قال تعالى : {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل: 1 - 21].
{والليل إذا يغشى} أقسم الله سبحانه بالليل إذا يغشى بظلمته النهار وقيل إذا يغشى بظلمته الأفق وجميع ما بين السماء والأرض والمعنى إذا أظلم وادلهم وأغشى الأنام بالظلام لما في ذلك من الهول المحرك للنفس بالاستعظام {والنهار إذا تجلى} أي بأن وظهر من بين الظلمة وفيه أعظم النعم إذ لوكان الدهر كله ظلاما لما أمكن الخلق طلب معايشهم ولوكان ذلك كله ضياء لما انتفعوا بسكونهم وراحتهم فلذلك كرر سبحانه ذكر الليل والنهار في السورتين لعظم قدرهما في باب الدلالة على مواقع حكمته {وما خلق الذكر والأنثى} أي والذي خلق عن الحسن والكلبي وعلى هذا يكون ما بمعنى من وقيل معناه خلق الذكر والأنثى عن مقاتل قال مقاتل والكلبي : الذكر والأنثى آدم وحواء (عليهما السلام) وقيل أراد كل ذكر وأنثى من الناس وغيرهم.
{إن سعيكم لشتى} هذا جواب القسم والمعنى أن أعمالكم لمختلفة فعمل للجنة وعمل للنار عن ابن عباس وقيل أن سعيكم لمتفرق فساع في فكاك رقبته وساع في هلاكه وساع للدنيا وساع للعقبى وروى الواحدي بالإسناد المتصل المرفوع عن عكرمة عن ابن عباس أن رجلا كانت له نخلة فرعها في دار رجل فقير ذي عيال وكان الرجل إذا جاء فدخل الدار وصعد النخلة ليأخذ منها التمر فربما سقطت التمرة فيأخذها صبيان الفقير فينزل الرجل من النخلة حتى يأخذ التمر من أيديهم فإن وجدها في في أحدهم أدخل إصبعه حتى يأخذ التمرة من فيه فشكا ذلك الرجل إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) وأخبره بما يلقى من صاحب النخلة فقال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) اذهب ولقي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) صاحب النخلة فقال تعطيني نخلتك المائلة التي فرعها في دار فلان ولك بها نخلة في الجنة فقال له الرجل إن لي نخلا كثيرا وما فيه نخلة أعجب إلي تمرة منها قال ثم ذهب الرجل فقال رجل كان يسمع الكلام من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يا رسول الله أ تعطيني ما أعطيت الرجل نخلة في الجنة إن أنا أخذتها قال نعم فذهب الرجل ولقي صاحب النخلة فساومها منه فقال له أ شعرت أن محمدا أعطاني بها نخلة في الجنة فقلت له يعجبني تمرتها وإن لي نخلا كثيرا فما فيه نخلة أعجب إلي تمرة منها فقال له الآخر أ تريد بيعها فقال لا إلا أن أعطى ما لا أظنه أعطى قال فما مناك قال أربعون نخلة فقال الرجل جئت بعظيم تطلب بنخلتك المائلة أربعين نخلة ثم سكت عنه فقال له أنا أعطيك أربعين نخلة فقال له اشهد إن كنت صادقا فمر إلى أناس فدعاهم فأشهد له بأربعين نخلة ثم ذهب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقال يا رسول الله إن النخلة قد صارت في ملكي فهي لك فذهب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) إلى صاحب الدار فقال له النخلة لك ولعيالك فأنزل الله تعالى {والليل إذا يغشى} السورة وعن عطاء قال اسم الرجل أبو الدحداح.
{فأما من أعطى واتقى} هو أبو الدحداح {وأما من بخل واستغنى} وهو صاحب النخلة وقوله {لا يصلاها إلا الأشقى} وهو صاحب النخلة {وسيجنبها الأتقى} هو أبو الدحداح {ولسوف يرضى} إذا دخل الجنة قال وكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) يمر بذلك الحش(2) وعذوقه دانية فيقول عذوق وعذوق لأبي الدحداح في الجنة وعن ابن الزبير قال أن الآية نزلت في أبي بكر لأنه اشترى المماليك الذين أسلموا مثل بلال وعامر بن فهيرة وغيرهما وأعتقهم والأولى أن تكون الآيات محمولة على عمومها في كل من يعطي حق الله من ماله وكل من يمنع حقه سبحانه وروى العياشي ذلك بإسناده عن سعد الإسكاف عن أبي جعفر (عليه السلام) قال {فأما من أعطى} مما أتاه الله {واتقى وصدق بالحسنى} أي بأن الله يعطي بالواحد عشرا إلى كثير من ذلك وفي رواية أخرى إلى مائة ألف فما زاد {فسنيسره لليسرى} قال لا يريد شيئا من الخير إلا يسره الله له {وأما من بخل بما أتاه الله واستغنى وكذب بالحسنى} بأن الله يعطي بالواحد عشرا إلى أكثر من ذلك وفي رواية أخرى إلى مائة ألف فما زاد {فسنيسره لليسرى} قال لا يريد شيئا من الشر إلا يسره الله له قال ثم قال أبو جعفر (عليه السلام) (وما يغني عنه ماله إذا تردى) أما والله ما تردى من جبل ولا تردى من حائط ولا تردى في بئر ولكن تردى في نار جهنم.
فعلى هذا يكون قوله {وصدق بالحسنى} معناه بالعدة الحسنى وهو قول ابن عباس وقتادة وعكرمة وقيل بالجنة التي هي صواب المحسنين عن الحسن ومجاهد والجبائي وقوله {فسنيسره لليسرى} معناه فسنهون عليه الطاعة مرة بعد مرة وقيل معناه سنهيئه ونوفقه للطريقة اليسرى أي سنسهل عليه فعل الطاعة حتى يقوم إليها بجد وطيب نفس وقيل معناه سنيسره للخصلة اليسرى والحالة اليسرى وهو دخول الجنة واستقبال الملائكة إياه بالتحية والبشرى وقوله {وأما من بخل} أي ضن بماله الذي لا يبقى له وبخل بحق الله فيه {واستغنى} أي التمس الغنى بذلك المنع لنفسه وقيل معناه أنه عمل عمل من هو مستغن عن الله وعن رحمته {وكذب بالحسنى} أي بالجنة والثواب والوعد وبالخلف {فسنيسره للعسرى} هو على مزاوجة الكلام والمراد به التمكين أي نخلي بينه وبين الأعمال الموجبة للعذاب والعقوبة {وما يغني عنه ماله إذا تردى} أي سقط في النار عن قتادة وأبي صالح .
وقيل إذا مات وهلك عن مجاهد وقيل للحسن أن فلانا جمع مالا فقال هل جمع لذلك عمرا قالوا لا قال فما تصنع الموتى بالأموال {إن علينا للهدى} معناه إن علينا لبيان الهدى بالدلالة عليه فأما الاهتداء فإليكم أخبر سبحانه أن الهدى واجب عليه ولو جاز الإضلال عليه لما وجب الهداية قال قتادة : معناه أن علينا بيان الطاعة والمعصية.
{وإن لنا للآخرة والأولى} وإن لنا ملك الآخرة وملك الأولى فلا يزيد في ملكنا اهتداء من اهتدى ولا ينقص منه عصيان من عصى ولو نشاء لمنعناهم عن ذلك قسرا وجبرا ولكن التكليف اقتضى أن نمنعهم بيانا وأمرا وزجرا ثم خوف سبحانه العادل عن الهدى فقال {فأنذرتكم نارا تلظى} أي خوفتكم نارا تتلهب وتتوهج وتتوقد {لا يصليها} أي لا يدخل تلك النار ولا يلزمها {إلا الأشقى} وهو الكافر بالله {الذي كذب} ب آيات الله ورسله {وتولى} أي أعرض عن الإيمان {وسيجنبها} أي سيجنب النار ويجعل منها على جانب {الأتقى} المبالغ في التقوى {الذي يؤتي ماله} أي ينفقه في سبيل الله {يتزكى} يطلب أن يكون عند الله زكيا لا يطلب بذلك رياء ولا سمعة قال القاضي : قوله {لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى} لا يدل على أنه تعالى لا يدخل النار إلا الكافر على ما يقوله الخوارج وبعض المرجئة وذلك لأنه نكر النار المذكورة ولم يعرفها فالمراد بذلك أن نارا من جملة النيران لا يصلاها إلا من هذه حاله والنيران دركات على ما بينه سبحانه في سورة النساء في شأن المنافقين فمن أين عرف أن غير هذه النار لا يصلاها قوم آخرون وبعد فإن الظاهر من الآية يوجب أن لا يدخل النار إلا من كذب وتولى وجمع بين الأمرين فلا بد للقوم من القول بخلافه لأنهم يوجبون النار لمن يتولى عن كثير من الواجبات وإن لم يكذب وقيل أن الأتقى والأشقى المراد بهما التقي والشقي كما قال طرفة :
تمنى رجال أن أموت وإن أمت *** فتلك سبيل لست فيها بأوحد
أراد بواحد ثم وصف سبحانه الأتقى فقال {وما لأحد عنده من نعمة تجزى} أي ولم يفعل الأتقى ما فعله من إيتاء المال وإنفاقه في سبيل الله ليد أسديت إليه يكافىء عليها ولا ليد يتخذها عند أحد من الخلق {إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى} أي ولكنه فعل ما فعل يبتغي به وجه الله ورضاه وثوابه وإنما ذكر الوجه طلبا لشرف الذكر والمعنى إلا الله ولابتغاء ثواب الله {ولسوف يرضى} أي ولسوف يعطيه الله من الجزاء والثواب ما يرضى به فإنه يعطيه كل ما تمنى ولم يخطر بباله فيرضى به لا محالة .
__________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج10 ، ص374-378.
2- الحش : النخل الناقص القصير.
{واللَّيْلِ إِذا يَغْشى والنَّهارِ إِذا تَجَلَّى} . يغشى يغطي الأشياء ، وتجلى ظهر ، وهذا القسم منه تعالى مثله في السورة السابقة {والنَّهارِ إِذا جَلَّاها ، واللَّيْلِ إِذا يَغْشاها} . وبيّنا هناك ان الغرض من القسم بالضياء والظلام هو التنبيه إلى ما لهما من منافع {وما خَلَقَ الذَّكَرَ والأُنْثى} . {ما} هنا مصدرية أي وخلق الذكر والأنثى ، ويطرد هذا الخلق في كل حي إنسانا كان أم حيوانا أم نباتا ، وبه يتم التناسل وتمتد الحياة ، وهنا أسئلة تطرح نفسها ، وهي : من الذي أوجد الحياة في هذا الكائن دون ذاك ؟ ومن الذي أعد الحي وأهّله لوظيفة التناسل ؟
ولما ذا يأتي المولود تارة ذكرا وأنثى أخرى مع ان مصدرهما واحد ، فهل فعلت المادة العمياء كل هذا الفعل الدقيق المحكم ، أو هو من باب الصدفة ؟ وهل اكتشف العلم ان المادة الواحدة تكون علة لأحوال شتى دون أن يتدخل عنصر آخر في شأنها ؟ . أما الصدفة فهي جهد العاجز . فلم يبق من الفروض والتفاسير إلا المدبر العليم الذي يرسم ويخطط وفقا للحكمة البالغة ، والنظام الكامل الشامل .
{إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} . هذا جواب القسم ، والمعنى ان أعمال الإنسان منها الخيرات ومنها الهفوات . .
وتسأل : ان هذه قضية بديهية لا تحتاج إلى يمين ، فلما ذا أكدها سبحانه بالقسم ؟
الجواب : أجل ، {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} قضية بديهية من حيث هي وبصرف النظر عن عواقبها ونتائجها ، أما مع النظر إلى ما يترتب عليها كتيسير المحسن لليسرى والمسيء للعسرى وما إلى ذلك - فإنها تحتاج إلى التأكيد أولا مانع من تأكيدها - على الأقل - والمقسم عليه هنا هو مجموع قوله تعالى : {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} وما بعده ، وهو:
{فَأَمَّا مَنْ أَعْطى} بذل في سبيل الخير لوجه الخير {واتَّقى} ابتعد عن الحرام والآثام {وصَدَّقَ بِالْحُسْنى} . آمن بالجنة والنار والحلال والحرام ، وعمل بموجب إيمانه وإلا فإيمانه سراب لأن الايمان وسيلة إلى العمل وليس غاية في نفسه {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى} اختلف المفسرون في معنى اليسرى ، فمن قائل : انها الجنة ، وقائل :
هي الخير ، وقال الشيخ محمد عبده : {هي خطة تكميل النفس وانمائها بالكمال} .
أما نحن فنفسر اليسرى هنا بقوله تعالى : {ومَنْ يَتَّقِ اللَّهً يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} - 4 الطلاق أي يشمله اللَّه بعنايته ، ويوفقه إلى ما فيه خيره وصلاحه .
{وأَمَّا مَنْ بَخِلَ} بالبذل في سبيل اللَّه {واسْتَغْنى} بماله عن الإعانة باللَّه ، وعن آخرته بدنياه {وكَذَّبَ بِالْحُسْنى} فقال : لا جنة ولا نار ولا حلال ولا حرام {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى} . المراد بالعسرى هنا السقوط في هوة السيئات والانحرافات ، والدليل على إرادة هذا المعنى قوله تعالى : {إِذا تَرَدَّى} والمراد بتيسيره ندعه وأهواءه ، ولا نردعه بالقوة عما يختاره لنفسه من التردي والهلاك {وما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى} . {ما} استفهام بمعنى الإنكار ، ويجوز أن تكون نفيا محضا ، والمراد بالتردي السقوط في حضيض الرذائل والقبائح .
ويتلخص معنى هذه الآيات من قوله تعالى : فأما من أعطى إلى قوله تردى ، يتلخص بأن سنة اللَّه في خلقه أن يبيّن لهم طريقي الصلاح والفساد ، ويمنحهم القدرة على فعلهما وتركهما ، ثم يعامل كلا بما يختاره لنفسه ، فان آثر الخير والصلاح شمله بتوفيقه وعنايته ، وان اختار الشر والفساد تخلى عنه ، وأوكله إلى نفسه وأهوائه تقوده إلى الشدائد والمهالك .
{إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى} . هذا جواب عن سؤال مقدر ، وهو: كيف تخلى سبحانه عن المسئ ووكله إلى نفسه وأهوائه ؟ ألا يتنافى هذا مع لطفه ورحمته ؟ .
فأجاب سبحانه بأن عليه أن يزود العبد بالقدرة على العمل ، وبالعقل الذي يميز بين الخير والشر ، ثم يبين له ويرشده ويبشره وينذره ، وقد تحقق ذلك كله على أكمل وجه ، وهو منتهى اللطف والرحمة ، أما العمل والاهتداء فعلى العبد وحده ، ولا يلجئه اللَّه إليه لأن الإلجاء يسلب الإنسان حريته وإرادته ، بل وإنسانيته لأن الإنسان بحريته وإرادته . وتجدر الإشارة إلى ان كلمة {على} هنا تدل على الوجوب خلافا للشيخ محمد عبده وغيره من الأشاعرة لأن الوجوب إذا نسب إلى العبد فمعناه ان الغير أوجب عليه ، ولوترك لكان مسؤولا ، وإذا نسب إليه تعالى فمعناه هو الذي أوجب على نفسه ما أوجب أي انه وعد وليس لوعده مترك . قال تعالى :
{كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} - 54 الانعام .
{وإِنَّ لَنا لَلآخِرَةَ والأُولى} . اللَّه وحده مالك الملك في الدنيا والآخرة ، ولا تنفعه طاعة من أطاع ، ولا معصية من عصى ، ولا يجد العاصون مفرا من حكمه وسلطانه {فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى} . أمر سبحانه ونهى وحذر من عصى نارا تتلهب وتتسعر لعله يتوب من ذنبه ويرجع إلى ربه {لا يَصْلاها إِلَّا الأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وتَوَلَّى} . يصلاها أي يدخل النار ويعذب فيها ، وقيل : المراد بالأشقى هنا الكافر وقال الشيخ محمد عبده : {الأشقى من هو أشد شقاء من غيره} . والصحيح ان التفضيل هنا غير مقصود من جهة دخول النار ، لأنه ما من شقي إلا هو ذائقها : {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وشَهِيقٌ} - 106 هود .
والتفاوت بين الشقي والأشقى انما هو في أليم العذاب وشدته لا في أصل العذاب ، وعليه يكون المراد بالأشقى هنا من عصى اللَّه وأعرض عن أمره سواء أعرض عنه لأنه لا يؤمن باللَّه وشريعته ، أم آمن به وبشريعته ولكنه قصّر وتهاون ، لا فرق بين الاثنين لأن الايمان وسيلة للعمل ، وليس غاية في نفسه ، فقد ثبت بنص القرآن ان من آمن ولم يعمل فهو والكافر بمنزلة سواء ، قال تعالى : {لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَو كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً} - 159 الانعام أي لم تؤمن إطلاقا أو آمنت ولم تعمل .
{وسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى} . الهاء في سيجنبها تعود إلى النار ، ومعنى يجنبها يبتعد عن الأسباب المؤدية إليها ، وهي محارم اللَّه ، وعليه يكون المراد بالأتقى التقي {الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى} . يؤتى من الإيتاء ، وهو الإعطاء ، والمعنى يعطي ماله وينفقه في سبيل الخير ليطهر نفسه من الذنوب ، ويتقرب إلى اللَّه ، ولا ينفقه للشهرة والاستعلاء ، ولا للتجارة والرياء .
{وما لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى} . قد يكون الإنفاق بدافع الشهرة والظهور ، أومن باب هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ، كما لو أهديت من أسدى إليك يدا لترد إليه إحسانه ، وقد يكون الإنفاق بقصد الربح والتجارة ، فتنفق بيد لتأخذ باليد الأخرى كما ينفق رجال السياسة على المشاريع الخيرية وغيرها أيام الانتخابات لاكتساب الأصوات . . والمؤمن لا يقصد شيئا من ذلك أو غيره {إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلى} طالبا ثوابه خائفا من عذابه {إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً ولا شُكُوراً إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً} - 9 الإنسان .
{ولَسَوْفَ يَرْضى} . يعطي اللَّه من أنفق لوجهه كل ما يرضيه ، وفوق ما كان يرجو ويأمل . وقيل : الضمير في يرضى يعود إلى اللَّه لا إلى الأتقى ، والمعنى واحد على التقديرين لأن اللَّه إذا رضي على عبده أرضاه لا محالة .
وقال الشيخ محمد عبده : روى المفسرون هنا أسبابا للنزول ، وان الآيات نزلت في أبي بكر ، ومتى وجد شيء من ذلك في الصحيح لم يمنعنا من التصديق به مانع ، ولكن معنى الآيات لا يزال عاما .
__________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7 ، ص573-576.
غرض السورة الإنذار وتسلك إليه بالإشارة إلى اختلاف مساعي الناس وأن منهم من أنفق واتقى وصدق بالحسنى فسيمكنه الله من حياة خالدة سعيدة ومنهم من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسيسلك الله به إلى شقاء العاقبة، وفي السورة اهتمام وعناية خاصة بأمر الإنفاق المالي.
والسورة تحتمل المكية والمدنية بحسب سياقها.
قوله تعالى: {والليل إذا يغشى} إقسام بالليل إذا يغشى النهار على حد قوله تعالى: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} [الأعراف: 54]، ويحتمل أن يكون المراد غشيانه الأرض أو الشمس.
قوله تعالى: {والنهار إذا تجلى} عطف على الليل، والتجلي ظهور الشيء بعد خفائه، والتعبير عن صفة الليل بالمضارع وعن صفة النهار بالماضي حيث قيل: {يغشى} و{تجلى} تقدم فيه وجه في تفسير أول السورة السابقة.
قوله تعالى: {وما خلق الذكر والأنثى} عطف على الليل كسابقه، و{ما} موصولة والمراد به الله سبحانه وإنما عبر بما، دون من، إيثارا للإبهام المشعر بالتعظيم والتفخيم والمعنى وأقسم بالشيء العجيب الذي أوجد الذكر والأنثى المختلفين على كونهما من نوع واحد.
وقيل: ما مصدرية والمعنى وأقسم بخلق الذكر والأنثى وهو ضعيف.
والمراد بالذكر والأنثى مطلق الذكر والأنثى أينما تحققا، وقيل: الذكر والأنثى من الإنسان، وقيل: المراد بهما آدم وزوجته حواء، وأوجه الوجوه أولها.
قوله تعالى: {إن سعيكم لشتى} السعي هو المشي السريع، والمراد به العمل من حيث يهتم به، وهو في معنى الجمع، وشتى جمع شتيت بمعنى المتفرق كمرضى جمع مريض.
والجملة جواب القسم والمعنى أقسم بهذه المتفرقات خلقا وأثرا أن مساعيكم لمتفرقات في نفسها وآثارها فمنها إعطاء وتقوى وتصديق ولها أثر خاص بها، ومنها بخل واستغناء وتكذيب ولها أثر خاص بها.
قوله تعالى: {فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى} تفصيل تفرق مساعيهم واختلاف آثارها.
والمراد بالإعطاء إنفاق المال لوجه الله بقرينة مقابلته للبخل الظاهر في الإمساك عن إنفاق المال وقوله بعد: {وما يغني عنه ماله إذا تردى}.
وقوله: {واتقى} كالمفسر للإعطاء يفيد أن المراد هو الإعطاء على سبيل التقوى الدينية.
وقوله: {وصدق بالحسنى} الحسنى صفة قائمة مقام الموصوف والظاهر أن التقدير بالعدة الحسنى وهي ما وعد الله من الثواب على الإنفاق لوجهه الكريم وهو تصديق البعث والإيمان به ولازمه الإيمان بوحدانيته تعالى في الربوبية والألوهية، وكذا الإيمان بالرسالة فإنها طريق بلوغ وعده تعالى للثواب.
ومحصل الآيتين أن يكون مؤمنا بالله ورسوله واليوم الآخر وينفق المال لوجه الله وابتغاء ثوابه الذي وعده بلسان رسوله.
وقوله: {فسنيسره لليسرى} التيسير التهيئة والإعداد واليسرى الخصلة التي فيها يسر من غير عسر، وتوصيفها باليسر بنوع من التجوز فالمراد من تيسيره لليسرى توفيقه للأعمال الصالحة بتسهيلها عليه من غير تعسير أو جعله مستعدا للحياة السعيدة عند ربه ودخول الجنة بسبب الأعمال الصالحة التي يأتي بها، والوجه الثاني أقرب وأوضح انطباقا على ما هو المعهود من مواعد القرآن.
قوله تعالى: {وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى وما يغني عنه ماله إذا تردى} البخل مقابل الإعطاء، والاستغناء طلب الغنى والثروة بالإمساك والجمع، والمراد بالتكذيب بالحسنى الكفر بالعدة الحسنى وثواب الله الذي بلغه الأنبياء والرسل ويرجع إلى إنكار البعث.
والمراد بتيسيره للعسرى خذلانه بعدم توفيقه للأعمال الصالحة، بتثقيلها عليه وعدم شرح صدره للإيمان أو إعداده للعذاب.
وقوله: {وما يغني عنه ماله إذا تردى} التردي هو السقوط من مكان عال ويطلق على الهلاك فالمراد سقوطه في حفرة القبر أوفي جهنم أو هلاكه.
و{ما} استفهامية أو نافية أي أي شيء يغنيه ماله إذا مات وهلك أوليس يغني عنه ماله إذا مات وهلك.
قوله تعالى: {إن علينا للهدى وإن لنا للآخرة والأولى} تعليل لما تقدم من حديث تيسيره لليسرى وللعسرى أو الإخبار به بأوجز بيان، محصله أنا إنما نفعل هذا التيسير أو نبين هذا البيان لأنه من الهدى والهدى علينا لا يزاحمنا في ذلك شيء ولا يمنعنا عنه مانع.
فقوله: {إن علينا للهدى} يفيد أن هدى الناس مما قضى سبحانه به وأوجبه على نفسه بمقتضى الحكمة وذلك أنه خلقهم ليعبدوه كما قال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] فجعل عبادته غاية لخلقهم وجعلها صراطا مستقيما إليه كما قال: {إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [آل عمران: 51] ، وقال: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ } [الشورى: 52، 53] وقضى على نفسه أن يبين لهم سبيله ويهديهم إليه بمعنى إراءة الطريق سواء سلكوها أم تركوها كما قال: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ} [النحل: 9] ، وقال: {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ } [الأحزاب: 4] وقال: { إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا } [الإنسان: 3] ولا ينافي ذلك قيام غيره تعالى بأمر هذا المعنى من الهدى بإذنه كالأنبياء كما قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [الشورى: 52] ، وقال: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108].
وقد تقدم لهذه المسألة بيان عقلي في مباحث النبوة في الجزء الثاني من الكتاب.
هذا في الهداية بمعنى إراءة الطريق وأما الهداية بمعنى الإيصال إلى المطلوب - والمطلوب في المقام الآثار الحسنة التي تترتب على الاهتداء بهدى الله والتلبس بالعبودية كالحياة الطيبة المعجلة في الدنيا والحياة السعيدة الأبدية في الآخرة - فمن البين أنه من قبيل الصنع والإيجاد الذي يختص به تعالى فهو مما قضى به الله وأوجبه على نفسه وسجله بوعده الحق قال تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} [طه: 123] ، وقال: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [النحل: 97] ، وقال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء: 122].
ولا ينافي انتساب هذا المعنى من الهداية إليه تعالى بنحو الأصالة انتسابه إلى غيره تعالى بنحو التبع بتخلل الأسباب بينه تعالى وبين ما ينسب إليه من الأثر بإذنه.
ومعنى الآية - إن كان المراد بالهدى إراءة الطريق - أنا إنما نبين لكم ما نبين لأنه من إراءة طريق العبودية وإراءة الطريق علينا، وإن كان المراد به الإيصال إلى المطلوب أنا إنما نيسر هؤلاء لليسرى من الأعمال الصالحة أومن الحياة السهلة الأبدية ودخول الجنة لأنه من إيصال الأشياء إلى غاياتها وعلينا ذلك.
وأما التيسير للعسرى فهو مما يتوقف عليه التيسير لليسرى {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ } [الأنفال: 37] وقد قال سبحانه في القرآن الذي هو هدى للعالمين: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء: 82].
ويمكن أن يكون المراد به مطلق الهداية أعم من الهداية التكوينية الحقيقية والتشريعية الاعتبارية - على ما هو ظاهر إطلاق اللفظ - فله تعالى الهداية الحقيقية كما قال: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50] ، والهداية الاعتبارية كما قال: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان: 3].
وقوله: {وإن لنا للآخرة والأولى} أي عالم البدء وعالم العود فكل ما يصدق عليه أنه شيء فهو مملوك له تعالى بحقيقة الملك الذي هو قيام وجوده بربه القيوم ويتفرع عليه الملك الاعتباري الذي من آثاره جواز التصرفات.
فهو تعالى يملك كل شيء من كل جهة فلا يملك شيء منه شيئا فلا معارض يعارضه ولا مانع يمنعه ولا شيء يغلبه كما قال: {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ } [الرعد: 41] وقال: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} [يوسف: 21] ، وقال: {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ } [إبراهيم: 27].
قوله تعالى: {فأنذرتكم نارا تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى} تفريع على ما تقدم أي إذا كان الهدى علينا فأنذرتكم نار جهنم وبذلك يوجه ما في قوله: {فأنذرتكم} من الالتفات عن التكلم مع الغير إلى التكلم وحده أي إذا كان الهدى مقضية محتومة فالمنذر بالأصالة هو الله وإن كان بلسان رسوله.
وتلظى النار تلهبها وتوهجها، والمراد بالنار التي تتلظى جهنم كما قال تعالى: {كَلَّا إِنَّهَا لَظَى} [المعارج: 15].
والمراد بالأشقى مطلق الكافر الذي يكفر بالتكذيب والتولي فإنه أشقى من سائر من شقي في دنياه فمن ابتلي في بدنه شقي ومن أصيب في ماله أو ولده مثلا شقي ومن خسر في أمر آخرته شقي والشقي في أمر آخرته أشقى من غيره لكون شقوته أبدية لا مطمع في التخلص منها بخلاف الشقوة في شأن من شئون الدنيا فإنها مقطوعة لا محالة مرجوة الزوال عاجلا.
فالمراد بالأشقى هو الكافر المكذب بالدعوة الحقة المعرض عنها على ما يدل عليه توصيفه بقوله: {الذي كذب وتولى} ويؤيده إطلاق الإنذار، وأما الأشقى بمعنى أشقى الناس كلهم فمما لا يساعد عليه السياق البتة.
والمراد بصلي النار اتباعها ولزومها فيفيد معنى الخلود وهو مما قضى الله به في حق الكافر، قال تعالى: { وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 39].
وبذلك يندفع ما قيل: إن قوله: {لا يصلاها إلا الأشقى} ينفي عذاب النار عن فساق المؤمنين على ما هو لازم القصر في الآية، وجه الاندفاع أن الآية إنما تنفي عن غير الكافر الخلود فيها دون أصل الدخول.
قوله تعالى: {وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى} التجنيب التبعيد، وضمير {سيجنبها} للنار، والمعنى سيبعد عن النار الأتقى.
والمراد بالأتقى من هو أتقى من غيره ممن يتقي المخاطر فهناك من يتقي ضيعة النفوس كالموت والقتل ومن يتقي فساد الأموال ومن يتقي العدم والفقر فيمسك عن بذل المال وهكذا ومنهم من يتقي الله فيبذل المال، وأتقى هؤلاء الطوائف من يتقي الله فيبذل المال لوجهه وإن شئت فقل يتقي خسران الآخرة فيتزكى بالإعطاء.
فالمفضل عليه للأتقى هومن لا يتقي بإعطاء المال وإن اتقى سائر المخاطر الدنيوية أو اتقى الله بسائر الأعمال الصالحة.
فالآية عامة بحسب مدلولها غير خاصة ويدل عليه توصيف الأتقى بقوله: {الذي يؤتي ماله} إلخ وهو وصف عام وكذا ما يتلوه، ولا ينافي ذلك كون الآيات أو جميع السورة نازلة لسبب خاص كما ورد في أسباب النزول.
وأما إطلاق المفضل عليه بحيث يشمل جميع الناس من طالح أو صالح ولازمه انحصار المفضل في واحد مطلقا أو واحد في كل عصر، ويكون المعنى وسيجنبها من هو أتقى الناس كلهم وكذا المعنى في نظيره: لا يصلاها إلا أشقى الناس كلهم فلا يساعد عليه سياق آيات صدر السورة، وكذا الإنذار العام الذي في قوله: {فأنذرتكم نارا تلظى} فلا معنى لأن يقال: أنذرتكم جميعا نارا لا يخلد فيها إلا واحد منكم جميعا ولا ينجو منها إلا واحد منكم جميعا.
وقوله: {الذي يؤتي ماله يتزكى} صفة للأتقى أي الذي يعطي وينفق ماله يطلب بذلك أن ينمو نماء صالحا.
وقوله: {وما لأحد عنده من نعمة تجزى} تقرير لمضمون الآية السابقة أي ليس لأحد عنده من نعمة تجزى تلك النعمة بما يؤتيه من المال وتكافأ وإنما يؤتيه لوجه الله ويؤيد هذا المعنى تعقيبه بقوله: {إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى}.
فالتقدير من نعمة تجزى به، وإنما حذف الظرف رعاية للفواصل، ويندفع بذلك ما قيل: إن بناء {تجزى} للمفعول لأن القصد ليس لفاعل معين.
قوله تعالى: {إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى} استثناء منقطع والمعنى ولكنه يؤتي ماله طلبا لوجه ربه الأعلى وقد تقدم كلام في معنى وجه الله تعالى وفي معنى الاسم الأعلى.
قوله تعالى: {ولسوف يرضى} أي ولسوف يرضى هذا الأتقى بما يؤتيه ربه الأعلى من الأجر الجزيل والجزاء الحسن الجميل.
وفي ذكر صفتي الرب والأعلى إشعار بأن ما يؤتاه من الجزاء أنعم الجزاء وأعلاه وهو المناسب لربوبيته تعالى وعلوه، ومن هنا يظهر وجه الالتفات في الآية السابقة في قوله: {وجه ربه الأعلى} من سياق التكلم وحده إلى الغيبة بالإشارة إلى الوصفين: ربه الأعلى.
_________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج20 ، ص274-279.
التقوى والإمداد الإلهي:
هذه السّورة المباركة أيضاً تبتديء بثلاثة أقسام تثير التفكير في المخلوقات وفي الخالق.
تقول: (والليل إذا يغشى)
فالقسم الأوّل بالليل حين يغطّي... يغطّي بظلامه نصف الكرة الأرضية... أو يغطّي قرص الشمس، وهذا القسم تأكيد على أهمية الليل ودوره الفاعل في حياة الأفراد، من تعديله لحرارة الشمس، ونشره السكينة على كل الموجودات الحية،
وتوفير الجو لعبادة المتهجّدين ومناجاة الصالحين.
ويستمر السياق القرآني في القسم بالقول: {والنّهار إذا تجلّى}(2).
والنهار يبدأ من اللحظة التي يطلع فيها الفجر، فيشقّ قلب ظلام الليل، ثمّ يمتدّ ليملاء كلّ السماء، ويغمر كلّ شيء بالنور... بهذا النور الذي هو رمز الحركة والحياة، والعامل على نمو كلّ الموجودات الحية.
في القرآن الكريم تركيز على مسألة نظام «النور» و«الظلمة» ودورهما في حياة البشر، لأنّهما من نعم اللّه الكبرى ومن آياته العظمى سبحانه.
ثمّ القسم الأخير في السّورة بالخالق المتعال: {وما خلق الذكر والاُنثى}.
فوجود الجنسين في عالم «الإنسان» و«الحيوان» و«النبات»... والمراحل التي تمرّ بها النطفة منذ انعقادها حتى الولادة... والخصائص التي يمتاز بها كلّ جنس متناسبة مع دوره ونشاطه... والأسرار العميقة المخبوءة في مفهوم الجنسية... كلّها من دلالات وآيات عالم الخليقة الكبير... وبها يمكن الوقوف على عظمة الخالق.
والتعبير بـ «ما» عن الخالق سبحانه كناية عن عظمة الذات الإلهية، وما يحيط بهذه الذات من غموض تجعله سبحانه فوق كلّ وهم وخيال وظن وقياس.
قال بعضهم أن «ما» في الآية مصدرية، ومعناها أقسم بخلق الذكر والاُنثى وهذا الإحتمال ضعيف في معنى الآية.
الحقيقة أنّ القَسَمين الأوّل والثّاني يشيران إلى الآيات «الآفاقية»، والقَسم الثّالث إلى الآيات «الأنفسية».(3)
ثمّ يأتي الهدف النهائي من كلّ هذه الأقسام بقوله سبحانه: {إن سعيكم لشتى}
اتجاهات سعيكم مختلفة، ونتائجها مختلفة أيضاً، هذا يعني أن أفراد البشر لا يستقرون في حياتهم على حال... بل هم في سعي مستمر... وفي استثمار دائم للطاقة التي أودعها اللّه في نفوسهم... فانظر أيّها الإنسان في أي مسير تبذل هذه الطاقة التي هي رأس مال وجودك... في أيّ اتجاه... وفي سبيل أيّة غاية؟!
حذار من تبديد كلّ هذه الطاقات في سبيل نتيجة تافهة... وحذار من بيعها بثمن بخس!
«شتى» جمع «شتيت» من مادة «شتَّ» أيّ فرّق الجمع، وهنا بمعنى التفرق والتشعب في المساعي من حيث الكيفية والهدف والنتيجة.
ثمّ يأتي تقسيم النّاس على قسمين، ويبيّن خصائص كلّ قِسم، يقول سبحانه: {فأمّا من أعطى واتقى، وصدّق بالحسنى، فسنيسره لليسرى}.
المقصود من الإعطاء في قوله: «أعطى» هو الإنفاق في سبيل اللّه ومساعدة المحتاجين.
والتأكيد على {التقوى» عقب الإعطاء قد يشير إلى ضرورة تنزيه النية وإخلاص القصد عند الإنفاق، وإلى الحصول على المال من طريق مشروع، وإنفاقه في طريق مشروع أيضاً، وإلى خلوه من المنّ والأذى... فكلّ هذه الصفات تجتمع في عنوان التقوى.
قال بعض إن «أعطى» إشارة إلى العبادات المالية و«اتقى» إشارة إلى سائر العبادات العملية من أداء الواجبات وترك المحرمات، غير أن التّفسير الأوّل أنسب مع ظاهر الآية، ومع سبب نزولها.
و«الحسنى» مؤنث «أحسن» إشارة إلى مثوبة اللّه وجزاءه الأوفى، والتصديق بالحسنى هو الإيمان بها، وفي سبب النزول ذكرنا أن «أبا الدحداح» أنفق أمواله لإيمانه بما سيعوضه اللّه في الآخرة. والحسنى وردت بهذا المعنى أيضاً في قوله سبحانه: {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [النساء: 95].
قيل إن المقصود هو «الشريعة الحسنى»، والتصديق بالحسنى هو الإيمان بالإسلام، الذي هو أكمل الأديان.
وقيل إنّها كلمة «لا إله إلاّ اللّه»، وقيل: إنّها الشهادتان.
غير أنّ سياق الآيات وسبب النزول وذكر «الحسنى» بمعنى «الجزاء الحسن» في كثير من الآيات كلّه يرجح التّفسير الأوّل.
عبارة {فسنيسره لليسرى} قد تكون إشارة إلى التوفيق الإلهي وإلى تيسير الطاعة لمثل هؤلاء الأفراد، أو فتح طريق الجنّة أمامهم وما يقابلونه من استقبال الملائكة وتحيتهم، أوكلّ ذلك.
من المؤكّد أنّ الذين سلكوا طريق الإنفاق والتقوى، واطمئنوا إلى جزاء اللّه وثوابه في الآخرة، تتذلل أمامهم المشاكل وينعمون في الدنيا والآخرة بالسكينة والإطمئنان.
أضف إلى ما سبق، قد يكون الإنفاق المالي شاقاً وثقيلاً على طبع الإنسان في البداية، ولكن بتوطين النفس على ذلك والإستمرار فيه، يتحول إلى أمر ميسور... بل أمر فيه لذّة وارتياح.
ما أكثر الأفراد الأسخياء الذين ينشرحون لحضور الضيف على مائدتهم، ولا يرتاحون إذا خلت مائدتهم يوماً من ضيف... وهذا نوع من تيسير الاُمور لهؤلاء.
ولا يفوتنا أن نذكر أيضاً أنّ الإيمان بالمعاد وبثواب الآخرة يهون المشاكل والصعاب، ويجعل بذل المال بل النفس ميسوراً، ويخلق الدافع نحو طلب الشهادة في ميادين الجهاد عن رغبة مقرونة باحساس باللذة والنشوة.
«اليسرى» من اليُسر، وهي في الأصل بمعنى إسراج الفرس والجامها وإعدادها للركوب. ثمّ اُطلقت الكلمة على كلّ عمل سهل ممهّد(4).
وفي الجهة المقابلة تقف المجموعة الاُخرى التي تتحدث عنها الآيات التالية:
{وأمّا من بخل واستغنى، وكذب بالحسنى، فسنيسره للعسرى}.
«من بخل» في هذه المجموعة مقابل «من أعطى» في تلك.
كلمة «استغنى» أيّ طلب الغنى، قد تكون إشارة إلى ذريعتهم لبخلهم، ووسيلتهم لإكتناز المال، أوقد تكون إشارة إلى ظنهم بأنّهم مستغنون عن ثواب الآخرة، عكس الطائفة الاُولى المنشدة إلى مثوبة اللّه، أوقد تكون بمعنى الإحساس بالاستغناء عن طاعة اللّه وبالتالي التخبط المستمر في الآثام.
من بين هذه التفاسير الثلاثة يبدو التّفسير الأوّل أنسب، وإن أمكن أيضاً الجمع بين الثلاثة.
المقصود من التكذيب بالحسنى، هو إنكار ثواب الآخرة، أو إنكار الدين الإلهي.
{فسنيسّره للعُسرى}... والتيسير للعسر بالنسبة لهذه المجموعة، يقابله التيسير لليسر للمجموعة الاُولى التي يشملها الله بتوفيقه، وييسر لها طريق الطاعة والإنفاق، وبذلك تتذلل أمامها مشاكل الحياة... أمّا هذه المجموعة فتُحرم التوفيق، ويتعسّر عليها شقّ الطريق وتواجه الضنك والنصب في الدنيا والآخرة، وهؤلاء البخلاء الخاوون من الإيمان يشقّ عليهم فعل الخير وخاصّة الإنفاق، بينما هو للمجموعة الاُولى مقرون باللذة والإنشراح.(5)
ثمّ يأتي التحذير لهؤلاء البخلاء المغفلين بالآية: {وما يغني عنه ماله إذا تردى}.
لا يستطيع أن يصطحب ماله من هذه الدنيا، ولا يستطيع هذا المال ـ إذا اصطحبه ـ أن يقيه من السقوط في نار جهنّم.
«ما» في الآية قد تكون نافية، وقد تكون للإستفهام الإنكاري، أيّ ماذا يجديه المال إذا سقط في حفرة القبر أوفي هاوية جهنّم؟!
«تردى» من (الردى) بمعنى الهلاك، وبمعنى السقوط من مكان مرتفع يؤدي إلى الهلاك، وقيل إن أصل الكلمة بمعنى السقوط: ولما كان السقوط من مكان مرتفع يؤدي إلى الهلاك، فقد اُطلقت الكلمة واُريد بها الهلاك، والتردى في الآية قد يعني السقوط في القبر، أوفي جهنّم، أو بمعنى الهلاك الذي هو جزاء هؤلاء.
وبهذا... تحدثت الآيات الكريمات عن مجموعتين: الاُولى: مؤمنة، تقية، سخية; والثّانية: خاوية الإيمان، عديمة التقوى، بخيلة ونموذج المجموعتين موجود في سبب نزول الآيات بوضوح.
المجموعة الاُولى، طوت طريقها بيسر بتوفيق اللّه، واتجهت نحو الجنّة ونعيمها، بينما المجموعة الثّانية، واجهت في مسيرتها الحياتية المشاكل المتفاقمة جمعت الأموال الطائلة، وتركتها وولت تجرّ أذيال الحسرة والهّم والويال، ولم تنل سوى العقاب الإلهي.
وقوله تعالى : {إِنَّ عَلَينَا لَلهُدَى(12) وإِنَّ لَنَا لَلأَخِرَةَ وَالأُولَى(13)فَأَنذَرْتُكُمْ نَارَاً تَلَظَّى(14) لاَ يَصْلَهَآ إِلاَّ الاَشْقَى(15) الَّذِى كَذَّبَ وَتَوَلَّى(16) وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى(17) الَّذِى يُؤْتِى مَالَهُ يَتَزَكَّى(18) وَمَا لاِحَد عَنْدَهُ مِن نِعْمَة تُجْزَى(19) إِلاَّ ابْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى(20) وَلَسَوفَ يَرْضَى}
الإنفاق والنجاة من النّار:
عقب الآيات الكريمة السابقة التي قسمت النّاس على مجموعتين: مؤمنة سخية، وعديمة الإيمان بخيلة، وبيّنت مصير كلّ منهما، تبدأ هذه الطائفة من الآيات بالتأكيد أن على اللّه الهداية لا الإجبار والإلزام، ويبقى الإنسان هو المسؤول عن اتخاذ القرار اللازم، وأن انتخاب الطريق المستقيم يعود بالنفع على الإنسان نفسه ولا حاجة للّه سبحانه بعمل خير يقدمه الفرد. يقول تعالى: (إنّ علينا للهدى) الهدى عن طريق التكوين (الفطرة والعقل) أوعن طريق التشريع (الكتاب والسنة)... فقد بيّنا ما يلزم وأدينا الأمر حقّه.
وبعد {وإنّ لنا للآخرة والاُولى}(6) فلا حاجة بنا لإيمانكم وطاعتكم، ولا طاعتكم تجدينا نفعاً ولا معصيتكم تصيبنا ضرّاً، وكلّ منهج الهداية لصالحكم أنفسكم.
حسب هذا التّفسير الهداية تعني «اراءة الطريق». ويحتمل أن تكون الآيتان لتشجيع المؤمنين الأسخياء، والتأكيد على أنّ اللّه سبحانه سيشملهم بمزيد من الهداية، وييسر لهم الطريق في هذه الدنيا وفي الآخرة، فاللّه قادر على ذلك لأنّ له الآخرة والاُولى.
صحيح أنّ الدنيا مقدمة على الآخرة زمنياً، ولكن الآخرة أهم وهي الهدف النهائي، ولذلك تقدم ذكرها على الدنيا في الآية
الإنذار والتحذير من سبل الهداية، ولذلك قال سبحانه: {فانذرتكم ناراً تلظى}.
«تلظى» من اللظى، وهو الشعلة المتوهجة الخالصة والشعلة الخالصة من الدخان ذات حرارة أكبر، وتطلق «لظى» أحياناً على جهنم(7).
ثمّ تشير الآية إلى المجموعة التي ترد هذه النّار المتلظية الحارقة وتقول: (لا يصلاها إلاّ الأشقى)).
وفي وصف الأشقى تقول الآية: {الذي كذّب وتولى}.
معيار الشقاء والسعادة ـ إذن ـ هو الكفر والإيمان وما ينبثق عنهما من موقف عملي، إنّه لشقي حقّاً هذا الذي يعرض عن كلّ معالم الهداية وعن كلّ الإمكانات المتاحة للإيمان والتقوى... بل إنّه أشقى النّاس.
عبارة (الذي كذّب وتولى) قد يكون التكذيب إشارة إلى الكفر، والتولي إشارة إلى ترك الأعمال الصالحة، إذ هو ملازم للكفر، وقد يشير الفعلان إلى ترك الإيمان، ويكون التكذيب بنبيّ الاسلام، والتولي الإعراض عنه.
كثير من المفسِّرين يعالجون هنا مسألة ترتبط بما طرحته الآية من اختصاص جهنم بالكافرين: {لا يصلاها إلاّ الأشقى... الذي كذّب وتولى}، وهذا يتنافى مع آيات اُخرى وروايات تتحدث عن شمول عذاب جهنم للمؤمنين المذنبين أيضاً. والآيتان استدل بهما المرجئة في قولهم: لا تضرّ مع الإيمان معصية!.
ولتوضيح ما يبدو هنا من تعارض يجب الإلتفات إلى مسألتين: الاُولى ـ المقصود بصلي جهنم هنا الخلود فيها، والخلود مختص بالكافرين، والقرينة على هذا القول تلك الآيات التي تتحدث عن دخول غير الكافرين أيضاً جهنم.
والاُخرى، أنّ الآيتين المذكورتين وما بعدهما حيث يقول تعالى: {وسيجنبها الأتقى} تريد بمجموعها أن تبيّن فقط حال مجموعتين: عديمة الإيمان البخيلة، والمؤمنة السخية التقية، وتذكر أنّ مصير الاُولى جهنم، والثّانية الجنّة، ولا تتطرق أساساً إلى المجموعة الثّالثة وهي المؤمنة المذنبة.
بعبارة اُخرى الحصر هنا من النوع الإضافي، أي كأن الجنّة خلقت للمجموعة الثّانية فقط، وجهنم للمجموعة الاُولى فحسب، وبهذا البيان تتّضح الإجابة على إشكال آخر بشأن التضاد بين الآيتين اللتين نحن بصددهما وما يلي من آيات تحصر النجاة بالأتقى.
ثمّ تتحدث السّورة عن مجموعة قد جُنّبت النّار وأبعدت عنها، تقول الآية: {وسيجنبها الأتقى}.
ومن هو هذا الأتقى؟ تقول الآية الكريمة: {الذي يؤتى ماله يتزكى}.
وعبارة «يتزكى» تشير إلى قصد القربة، وخلوص النية، سواء أريد منها معنى النمو الروحي والمعنوي، أم قصد بها تطهير الأموال، لأنّ التزكية جاءت بمعنى «التنمية»، وبمعنى «التطهير». قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ } [التوبة: 103] ، أي تربيهم وتنميهم بها.
وللتأكيد على خلوص النيّة في إنفاقهم تقول الآية: {وما لأحد عنده من نعمة تجزى} فلا أحد قد أنعم على هذا «الأتقى» ليكون إنفاقه جزاء على هذه النعمة.
بل هدفه رضا اللّه لا غير: {إلاّ إبتغاء وجه ربّه الأعلى}.
بعبارة اُخرى: كثير من الإنفاق بين النّاس يتمّ ردّاً على إنفاق مشابه سابق من الجانب الآخر، طبعاً ردّ الإحسان بالإحسان عمل صالح، لكن حسابه يختلف عمّا يصدر عن الأتقياء من إنفاق مخلص.
الآيات المذكورة أعلاه تقول: إنفاق المؤمنين الأتقياء ليس رياء ولا ردّاً على خدمات سابقة قدمت إليهم، بل دافعها رضا اللّه لا غير، ومن هنا كان إنفاقهم ذا قيمة كبرى.
التعبير بكلمة «وجه» هنا يعني «الذات»، أي رضا ذات الباري تقدست أسماؤه.
وعبارة «ربّه الأعلى» تشير إلى أن هذا الإنفاق يتمّ عن معرفة كاملة... عن معرفة بربوبية الباري تعالى، وعلم بمكانته السامية العليا، وهذا الإستثناء ينفي أيضاً كلّ نية منحرفة، مثل الإنفاق من أجل السمعة والوجاهة وأمثالها... ويجعله منحصراً في طلب رضا اللّه سبحانه(8).
وفي خاتمة السّورة ذكر بعبارة موجزة لما ينتظر هذه المجموعة من أجر عظيم تقول الآية: {ولسوف يرضى}.
نعم، ولسوف يرضى، فهو قد عمل على كسب رضا اللّه، واللّه سبحانه سوف يرضيه، إرضاء مطلقاً غير مشروط إرضاء واسعاً غير محدود... إرضاء عميق المعنى يستوعب كلّ النعم...إرضاء لا يمكننا اليوم حتى تصوّره... وأي نعمة أكبر من هذا الرضى!
نعم، اللّه أعلى، وجزاؤه أعلى، ولا أعلى من رضا العبد رضا مطلقاً.
احتمل بعض المفسّرين أن يكون الضمير في «يرضى» عائداً إلى اللّه سبحانه أي إن ّ اللّه سوف يرضى عن هذه المجموعة، وهذا الرضا أيضاً نعمة ما بعدها نعمة.
نعمة رضا اللّه عن هذا العبد بشكل مطلق غير مشروط، ومن المؤكّد أنّ هذا الرضا يتبعه رضا العبد الأتقى.
فالآثنان متلازمان، وقد جاء في الآية (8) من سورة البينة قوله سبحانه: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [البينة: 8] وقوله تعالى في الآية (28) من سورة الفجر: { رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [الفجر: 28]. لكنّ التّفسير الأوّل أنسب.
_______________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج15 ، ص361-369.
2 ـ يلاحظ في السّورة المباركة أن الفعل «يغشى» بصيغة المضارع، أمّا «تجلّى» فبصيغة الماضي، قيل إنّ ذلك يعود إلى عصر نزول السّورة، حيث كانت الجاهلية في بداية الدعوة مخيّمة بظلامها على الأرض، وفي هذه الحالة سيكون القسم بظلام الجاهلية، وليس ذلك بجيّد، ومن الأفضل القول إن هذا الفعل الماضي يفيد معنى المضارع لوقوعه بعد «إذا» الشرطية; أو إنّ أصل الفعل «تتجلى» حذفت إحدى التائين، عندئذ سيكون الفعل مؤنثاً، ولا يكون فاعله «نهار»، بل سيكون التقدير: «إذا تتجلى الشمس فيه».
3 ـ هذا التقسيم للآيات مستلهم من قوله سبحانه: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم).
4 ـ تفسير الكشّاف، ج4 ، ص762.
5 ـ «اليسرى» مؤنث أيسر، و«العسرى» مؤنث أعسر، إنّما جاءا بصيغة المؤنث إمّا لأنّهما
صفتان للأعمال والتقدير: فسنيسره لأعمال يسرى... أوـ لأعمال عسرى، أو صفتان لحوادث
الحياة، وإن كان الموصوف مفرداً فقد يكون «طريقة» أو «خلة».
6 ـ «للام» في (للآخرة) و(للاُولى) وكذلك في (للهدى) لام تأكيد تدخل على خبر إنّ، ودخلت
هنا على اسمها لتقدم الخبر.
7 ـ تلظى أصلها تتلظى حذفت إحدى التائين للتخفيف.
8 ـ «ابتغاء» منصوبة على الإستثناء، والإستثناء في الآية منقطع، أي إنّ المستثنى ليس من جنس المستثنى منه أي: ما لأحد عنده من نعمة إلاّ إبتغاء وجه ربّه، ويجوز أن يكون النصب على أنّ الكلمة مفعول له على المعنى، لأنّ معنى الكلام، لا يؤتى ماله إلاّ إبتغاء وجه ربّه.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|