قال تعالى : {وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 1 - 11].
{والضحى} أقسم سبحانه بنور النهار كله من قولهم ضحى فلان للشمس إذ ظهر لها ويدل عليه قوله في مقابلته {والليل إذا سجى} أي سكن واستقر ظلامه وقيل إن المراد بالضحى أول ساعة من النهار وقيل صدر النهار وهي الساعة التي فيها ارتفاع الشمس واعتدال النهار في الحر والبرد في الشتاء والصيف وقيل معناه ورب الضحى ورب الليل إذا سجى عن الجبائي وقيل إذا سجى أي غطى بالظلمة كل شيء عن عطاء والضحاك وقيل إذا أقبل ظلامه عن الحسن {ما ودعك ربك وما قلى} هذا جواب القسم ومعناه وما تركك يا محمد ربك وما قطع عنك الوحي توديعا لك وما قلاك أي ما أبغضك منذ اصطفاك.
{وللآخرة خير لك من الأولى} يعني أن ثواب الآخرة والنعيم الدائم فيها خير لك من الدنيا الفانية والكون فيها وقيل إن له (صلى الله عليه وآله وسلّم) في الجنة ألف ألف قصر من اللؤلؤ ترابه من المسك وفي كل قصر ما ينبغي له من الأزواج والخدم وما يشتهي على أتم الوصف عن ابن عباس وقيل معناه ولآخر عمرك الذي بقي خير لك من أوله لما يكون فيه من الفتوح والنصرة {ولسوف يعطيك ربك فترضى} معناه وسيعطيك ربك في الآخرة من الشفاعة والحوض وسائر أنواع الكرامة فيك وفي أمتك ما ترضى به وروى حرث بن شريح عن محمد بن علي بن الحنفية أنه قال يا أهل العراق تزعمون أن أرجى آية في كتاب الله عز وجل {يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم} الآية وإنا أهل البيت (عليهم السلام) نقول أرجى آية في كتاب الله {ولسوف يعطيك ربك فترضى} وهي والله الشفاعة ليعطينها في أهل لا إله إلا الله حتى يقول رب رضيت وعن الصادق (عليه السلام) قال دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) على فاطمة (عليها السلام) وعليها كساء من ثلة الإبل وهي تطحن بيدها وترضع ولدها فدمعت عينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) لما أبصرها فقال يا بنتاه تعجلي مرارة الدنيا بحلاوة الآخرة فقد أنزل الله علي {ولسوف يعطيك ربك فترضى} وقال زيد بن علي إن من رضا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) أن يدخل أهل بيته الجنة وقال الصادق (عليه السلام) رضا جدي أن لا يبقى في النار موحد.
ثم عدد سبحانه عليه نعمه في دار الدنيا فقال {أ لم يجدك يتيما ف آوى} قيل في معناه قولان {أحدهما} أنه تقرير لنعمة الله عليه حين مات أبوه وبقي يتيما ف آواه الله بأن سخر له أولا عبد المطلب ثم لما مات عبد المطلب قيض له(2) أبا طالب وسخره للإشفاق عليه وحببه إليه حتى كان أحب إليه من أولاده فكلفه ورباه واليتيم من لا أب له وكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) مات أبوه وهو في بطن أمه وقيل أنه مات بعد ولادته بمدة قليلة وماتت أمه (صلى الله عليه وآله وسلّم) وهو ابن سنتين ومات جده وهو ابن ثماني سنين فسلمه إلى أبي طالب (عليه السلام) لأنه كان أخا عبد الله لأمه فأحسن تربيته وسئل الصادق (عليه السلام) لم أوتم النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن أبويه فقال لئلا يكون لمخلوق عليه حق (والآخر) أن يكون المعنى أ لم يجدك واحدا لا مثل لك في شرفك وفضلك ف آواك إلى نفسه واختصك برسالته من قولهم درة يتيمة إذا لم يكن لها مثل قال :
لا ولا درة يتيمة بحر *** تتلألأ في جؤنة البياع(3)
وقيل ف آواك أي جعلك مأوى للأيتام بعد أن كنت يتيما وكفيلا للأنام بعد أن كنت مكفولا عن الماوردي ثم ذكر نعمة أخرى فقال {ووجدك ضالا فهدى} قيل في معناه أقوال {أحدها} وجدك ضالا عما أنت عليه الآن من النبوة والشريعة أي كنت غافلا عنهما فهداك إليهما عن الحسن والضحاك والجبائي ونظيره ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان وقوله {وإن كنت من قبله لمن الغافلين} فمعنى الضلال على هذا هو الذهاب عن العلم مثل قوله {أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى} (وثانيها) إن المعنى وجدك متحيرا لا تعرف وجوه معاشك فهداك إلى وجوه معاشك فإن الرجل إذا لم يهتد طريق مكسبه ووجه معيشته يقال أنه ضال لا يدري إلى أين يذهب ومن أي وجه يكتسب عن أبي مسلم وفي الحديث ((نصرت بالرعب وجعل رزقي في ظل رمحي)) يعني الجهاد (وثالثها) إن المعنى وجدك لا تعرف الحق فهداك إليه بإتمام العقل ونصب الأدلة والألطاف حتى عرفت الله بصفاته بين قوم ضلال مشركين وذلك من نعم الله سبحانه عليك (رابعها) وجدك ضالا في شعاب مكة فهداك إلى جدك عبد المطلب فروي أنه (صلى الله عليه وآله وسلّم) ضل في شعاب مكة وهو صغير فرآه أبو جهل ورده إلى جده عبد المطلب فروي أنه (صلى الله عليه وآله وسلّم) ضل في شعاب مكة وهو صغير فرآه أبو جهل ورده إلى جده عبد المطلب فمن الله سبحانه بذلك عليه إذا رده إلى جده على يد عدوه عن ابن عباس.
(وخامسها) ما روي أن حليمة بنت أبي ذؤيب لما أرضعته مدة وقضت حق الرضاع ثم أرادت رده على جده جاءت به حتى قربت من مكة فضل في الطريق فطلبته جزعة وكانت تقول إن لم أره لأرمين نفسي من شاهق وجعلت تصيح وامحمداه قالت فدخلت مكة على تلك الحال فرأيت شيخا متوكئا على عصا فسألني عن حالي فأخبرته فقال لا تبكين فأنا أدلك على من يرده عليك فأشار إلى هبل صنمهم الأكبر ودخل البيت فطاف بهبل وقبل رأسه وقال يا سيداه لم تزل منتك جسيمة رد محمدا على هذه السعدية قال فتساقطت الأصنام لما تفوه باسم محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) وسمع صوت إن هلاكنا على يدي محمد فخرج وأسنانه تصطك وخرجت إلى عبد المطلب وأخبرته بالحال فخرج فطاف بالبيت ودعا الله سبحانه فنودي وأشعر بمكانه فأقبل عبد المطلب وتلقاه ورقة بن نوفل في الطريق فبينما هما يسيران إذ النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قائم تحت شجرة يجذب الأغصان ويلعب بالورق فقال عبد المطلب فداك نفسي وحمله ورده إلى مكة عن كعب.
(وسادسها) ما روي أنه (صلى الله عليه وآله وسلّم) خرج مع عمه أبي طالب في قافلة ميسرة غلام خديجة فبينما هو راكب ذات ليلة ظلماء جاء إبليس فأخذ بزمام ناقته فعدل به عن الطريق فجاء جبرائيل (عليه السلام) فنفخ إبليس نفخة رفع بها إلى الحبشة ورده إلى القافلة فمن الله عليه بذلك عن سعيد بن المسيب.
(وسابعها) إن المعنى وجدك مضلولا عنك في قوم لا يعرفون حقك فهداهم إلى معرفتك وأرشدهم إلى فضلك والاعتراف بصدقك والمراد أنك كنت خاملا لا تذكر ولا تعرف فعرفك الله الناس حتى عرفوك وعظموك .
{ووجدك عائلا} أي فقيرا لا مال لك {فأغنى} أي فأغناك بمال خديجة والغنائم وقيل فأغناك بالقناعة ورضاك بما أعطاك عن مقاتل واختار الفراء قال لم يكن غنيا عن كثرة المال لكن الله سبحانه أرضاه بما أتاه من الرزق وذلك حقيقة الغنى وروى العياشي بإسناده عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) في قوله {أ لم يجدك يتيما ف آوى} قال فردا لا مثل لك في المخلوقين ف آوى الناس إليك ووجدك ضالا أي ضالة في قوم لا يعرفون فضلك فهداهم إليك ووجدك عائلا تعول أقواما بالعلم فأغناهم بك وروي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال من علي ربي وهو أهل المن وقد طعن بعض الملحدين فقال كيف يحسن الامتنان بالإنعام وهل يكون هذا من فعل الكرام {والجواب} أن المن إنما يقبح من المنعم إذا أراد به الغض من المنعم عليه والأذى له فأما من أراد التذكير لشكر نعمته والترغيب فيه ليستحق الشاكر المزيد فإنه في غاية الحسن ولأن من كمال الجود وتمام الكرم تعريف المنعم عليه أنه إنما أنعم عليه ليسأل جميع ما يحتاج إليه فيعطي.
ثم أوصاه سبحانه باليتامى والفقراء فقال {فأما اليتيم فلا تقهر} أي فلا تقهره على ماله فتذهب بحقه لضعفه كما كانت تفعل العرب في أمر اليتامى عن الفراء والزجاج وقيل معناه لا تحتقر اليتيم فقد كنت يتيما عن مجاهد وكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) يحسن إلى اليتامى ويبرهم ويوصي بهم وجاء في الحديث عن أبي أوفى قال كنا جلوسا عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فأتاه غلام فقال غلام يتيم وأخت لي يتيمة وأم لي أرملة أطعمنا مما أطعمك الله أعطاك الله مما عنده حتى ترضى قال ما أحسن ما قلت يا غلام اذهب يا بلال فأتنا بما كان عندنا فجاء بواحدة وعشرين تمرة فقال سبع لك وسبع لأختك وسبع لأمك فقام إليه معاذ بن جبل فمسح رأسه وقال جبر الله يتمك وجعلك خلفا من أبيك وكان من أبناء المهاجرين فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) ((رأيتك يا معاذ وما صنعت قال رحمته قال لا يلي أحد منكم يتيما فيحسن ولايته ووضع يده على رأسه إلا كتب الله له بكل شعرة حسنة ومحا عنه بكل شعرة سيئة ورفع له بكل شعرة درجة)) وعن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) ((من مسح على رأس يتيم كان له بكل شعرة تمر على يده نور يوم القيامة)) وقال (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة إذا اتقى الله عز وجل وأشار بالسبابة والوسطى وعن عمر بن الخطاب عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال ((إن اليتيم إذا بكى اهتز لبكائه عرش الرحمن فيقول الله لملائكته يا ملائكتي من أبكى هذا اليتيم الذي غيب أبوه في التراب فتقول الملائكة أنت أعلم فيقول الله تعالى يا ملائكتي فإني أشهدكم أن لمن أسكته وأرضاه أن أرضيه يوم القيامة)) وكان عمر إذا رأى يتيما مسح رأسه وأعطاه شيئا.
{وأما السائل فلا تنهر} أي لا تنهر السائل ولا ترده إذا أتاك يسألك فقد كنت فقيرا فأما أن تطعمه وإما أن ترده ردا لينا وفي الحديث عن أنس بن مالك قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) ((إذا أتاك سائل على فرس باسط كفيه فقد وجب له الحق ولو بشق تمرة)) قال أبو مسلم يريد كما أعطاك الله ورحمك وأنت عائل فأعط سائلك وارحمه وقال الجبائي : المراد بها جميع المكلفين وإن كان الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) وقيل إن المراد بالسائل طلب العلم وهو متصل بقوله {ووجدك ضالا فهدى} عن الحسن والمعنى علم من يسألك كما علمك الله الشرائع وكنت بها غير عالم.
{وأما بنعمة ربك فحدث} معناه اذكر نعمة الله وأظهرها وحدث بها وفي الحديث من لم يشكر الناس لم يشكر الله ومن لم يشكر القليل لم يشكر الكثير والتحدث بنعمة الله شكر وتركه كفر وقيل يريد بالنعمة القرآن عن الكلبي قال وكان القرآن أعظم ما أنعم الله عليه به فأمره أن يقرأه وقيل بالنبوة التي أعطاك ربك عن مجاهد واختاره الزجاج قال : أي بلغ ما أرسلت به وحدث بالنبوة التي أتاكها الله وهي أجل النعم وقيل معناه اشكر لما ذكر من النعمة عليك في هذه السورة قال الصادق (عليه السلام) معناه فحدث بما أعطاك الله وفضلك ورزقك وأحسن إليك وهداك .
________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج10 ، ص381-386.
2- قيض الله فلانا لفلان : جاءه به وأتاحه له .
3- الجؤية : سلة مستديرة مغشاة أداما يجعل فيها الطيب والثياب.
{والضُّحى واللَّيْلِ إِذا سَجى} . المراد بالضحى هنا النهار كله بدليل مقابلته بالليل ، وانما عبّر سبحانه عن النهار بالضحى لأن الضحى صدر النهار على حد تعبير الرازي ، أو شباب النهار على تعبير الشيخ محمد عبده ، ومعنى السجو السكون ، يقال : ليل ساج إذا سكنت ريحه واشتدت ظلمته ، وبحر ساج إذا سكن ، والمراد بسجو الليل سكون أهله وانقطاعهم عن الحركة ، مثل ليل نائم ونهار صائم أي فيه ، وأقسم سبحانه بهاتين الآيتين لأنهما من آياته الكبرى . . وتجدر الإشارة إلى ان كثيرا من الفقهاء قالوا : ان النبي (صلى الله عليه واله وسلم) صلى صلاة الضحى يوم فتح مكة ، وهي ركعتان عند البعض ، وأكثر عند آخرين ، وندب عند الجميع .
وقال الشيعة الإمامية : لا حصر للصلاة المندوبة ، فهي قربان كل تقي فمن شاء استقل ومن شاء استكثر ، ولكل إنسان أن يصلي ركعتين ابتداء في كل زمان ومكان بنية القربة المطلقة إليه تعالى .
{ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وما قَلى} . هذا جواب القسم ، ومعناه ما تركك وما أبغضك ، واتفق الرواة والمفسرون على ان الوحي قد احتبس عن رسول اللَّه (صلى الله عليه واله وسلم) أياما ، فقال المشركون : ان إله محمد قد قلاه ، وان الناموس قد أبغضه ، فأنزل اللَّه تعالى : {ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وما قَلى} . وقال الشيخ محمد عبده ، ونعم ما قال : ليس في نسق السورة ما يشير إلى ذلك ، ومن أين للمشركين أن يعلموا فترة الوحي ؟ . ولكن النبي كان قد اشتاق إلى الوحي بعد ان ذاق حلاوته ، وكل ذوق يصحبه قلق ، وكل قلق يشوبه خوف وقد جاء في الصحيح ان النبي (صلى الله عليه واله وسلم) حزن لفترة الوحي حزنا كبيرا .
وبهذه المناسبة أشير إلى اني قرأت كل ما نشر للشيخ محمد عبده ، فاكتشفت ان عظمة هذا الرجل وشهرته لا تكمن في علمه فقط ، ولا في سعة اطلاعه ، فان بعض تلاميذه - على ما رأيت - أوسع منه اطلاعا على الحواشي والشروح ، ومعرفة بأقوال السلف والخلف ، وانما السر الوحيد لعظمة هذا الشيخ يكمن في ثقته بالحق وإخلاصه له وجرأته على إعلانه ولو خالف الأولين والآخرين . . ومن أجل هذا كفرته عمائم السوء . . ولكن التاريخ قد أنصفه منها ، فوضعه في مكان الصدارة ، وألقى بها في سلة المهملات .
{ولَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولى ولَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى} . الخطاب للرسول الأعظم (صلى الله عليه واله وسلم) والمراد بالآخرة هنا الحياة الآخرة ، والحياة الدنيا ابتداء من نزول الوحي عليه إلى يوم القيامة لأنه ما من يوم يمر إلا ويولد فيه المئات من المسلمين ، بالإضافة إلى من يدخل في دين اللَّه من الأمم والطوائف ، وكل ذلك كسب لمحمد (صلى الله عليه واله وسلم) ورسالة محمد ، ومعنى الآية ان اللَّه سبحانه سيزيدك يا محمد من فضله يوما بعد يوم حتى قيام الساعة ، وفوق ذلك أنت في الآخرة أجلّ وأعظم ، فهل يرضيك هذا ؟ وهل لك وراءه من مطلب ؟ ثم ذكر سبحانه نبيه الكريم بجانب من نعمه عليه قبل البعثة ، وكأنه يقول له : لقد أنعمت عليك منذ يومك الأول إلى ما لا نهاية . وهذه بعض النعم السابقة على البعثة :
1 - {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى} . هذا الاستفهام لتقرير الواقع أي لقد كنت كذلك . قال الشيخ محمد عبده : (كان النبي (صلى الله عليه واله وسلم) يتيما لأن والده توفي بالمدينة ، وهو في بطن أمه ، فكفله جده عبد المطلب خير كفالة ، ثم مات جده وهو في الثامنة من عمره ، فكفله عمه أبوطالب بوصية من أبيه عبد المطلب ، وكان شديد العناية به في صغره ، عظيم المحبة له في كبره ، وما زال يحميه وينصره بعد ان أكرمه اللَّه بالنبوة حتى قبض ، فتجرأت عليه قريش بعد موت عمه حتى اضطرته إلى الهجرة ، فذاك إيواء اللَّه لنبيه وهو يتيم) .
2 - {ووَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى} . اختلف المفسرون ما هو المراد بالضلال هنا ؟ وقد أنهى الرازي أقوالهم إلى عشرين قولا ! . . أقربها إلى الصواب والواقع ان النبي {ص} كان حائرا في أمر قومه ، وضلالهم في عقائدهم وتقاليدهم ، وفساد أعمالهم وجهلهم وتفرق كلمتهم . . ولا يدري ما هو السبيل إلى هدايتهم حتى نزل عليه الوحي فيه تبيان كل شيء ، وهدى ورحمة للعالمين ، فضلال النبي (صلى الله عليه واله وسلم): حيرته كيف يهدي الكافرين ، وهداه نزول القرآن عليه .
3 - {ووَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى} . العائل هو الفقير سواء أكان عنده عيال أم لم يكن ، وقال الرواة : ان الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) لم يرث من أبيه إلا ناقة وجارية ، ولكن اللَّه قد أغناه برعاية عمه أبي طالب ، ومال خديجة بنت خويلد ، وبالغنائم .
{فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ وأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} . ومن كان يتيما وفقيرا فما أجدره برعاية الفقراء والأيتام والاهتمام بشأنهم . . وليس من شك ان هذا تعريض وتأديب لكل من حاول أو يحاول أن يقهر يتيما أو ينهر فقيرا والا فإن رسول الرحمة على خلق عظيم وبالضعفاء رؤوف رحيم {وأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} شكرا للَّه وحمدا . وفي الحديث الشريف ان التحدث بنعم اللَّه شكر له . وقال الإمام الصادق (عليه السلام) في معنى هذه الآية : فحدث بما أعطاك اللَّه وفضلك ورزقك وأحسن إليك وهداك . وقال الشيخ محمد عبده : (فحدث أي أوسع في البذل على الفقراء) .
وتبعه في هذا التفسير تلميذه المراغي ، وهو بعيد عن ظاهر اللفظ ومدلوله ، فان المتبادر إلى الافهام من كلمة {فحدث} هو التحدث بنعم اللَّه شكرا له وحمدا .
وما أكثر ما يستدل الشيخ محمد عبده بالتبادر .
________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7 ، ص577-580.
قيل: انقطع الوحي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أياما حتى قالوا: إن ربه ودعه فنزلت السورة فطيب الله بها نفسه، والسورة تحتمل المكية والمدنية.
قوله تعالى: {والضحى والليل إذا سجى} إقسام، والضحى - على ما في المفردات، - انبساط الشمس وامتداد النهار وسمي الوقت به، وسجو الليل سكونه وهو غشيان ظلمته.
قوله تعالى: {ما ودعك ربك وما قلى} التوديع الترك، والقلى بكسر القاف البغض أو شدته، والآية جواب القسم، ومناسبة نور النهار وظلمة الليل لنزول الوحي وانقطاعه ظاهرة.
قوله تعالى: {وللآخرة خير لك من الأولى} في معنى الترقي بالنسبة إلى ما تفيده الآية السابقة من كونه (صلى الله عليه وآله وسلم) على ما هو عليه من موقف الكرامة والعناية الإلهية كأنه قيل: أنت على ما كنت عليه من الفضل والرحمة ما دمت حيا في الدنيا وحياتك الآخرة خير لك من حياتك الدنيا.
قوله تعالى: {ولسوف يعطيك ربك فترضى} تقرير وتثبيت لقوله: {وللآخرة خير لك من الأولى} وقد اشتمل الوعد على عطاء مطلق يتبعه رضي مطلق.
وقيل: الآية ناظرة إلى الحياتين جميعا دون الحياة الآخرة فقط.
قوله تعالى: {أ لم يجدك يتيما فآوى} الآية وما يتلوها من الآيتين إشارة إلى بعض نعمه تعالى العظام عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد مات أبوه وهو في بطن أمه ثم ماتت أمه وهو ابن سنتين ثم مات جده الكفيل له وهو ابن ثمان سنين فكفله عمه ورباه.
وقيل: المراد باليتيم الوحيد الذي لا نظير له في الناس كما يقال: در يتيم، والمعنى أ لم يجدك وحيدا بين الناس فآوى الناس إليك وجمعهم حولك.
قوله تعالى: {ووجدك ضالا فهدى} المراد بالضلال عدم الهداية والمراد بكونه (صلى الله عليه وآله وسلم) ضالا حالة في نفسه مع قطع النظر عن هدايته تعالى فلا هدى له (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا لأحد من الخلق إلا بالله سبحانه فقد كانت نفسه في نفسها ضالة وإن كانت الهداية الإلهية ملازمة لها منذ وجدت فالآية في معنى قوله تعالى: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} [الشورى: 52] ، ومن هذا الباب قول موسى على ما حكى الله عنه: {فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء: 20] أي لم أهتد بهدى الرسالة بعد.
ويقرب منه ما قيل: إن المراد بالضلال الذهاب من العلم كما في قوله: { أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282] ، ويؤيده قوله: {وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ } [يوسف: 3].
وقيل المعنى وجدك ضالا بين الناس لا يعرفون حقك فهداهم إليك ودلهم عليك.
وقيل: إنه إشارة إلى ضلاله في طريق مكة حينما كانت تجيء به حليمة بنت أبي ذؤيب من البدو إلى جده عبد المطلب على ما روي.
وقيل: إشارة إلى ما روي من ضلاله في شعاب مكة صغيرا.
وقيل: إشارة إلى ما روي من ضلاله في مسيره إلى الشام مع عمه أبي طالب في قافلة ميسرة غلام خديجة.
وقيل: غير ذلك وهي وجوه ضعيفة ظاهرة الضعف.
قوله تعالى: {ووجدك عائلا فأغنى} العائل الفقير الذي لا مال له وقد كان (صلى الله عليه وآله وسلم) فقيرا لا مال له فأغناه الله بعد ما تزوج بخديجة بنت خويلد (عليه السلام) فوهبت له مالها وكان لها مال كثير، وقيل المراد بالإغناء استجابة دعوته.
قوله تعالى: {فأما اليتيم فلا تقهر} قال الراغب: القهر الغلبة والتذليل معا ويستعمل في كل واحد منهما، انتهى.
قوله تعالى: {وأما السائل فلا تنهر} النهر هو الزجر والرد بغلظة.
قوله تعالى: {وأما بنعمة ربك فحدث} التحديث بالنعمة ذكرها قولا وإظهارها فعلا وذلك شكرها، وهذه الأوامر عامة للناس وإن كانت موجهة إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
والآيات الثلاث متفرعة على الآيات الثلاث التي تسبقها وتذكر نعمه تعالى عليه كأنه قيل: فقد وجدت ما يجده اليتيم من ذلة اليتيم وانكساره فلا تقهر اليتيم باستذلاله في نفسه أو ماله، ووجدت مرارة حاجة الضال إلى الهدى والعائل إلى الغنى فلا تزجر سائلا يسألك رفع حاجته إلى هدى أو معاش، ووجدت أن ما عندك نعمة أنعمها عليك ربك بجوده وكرمه ورحمته فاشكر نعمته بالتحديث بها ولا تسترها.
_____________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج20، ص282-284.
يعطيك فترضى:
في بداية السّورة المباركة قسمان: الأوّل بالنّور، والثّاني بالظلمة، ويقول سبحانه:
{والضحى} وهو قسم بالنهار ـ حين تغمر شمسه كلّ مكان.
{والليل إذا سجى} أي إذا عمّت سكينته كلّ مكان.
«الضحى» يعني أوائل النهار، أي حين يرتفع قرص الشمس في كبد السماء، ويعم نورها الأرض، وهو في الحقيقة أفضل ساعات النهار، لأنّه ـ على حدّ تعبير بعضهم ـ شباب النهار، وفيه لا يكون الجو حاراً في فصل الصيف، ويكون الدفء قد عمّ في فصل الشتاء وتصبح خلاله روح الإنسان مستعدة لممارسة النشاط.
«سجى» من السَّجو أو السُّجو، أي سكن وهدأ، وتأتي الكلمة أيضاً بمعنى غطّى، وأقبل ظلامه. والميت الملفوف بالكفن «مسجّى»، وفي الآية بمعنى سكن وهدأ، والليلة الخالية من الرياح تسمى «ليلة ساجية» أي هادئة، والبحر حين يستقر ويخلو من الأمواج الصاخبة يسمى «بحر ساج».
والمهم في الليل ـ على أي حال ـ هدوؤه وسكينته ممّا يضفي على روح الإنسان واعصابه هدوءً وارتياحاً، ويُعدّه لممارسة نشاط يوم غد، وهو لذلك نعمة مهمّة استحقت القسم بها.
بين القَسَمين ومحتوى السّورة تشابه كبير وارتباط وثيق. النهار مثل نزول نور الوحي على قلب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، والليل كانقطاع الوحي المؤقت، وهو أيضاً ضروري في بعض المقاطع الزمنية.
وبعد القَسَمين، يأتي جواب القسم، فيقول سبحانه: {ما ودعك ربّك وما قلى}.
«قلى» من «قلا» ـ على وزن صدا ـ، وهو شدّة البغض، ومن القَلَو أيضاً بمعنى الرّمي. وكلا المعنيين يعودان إلى أصل واحد ـ في رأي الراغب الأصفهاني ـ فكأن المقلّو هو الذي يقذفه القلب من بُغضه فلا يَقبَلُه.
على أي حال، في هذا التعبير سَكنٌ لقلب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وتسلّ له، ليعلم أن التأخير في نزول الوحي إنّما يحدث لمصلحة يعلمها الله تعالى، وليست ـ كما يقول الأعداء ـ لترك الله نبيّه أو لسخطه عليه. فهو مشمول دائماً بلطف الله وعنايته الخاصّة، وهو دائماً في كنف حماية الله سبحانه.
{وللآخرة خير لك من الأولى}.
أنت في هذه الدنيا مشمول بالطاف الله تعالى، وفي الآخرة أكثر وأفضل. أنت آمن من غضب الله في الأمد القريب والبعيد. وباختصار أنت عزيز في الدنيا والآخرة... في الدنيا عزيز وفي الآخرة أعزّ...
قيل إن «الآخرة» و«الأولى» يشيران إلى بداية عمر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ونهايته، أي إنّك ستستقبل في عمرك نصراً ونجاحاً أكثر ممّا استدبرت. وفي ذلك إشارة إلى اتساع رقعة انتشار الإِسلام وانتصارات المسلمين المتلاحقة على الأعداء، وفتوحهم في الغزوات، ونمّو دوحة التوحيد، واندثار آثار الشرك وعبادة الأوثان.
ولا مانع من الجمع بين التّفسيرين.
وتأتي البشرى للنبي الكريم لتقول له:
{ولسوف يعطيك ربّك فترضى}، وهذا أعظم أكرام وأسمى احترام من ربّ العالمين لعبده المصطفى محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم). فالعطاء الرّباني سيغدق عليه حتى يرضى... حتى ينتصر على الأعداء ويعّم نور الإِسلام الخافقين، كما أنّه سيكون في الآخرة أيضاً مشمولا بأعظم الهبات الإِلهية.
النّبي الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) باعتباره خاتم الأنبياء، وقائد البشرية، لا يمكن أن يتحقق رضاه في نجاته فحسب، بل إنّه سيكون راضياً حين تُقبل منه شفاعته في أُمته. ومن هنا جاءت الرّوايات لتؤكد أن هذه الآية أكثر آيات القرآن الكريم دلالة على قبول الشفاعة منه عليه أفضل الصلاة والسلام.
وفي حديث رواه محمّد بن علي(عليهما السلام) عن عمّه محمّد الحنفية عن أبيه أمير المؤمنين(عليه السلام) أنّه قال: أنّ رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «أشفع لاُمّتي حتّى يناديني ربّي: أرضيت يا محمّد؟ فأقول: نعم يا ربّ رضيت»
ثمّ إنّ أمير المؤمنين التفت إلى جماعة وقال:
«يا أهل العراق تزعمون أن أرجى آية في كتاب الله عزَّوجلّ:{يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم...) الآية، وإنّا أهل البيت نقول أرجى آية في كتاب الله:{ولسوف يعطيك ربّك فترضى} وهي والله الشفاعة ليعطيها في أهل لا إله إلاّ الله حتى تقول: ربّ رضيت».(2)
وعن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: دخل رسول اللّه على فاطمة(عليها السلام) وعليها كساء من خلة الإبل وهي تطحن بيدها وترضع ولدها فدمعت عينا رسول اللّه لما أبصرها فقال: «يا بنتاه تعجلي مرارة الدنيا بحلاوة الآخرة فقد أنزل اللّه عليَّ ولسوف يعطيك ربّك فترضى».(3)
وقوله تعالى : {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمَاً فَأَوَى(6) وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَى(7)وَوَجَدَكَ عَآئِلاً فَأَغْنَى(8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ(9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ(10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}
الشكر على كلّ هذه النعم الإلهية:
ذكرنا أنّ هدف هذه السّورة المباركة تسلية قلب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وبيان الطاف اللّه التي شملته، وهذه الآيات المذكورة أعلاه تجسد للنّبي ثلاث هبات من الهبات الخاصّة التي أنعم اللّه بها على النّبي، ثمّ تأمره بثلاثة أوامر.
{ألم يجدك يتيماً فآوى}.
فقد كنت يا محمّد في رحم اُمّك حين توفي والدك فآويتك إلى كنف جدّك عبد المطلب (سيد مكّة).
وكنت في السادسة حين توفيت والدتك، فزاد يتمك، لكنني زدت حبّك في قلب «عبد المطلب».
وكنت في الثامنة حين رحل جدّك «عبدالمطلب»، فسخرت لك عمّك «أبا العلم بأسرار النبوّة وبأحكام الإسلام، وتعني عدم معرفة هذه الحقائق، كما أكّد على ذلك كثير من المفسّرين. لكنّه(صلى الله عليه وآله وسلم) بعد البعثة اهتدى إلى هذه الاُمور بعون اللّه تعالى. (تأمل بدقّة).
في الآية (282) من سورة البقرة، عند ذكر الشهادة وسبب استشهاد أكثر من شاهدة واحدة في كتابة عقود الدَّين يقول سبحانه: { أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282].
والضلالة في هذه الآية تعني «النسيان» بقرينة قوله «فتذكر».
وفي الآية تفاسير اُخرى من ذلك.
إنّك كنت خامل الذكر غير معروف، واللّه أنعم عليك من المواهب الفريدة ممّا جعلك معروفاً في كلّ مكان.
ومن هذه التفاسير، إنّك تهت وضللت الطريق مرّات في عهد الطفولة (مرّة في شعاب مكّة حين كنت في حماية عبد المطلب، ومرّة حين كانت حليمة السعدية تأتي بك إلى مكّة لتسلمك إلى عبد المطلب فتهت في الطريق. مرّة ثالثة حين كنت برفقة عمّك أبي طالب ضمن قافلة متجهة إلى الشام فضللت الطريق في ليلة ظلماء واللّه سبحانه هداك في كلّ هذه المرات وأعادك إلى حضن جدّك أو عمّك).
ويذكر أنّ كلمة «ضال» تعني «المفقود» وتعني «التائه». ففي عبارة: «الحكمة ضالة المؤمن»، الضالة تعني الشيء المفقود.
ومن ذلك جاءت هذه المفردة أيضاً بمعنى المخفي والغائب ولذا ورد في الآية (10) من سورة السجدة قوله تعالى على لسان منكري المعاد: {أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } [السجدة: 10] ، أي ءإذا غبنا واختفينا في بطن الأرض.
وإذا كانت كلمة «ضالاً» في الآية تعني «المفقود» فلا يبرز إشكال في الموضوع... ولكن إذا كانت بمعنى «التائه» فالمقصود منها عدم الإهتداء إلى طريق النبوّة والرسالة قبل البعثة، وبعبارة اُخرى لم يكن النّبي مالكاً لشيء في ذاته الوجودية، وما كان عنده فمن اللّه، وبهذا المعنى يندفع كلّ إشكال أيضاً.
{ووجدك عائلاً فأغنى}(4).
لقد جعلناك تستأثر باهتمام «خديجة» هذه المرأة المخلصة الوفية لتضع كلّ ثروتها تحت تصرفك ومن أجل تحقيق أهدافك، وبعد ظهور الإسلام رزقك مغانم كثيرة في الحروب ساعدتك في تحقيق أهدافك الرسالية الكبرى.
وعن علي بن موسى الرضا(عليه السلام) في تفسير هذه الآيات قال: «{ألم يجدك يتيماً فآوى}، قال: فردا لا مثيل في المخلوقين، فآوى النّاس إليك.{ووجدك ضالاً} أي ضالة في قوم لا يعرفون فضلك فهداهم إليك.{ووجدك عائلاً}، تعول أقواماً بالعلم فأغناهم بك»(5).
هذه الرّواية تتحدث طبعاً عن بطون الآية، وإلاّ فإنّ ظاهرها هوما ذكرناه.
ولا يتصورنّ أحد أنّ تفسير الآيات بظاهرها يحط من مكانة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، أو يضفي عليه صفات سلبية من قبل الباري تعالى، بل إنّها في الواقع بيان ما أغدق اللّه على نبيّه من ألطاف واكرام واحترام، حين يتحدث المحبوب عن ألطافه بحق العاشق الواله، فإنّ حديثه هذا هو عين اللطف والمحبّة، وهو دليل على عنايته الخاصّة، والعاشق بسماعه هذه الألفاظ تسري في جسده روح جديدة، وتصفو نفسه ويغمر قلبه سكينة وهدوء.
في الآيات التالية ثلاثة أوامر تصدر إلى الرسول باعتبارها نتيجة الآيات السابقة... والخطاب، وإن كان متجهاً إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإنّه يشمل أيضاً كل المسلمين.
{فأمّا اليتيم فلا تقهر}.
«تقهر» من القهر ـ كما يقول الراغب ـ الغلبة مع التحقير، ولكن تستعمل في كل واحد من المعنيين، ومعنى التحقير هنا هو المناسب.
وهذا يدل على أنّ هناك مسألة أهم من الإطعام والإنفاق بشأن الأيتام، وهي اللطف بهم والعطف عليهم وإزالة إحساسهم بالنقص العاطفي، ولذا جاء في الحديث المعروف عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «من مسح على رأس يتيم كان له بكل شعرة تمرّ على يده نور يوم القيامة»(6).
كأنّ اللّه يخاطب نبيّه قائلاً: لقد كنت يتيماً أيضاً وعانيت من آلام اليتم، والآن عليك أن تهتم بالأيتام كل اهتمام وأن تروي روحهم الظمأى بحبّك وعطفك.
{وأمّا السائل فلا تنهر}.
«نَهَرَ» بمعنى ردّ بخشونة، ولا يستبعد أن تكون مشتركة في المعنى مع «نهر» الماء، لأنّ النهر يدفع الماء بشدّة.
وفي معنى «السائل» عدّة تفاسير.
الأوّل: أنّه المتجه بالسؤال حول القضايا العلمية والعقائدية والدينية، والدليل على ذلك هو أنّ هذا الأمر تفريع ممّا جاء في الآية السابقة: (ووجدك ضالاً فهدى)، فشكر هذه الهداية الإلهية يقتضي أن تسعى أيّها النّبي في هداية السائلين، وأن لا تطرد أي طالب للهداية عنك.
والتّفسير الآخر: هو الفقير في المال والمتاع، والأمر يكون عندئذ ببذل الجهد في هذا المجال، وبعدم ردّ هذا الفقير السائل يائساً.
والثّالث: أنّ المعنى يشمل الفقير علمياً والفقير مادياً، والأمر بتلبية احتياجات السائل في المجالين، وهذا المعنى يتناسب مع الهداية الإلهية لنبيّه(صلى الله عليه وآله وسلم)، ومع إيوائه حين كان يتيماً.
وذهب بعضهم إلى حصر معنى السائل في طالب المعرفة العلمية، زاعماً أنّ كلمة السائل لم ترد في القرآن الكريم بمعنى طالب المال والمتاع(7)، بينما تكرر في القرآن هذا المعنى كقوله تعالى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ } [الذاريات: 19] وبهذا المعنى أيضاً وردت في المعارج ـ 25، وفي البقرة ـ 77.
{وأمّا بنعمة ربّك فحدّث}.
والحديث عن النعمة قد يكون باللسان، وبتعابير تنمّ عن غاية الشكر والإمتنان، لا عن التفاخر والغرور. وقد تكون بالعمل عن طريق الإنفاق من هذه النعمة في سبيل اللّه، انفاقاً يبيّن مدى هذه النعمة. هذه هي خصلة الإنسان السخي الكريم... يشكر اللّه على النعمة، ويقرن الشكر بالعمل، خلافاً للسخفاء البخلاء الذين لا يكفون عن الشكوى والتأوه، ولا يكشفون عن نعمة ولو حصلوا على الدنيا وما فيها، وجوههم يعلوها سيماء الفقر، وكلامهم مفعم بالتذمّر والحسرة، وعملهم يكشف عن فقر!
بينما روي عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «إنّ اللّه تعالى إذا أنعم على عبد نعمة يحب أن يرى أثر النعمة عليه»(8)
من هنا يكون معنى الآية: بيّن ما أغدق اللّه عليك من نِعَم بالقول والعمل، شكراً على ما أغناك اللّه إذ كنت عائلاً.
بعض المفسّرين ذهب إلى أنّ النعمة في الآية هي النعمة المعنوية ومنها النبوّة والقرآن، والأمر للنبيّ بالإبلاغ والتبيين، وهذا هو المقصود من الحديث بالنعمة.
ويحتمل أيضاً أن يكون المعنى شاملاً للنعم المادية والمعنوية، لذلك ورد عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام) في تفسير هذه الآية قوله: «حدث بما أعطاك اللّه، وفضلك، ورزقك، وأحسن إليك وهداك»(9).
وعن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «من اُعطي خيراً فلم يُر عليه، سمّي بغيض اللّه، معادياً لنعم اللّه»(10).
وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) قال: «إنّ اللّه جميل يحب الجمال، ويحب أن يرى أثر النعمة على عبده»(11)
______________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج15 ، ص378-385.
2 ـ تفسير نور الثقلين، ج5، ص595، الحديث رقم 12، في الأصل تفسير أبوالفتوح الرازي،
ج12، ص110.
3 ـ مجمع البيان، ج10، ص765.
4 ـ «العائل» في الأصل كثير العيال، وجاءت أيضاً بمعنى الفقير، وهي في الآية بهذا المعنى، ويستفاد من كلام الراغب أنّ (عال) إذا كانت أجوفاً يائياً فهي بمعنى افتقر، وإن كانت أجوفاً واوياً فبمعنى كثر عياله. (ولانستبعد أن يكون المعنيان متلازمين).
5 ـ مجمع البيان، ج10، ص506.
6 ـ المصدر السابق.
7 ـ تفسير محمّد عبده، جزء عم، ص113.
8 ـ نهج الفصاحة، حديث 683.
9 ـ مجمع البيان، ج10، ص507.
10 ـ تفسير القرطبي، ج10، ص7192، وقريب من هذا المعنى في الكافي، ج6، كتاب الزي والتجميل، حديث 2.
11 ـ فروع الكافي، ج6، ص438.
|
|
كيف نحافظ على المستوى الطبيعي للكولسترول في الدم ؟
|
|
|
|
|
سر جديد ينكشف.. أهرامات الجيزة خدعت أنظار العالم
|
|
|
|
|
ضمن أسبوع الإرشاد النفسي.. جامعة العميد تُقيم أنشطةً ثقافية وتطويرية لطلبتها
|
|
|