذاب الاستئصال في الدنيا نكال.
والمعنى: فأخذ الله فرعون أي عذبه ونكله نكال الآخرة والأولى وأما عذاب الدنيا فإغراقه وإغراق جنوده، وأما عذاب الآخرة فعذابه بعد الموت، فالمراد بالأولى والآخرة الدنيا والآخرة.
وقيل: المراد بالآخرة كلمته الآخرة، {أنا ربكم الأعلى} وبالأولى كلمته الأولى قالها قبل ذلك {ما علمت لكم من إله غيري} فأخذه الله بهاتين الكلمتين ونكله نكالهما، ولا يخلو هذا المعنى من خفاء.
وقيل: المراد بالأولى تكذيبه ومعصيته المذكوران في أول القصة وبالأخرى كلمة أنا ربكم الأعلى - المذكورة في آخرها، وهو كسابقه.
وقيل: الأولى أول معاصيه والأخرى آخرها والمعنى أخذه الله نكال مجموع معاصيه ولا يخلو أيضا من خفاء.
قوله تعالى: {إن في ذلك لعبرة لمن يخشى} الإشارة إلى حديث موسى، والظاهر أن مفعول {يخشى} منسي معرض عنه، والمعنى أن في هذا الحديث - حديث موسى - لعبرة لمن كان له خشية وكان من غريزته أن يخشى الشقاء والعذاب والإنسان من غريزته ذلك ففيه عبرة لمن كان إنسانا مستقيم الفطرة.
وقيل: المفعول محذوف والتقدير لمن يخشى الله والوجه السابق أبلغ.
قوله تعالى: {ءأنتم أشد خلقا أم السماء بناها} - إلى قوله - ولأنعامكم} خطاب توبيخي للمشركين المنكرين للبعث المستهزءين به على سبيل العتاب ويتضمن الجواب عن استبعادهم البعث بقولهم: {ء إنا لمردودون في الحافرة ء إذا كنا عظاما نخرة} بأن الله خلق ما هو أشد منكم خلقا فهو على خلقكم وإنشائكم النشأة الأخرى لقدير.
ويتضمن أيضا الإشارة إلى الحجة على وقوع البعث حيث يذكر التدبير العام العالمي وارتباطه بالعالم الإنساني ولازمه ربوبيته تعالى، ولازم الربوبية صحة النبوة وجعل التكاليف، ولازم ذلك الجزاء الذي موطنه البعث والحشر، ولذا فرع عليه حديث البعث بقوله: {فإذا جاءت الطامة الكبرى} إلخ.
فقوله: {ءأنتم أشد خلقا أم السماء} استفهام توبيخي بداعي رفع استبعادهم البعث بعد الموت، والإشارة إلى تفصيل خلق السماء بقوله: {بناها} إلخ دليل أن المراد به تقرير كون السماء أشد خلقا.
وقوله: {بناها} استئناف وبيان تفصيلي لخلق السماء.
وقوله: {رفع سمكها فسواها} أي رفع سقفها وما ارتفع منها، وتسويتها ترتيب أجزائها وتركيبها بوضع كل جزء في موضعه الذي تقتضيه الحكمة كما في قوله: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي } [الحجر: 29].
وقوله: {وأغطش ليلها وأخرج ضحاها} أي أظلم ليلها وأبرز نهارها، والأصل في معنى الضحى انبساط الشمس وامتداد النهار أريد به مطلق النهار بقرينة المقابلة ونسبة الليل والضحى إلى السماء لأن السبب الأصلي لها سماوي وهو ظهور الأجرام المظلمة بشروق الأنوار السماوية كنور الشمس وغيره وخفاؤها بالاستتار ولا يختص الليل والنهار بالأرض التي نحن عليها بل يعمان سائر الأجرام المظلمة المستنيرة.
وقوله: {والأرض بعد ذلك دحاها} أي بسطها ومدها بعد ما بنى السماء ورفع سمكها وسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها.
وقيل: المعنى والأرض مع ذلك دحاها كما في قوله: {عتل بعد ذلك زنيم} وقد تقدم كلام فيما يظهر من كلامه تعالى في خلق السماء والأرض في تفسير سورة الم السجدة وذكر بعضهم أن الدحو بمعنى الدحرجة.
وقوله: {أخرج منها ماءها ومرعاها} قيل: المرعى يطلق على الرعي بالكسر فالسكون وهو الكلأ كما يجيء مصدرا ميميا، واسم زمان ومكان، والمراد بإخراج مائها منها تفجير العيون وإجراء الأنهار عليها، وإخراج المرعى إنبات النبات عليها مما يتغذى به الحيوان والإنسان فالظاهر أن المراد بالمرعى مطلق النبات الذي يتغذى به الحيوان والإنسان كما يشعر به قوله: {متاعا لكم ولأنعامكم} لا ما يختص بالحيوان كما هو الغالب في استعماله.
وقوله: {والجبال أرساها} أي أثبتها على الأرض لئلا تميد بكم وادخر فيها المياه والمعادن كما ينبىء عنه سائر كلامه تعالى.
وقوله: {متاعا لكم ولأنعامكم} أي خلق ما ذكر من السماء والأرض ودبر ما دبر من أمرهما ليكون متاعا لكم ولأنعامكم التي سخرها لكم تتمتعون به في حياتكم فهذا الخلق والتدبير الذي فيه تمتيعكم يوجب عليكم معرفة ربكم وخوف مقامه وشكر نعمته فهناك يوم تجزون فيه بما عملتم في ذلك إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا كما أن هذا الخلق والتدبير أشد من خلقكم فليس لكم أن تستبعدوا خلقكم ثانيا وتستصعبوه عليه تعالى.
____________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج20، ص164-168.
إفتراء فرعون!
يشير القرآن الكريم بهذه المقاطع البيانية إلى بعض مشاهد قصّة موسى(عليه السلام)وفرعون، والتي تتناول عاقبة الطغاة عبر التاريخ، وما حدى بفرعون من مصير أسود، ليستذكر مشركو قريش وطغاتهم تلك الواقعة، وليعلموا أن من كان أقوى منهم لم يتمكن من مقاومة العذاب الإلهي.
ويشير البيان القرآني كذلك، إلى المؤمنين بأن لا يخافوا من قوّة الأعداء الظاهرية، لأنّ دمارهم وهلاكهم على اللّه أسهل من أن يتصور.. فهذا البيان القرآني إذاً، تسلية لقلوب المؤمنين وترطيباً لخواطرهم.
فيتوجه الحديث إلى النبيّ(عليه السلام) بصيغة الإستفهام: {هل أتاك حديث موسى} ليشوق السامع ويهيئه لاستماع القصّة ذات العبر.
ثمّ يقول: {إذ ناداه ربّه بالواد المقدّس طوى}(2).
«طوى»: يمكن أن يكون إسماً لأرض مقدّسة، تقع في الشام بين (مدين) و(مصر)، وهو الوادي الذي كلّم اللّه تعالى فيه موسى(عليه السلام) أوّل مرّة.
وقد رود الاسم أيضاً في الآية (12) من سورة طه: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} [طه: 12].
وقد تكون «طوى» صفة من (الطي)، إشارة إلى ما انطوت عليه تلك الأرض من القداسة والبركة.
أو كما يقول الراغب في مفرداته، إشارة إلى حالة حصلت له على طريق الاجتباء، فكان ينبغي عليه السير في طريق طويل، ليكون لائقاً لنزول الوحي ولكن اللّه تعالى طوى له هذا الطريق وقرّب له الهدف.
ثمّ أشار القرآن إلى تعليمات اللّه عزّوجلّ إلى موسى(عليه السلام) في الوادِ المقدّس: {اذهب إلى فرعون إنّه طغى فقل هل لك إلى أن تزكّى} وبعد التزكية وتطهير الذات تصبح لائقاً للقاء اللّه، وسوف أهديك إليه عسى أن تخشع وتترك ما أنت عليه من المنكرات: {وأهديك إلى ربّك فتخشى}.
ولمّا كانت كلّ دعوة تحتاج إلى دليل صحتها، يضيف القرآن القول: {فأراه الآية الكبرى}(3).
ولكن، ما الآية الكبرى؟ هل هي عصا موسى(عليه السلام) التي تحولت إلى أفعى عظيمة، أو إخراج يده بيضاء، أم كليهما؟ (على اعتبار أنّ الألف واللام في «الآية الكبرى» إشارة إلى الجنس). وعلى أيّة حال، فالمهم في المسألة إنّ موسى(عليه السلام)استند في بدء دعوته على معجزة «الآية الكبرى».
لقد وردت في الآيات الأربعة المذكورة جملة ملاحظات، هي:
1 ـ طغيان فرعون يمثل علّة الأمر الإلهي لذهاب موسى(عليه السلام) إليه... وتبيّن لنا هذه الملاحظة: إنّ من جملة الأهداف المهمّة في حركة الأنبياء هي هداية الطغاة أو مجاهدتهم.
2 ـ راح موسى(عليه السلام) يدعو فرعون بلين ورفق واُسلوب جميل، وبأسلوب مرغّب دعاه لأن يتطهر (طهارة مطلقة من الشرك والكفر، ومن الظلم والفساد) وتنقل لنا الآية (44) من سورة طه هذا المعنى: (فقولا له قولاً ليناً).
3 ـ وثمّة إشارة لطيفة رودت بخصوص رسالة الأنبياء(عليهم السلام)، فدعوتهم للحق تعتمد على محاولة تطهير الناس وإعادتهم إلى فطرتهم السليمة.
كما وأشار البيان القرآني إلى أنّ المخاطبة قد تمّت بكلمة «تزكّي» بدلاً من (اُزكيك)، للدلالة على أنّ التزكية الحقّة إنّما هي تلك النابعة من الذات، ولا تُبنى بأسس موضوعية خارجية.
4 ـ ذكرت الهداية بعد التزكية، للدلالة على أنّ التزكية مقدّمةً وبمثابة الأرضية المهيئة للهداية.
5 ـ إنّ تعبير «إلى ربّك» في حقيقة تأكيد على أنّ مَن أهديك إليه هو مالكك ومربيك، فَلِمَ الميل عنه؟!
6 ـ «الخشية» نتيجة للهداية: {وأهديك إلى ربّك فتخشى}، وبما أنّ الخشية لا تحصل إلاّ بمعرفة حقّة، فتكون ثمرة شجرة الهداية والتوحيد هي الإحساس بالمسؤولية الملقاة على العواتق أمام جبار السماوات والأرض، ولهذا تقول الآية (28) من سورة فاطر: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28].
7 ـ ابتدأ موسى(عليه السلام) اُسلوب دعوته بالهداية العاطفية ثمّ تدرج إلى الهداية العقلية والمنطقية حتى أرى فرعونَ الآية الكبرى.
وقد بيّن لنا البيان القرآني أفضل طرق الدعوة والإرشاد، حيث ينبغي إحاطة مَن يُراد هدايته بالرعاية والعطف وتحسيسه بحسن نيّة الداعية أو المرشد، ومن ثمّ تأتي مرحلة الدليل المنطقي والحوار العلمي.
لكنّ فرعون المتجبّر قابل كلّ تلك المحبّة، اللطف، الدعوة بالحسنى والآية الكبرى، قابل كلّ ذلك بالتجبّر الأعمى والغرور الأبله: (فكذّب وعصى).
وكما يظهر من الآية المباركة فإنّ التكذيب مقدمة العصيان ومرحلة سابقة له، كما هو حال التصديق الإيمان باعتباره مقدّمة للطاعات.
وازداد فرعون عنوّاً: {ثمّ أدبر يسعى}(4).
وقد هددت معجزة موسى(عليه السلام) كل وجود فرعون الطاغوتي، ممّا دعاه لأن يبذل كل ما يملك من قدرة لأجل إبطال مفعول المعجزة، فتراه وقد أمر أتباعه وجنوده لجمع كلّ سحرة البلاد ـ على كثرتهم في تلك الحقبة الزمنية ـ ونودي في الناس بأمره ليشاهدوا مشهد إبطال المعجزة من قبل السحرة، وليظهروا مثلها!!: {فحشر فنادى}.
مع أنّ كلمة «حشر» ذكرت بصورة مطلقة مبهمة، ولكننا نستطيع معرفة تفصيل الأمر من خلال الآيات القرآنية الاُخرى، ففي الآيتين (111 و112) من سورة الأعراف، يكمل تفصيل ذلك: {وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} [الأعراف: 111، 112].
وكذا الحال بالنسبة لكلمة «نادى»، فيمكننا التوصل لمعناها من خلال الآية (39) من سورة الشعراء، والتي تناولت نفس الموضوع: { وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ} [الشعراء: 39].
ولم يكتف فرعون بكذبه وعصيانه، ومقاومته لدعوة الحق والوقوف أمامها، بل وتعدى حدود المخلوق بصورة مفرطة جدّاً، وافترى على اللّه وعلى نفسه بأقبح ادعاء، حينما ادعى نفسه الربوبية على شعبه وأمرهم بطاعته!: {فقال أنا ربّكم الأعلى}.
نعم.. فحينما يقبع المتجبّر في عرش الغرور، وحينما تلّفه أمواج الأنانية المفرطة، حينها.. سيجرفه تيار الإفراط لأن يدعي لنفسه الربوبية، بل ويجره فقدان بصيرته، وانحسار فطرته بين ظلمات أنانيته لأن يدعي أنّه (ربّ الأرباب)!!
وأوصل فرعون قولته إلى الناس ليخبرهم بأنّه لا يعارض ما لهم من أصنام يعبدونها، لكنّه فوقها جميعاً فهو(المعبود الأعلى)!
وألطف ما في الأمر، إنّ فرعون نفسه كان أحد عبدة الأصنام، بشهادة الآية (127) من سورة الأعراف: {أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [الأعراف: 127] ، فادعاءه بأنّه (الربّ الأعلى) قد سرى حكمه حتى على آلهته لتكون من عبيده !..نعم، فهكذا هو هذيان الطواغيت.
وقد ادعى فرعون بأكثر من (ربّ الأرباب)، ليضيف إلى هذيان الطغاة حماقة، حينما ورد قوله في الآية (38) من سورة القصص: {عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38]!...
وعلى أيّة حال، فقد حلّ بفرعون منتهى التكبر والطغيان، فأخذه جبّار السماوات والأرض سبحانه أخذ عزيز مقتدر: {فأخذه اللّه نكال الآخرة والاُولى}(5)
«النكال»: لغةً: العجز والضعف. ويقال لِمَن يتخلف عن دفع ما استحق عليه (نكل). و(النِكل) ـ على وزن فكر ـ القيد الشديد الذي يعجز معه الإنسان على عمل أيّ شيء.
و«نكال»: في الآية يقال للعذاب الإلهي الذي يؤدي إلى عجز الإنسان، ويُخيف الآخرين، فيعجزهم عن ارتكاب الذنب،.
«نكال الآخرة»: عذاب جهنّم الذي سينال فرعون وأصحابه ومَن سار على خطوه، و«عذاب الاُولى»: إشارة إلى إغراق فرعون وأصحابه في نهر النيل.
وتقديم «نكال الآخرة» على عذاب الدنيا، لأهميته وشدّة بطشه.
وقيل: «الاُولى»: تشير إلى كلمة فرعون الاُولى في مسير طغيانه حين ادّعى (الاُلوهية)، كما جاء في الآية (38) من سورة القصص.
و«الآخرة»: إشارة الى آخر كلمة نطق بها فرعون حين ادّعي (الرّبوبية العليا)، فعذّبه اللّه بالغرق في الحياة الدنيا نتيجة ادّعائيه الباطلين.
وقد اُشير لهذا المعنى فيما روي عن الإمام الباقر(عليه السلام) قوله: «إنّ الفترة ما بين قوله الاُولى والآخرة كانت أربعين عاماً، وقد أخّر اللّه تعالى عذابه كلّ هذه المدّة إتماماً للحجّة عليه»(6).
ويوافق هذا المعنى صيغة الفعل الماضي الواردة في الآية «أخذ» والذي يفهم منه تنفيذ كلّ العقاب في الدنيا، وتعضده الآية التالية التي تَعِدُّ العذابَ عبرةً للآخرين.
ويستخلص القرآن نتيجة القصّة: (إنّ في ذلك لعبرة لِمَن يخشى).
فتبيّن الآية بكلّ وضوح، إنّ وسائط سلك طريق الإعتبار مهيئة لمن سرى في قلبه الخوف والخشية من اللّه، واعترته مشاعر الإحساس بالمسؤولية، ومَن رأى العبرة بعين معتبرة اعتبر.
نعم.. فقد اُغرق فرعون، واُهلك ملكه ودولته، وصار درساً شاخصاً لكل فراعنة وطواغيت ومشركي الزمان، وعبرةً لمن سار على نهجه الفاسد لكل عصر ومصر، ولا يجني مَن سار على خطاه سوى ما جنيت به يداه، وهي سُنّة اللّه، ولا تغيير ولا تبديل لسنّته جلّ شأنه.
وقوله تعالى : {ءَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَآءُ بَنَهَا(27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا(28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَهَا(29) وَالاَْرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَهَا(30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَهَا(31) وَالْجِبَالَ أَرْسَهَا(32) مَتَعاً لَّكُمْ وَلاِءَنْعَمِكُمْ}.
اللمسات الرّبانية في عالم الطبيعة ونظام الكون:
ينتقل البيان القرآني مرّة اُخرى إلى عالم القيامة، بعد ذكر تلك اللمحات البلاغية في قصّة موسى(عليه السلام) مع فرعون، فيعرض صوراً من قدرة اللّه المطلقة في عالم الوجود، ليستدل به على إمكان المعاد، ويشرح بعض النعم الإلهية على البشرية (التي لا تعدّ ولا تحصى)، ليحرك فيهم حس الشكر والذي من خلاله يتوصلون لمعرفة اللّه.
وابتدأ الخطاب باستفهام توبيخي (لمنكري المعاد) هل أنّ خلقكم (وإعادتكم إلى الحياة بعد الموت) أصعب من خلق السماء: {أأنتم أشدُّ خلقاً أم السماء بناها}(7).
والآية في واقعها جوابٌ لما ذكر من وقولهم في الآيات السابقة: {أإنّا لمردودون في الحافرة} ـ أي هل يمكن أن نعود إلى حالتنا الاُولى ـ فكلّ إنسان ومهما بلغت مداركه ومشاعره من مستوى، ليعلم أنّ خلق السماء وما يسبح فيها من نجوم وكواكب ومجرّات، لهو أعقد وأعظم من خلق الإنسان... وإذاً فَمَن له القدرة على خلق السماء وما فيها من حقائق، أيعقل أن يكون عاجزاً عن إعادة الحياة مرّة اُخرى إلى الناس؟!
ويضيف القرآن في بيان خلق السماء، فيقول شارحاً بتفصيل: (رفع سمكها فسواها).
«سمك»: ـ على وزن سقف ـ لغةً: بمعنى الارتفاع، وجيئت بمعنى (السقف) أيضاً، وعلى قول الفخر الرازي في تفسيره: إنّ الشيء المرتفع لو قيس ارتفاعه من الأعلى إلى الأسفل فالنتيجة تسمّى (عمق)، أمّا لو قيس الارتفاع من الأسفل إلى الأعلى فهو(سمك)(8).
«سواها»: من (التسوية)، بمعنى التنظيم، وهي تشير إلى دقّة التنظيم الحاكمة على الأجرام السماوية، وإذا اعتبرنا «سمكها» بمعنى «سقفها»، فهي إشارة إلى الغلاف الجوي الذي حفّ وأحاط بالكرة الأرضية كالسقف المحكم البناء، والذي يحفظها من شدّة آثار الأحجار السماوية، والشهب، والأشعة الكونية والمميتة والمتساقطة عليها باستمرار.
وقيل: إنّ «سواها» إشارة إلى كروية السماء وإحاطتها بالأرض، حيث أنّ التسوية هنا تعني تساوي الفاصلة بين أجزاء هذا السقف نسبة إلى المركز الأصلي (الأرض)، ولا يتحقق ذلك من دون كروية الأرض وما حولها (السماء).
وقيل أيضاً: إنّ الآية تشير إلى ارتفاع السماء والأجرام السماوية وبعدها الشاسع عن الأرض، بالإضافة لإشارتها للسقف المحفوظ المحيط بالأرض.
وعلى أيّة حال، فالآية قد نهجت بذاتِ سياق الآية (57) من سورة المؤمن: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [غافر: 57].
ثمّ تنتقل بنا الآية التالية إلى إحدى الأنظمة الحاكمة في هذا العالم الكبير، الكبير، (نظام النور والظلمة)،: {وأغطش ليلها وأخرج مرعاها}
فلكلّ من النور والظلمة دور أساس ومهم جدّاً في حياة الإنسان وسائر الأحياء من حيوان ونبات، فلا يتمكن الإنسان من الحياة دون النور، لما له من ارتباط وثيق في حركة وإحساس ورزق وأعمال الإنسان، وكذا لا يتمكن من تكملة مشوار حياته من غير الظلمة، والتي تعتبر رمز الهدوء والسكينة.
«أغطش»: من (الغطش)، بمعنى الظلام، ولكنّ الراغب في مفرداته يقول: وأصله من «الأغطش» وهو الذي في عينه شبه عمش.
«الضحى»: إنبساط الشمس وامتداد النهار(9).
وتنتقل بنا الآية الاُخرى من السماء إلى الأرض، فتقول: {والأرض بعد ذلك دحاها}.
«دحاها»: من «الدحو» بمعنى الإنبساط، وفسّرها بعضهم: {والأرض بعد ذلك دحاها}.
وللمعنيين أصل واحد، لوجود التلازم بينهما.
ويقصد بدحو الأرض، إنّها كانت في البداية مغطاة بمياه الأمطار الغزيرة التي انهمرت عليها من مدّة طويلة، ثمّ استقرت تلك المياه تدريجياً في منخفضات الأرض، فشكلت البحار والمحيطات، فيما علت اليابسة على أطرافها، وتوسعت تدريجياً، حتى وصلت لما هي عليه الآن من شكل، {وحدث ذلك بعد خلق السماء والأرض}(10).
وبعد دحو الأرض، وإتمام صلاحيتها لسكنى وحياة الإنسان، يأتي الحديث في الآية التالية عن الماء والنبات معاً: {أخرج منها ماءها ومرعاها}.
ويظهر من التعبير القرآني، إنّ الماء قد نفذ إلى دخل الأرض بادئ ذي بدء، ثمّ خرج على شكل عيون وأنهار، حتى تشكلت منهما البحيرات والبحار والمحيطات.
«المرعى»: اسم مكان من (الرعي)(11)، وهو حفظ ومراقبة اُمور الحيوان من حيث التغذية وما شابهها.
ولهذا، تستعمل كلمة (المراعاة) بمعنى المحافظة والمراقبة وتدبير الاُمور، وكلّ مَن يسوس نفسه أو غيره يسمّى (راعياً)، ولذا جاء في الحديث الشريف: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته».
ثمّ ينتقل البيان القرآني إلى «الجبال»، حيث ثمّة عوامل تلعب الدور المؤثر في استقرار وسكون الأرض، مثل: الفيضانات، العواصف العاتية، المدّ والجزر، والزلازل.. فكل هذه العوامل تعمل على خلخلة استقرار الأرض، فجعل اللّه عزّوجلّ «الجبال» تثبيتاً للأرض، ولهذا تقول الآية: {والجبال أرساها}(12).
«أرسى»: من (رسو)، بمعنى الثبات، وأرسى: فعل متعد، أي، ثَبَّتَ الجبال في مواقعها.
وتلخص الآية التالية ما جاء في الآيات السابقة: {متاعاً لكم ولأنعامكم}.
نعم.. فالسماء رفعها.
خلق نظام النور والظلمة.
دحى الأرض.
أخرج من الأرض ماءً ونباتاً.
أرسى الجبال لحفظ الأرض.
هيأ مستلزمات عيش الإنسان، وسخر له كلّ شيء.
كلّ ذلك، ليغرف الإنسان من نِعم اللّه، ولكي لا يغفل عن طاعة اللّه والوصول لساحة رضوانه جّل شأنه.
وما جاء في الآيات يبرز قدرته سبحانه على المعاد من جهة، ويدلل من جهة اُخرى على وجود اللّه تعالى وعظمة شأنه، ليدفع المخلوق إلى الإذعان بسلامة سلك طريق معرفة اللّه وتوحيده.
________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج15، ص64-73.
2 ـ اعتبر أكثر المفسّرين «إذ» ظرف زمان متعلق بـ «حديث» ويصح الإعتبار لو كانت بمعنى نفس الحادثة وليست حكايتها.. وثمّة احتمال آخر، يقول «إذ»: ظرف متعلق بفعل محذوف تقديره (اذكر)، فالتقدير: (اذكر إذ ناداه...) ـ فتأمل.
3 ـ إنّ الفاصلة الزمنية ما بين توجيه الأمر الإلهي إلى موسى(عليه السلام) وبين إرائة المعجزة كانت كبيرة، ولكنّ البيان القرآني اختصرها في هذا الموضع.
4 ـ يمكن اعتبار «ثمّ» في الآية إشارة إلى المدّة التي استغلها فرعون ليدرس ويخطط لكيفية مواجهة موسى(عليه السلام)، لأنّ «ثمّ» عادة ما تستعمل للتعبير عن الفاصلة الزمنية بين الأحداث.
5 ـ «نكال»: منصوب بنزع الخافض، والتقدير: (فأخذه اللّه بنكال الآخرة) ويحتمل كونه مفعول مطلق للأخذ، بمعنى (نكّل)، فيكون التقدير: (نكّل اللّه ناكال الآخرة).
6 ـ وفي مجمع البيان، ج10، ص432، رواية اُخرى تحمل نفس المضمون عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) وأكثر تفصيلاً، نور الثقلين، ج5، ص500.
7 ـ في الآية حذف، والتقدير: (أم السماء أشدّ خلقاً). و«بناها»: جملة استئنافية، وهي مقدّمة للآيات التالية.
8 ـ تفسير الفخر الرازي، ج31، الآية المبحوثة.
9 ـ يرجع ضميرا «ليلها» و«ضحاها» إلى السماء، فنسبة النور والظلمة إلى السماء باعتبار أنّ لهما منشأ سماوياً.
10 ـ فسّر بعض المفسّرين «بعد ذلك» في الآية، بمعنى (إضافة لهذا)، فيكون معنى الآية: (إضافة إلى ما في الآيات السابقة فالأرض دحاها).
11 ـ واعتبره البعض: مصدراً ميمياً، بمعنى الحيوانات السائمة، ولكنّ المعنى المذكر أعلاه أقرب.
12 ـ بحثنا مفصلاً موضوع الجبال وأهميتها في حياة الإنسان وفي تثبيت الأرض، في ذيل الآية (3) من سورة الرعد ـ فراجع.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|