قال تعالى : {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُو بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} [الطارق: 1 - 17].
أقسم الله سبحانه فقال {والسماء} أي بالسماء وقيل برب السماء وقد بينا القول في ذلك {والطارق} وهو الذي يجيء ليلا {وما أدريك ما الطارق} وذلك أن هذا الاسم يقع على كل ما طرق ليلا ولم يكن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) يدري ما المراد لولم يبينه ثم بينه بقوله {النجم الثاقب} أي هو الكوكب المضيء ويريد به العموم وهو جماع النجوم عن الحسن وقيل هو زحل والثاقب العالي على النجوم عن ابن زيد وقيل أراد به الثريا والعرب تسميه النجم وقيل هو القمر لأنه يطلع بالليل عن الفراء وجواب القسم قوله {إن كل نفس لما عليها حافظ} أي ما كل نفس إلا عليها حافظ من الملائكة يحفظ عملها وقولها وفعلها ويحصي ما يكتسبه من خير وشر ومن قرأ لما بالتخفيف فالمعنى إن كل نفس لعليها حافظ يحفظها وقال قتادة حافظ من الملائكة يحفظ عملها ورزقها وأجلها ثم نبه سبحانه على البعث بقوله {فلينظر الإنسان} يعني المكذب بالبعث عن مقاتل {مم خلق} أي فلينظر نظر التفكر والاستدلال من أي شيء خلقه الله وكيف خلقه وأنشأه حتى يعرف أن الذي ابتدأه من نطفة قادر على إعادته.
ثم ذكر من أي شيء خلقه فقال {خلق من ماء دافق} أي من ماء مهراق في رحم المرأة يعني المني الذي يكون منه الولد عن ابن عباس قال الفراء وأهل الحجاز يجعلون الفاعل بمعنى المفعول في كثير من كلامهم نحوسر كاتم وهم ناصب وليل نائم وقد ذكرناه قبل ثم وصف سبحانه ذلك الماء فقال {يخرج من بين الصلب والترائب} وهو موضع القلادة من الصدر عن ابن عباس قال عطاء يريد صلب الرجل وترائب المرأة والولد لا يكون إلا من الماءين وقيل الترائب اليدان والرجلان والعينان عن الضحاك وسئل عكرمة عن الترائب فقال هذه ووضع يده على صدره بين ثدييه وقيل ما بين المنكبين والصدر عن مجاهد والمشهور في كلام العرب أنها عظام الصدر والنحر.
{إنه على رجعه لقادر} يعني أن الذي خلقه ابتداء من هذا الماء يقدر على أن يرجعه حيا بعد الموت عن الحسن وقتادة والجبائي وقيل معناه أنه تعالى على رد الماء في الصلب لقادر عن عكرمة ومجاهد وقيل إنه على رد الإنسان ماء كما كان قادر عن الضحاك وقال مقاتل بن حيان يقول إن شئت رددته من الكبر إلى الشباب ومن الشباب إلى الصبي ومن الصبي إلى النطفة والأصح القول الأول لقوله:
{يوم تبلى السرائر} أي أنه قادر على بعثه يوم القيامة ومعنى الرجع رد الشيء إلى أول حاله والسرائر أعمال بني آدم والفرائض التي أوجبت عليه وهي سرائر بين الله والعبد وتبلى أي تختبر تلك السرائر يوم القيامة حتى يظهر خيرها من شرها ومؤديها من مضيعها روي ذلك مرفوعا عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) ضمن الله خلقه أربع خصال الصلاة والزكاة وصوم رمضان والغسل من الجنابة وهي السرائر التي قال الله {يوم تبلى السرائر} وعن معاذ بن جبل قال سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) وما هذه السرائر التي تبلى بها العباد في الآخرة فقال سرائركم هي أعمالكم من الصلاة والصيام والزكاة والوضوء والغسل من الجنابة وكل مفروض لأن الأعمال كلها سرائر خفية فإن شاء قال الرجل صليت ولم يصل وإن شاء قال توضأت ولم يتوضأ فذلك قوله {يوم تبلى السرائر} وقيل يظهر الله أعمال كل أحد لأهل القيامة حتى يعلموا على أي شيء أثابه ويكون فيه زيادة سرور له وإن يكن من أهل العقوبة يظهر عمله ليعلموا على أي شيء عاقبه ويكون ذلك زيادة غم له والسرائر ما أسره من خير أوشر وما أضمره من إيمان أو كفر وروي عن عبد الله بن عمر أنه قال يبدي الله يوم القيامة كل سر ويكون زينا في الوجوه وشينا في الوجوه.
{فما له} أي فما لهذا الإنسان المنكر للبعث والحشر {من قوة} يمتنع به من عذاب الله {ولا ناصر} ينصره من الله والقوة هي القدرة ثم ذكر سبحانه قسما آخر تأكيدا لأمر القيامة فقال {والسماء ذات الرجع} أي ذات المطر عن أكثر المفسرين وقيل يعني بالرجع شمسها وقمرها ونجومها تغيب ثم تطلع عن ابن زيد وقيل رجع السماء إعطاؤها الخير الذي يكون من جهتها حالا بعد حال على مرور الأزمان فترجع بالغيث وأرزاق العباد وغير ذلك {والأرض ذات الصدع} تتصدع بالنبات أي تنشق فيخرج منها النبات والأشجار.
{إنه لقول فصل} هذا جواب القسم يعني أن القرآن يفصل بين الحق والباطل بالبيان عن كل واحد منهما وروي ذلك عن الصادق (عليه السلام) وقيل معناه إن الوعد بالبعث والإحياء بعد الموت قول فصل أي مقطوع به لا خلاف ولا ريب فيه {وما هو بالهزل} أي هو الجد وليس باللعب وقيل إن القرآن لم ينزل باللعب ثم أخبر سبحانه عن مشركي قريش فقال {إنهم يكيدون كيدا} أي يحتالون في الإيقاع بك وبمن معك ويريدون إطفاء نورك {وأكيد كيدا} أي أريد أمرا آخر على ضد ما يريدون وأدبر ما ينقض تدابيرهم ومكايدهم فسمى ذلك كيدا من حيث يخفى ذلك عليهم.
{فمهل الكافرين} أي انتظر بهم يا محمد ولا تعاجلهم وارض بتدبير الله فيهم {أمهلهم رويدا} أي إمهالا قليلا عن قتادة وإنما قلل الإمهال لأن ما هو كائن آت لا محالة فهو قليل والمراد به يوم القيامة وقيل أراد يوم بدر والمعنى لا تعجل علي في طلب هلاكهم بل اصبر عليهم قليلا فإن الله مجزيهم لا محالة إما بالقتل والذل في الدنيا أو بالعذاب في الآخرة قال ابن جني قوله {فمهل الكافرين أمهلهم} غير اللفظ لأنه أثر التأكيد وكره التكرير فلما تجشم إعادة اللفظ انحرف عنه بعض الانحراف بتغييره المثال وانتقل عن لفظ فعل إلى لفظ افعل فقال {أمهلهم} ولما تجشم التثليث جاء بالمعنى وترك اللفظ البتة فقال {رويدا} .
_________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج10 ، ص322-325.
{والسَّماءِ والطَّارِقِ وما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ النَّجْمُ الثَّاقِبُ} . كل ما علاك فهو سماء ، وكل ما أتاك ليلا فهو طارق ، ولا يكون الطروق إلا في الليل ، والمراد بالطارق هنا النجم الثاقب لأن النجم لا يظهر إلا ليلا ، والثاقب هو المضيء ، تقول العرب : أثقب نارك أي أضئها ، وقد وصف به النجم لأن ضوأه يثقب الظلام ، كأنّ الظلام جلد أسود ، والنجم يثقبه بضوئه ، وصيغة وما أدراك تشعر بتفخيم الشيء وتعظيم شأنه . . اقسم سبحانه بالنجم المضيء لينبه إلى ما فيه من عظيم النفع ، وعجيب الصنع ، اما المقسم عليه فقد أشار إليه سبحانه بقوله {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ} يحفظ أقوالها وأعمالها ، ويحصي حركاتها وأسرارها حتى ينتهي أجلها ، وتلقى ربها ، فتجد عنده ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء ، وبتعبير ثان {وكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً} - 17 الإسراء ج 5 ص 32 .
{فَلْيَنْظُرِ الإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ ، خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ والتَّرائِبِ} .
الماء الدافق هو النطفة ، والصلب كل عظم من الظهر فيه فقار ، والترائب موضع القلادة من الصدر ، والمراد بالصلب صلب الرجل ، وبالترائب ترائب المرأة ، وهما مصدر النطفة التي يتولد منها الإنسان ، ومنذ أمد غير بعيد اهتدى العلم الحديث إلى هذه الحقيقة التي جاءت على لسان الأمي العربي ، ومعنى الآية إذا عرفت أيها الإنسان ان اللَّه سبحانه يعلم سرك وجهرك فعليك أن تنظر إلى نفسك ، وتفكر في وجودك ، فلقد بدئت من نطفة خرجت من ظهر أبيك وترائب أمك ، ثم وضعت في قرار مكين إلى أجل معلوم . . إلى ان صرت في أحسن تقويم مملوءا بالحياة والعاطفة والإدراك ، فكر وتدبر ذلك لتعلم ان الذي أنشأك وهداك قادر على ان يعيدك ثانية إلى الحياة ، وهذا معنى قوله تعالى : {إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ} .
فالنشأة الأولى تشهد بالنشأة الثانية {يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ ولا ناصِرٍ} .
السرائر جمع سريرة ، وتبلى أي تختبر بكشفها وإظهارها ، والمعنى ان اللَّه سبحانه يبعث الإنسان في يوم لا ستر فيه ولا خفاء ، ولا جدال ولا حجاج ، ولا حول ولا قوة لأحد من نفسه أومن غيره إلا قوة الايمان وصالح الأعمال .
{والسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ والأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ} . الرجع الماء ، والصدع النبات .
اقسم سبحانه بالسماء التي تفيض بماء الحياة ، وبالأرض التي تجود بالخيرات والأقوات {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وما هُو بِالْهَزْلِ} . ضمير انه للقرآن ، وهو جد لا عبث فيه ، وحق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه . . وهذا رد على من قال :
انه سحر وأساطير {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وأَكِيدُ كَيْداً فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} .
ضمير انهم يعود إلى الذين كذبوا الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله وسلم) ، ويكيدون أي يدبرون الدسائس والمؤامرات ضد الرسول والمؤمنين ، وأكيد أبطل كيدهم ، وانقض مؤامراتهم ، ورويدا قليلا ، والمعنى اني بالمرصاد - يا محمد - لمن يحاول إبطال أمرك بالدسائس والمكايد : . انتظر قليلا ، وترى ما يحل بهم من الخزي والنكال .
وتقدم مثله مع التفسير في الآية 54 من سورة آل عمران ج 2 ص 68 فقرة {اللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ} .
___________________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7 ، ص549-550.
في السورة إنذار بالمعاد وتستدل عليه بإطلاق القدرة وتؤكد القول في ذلك، وفيها إشارة إلى حقيقة اليوم، وتختتم بوعيد الكفار.
والسورة ذات سياق مكي.
قوله تعالى: {والسماء والطارق وما أدراك ما الطارق النجم الثاقب} الطرق في الأصل - على ما قيل – هو الضرب بشدة يسمع له صوت ومنه المطرقة والطريق لأن السابلة تطرقها بأقدامها ثم شاع استعماله في سلوك الطريق ثم اختص بالإتيان ليلا لأن الآتي بالليل في الغالب يجد الأبواب مغلقة فيطرقها ويدقها ثم شاع الطارق في كل ما يظهر ليلا، والمراد بالطارق في الآية النجم الذي يطلع بالليل.
والثقب في الأصل بمعنى الخرق ثم صار بمعنى النير المضيء لأنه يثقب الظلام بنوره ويأتي بمعنى العلو والارتفاع ومنه ثقب الطائر أي ارتفع وعلا كأنه يثقب الجو بطيرانه.
فقوله: {والسماء والطارق} إقسام بالسماء وبالنجم الطالع ليلا، وقوله: {وما أدراك ما الطارق} تفخيم لشأن المقسم به وهو الطارق، وقوله: {النجم الثاقب} بيان للطارق والجملة في معنى جواب استفهام مقدر كأنه لما قيل: وما أدراك ما الطارق؟ سئل فقيل: فما هو الطارق؟ فأجيب، وقيل: النجم الثاقب.
قوله تعالى: {إن كل نفس لما عليها حافظ} جواب للقسم ولما بمعنى إلا والمعنى ما من نفس إلا عليها حافظ، والمراد من قيام الحافظ على حفظها كتابة أعمالها الحسنة والسيئة على ما صدرت منها ليحاسب عليها يوم القيامة ويجزي بها فالحافظ هو الملك والمحفوظ العمل كما قال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار: 10 - 12].
ولا يبعد أن يكون المراد من حفظ النفس حفظ ذاتها وأعمالها، والمراد بالحافظ جنسه فتفيد أن النفوس محفوظة لا تبطل بالموت ولا تفسد حتى إذا أحيا الله الأبدان أرجع النفوس إليها فكان الإنسان هو الإنسان الدنيوي بعينه وشخصه ثم يجزيه بما يقتضيه أعماله المحفوظة عليه من خير أوشر.
ويؤيد ذلك كثير من الآيات الدالة على حفظ الأشياء كقوله تعالى: { قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ } [السجدة: 11] ، وقوله: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} [الزمر: 42].
ولا ينافي هذا الوجه ظاهر آية الانفطار السابقة من أن حفظ الملائكة هو الكتابة فإن حفظ نفس الإنسان أيضا من الكتابة على ما يستفاد من قوله: { إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 29] وقد تقدمت الإشارة إليه.
ويندفع بهذا الوجه الاعتراض على ما استدل به على المعاد من إطلاق القدرة كما سيجيء، ومحصله أن إطلاق القدرة إنما ينفع فيما كان ممكنا لكن إعادة الإنسان بعينه محال فإن الإنسان المخلوق ثانيا مثل الإنسان الدنيوي المخلوق أولا لا شخصه الذي خلق أولا ومثل الشيء غير الشيء لا عينه.
وجه الاندفاع أن شخصية الشخص من الإنسان بنفسه لا ببدنه والنفس محفوظة فإذا خلق البدن وتعلقت به النفس كان هو الإنسان الدنيوي بشخصه وإن كان البدن بالقياس إلى البدن مع الغض عن النفس، مثلا لا عينا.
قوله تعالى: {فلينظر الإنسان مم خلق} أي ما هو مبدأ خلقه؟ وما هو الذي صيره الله إنسانا؟ والجملة متفرعة على الآية السابقة وما تدل عليه بفحواها بحسب السياق ومحصل المعنى وإذ كانت كل نفس محفوظة بذاتها وعملها من غير أن تفنى أو ينسى عملها فليذعن الإنسان أن سيرجع إلى ربه ويجزي بما عمل ولا يستبعد ذلك ولينظر لتحصيل هذا الإذعان إلى مبدآ خلقه ويتذكر أنه خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب.
فالذي بدأ خلقه من ماء هذه صفته يقدر على رجعه وإحيائه بعد الموت.
وفي الإتيان بقوله: {خلق} مبنيا للمفعول وترك ذكر الفاعل وهو الله سبحانه إيماء إلى ظهور أمره، ونظيره قوله: {خلق من ماء} إلخ.
قوله تعالى: {خلق من ماء دافق} الدفق تصبب الماء وسيلانه بدفع وسرعة والماء الدافق هو المني والجملة جواب عن استفهام مقدر يهدي إليه قوله: {مم خلق}.
قوله تعالى: {يخرج من بين الصلب والترائب} الصلب الظهر، والترائب جمع تريبة وهي عظم الصدر.
وقد اختلفت كلماتهم في الآية وما قبلها اختلافا عجيبا، والظاهر أن المراد بقوله: {بين الصلب والترائب} البعض المحصور من البدن بين جداري عظام الظهر وعظام الصدر.
قوله تعالى: {إنه على رجعه لقادر} الرجع الإعادة، وضمير {إنه} له تعالى واكتفى بالإضمار مع أن المقام مقام الإظهار لظهوره نظير قوله: {خلق} مبنيا للمفعول.
والمعنى أن الذي خلق الإنسان من ماء صفته تلك الصفة، على إعادته وإحيائه بعد الموت - وإعادته مثل بدئه - لقادر لأن القدرة على الشيء قدرة على مثله إذ حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد.
قوله تعالى: {يوم تبلى السرائر} ظرف للرجع، والسريرة ما أسره الإنسان وأخفاه في نفسه، والبلاء الاختبار والتعرف والتصفح.
فالمعنى يوم يختبر ما أخفاه الإنسان وأسره من العقائد وآثار الأعمال خيرها وشرها فيميز خيرها من شرها ويجزي الإنسان به فالآية في معنى قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ } [البقرة: 284].
قوله تعالى: {فما له من قوة ولا ناصر} أي لا قدرة له في نفسه يمتنع بها من عذاب الله ولا ناصر له يدفع عنه ذلك أي لا قدرة هناك يدفع عنه الشر لا من نفسه ولا من غيره.
قوله تعالى: {والسماء ذات الرجع والأرض ذات الصدع} إقسام بعد إقسام لتأكيد أمر القيامة والرجوع إلى الله.
والمراد بكون السماء ذات رجع ما يظهر للحس من سيرها بطلوع الكواكب بعد غروبها وغروبها بعد طلوعها، وقيل: رجعها أمطارها، والمراد بكون الأرض ذات صدع تصدعها وانشقاقها بالنبات، ومناسبة القسمين لما أقسم عليه من الرجوع بعد الموت والخروج من القبور ظاهرة.
قوله تعالى: {إنه لقول فصل وما هو بالهزل} الفصل إبانة أحد الشيئين من الآخر حتى يكون بينهما فرجة، والتعبير بالفصل - والمراد الفاصل - للمبالغة كزيد عدل والهزل خلاف الجد.
والآيتان جواب القسم، وضمير {إنه} للقرآن والمعنى أقسم بكذا وكذا أن القرآن لقول فاصل بين الحق والباطل وليس هو كلاما لا جد فيه فما يحقه حق لا ريب فيه وما يبطله باطل لا ريب فيه فما أخبركم به من البعث والرجوع حق لا ريب فيه.
وقيل: الضمير لما تقدم من خبر الرجوع والمعاد، والوجه السابق أوجه.
قوله تعالى: {إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا} أي الكفار يحتالون بكفرهم وإنكارهم المعاد احتيالا يريدون به إطفاء نور الله وإبطال دعوتك، واحتال عليهم بعين أعمالهم بالاستدراج والإملاء والإضلال بالطبع على قلوبهم وجعل الغشاوة على سمعهم وأبصارهم احتيالا أسوقهم به إلى عذاب يوم القيامة.
قوله تعالى: {فمهل الكافرين أمهلهم رويدا} التمهيل والإمهال بمعنى واحد غير أن باب التفعيل يفيد التدريج والإفعال يفيد الدفعة، والرويد القليل.
والمعنى: إذا كان منهم كيد ومني كيد عليهم بعين ما يكيدون به والله غالب على أمره، فانتظر بهم ولا تعاجلهم انتظر بهم قليلا فسيأتيهم ما أوعدهم به فكل ما هو آت قريب.
وفي التعبير أولا بمهل الظاهر في التدريج وثانيا مع التقييد برويدا بأمهل الظاهر في الدفعة لطف ظاهر.
________________
1- الميزان ، الطبرسي ، ج20 ، ص232-235.
ممَّ خُلق الإنسان؟!
تبتدأ السّورة ـ كمثيلاتها من سور الجزء الأخير من القرآن الكريم ـ بعدّة أقسام بليغة تبعث على التأمل، وهي مقدمة لبيان أمر مهم.
{والسماء والطارق}.. {وما أدراك ما الطارق}.. {النجم الثاقب}.
«الطارق»: من (الطرق) ـ على زنة برق ـ وهو الضرب، ولهذا قيل (الطريق) لما تطرقه أرض المشاة، و(المطرقة) هي الآلة التي يطرق بها الحديد وغيره.
ويقال للقادم ليلاً (الطارق)، لإنّ البيوت عادةً ما تغلق أبوابها ليلاً، فكلُّ قادم يلزمه والحال هذه طرق الباب.
وعندما جاء المنافق (الأشعث بن قيس) لزيارة أمير المؤمنين(عليه السلام) ليلاً، جلب معه الحلوى، ظناً منه أنّ هذه الحلوى ستجعل من أمير المؤمنين(عليه السلام) ظهيراً له في قضية معينة.
فذكر الأمير(عليه السلام) هذه الواقعة متعجباً وذاماً: «وأعجب من ذلك طرقنا بملفوفة في وعائها».(2)
ويفسّر القرآن الكريم «الطارق» بقوله: (النجم الثاقب)، النجم اللامع الذي مع علوّه الشاهق وكأنّه يريد أن يثقب سقف السماء، وكأنّ نوره المتشعشع يريد أن يثقب ستار الليل الحالك، فيجلب الأنظار بميزته هذه.
ولكن، أيُّ نجم هو الطارق؟ هل هو الثريا (لبعدها الغائر في عمق السماء)، زحل، الزهرة، أم الشهب (لما لها من نور جذّاب)، أم كل النجوم؟
ثمّة احتمالات متباينة في هذا الموضوع، ولكن وجود صفة «الثاقب» لهذا النجم تعطي الإشارة إلى أنّ النجوم المتلألئة التي تثقب أنوارها ظلمة الليل، وتجذب الأنظار إليها، هي المرادة وليس كلّ نجم.
وفسّرت بعض الرّوايات «النجم الثاقب» بكوكب (زحل) من المنظومة الشمسية لشدّة نوره ولمعانه.
وروي أنّ منجماً سأل الإمام الصادق(عليه السلام)، بقوله: فما يعني بالثاقب؟ قال: «لأنّ مطلعه في السماء السابعة، وأنّه ثقب بضوءه حتى أضاء السماء الدنيا، فمن ثمّ سمّاه اللّه النجم الثاقب».(3)
ويعتبر (زحل) من أبعد النجوم أو الكواكب في مجموعتنا الشمسية التي يمكن رؤيتها بالعين المجرّدة، ويقع في المدار السابع للشمس، ولذا عبّر عنه الإمام(عليه السلام) بأنّه في السماء السابعة.
وما لهذا الكوكب من خصائص تؤهله لأن يُقسم به، فهو أبعد ما يمكن رؤيته من منظومتنا الشمسية، لذا فالعرب يشبهون كلّ عال به، ويطلقون عليه أحياناً (شيخ النجوم)(4)، وله حلقات رائعة تحيط به، وله أيضاً ثمانية أقمار، وتعتبر من حلقاته من أعجب ظواهر السماء.
ومع كلّ ما توصل إليه علماء الفلك بخصوصه، فثمّة أسرار لم يكشف عنها الستار بعد.
وقيل: إنّ لزحل عشرة أقمار، يمكن رؤية ثمانية منها بالناظور العادي (تلسكوب)، ولا يمكن رؤية الآخرين إلاّ بالنواظير الكبيرة(5).
وممّا لا شك فيه، إنّ هذه الحقائق ما كانت مكتشفة في عصر نزول الآية المباركة، وتوصل إليها بعد قرون من نزولها.
وعلى أية حال، فيمكن تفسير: (النجم الثاقب) بكوكب زحل، على اعتبار كونه أحد مصاديقه الواضحة، ولا ينافي تفسيره بأية نجوم اُخرى عالية ووضاءة، فالتّفسير المصداقي كثير الإستعمال في رواياتنا.
وفي الآية (10) من سورة الصافات: {إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات: 10] ، فوصف «الشهاب» بأنّه «ثاقب» يحمل الإشارة لاحتمال أنّ تكون الظاهرة السماوية المذكورة هي ظاهرة «الشهب»، لتكون أحد تفاسير الآية المبحوثة، ويؤيد ذلك أيضاً بعض ما ذكر في شأن نزول الآية.(6)
ولنرى لأي شيء كان هذا القسم: {إن كلّ نفس لمّا عليها حافظ}(7).
يحفظ عليه أعماله، وتسجل كل أفعاله، ليوم الحساب.
كما جاء في الآيات (10 ـ 12) من سورة الإنفطار: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار: 10 - 12].
فلا تظنوا بأنّكم بعيدون عن الأنظار، بل أينما تكونوا فثمّة عليكم ملائكة مأمورين يسجلون كلّ ما يبدر منكم.. وهذا ما له الأثر البالغ في عملية إصلاح وتربية الإنسان. مع أنّ الآية لم تحدد هوية «الحافظ»، ولكن الآيات الاُخرى تبيّن بأن «الحفظة» هم الملائكة وأنّ «المحفوظ» هو أعمال الإنسان من الطاعات والمعاصي.
وقيل: يراد بها حفظ الإنسان من الحوادث والمهالك، ولولا ذلك لما خرج الإنسان من الدنيا بالموت الطبيعي، والأطفال بالخصوص.
أو المراد هو: حفظ الإنسان من وساوس الشيطان، ولولا هذا الحفظ لما سلم أحد من وساوس شياطين الجنّ والأنس.
وبلحاظ ما تتطرق إليه الآيات التالية (حول المعاد والحساب الإلهي)، يكون التّفسير الأول أقرب من غيره وأنسب، ولو أنّ الجمع بين هذه التفاسير الثلاثة غير بعيد عن مراد الآية.
والعلاقة ما بين المقسوم به وما أُقسم له وثيقة، حيث أنّ السماء العالية والنجوم التي تتحرك في مسارات منظمة، دليل على وجود النظم والحساب الدقيق في عالم الوجود، فكيف يمكن أنّ نتصور بأنّ أعمال الإنسان دون باقي الأشياء لا تخضع لهذه السُّنة، لتبقى سائبة بلا ضبط وتسجيل وليس عليها من حافظ؟!!..
ثمّ يستدل القرآن الكريم على المعاد في مقابل من يقول باستحالة المعاد: {فلينظر الإنسان ممّ خلق}.
وبهذا.. أخذ القرآن الكريم بأيدي الجميع وأرجعهم إلى أول خلقهم، مستفهماً عمّا خلق منه الإنسان.
وبدون أن ينتظر الجواب من أحد يجيب القرآن على استفهامه: {خلق من ماء دافق}، وهو ماء الرجل الذي تسبح فيه الحيامن، ويخرج بدفق.
ويستمر في تقريب المراد: {يخرج من بين الصلب والترائب}.
«الصلب»: الظهر: و«الترائب»: جمع (تريبة)، وهي ـ على ما هو مشهور بين علماء اللغة ـ عظام الصدر العليا وضلوعه.
وكما يقول ابن منظور في لسان العرب: قال أهل اللغة أجمعون: الترائب موضع القلادة من الصدر.
وذكرت معان اُخرى للترائب، منها: إنّها القسم الأمامي للإنسان (في قبال الصلب، الذي هو ظهر الإنسان)، إنّها اليدان والرجلان والعينان، إنّها عظام الصدر، أو ما يلي الترقوتين منه، وقيل: أربعة أضلاع من يمين الصدر وأربعة من يساره.
وأدناه، نذكر بعض الآراء الكثيرة للمفسّرين بخصوص المراد من «الصلب والترائب» الواردة في الآية المباركة.
1 ـ «الصلب» إشارة إلى الرجال، و«الترائب» إشارة إلى النساء، لأنّ في الرجال مظهر الصلابة، وفي النساء مظهر الرقة واللطافة.
وعليه، فالآية بصدد ذكر حيمن الرجل وبويضة المرأة، ومنهما تتشكل نطفة خلق الإنسان.
2 ـ «الصلب» إشارة إلى ظهر الرجل، و«الترائب» إشارة إلى صدره، فيكون مراد الآية نطفة الرجل التي تقع ما بين ظهره وصدره.
3 ـ إرادة، خروج الجنين من رحم اُمّه، لأنّه يكون بين ظهرها والجزء الأمامي لبدنها.
4 ـ قيل: إنّ في الآيتين سرّاً من أسرار التنزيل، ووجهاً من وجوه الأعجاز، إذ فيهما معرفة حقائق علميّة لم تكن معروفة حينذاك وقد كشف عنها العلم أخيراً.
وإذا رجعنا إلى علم الأجنة وجدنا في منشأ خصيّة الرجل ومبيض المرأة ما يفسر لنا هذه الآيات، التي حيرت الألباب، فقد ثبت أن خصيّة الرجل ومبيض المرأة في بداية ظهورهما في الجنين يقعان في مجاورة كلية الجنين، أي بين وسط الفقرات (الصلب) والاضلاع السفلى للصدر (الترائب) ثمّ مع نمو الجنين ينتقلان تدريجياً إلى الأسفل، وبما أن تكون الإنسان يمثل تركيباً من نطفة الرجل والمرأة والمحل الأصلي لجهاز توليد النطفة فيهما هوبين الصلب والترائب، أختار القرآن لذلك هذا التعبير. وهذا ما لم يكن معروفاً حينذاك.
وبعبارة اُخرى: إنّ كلّ من الخصيّة والمبيض في بدء تكوينهما يجاور الكلي ويقع بين الصلب والترائب، أي ما بين منتصف العمود الفقري تقريباً ومقابل أسفل الضلوع.(8)
ويشكل على هذا التّفسير بـ : إنّ القرآن إنّما يقول: {ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب}، فهو يمرّ من بينهما حال الخروج، في حين لا يقول التّفسير المذكور ذلك، ويشير إلى محل توليده بينهما أثناء النمو الجنيني، بالإضافة إلى أنّ تفسير «الترائب» بأسفل الضلوع لا يخلو من نقاش.
5 ـ مراد الآية، هو المني، لأنّه في الحقيقة مأخوذ من جميع أجزاء البدن، ولذا عندما يقذف إلى الخارج فإنّه يقترن مع انفعال وهيجان البدن كلّه وبعده فتور البدن بأجمعه، فيكون مقصود «الصلب» و«الترائب» في هذه الحال تمام قسمي بدن الإنسان، الأمامي والخلفي.
6 ـ وقيل أيضاً: إنّ المصدر الأساس لتكوين المني هو النخاع الشوكي الواقع في ظهر الإنسان، ثمّ القلب والكبد، فالأوّل يقع تحت أضلاع الصدر، والآخر بين المكانين المذكورين، وعلى هذا الأساس قالت الآية: {من بين الصلب والترائب}.
ويكفينا الرجوع إلى الآيات المبحوثة لدفع الغموض الحاصل، فالآيات تشير إلى ماء الرجل دون المرأة، بقرينة «ماء دافق»، وهذا لا يصدق إلاّ على الرجل، وعليه يعود الضمير في «يخرج».
وعليه، فينبغي إخراج المرأة من هذه الدائرة، ليكون البحث منصباً على الرجل فقط، وهو المشار إليه في الآية.
و«الصلب والترائب» هما ظهر الرجل وقسمه الأمامي، لأنّ ماء الرجل إنّما يخرج من هاتين المنطقتين(9).
وهذا التّفسير واضح، خال من أيّ تكلف، ينسجم مع ما ورد في كتب اللغة بخصوص المصطلحين.
كما ويمكن أن تكون الآية قد أشارت إلى حقيقة علمية مهمّة لم يتوصل إلى اكتشافها بعد، وربّما المستقبل سيكشف ما لم يكن بالحسبان.
ونصل مع القرآن إلى نتيجة ما تقدم من الذكر الحكيم: {إنّه على رجعه لقادر}.
فالإنسان تراباً قبل أن يكون نطفة، ثمّ مرّ بمراحل عديدة مدهشة حتى أصبح إنساناً كاملاً، وليس من الصعوبة بحال على الخالق أن يعيد حياة الإنسان بعد أن نخرت عظامه وصار تراباً، فالذي خلقه من التراب أوّل مرّة قادر على إعادته مرّة اُخرى.
وقد ورد هذا المعنى في الآية (5) من سورة الحج: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} [الحج: 5] ، بالإضافة إلى الآية (67) من سورة مريم: { أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا } [مريم: 67].
وتصف لنا الآية التالية ذلك اليوم الذي سيرجع فيه الإنسان: {يوم تبلى السرائر}.(10)
«تبلى»: من (البلوى)، بمعنى الإختبار والإمتحان، وهو هنا الظهور والبروز، لأنّ الإمتحان يكشف عن حقيقة الأشياء ويظهرها.
«السرائر»: جمع (سريرة)، وهي صفات ونوايا الإنسان الداخلية.
نعم، فأسرار الإنسان الدفينة ستظهر في ذلك اليوم، «يوم البروز» و«يوم الظهور»، فسيظهر على الطبيعة كلّ من: الإيمان، الكفر، النفاق، نيّة الخير، نيّة الشر، الإخلاص، الرياء....
وسيكون ذلك الظهور مدعاة فخر ومزيد نعمة للمؤمنين، ومدعاة ذلّة ومهانة وحسرة للمجرمين...
وما أشد ما سيلاقي من قضى وطراً من عمره بين النّاس بظاهر حسن ونوايا خبيثة! وما أتعسه حينما تهتك أقنعته المزيفة فيظهر على حقيقته أمام كلّ الخلائق! وربّما ذلك من أشدّ عذاب جهنم عليه...
وتصف لنا الآية (41) من سورة الرحمن هيئتهم بالقول: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ } [الرحمن: 41] ، وكذا الآيات (38 ـ 41) من سورة عبس: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ } [عبس: 38 - 41].
نعم، فكما إنّ «الطارق» والنجوم الاُخرى تظهر من خفائها ليلاً على صفحة السماء، فكذا حال الإنسان في عرصة يوم القيامة، فالحفظة والمراقبين الإلهيين المكلفين لتسجيل أعمال الإنسان سيظهرون كلّ شيء، كظهور ضوء النجم في الليل الداج.
عن معاذ بن جبل أنّه قال، سألت رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم): وما هذه السرائر التي تبلى بها العباد في الآخرة؟
فقال: «سرائركم هي أعمالكم من الصلاة والصيام والزكاة والوضوء والغسل من الجنابة وكلّ مفروض، لأنّ الأعمال كلّها سرائر خفيّة، فإن شاء الرجل قال صليت ولم يصل، وإنّ شاء قال توضيت ولم يتوضأ، فذلك قوله تعالى يوم تبلى السرائر»(11).
ولكن أشدّ صعاب ذلك اليوم على الإنسان: {فما له من قوة ولا ناصر}.
فلا يملك تلك القوّة التي تخفي أعماله ونياته، وليس له ذلك الظهير الذي يعينه عن الخلاص من عذاب اللّه سبحانه وتعالى.
وقد ورد هذا المعنى في آيات قرآنية اُخرى، ففي ذلك اليوم: لا ناصر ولا معين، ولا يقبل فداء، ولا رجعة، وليس من وسيلة للفرار من قبضة العدل حينها، إلاّ وسيلة واحدة للنجاة وهي «الإيمان والعمل الصالح» فقط.
وقوله تعالى : {وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الرَّجْعِ(11) وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ(12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ(13) وَمَا هُو بِالْهَزْلِ(14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيدَاً(15)وَأَكِيدُ كَيْداً(16) فَمَهِّلِ الكَفِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدَاً}
خواء خطط الأعداء:
بعد أن تضمّنت الآيات السابقة استدلالاً على المعاد، بطريق توجيه الإنسان إلى بداية خلقه، تعود هذه الآيات إلى المعاد مرّة اُخرى، لتشير إلى بعض الأدلة الاُخرى عليه فتقول: {والسماء ذات الرجع}.. {والأرض ذات الصدع}.{إنّه لقول فصل}.. {وما هو بالهزل}.
«الرجع»: من (الرجوع)، بمعنى العود، ويطلق على الأمطار اسم (الرجع) لأنّها تبدأ من مياه الأرض والبحار، ثمّ تعود إليها تارة اُخرى عن طريق الغيوم، أو لأنّ هطول المطر يكون في فواصل زمنية مختلفة.
ويسمّى الغدير رجعاً.. إمّا للمطر الذي فيه، وإمّا لتراجع أمواجه، وتردده في مكانه(12).
«الصدع»: هو الشق في الأجسام الصلبة.
وبملاحظة معنى «الرجع» في الآية السابقة، نصل إلى أنّ مراد الآية بالصدع هو شق الأرض اليابسة بالأمطار، وخروج النباتات منها.
فالقسمان يشيران إلى إحياء الأراضي الميتة بالأمطار، وهذا ما تكرر ذكره في القرآن الكريم كدليل على إمكانية المعاد، كما في قوله تعالى في الآية (11) من سورة «ق»: (وأحيينا به بلدة ميتاً كذلك الخروج).
وهنا تتجسد بلاغة الاُسلوب القرآني، من خلال ربطه الدقيق فيما بين ما يقسم به وما يقسم له.
وبعبارة اُخرى، فالسّورة قد استندت إلى المقارنة فيما بين خلق الإنسان من نطفة وبين إحياء الأرض الميتة بالأمطار، في استدلالها، وجاء شبيه هذا الإستدلال في الآية (5) من سورة الحج: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج: 5].
وقيل أيضاً: إنّ الآية: {والسماء ذات الرجع} تشير إلى دوران الكواكب في مسارات معينة، كدوران الأرض حول نفسها وحول الشمس، وحركة الكواكب السيّارة للمنظومة الشمسية، وكذلك شروق وغروب الشمس والقمر والنجوم، حيث أنّ كلّ هذه الحركات تتضمّن الرجوع والعودة.
وهذا الرجوع علامة لرجوع النّاس العام إلى الحياة.
ولكن من خلال ما تقدم يظهر لنا أنّ التّفسير الأوّل أنسب وأقرب لقرائن السّورة، حيث أنّه أشار إلى مسألة شقّ الأرض مع أدلة المعاد.
«القول الفصل»: هو القول أو الحديث الذي يفرق بين الحق والباطل، وقيل: هو في الآية يشير إلى المعاد، بقرينة الآيات السابقة، وقيل أيضاً: هو إشارة إلى القرآن، وهناك بعض الرّوايات عن أهل البيت(عليهم السلام) تؤيد هذا المعنى. وقد ورد التعبير عن القيامة بـ «يوم الفصل» في الكثير من الآيات القرآنية.
ويحتمل أيضاً أن يكون المراد هو الإشارة إلى الآيات القرآنية والتي تتضمّن الحديث عن المعاد، وبذلك يتمّ الجمع بين التّفسيرين.
فقد روي عن الإمام علي(عليه السلام): «إنّ رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «إنّها ستكون فتنة!» قلت: فما المخرج منها يا رسول اللّه؟!
قال: «كتاب اللّه فيه نبأ من قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل مَن تركه من جبار قصمه اللّه، ومَن ابتغى الهُدى في غيره أضله اللّه».(13)
وتسلّي الآيات التالية قلب النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين من جهة، وتتوعد أعداء الإسلام من جهة اُخرى: {إنّهم يكيدون كيداً}، فالكفار يخططون من جهة، وأنا أخطط لإحباط تلك الخطط من جهة اُخرى.. (وأكيد كيداً).
{فمهّل الكافرين أمهلهم رويداً}، حتى يروا عاقبتهم!
نعم، إنّهم دوماً يكيدون في حربك والحرب ضد دينك.
فتارة بالإستهزاء..
واُخرى بالحصار الإقتصادي..
ومرّة بتعذيب المؤمنين..
واُخرى يقولون: لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه كي تنتصروا..
ويقولون عنك: ساحراً، كاهناً، مجنوناً..
ويمارسون النفاق: بأن يؤمنوا بك صباحاً ويكفروا مساءً، كي يؤثّروا على البسطاء..
ويقولون لك: أبعد الفقراء والمستضعفين عنك حتى نتّبعك
وأحياناً يقولون: آمن ببعض آلهتنا حتى نؤمن بك..
ويكيدون لإبعادك وقتلك..
والخلاصة: فشغلهم الشاغل هو: التخطيط المستمر لمواجهتك، لتفريق مَن آمن بك، والضغط على أصحابك، أو قتلك لإطفاء نور اللّه بذلك! ولا يعلمون بأنّ اللّه متمُّ نوره ولو كرهوا.
«الكيد»(14): ضرب من الإحتيال والتغلب على المشكل بتهيئة المقدمات، وفيه جنبة خفية، وقد يكون مذموماً وممدوحاً كقوله تعالى: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} [يوسف: 76] ، وإن كان يستعمل في المذموم أكثر.
ومراد الآية هو كيد الأعداء كما هو واضح، وقد تعرضنا لبعض نماذجه أعلاه، فيما تناولت هذا الموضوع آيات قرآنية كثيرة.
ولكن.. ما المقصود بالكيد الإلهي؟
قيل: إنّه الإمهال الذي ينتهي بالأخذ الشديد والعذاب الأليم.
وقيل أيضاً: إنّه نفس العذاب الذي ينتظرهم.
والأنسب أن يقال: إنّه تلك الألطاف الإلهية التي غمرت النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ومَن معه من المؤمنين، وما كان يصيب أعداء الإسلام من فشل مخططاتهم وخيبة مساعيهم.
ويحمل التاريخ الإسلامي بين طياته شواهد كثيرة على هذا المعنى.
وتأمر الآيات النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ على الأخص ـ بأن يمهلهم ولا يتعجل على عذابهم، وأنّ يتمّ الحجّة عليهم، فعسى أن يعود قسم منهم إلى رشده ويسلم وأساساً فالعجلة لمن يخاف الفوت، وهذا ما لا يصدق على القاهر القادر سبحانه وتعالى.
والملاحظ في الآية، إنّها شرعت بـ (فمهّل الكافرين) فيما أكّدت ذلك بقولها «أمهلهم»، فالأوّل من باب (التفعيل)، والثّاني من باب (الأفعال) وقد جاء للتأكيد دون تكرار اللفظ بعينه.
«رويداً»: من (الرود) ـ على وزن عود ـ وهو التردد في طلب الشيء يرفق، ولها هنا معنى مصدرياً مع تصغير، أي أمهلهم مهلة صغيرة(15).
وبهذا يوصي اللّه عزّوجلّ نبيّه الكريم(صلى الله عليه وآله وسلم) في هذه الجملة المختصرة ثلاث مرات بإمهال ومداراة الكافرين وهذا في الحقيقة درس للمسلمين في الكيفية التي ينبغي العمل بها عند مواجهة أعداءهم، وخصوصاً إذا ما كانوا أعداءً أقوياء وشرسين، فلابدّ من الصبر والتأني والدقّة في حساب خطوات المواجهة، وينبغي عدم التسرع في العمل، وكذا عدم تنفيذ القرارات غير المدروسة.
مضافاً إلى التبليغ والدعوة إلى الحق لابدّ فيها من تجنب العجلة والتسرّع حتّى تتاح الفرصة لكلّ من يمكن هديه، فلابدّ من تفهيم الإسلام بكل لطف وسعة صدر مع الدليل القاطع، وبهذا تتمّ الحجّة على الآخرين.
أمّا السبب في طلب الإمهال القليل، ففيه احتمالين:
الأوّل: كان الإمهال لحين حدوث معركة بدر، حيث أحرز المسلمون فيها نصراً مبيناً على الكفار بعد مدّة قليلة من نزول الآية.
ومعركة بدر أوّل ضربة موجعة تلقاها المشركون من المسلمين، ثمّ تلتها ضربات في معركة الأحزاب ومعركة خيبر وغيرها، ممّا أفشل مخططات الكفرة لدحر الإسلام.
وحينما وافى عمر النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) الأجل، كان نور الإسلام قد غطى كلّ أرجاء شبه الجزيرة العربية، ولم يمض قرن واحد على عمر الرسالة الخاتمة حتى تفيئت معظم أجزاء العالم تحت ظله الآمن.
الثّاني: لأنّ عذاب القيامة سيقع حتماً، وكلّ حتمي الوقوع قريب.
وعلى أيّة حال، فقد بدأت السّورة بالقسم بالسماء والنجوم، وانتهت بتهديد الكافرين والمتآمرين على الحقّ، وفيما بين البدء والانتهاء، تعرضت إلى بعض أدلة المعاد بأُسلوب رائع ومؤثر، وإلى بيان شيّق للرقابة الإلهية على أعمال الإنسان، بالاضافة إلى ما قدمته من تسلية لترطيب خواطر المؤمنين، بلسان في غاية اللطف البليغ.
____________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج15 ، ص237-248.
2 ـ نهج البلاغة، الخطبة 224.
3 ـ نور الثقلين، ج5، ص550، ح4.
4 ـ دائرة المعارف دهخدا مادة زحل.
5 ـ دائرة المعارف دهخدا مادة زحل.
6 ـ روح البيان، ج10، ص397.
7 ـ «إنْ» في الآية: نافية، و «لمّا»: بمعنى (إلاّ).
8 ـ تفسير المراغي، ج30، ص113.
9 ـ عندما تتحدث الآيات القرآنية الاُخرى عن خلق الإنسان، فإنّها غالباً ما تشير إلى نطفة الرجل، باعتبارها أمراً محسوساً (راجع الآية 46 من سورة النجم، والآية 37 من سورة القيامة).
10 ـ «يوم» ظرف زمان متعلق بالرجع في الآية السابقة.
11 ـ مجمع البيان، ج10، ص472. ومثله في تفسير الدر المنثور، ج6، ص336.
12 ـ مفردات الراغب، مادة (رجع).
13 ـ تفسير روح المعاني، ج30، ص100; وتفسير المراغي، ج30، ص118; عن صحيح الترمذي وسنن الدارمي.
14 ـ مفردات الراغب.
15 ـ فـ «رويداً» في محل مفعول مطلق، والمعنى: أمهلهم إمهالاً قليلاً، أمّا ما قيل من كونها تحمل معنى الأمر، فهو بعيد، لأنّ ذلك سيستلزم للآية ثلاثة أوامر.
ومع أنّ «رويداً» جاءت بمعنى الأمر، وعلى صيغة اسم فعل، لكن الأنسب لها في هذا الموضع أن تكون منصوبة كمفعول مطلق.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|