أقرأ أيضاً
التاريخ: 4-2-2018
6072
التاريخ: 4-2-2018
6712
|
قال تعالى : {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُو عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُو بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُو إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 15 - 29].
أكد سبحانه ما تقدم بالقسم فقال {فلا أقسم} أي فأقسم ولا زائدة وقد ذكرنا اختلاف العلماء فيه عند قوله {لا أقسم بيوم القيامة} {بالخنس} وهي النجوم تخنس بالنهار وتبدو بالليل و{الجوار} صفة لها لأنها تجري في أفلاكها {الكنس} من صفتها أيضا لأنها تكنس أي تتوارى في بروجها كما تتوارى الظباء في كناسها وهي خمسة أنجم زحل والمشتري والمريخ والزهرة وعطارد عن علي (عليه السلام) وقيل معناه أنها تخنس بالنهار فتختفي ولا ترى وتكنس في وقت غروبها فهذا خنوسها وكنوسها وقيل هي بقر الوحش عن ابن مسعود وقيل هي الظباء عن ابن جبير {والليل إذا عسعس} أي إذا أدبر بظلامه عن علي (عليه السلام) وابن عباس ومجاهد وقتادة وقيل أقبل بظلامه عن الحسن وقيل أظلم عن الجبائي.
{والصبح إذا تنفس} أي إذا أسفر وأضاء والمعنى امتد ضوءه حتى يصير نهارا {إنه لقول رسول كريم} هذا جواب القسم أي أن القرآن قول رسول كريم على ربه وهو جبرائيل وهو كلام الله تعالى أنزله على لسانه أي سمعه محمد من جبرائيل ولم يقله من قبل نفسه عن الحسن وقتادة وقيل إنما أضافه إلى جبرائيل لأن الله تعالى قال لجبرائيل ائت محمدا (صلى الله عليه وآله وسلّم) وقل له كذا.
ثم وصف جبرائيل (عليه السلام) فقال {ذي قوة} أي فيما كلف وأمر به من العلم والعمل وتبليغ الرسالة وقيل ذي قدرة في نفسه ومن قوته قلعه ديار قوم لوط بقوادم جناحه حتى بلغ بها السماء ثم قلبها {عند ذي العرش مكين} معناه متمكن عند الله صاحب العرش وخالقه رفيع المنزلة عظيم القدر عنده كما يقال فلان مكين عند السلطان والمكانة القرب {مطاع ثم} أي في السماء تطيعه ملائكة السماء قالوا ومن طاعة الملائكة لجبرائيل أنه أمر خازن الجنة ليلة المعراج حتى فتح لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) أبوابها فدخلها ورأى ما فيها وأمر خازن النار ففتح له عنها حتى نظر إليها.
{أمين} أي على وحي الله ورسالاته إلى أنبيائه وفي الحديث أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال لجبرائيل (عليه السلام) ما أحسن ما أثنى عليك ربك {ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين} فما كانت قوتك وما كانت أمانتك فقال أما قوتي فإني بعثت إلى مداين لوط وهي أربع مداين في كل مدينة أربعمائة ألف مقاتل سوى الذراري فحملتهم من الأرض السفلى حتى سمع أهل السماوات أصوات الدجاج ونباح الكلاب ثم هويت بهن فقلبتهن وأما أمانتي فإني لم أومر بشيء فعدوته إلى غيره.
ثم خاطب سبحانه جماعة الكفار فقال {وما صاحبكم} الذي يدعوكم إلى الله وإخلاص طاعته {بمجنون} والمجنون المغطى على عقله حتى لا يدرك الأمور على ما هي عليه للآفة الغامرة له و بغمور الآفة يتميز من النائم لأن النوم ليس ب آفة وهذا أيضا من جواب القسم أقسم الله عز اسمه أن القرآن نزل به جبرائيل وأن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلّم) ليس على ما يرميه به أهل مكة من الجنون {ولقد رآه بالأفق المبين} أي رأي محمدا (صلى الله عليه وآله وسلّم) جبرائيل (عليه السلام) على صورته التي خلقه الله تعالى عليها حيث تطلع الشمس وهو الأفق الأعلى من ناحية المشرق عن قتادة ومجاهد والحسن {وما هو على الغيب بضنين} أي ليس هو على وحي الله تعالى وما يخبر به من الأخبار بمتهم فإن أحواله ناطقة بالصدق والأمانة عن ابن عباس وسعيد بن جبير وإبراهيم والضحاك ومن قرأ بالضاد فالمعنى أنه ليس ببخيل فيما يؤدي عن الله أن يعلمه كما علمه الله {وما هو بقول شيطان رجيم} رجمه الله باللعنة عن الحسن وقيل رجم بالشهب طردا من السماء والمعنى وليس القرآن بقول شيطان رجيم ألقاه إليه كما قال المشركون أن الشيطان يلقي إليه كما يلقي إلى الكهنة.
ثم بكتهم الله سبحانه فقال {فأين تذهبون} أي فأي طريق تسلكون أبين من هذه الطريقة التي قد بينت لكم عن الزجاج وقيل معناه فأين تعدلون عن هذا القرآن وهو الشفاء والهدى {إن هو إلا ذكر للعالمين} معناه ما القرآن إلا عظة وتذكرة للخلق يمكنهم أن يتوصلوا به إلى الحق والذكر هو ضد السهو والذاكر لا يخلو من أن يكون عالما أو جاهلا أو مقلدا أو شاكا ولا يصح شيء من ذلك مع السهو الذي يضاد الذكر {لمن شاء منكم أن يستقيم} على أمر الله وطاعته ذكر سبحانه أنه ذكر لجميع الخلق على العموم ثم خص المستقيم لأن المنفعة راجعة إليهم كما قال إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب.
{وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين} فيه أقوال (أحدها) أن معناه وما تشاءون الاستقامة على الحق إلا أن يشاء الله ذلك من حيث خلقكم لها وكلفكم بها فمشيئته بين يدي مشيئتكم عن الجبائي (وثانيها) أنه خطاب للكفار والمراد لا تشاءون الإسلام إلا أن يشاء الله أن يجبركم عليه ويلجأكم إليه ولكنه لا يفعل لأنه يريد منكم أن تؤمنوا اختيارا لتستحقوا الثواب ولا يريد أن يحملكم عليه عن أبي مسلم (وثالثها) إن المراد وما تشاءون الإسلام إلا أن يشاء الله أن يلطف لكم في الاستقامة لما في الكلام من معنى النعمة .
__________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج10 ، ص280-282.
{فَلا أُقْسِمُ} . أسلفنا ان {لا} هذه عند أكثر المفسرين زائدة ، وعند البعض منهم نافية على أساس ان الأمر واضح لا يحتاج إلى قسم . . ونتيجة القولين واحدة ، قال الشيخ محمد عبده : يؤتى بهذه العبارة إذا أريد تعظيم المقسم به ، وانه لا يعظم بالقسم لأنه عظيم بنفسه {بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ} المراد بالخنس الكنس جميع النجوم ، وقيل : بل النجوم الخمس فقط : عطارد والزهرة والمريخ والمشتري وزحل ، وهي جوار لأنها تدور في أفلاكها ، واختلفوا لما ذا وصفت بالخنس الكنس ؟ . قال الشيخ محمد عبده ما معناه : ان اللَّه سبحانه وصفها بالكنس لأنها تختفي عن الرائي في ضوء الشمس كما تختفي الظبية في كناسها ، ووصفها سبحانه بالخنس لأنها ترجع إلى الظهور للعيان بعد غياب الشمس ، ويتفق هذا في نتيجته مع تفسير الطبرسي في مجمع البيان حيث قال ما نصه بالحرف : {هي النجوم تخنس بالنهار ، وتبدو بالليل} . والفرق بين التفسيرين ان الخنس هنا عند صاحب المجمع هو الاختفاء ، والكنس الظهور ، والعكس عند الشيخ محمد عبده . . وعلى أية حال فإن اللَّه سبحانه أقسم بالنجوم للتنبيه إلى ما في صنعها من الدلائل على قدرة المبدع وحكمته .
{واللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ والصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ} . هذا قسم ثان منه تعالى بإدبار الليل وإقبال النهار لأنه عطف على القسم . وفي كتاب محاولة لفهم عصري للقرآن :
{تقرأ في القرآن ألفاظا فتترك في السمع رنينا وأصداء وصورا حينما يقسم اللَّه بالليل والنهار فيقول : {واللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ والصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ} . . {عسعس} . .
هذه الحروف الأربعة هي الليل مصورا بكل ما فيه . . {والصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ} ان ضوء الفجر هنا مرئي ومسموع . . انك تكاد تسمع سقسقة العصفور وصيحة الديك) .
{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} . هذا جواب القسم ، وضمير انه للقرآن المفهوم من السياق ، والمراد بالرسول جبريل ، وأضاف سبحانه القرآن إلى جبريل لأنه حامله وناقله عن اللَّه إلى رسول اللَّه (صلى الله عليه واله وسلم) ، ولجبريل كرامة ومكانة عند اللَّه ، وهو أمين على التنزيل ، وقوي على أدائه وعلى غيره من الأعمال الموكلة إليه . وتقدم مثله في الآية 6 من سورة النجم {مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} ثم بمعنى هناك ، وهي إشارة إلى المكان الذي يطاع فيه جبريل ، وهومن عالم الغيب الذي لا يعرف حقيقته إلا اللَّه .
{وما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} . الخطاب لعتاة قريش ، وصاحبهم محمد (صلى الله عليه واله وسلم) ، وقد رماه بعضهم بالجنون كما جاء في الآية 6 من سورة الحجر {وقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} ج 4 ص 468 . فبرأه اللَّه مما يفترون .
وتقدم مثله في الآية 2 من سورة القلم {ولَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ} . أتقولون :
محمد مجنون حين يخبركم عن الجنة والنار ؟ . كلا ، ان القرآن وحي من اللَّه ، أوحاه
إلى رسوله بلسان جبريل الذي رآه محمد في الأفق الواضح على صورته وحقيقته رؤية صادقة لا شك فيها . وتقدم مثله في الآية 12 من سورة النجم .
{وما هُو عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} . ضمير هو لرسول اللَّه (صلى الله عليه واله وسلم) والغيب القرآن ، والمعنى ما كان محمد ليكتم القرآن ، ويسكت عن إعلان الحق مخافة ان تقولوا أيها المشركون : هو مجنون ، بل يعلنه على الاشهاد ولا تأخذه في الحق لومة لائم {وما هُو بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ} . هذا رد لزعمهم بأن ما يتكلم به الرسول قد نفثه الشيطان على لسانه . . وهل توحي الشياطين بالهدى والخير ، والحق والعدل ؟
{فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} في أحكامكم وضلالكم ؟ {إِنْ هُو إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ} . ان القرآن آمر بالخير ، زاجر عن الشر ، وفوق هذا كله فيه تبيان كل شيء فكيف يكون قول شيطان رجيم ؟ .
{لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} . القرآن هدى وصلاح لمن يرغب في الهداية والاستقامة ، أما من يصر على الضلال فلا ينتفع بذكر ، ولا تؤثر فيه عظة {وما تَشاؤُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ} . قال الرازي : هذه الآية تدل على ان الإنسان مسيّر غير مخيّر . . ويرده ان معنى الآية هوان اللَّه سبحانه طلب من العبد أن يستقيم على جادة الحق والعدل ، ولكن المعاند يأبى إلا الانحراف ، ولا يستقيم إلا إذا أجبره اللَّه على ذلك . . وهذا يتنافى مع عدل اللَّه وحكمته ، وبتعبير ثان ان اللَّه سبحانه خلق الإنسان مختارا ذا عقل وإرادة ، وميّزه بذلك عن الحيوان ، ومن ثم كلفه بالطاعة من دونه ، ولوشاء سبحانه لسلب الإنسان إرادة العقل ، وجعله كالحيوان أو أحط منه .
___________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7 ، ص526-528.
تنزيه للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من الجنون - وقد اتهموه به - ولما يأتي به - من القرآن - من مداخلة الشيطان، وأنه كلامه تعالى يلقيه إليه ملك الوحي الذي لا يخون في رسالته، وأنه ذكر للعالمين هاد بإذن الله لمن اهتدى منهم.
قوله تعالى: {فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس} الخنس جمع خانس كطلب جمع طالب، والخنوس الانقباض والتأخر والاستتار، والجواري جمع جارية، والجري السير السريع مستعار من جرى الماء، والكنس جمع كانس والكنوس دخول الوحش كالظبي والطير كناسة أي بيته الذي اتخذه لنفسه واستقراره فيه.
وتعقب قوله: {فلا أقسم بالخنس} إلخ بقوله: {والليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس} يؤيد كون المراد بالخنس الجوار الكنس الكواكب كلها أو بعضها لكن صفات حركة بعضها أشد مناسبة وأوضح انطباقا على ما ذكر من الصفات المقسم بها: الخنوس والجري والكنوس وهي السيارات الخمس المتحيرة: زحل والمشتري والمريخ والزهرة وعطارد فإن لها في حركاتها على ما تشاهد استقامة ورجعة وإقامة فهي تسير وتجري حركة متشابهة زمانا وهي الاستقامة وتنقبض وتتأخر وتخنس زمانا وهي الرجعة وتقف عن الحركة استقامة ورجعة زمانا كأنها الوحش تكنس في كناسها وهي الإقامة.
وقيل: المراد بها مطلق الكواكب وخنوسها استتارها في النهار تحت ضوء الشمس وجريها سيرها المشهود في الليل وكنوسها غروبها في مغربها وتواريها.
وقيل: المراد بها بقر الوحش أو الظبي ولا يبعد أن يكون ذكر بقر الوحش أو الظبي من باب المثال والمراد مطلق الوحوش.
وكيف كان فأقرب الأقوال أولها والثاني بعيد والثالث أبعد.
قوله تعالى: {والليل إذا عسعس} عطف على الخنس، و{إذا عسعس} قيد لليل، والعسعسة تطلق على إقبال الليل وعلى إدباره قال الراغب: {والليل إذا عسعس} أي أقبل وأدبر وذلك في مبدآ الليل ومنتهاه فالعسعسة والعساس رقة الظلام وذلك في طرفي الليل.
انتهى والأنسب لاتصال الجملة بقوله: {والصبح إذا تنفس} أن يراد بها إدبار الليل.
وقيل: المراد بها إقبال الليل: وهو بعيد لما عرفت.
قوله تعالى: {والصبح إذا تنفس} عطف على الخنس، و{إذا تنفس} قيد للصبح، وعد الصبح متنفسا بسبب انبساط ضوئه على الأفق ودفعه الظلمة التي غشيته نوع من الاستعارة بتشبيه الصبح وقد طلع بعد غشيان الظلام للآفاق بمن أحاطت به متاعب أعمال شاقة ثم وجد خلاء من الزمان فاستراح فيه وتنفس فعد إضاءته للأفق تنفسا منه كذا يستفاد من بعضهم.
وذكر الزمخشري فيه وجها آخر فقال في الكشاف،: فإن قلت: ما معنى تنفس الصبح؟ قلت: إذا أقبل الصبح أقبل بإقباله روح ونسيم فجعل ذلك نفسا له على المجاز.
انتهى والوجه المتقدم أقرب إلى الذهن.
قوله تعالى: {إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين} جواب القسم، وضمير {إنه} للقرآن أولما تقدم من آيات السورة بما أنها قرآن بدليل قوله: {لقول رسول} إلخ والمراد بالرسول جبريل كما قال تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 97].
وفي إضافة القول إليه بما أنه رسول دلالة على أن القول لله سبحانه، ونسبته إلى جبريل نسبة الرسالة إلى الرسول وقد وصفه الله بصفات ست مدحه بها.
فقوله: {رسول} يدل على رسالته وإلقائه وحي القرآن إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقوله: {كريم} أي ذي كرامة وعزة عند الله بإعزازه، وقوله: {ذي قوة} أي ذي قدرة وشدة بالغة، وقوله: {عند ذي العرش مكين} أي صاحب مكانة عند الله والمكانة القرب والمنزلة، وقوله: {مطاع ثم} أي مطاع عند الله فهناك ملائكة يأمرهم فيطيعونه، ومن هنا يظهر أن له أعوانا من الملائكة يأمرهم فيأتمرون بأمره، وقوله: {أمين} أي لا يخون فيما أمر به يبلغ ما حمله من الوحي والرسالة من غير أي تصرف فيه.
وقيل: المراد بالرسول الجاري عليه الصفات هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهوكما ترى ولا تلائمه الآيات التالية.
قوله تعالى: {وما صاحبكم بمجنون} عطف على قوله: {إنه لقول} إلخ ورد لرميهم له (صلى الله عليه وآله وسلم) بالجنون.
وفي التعبير عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: {صاحبكم} تكذيب لهم في رميهم له بالجنون وتنزيه لساحته - كما قيل - ففيه إيماء إلى أنه صاحبكم لبث بينكم معاشرا لكم طول عمره وأنتم أعرف به قد وجدتموه على كمال من العقل ورزانة من الرأي وصدق من القول ومن هذه صفته لا يرمى بالجنون.
وتوصيف جبريل بما مر من صفات المدح دون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا دلالة فيه على أفضليته من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأن الكلام مسوق لبيان أن القرآن كلام الله سبحانه منزل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من عنده سبحانه من طريق الوحي لا من أوهام الجنون بإلقاء من شيطان والذي يفيد في هذا الغرض بيان سلامة طريق الإنزال وتجليل المنزل - اسم فاعل - بذكر أوصافه الكريمة والمبالغة في تنزيهه عن الخطإ والخيانة، وأما المنزل عليه فلا يتعلق به غرض إلا بمقدار الإشارة إلى دفع ما يرتاب فيه من صفته وقد أفيد بنفي الجنون الذي رموه به والتعبير عنه بقوله: {صاحبكم} كما تقدم توضيحه، كذا قيل.
وفي مطاوي كلامه تعالى من نعوت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الكريمة ما لا يرتاب معه في أفضليته (صلى الله عليه وآله وسلم) على جميع الملائكة، وقد أسجد الله الملائكة كلهم أجمعين للإنسان الذي هو خليفته في الأرض.
قوله تعالى: {ولقد رآه بالأفق المبين} ضمير الفاعل في {رآه} للصاحب وضمير المفعول للرسول الكريم وهو جبريل.
والأفق المبين الناحية الظاهرة، والظاهر أنه الذي أشار إليه بقوله: {وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى} [النجم: 7].
والمعنى وأقسم لقد رآى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) جبريل حال كون جبريل كائنا في الأفق المبين وهو الأفق الأعلى من سائر الآفاق بما يناسب عالم الملائكة.
وقيل: المعنى لقد رآى (صلى الله عليه وآله وسلم) جبريل على صورته الأصلية حيث تطلع الشمس وهو الأفق الأعلى من ناحية المشرق.
وفيه أن لا دليل من اللفظ يدل عليه وخاصة في تعلق الرؤية بصورته الأصلية ورؤيته في أي مثال تمثل به رؤيته، وكأنه مأخوذ مما ورد في بعض الروايات أنه رآه في أول البعثة وهوبين السماء والأرض جالس على كرسي، وهو محمول على التمثل.
قوله تعالى: {وما هو على الغيب بضنين} الضمير للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، والمراد بالغيب الوحي النازل عليه، والضنين صفة مشبهة من الضن بمعنى البخل يعني أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يبخل بشيء مما يوحى إليه فلا يكتمه ولا يحبسه ولا يغيره بتبديل بعضه أوكله شيئا آخر بل يعلم الناس كما علمه الله ويبلغهم ما أمر بتبليغه.
قوله تعالى: {وما هو بقول شيطان رجيم} نفي لاستناد القرآن إلى إلقاء شيطان بما هو أعم من طريق الجنون فإن الشيطان بمعنى الشرير والشيطان الرجيم كما أطلق في كلامه تعالى على إبليس وذريته كذلك أطلق على أشرار سائر الجن قال تعالى: {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} [ص: 77] ، وقال: {وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ } [الحجر: 17].
فالمعنى أن القرآن ليس بتسويل من إبليس وجنوده ولا بإلقاء من أشرار الجن كما يلقونه على المجانين.
قوله تعالى: {فأين تذهبون} أوضح سبحانه في الآيات السبع المتقدمة ما هو الحق في أمر القرآن دافعا عنه ارتيابهم فيه بما يرمون به الجائي به من الجنون وغيره على إيجاز متون الآيات فبين أولا أنه كلام الله واتكاء هذه الحقيقة على آيات التحدي، وثانيا أن نزوله برسالة ملك سماوي جليل القدر عظيم المنزلة وهو أمين الوحي جبريل لا حاجز بينه وبين الله ولا بينه وبين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا صارف من نفسه أو غيره يصرفه عن أخذه ولا حفظه ولا تبليغه، وثالثا أن الذي أنزل عليه وهو يتلوه لكم وهو صاحبكم الذي لا يخفى عليكم حاله ليس بمجنون كما يبهتونه به وقد رآى الملك الحامل للوحي وأخذ عنه وليس بكاتم لما يوحى إليه ولا بمغير، ورابعا أنه ليس بتسويل من إبليس وجنوده ولا بإلقاء من بعض أشرار الجن.
ونتيجة هذا البيان أن القرآن كتاب هدى يهتدي به من أراد الاستقامة على الحق وهو قوله: {إن هو إلا ذكر للعالمين} إلخ.
فقوله: {فأين تذهبون} توطئة وتمهيد لذكر نتيجة البيان السابق، وهو استضلال لهم فيما يرونه في أمر القرآن الكريم أنه من طواري الجنون أومن تسويلات الشيطان الباطلة.
فالاستفهام في الآية توبيخي والمعنى إذا كان الأمر على هذا فأين تذهبون وتتركون الحق وراءكم؟ قوله تعالى: {إن هو إلا ذكر للعالمين} أي تذكرة لجماعات الناس كائنين من كانوا يمكنهم بها أن يتبصروا للحق، وقد تقدم بعض الكلام في نظيرة الآية.
قوله تعالى: {لمن شاء منكم أن يستقيم} بدل من قوله: {للعالمين} مسوق لبيان أن فعلية الانتفاع بهذا الذكر مشروط بأن يشاءوا الاستقامة على الحق وهو التلبس بالثبات على العبودية والطاعة.
قوله تعالى: {وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين} تقدم الكلام في معناه في نظائر الآية.
والآية بحسب ما يفيده السياق في معنى دفع الدخل فإن من الممكن أن يتوهموا من قوله: {لمن شاء منكم أن يستقيم} أن لهم الاستقلال في مشية الاستقامة إن شاءوا استقاموا وإن لم يشاءوا لم يستقيموا، فلله إليهم حاجة في الاستقامة التي يريدها منهم.
فدفع ذلك بأن مشيتهم متوقفة على مشية الله سبحانه فلا يشاءون الاستقامة إلا أن يشاء الله أن يشاءوها، فأفعال الإنسان الإرادية مرادة لله تعالى من طريق إرادته وهو أن يريد الله أن يفعل الإنسان فعلا كذا وكذا عن إرادته.
_____________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج20 ، ص192-196.
نزل به رسول كريم:
بعد أنْ تناولت الآيات السابقة مواضيع: المعاد، مقدمات يوم القيامة، وحوادث يوم القيامة... تأتي الآيات أعلاه لتطرق عن: أحقّية القرآن وصدق نبوّة محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)، والآيات في حقيقتها تأكيدٌ على ما جاء في الآيات السابقة لموضوع «المعاد»، إضافة لذكرها صور بيانية منبهة على هذه الحقيقة.
وتشرع الآيات بـ : {فلا أُقسم بالخنس(2)، الجوار الكنس}.
«الخنّس»: جمع (خانس)، من (خنس) وهو الإنقباض والإختفاء، ويقال للشيطان: «الخنّاس»، لأّنه إذا ذُكر اللّه تعالى، وكما ورد في الحديث الشريف: «الشيطان يوسوس إلى العبد فإذا ذكر اللّه خَنَس».(3)
«الجوار»: جمع (جارية)، وهي الشي الذي تتحرك بسرعة.
«الكنّس»: جمع (كانس)، من (كنس)، على وزن (شمس)، وهو الإختفاء، و«كناس» الطير والوحش: بيت يتخذه.
ولكنْ... ما هي الأشياء المقصودة بهذا القسم؟
يعتقد كثير من المفسّرين، إنّها الكواكب(4) الخمسة السيارة التي في منظومتنا الشمسية، والتي يمكن رؤيتها بالعين المجرّدة (عطارد، الزهرة، المريخ، المشتري وزحل).
ونقول توضيحاً: لو تأملنا السماء عدّة ليال، لرأينا أنّ نجوم السماء أو القبة السماوية تظهر وتغيب بشكل جماعي من دون أنْ تتغير الفواصل والمسافات فيما بينها، وكأنّها لئاليء خيطت على قطعة قماش داكن اللون، وهذه القطعة تتحرك من المشرق إلى المغرب، إلاّ خمسة كواكب قد خرجت عن هذه القاعدة، فنراها تتحرك وليس بينها وبين بقية النجوم فواصل ثابتة، وكأنّها لئاليء قد وضعت على تلك القطعة وضعاً، من دون أنْ تخيّط بها!
وهذه الكواكب الخمس هي المقصود في هذا التفسير، وما نلاحظه من حركتها إنّما تكون لقربها منّا لا نتمكن من تمييز حركات بقية النجوم لعظم المسافة فيما بيننا وبينها.
ومن جهة أُخرى: ينبغي التنويه إلى أنّ علماء الفلك يطلقون على هذه الكواكب اسم (الكواكب المتحيرة)، لأنّها لا تتحرك على خط مستقيم ثابت، فتراها تسير باتجاه معين من الزمن ثمّ تعود قليلا ومن ثمّ تتابع مسيرها الأوّل وهكذا... ولهؤلاء العلماء من البحوث العلمية في تحليل هذه الظاهرة.
وعليه... يمكن حمل إشارة الآيات إلى الكواكب السيّارة «الجوار»، التي في سيرها لها رجوع «الخنس»، ثمّ تختفي عند طلوع الفجر وشروق الشمس... فهي تشبه غزالا يتصيد طعامه في الليل وما أنْ يحّل النهار حتى يختفي عن أنظار الصيادين والحيوانات المفترسة فيذهب إلى «كناسه»، ولذا وصفت الكواكب بـ «الكنّس»،.
وثمّة احتمال آخر: «الكنّس»: اختفاء الكواكب في ضوء الشمس.
أي إنّها حينما تدور حول الشمس، تصل في بعض الوقت إلى نقطة مجاورة للشمس فيختفي نورها تماماً عن الأبصار، وهوما يعبّر عنه علماء الفلك بـ (الأحتراق).
و«الكنّس»: في نظر بعض آخر: إشارة إلى دخول الكواكب في البروج السماوية، وذلك الدخول يشبه اختفاء الغزلان في أماكن أمنها.
وكما هو معروف، إنّ كواكب مجموعتنا الشمسية لا تنحصر بهذه الكواكب الخمس، بل ثمة ثلاثة كواكب أُخرى(أُورانوس، بلوتون، نبتون) ولكنّها لا ترى بالعين المجرّدة لبعدها عنّا، وللكثير من هذه السيّارات قمراً أو أقماراً،، فعدد كواكب هذه المجموعة بالإضافة إلى الأرض هو تسعة كواكب.
و«الجوري»: توصيف جميل لحركة الكواكب، حيث شبّه بحركة السفن على سطح البحر.
وعلى أيّة حال، فكأنّ القرآن الكريم يريد بهذا القسم المليء بالمعاني الممتزجة بنوع من الإبهام، كأنّه يريد إثارة الفكر الإنساني، وتوجيهه صوب الكواكب السيّارة ذات الوضع الخاص على القبة السماوية، ليتأمل أمرها وقدرة وعظمة خالقها سبحانه وتعالى.
وثمّة احتمالات أُخرى في هذا الموضوع أهملناها لضعفها.
وروي عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنّه قال في تفسير الآيات المذكورة :«هي خمسة أنجم: زحل، والمشتري، والمريخ، والزهرة، وعطارد»(5).
ويعرض لنا القرآن لوحة أُخرى: {والليل إذا عسعس}.
«عسعس»: من (العسعسة)، وهي رقة الظلام في طرفي الليل {أوله وآخره} ومنه اطلاق لفظ «عسس» على حرّاس الليل، وبالرغم من اطلاق هذه المفردة على معنيين متفاوتين، ولكن المراد منها في هذه الآية هو آخر الليل فقط بقرينة الآية التالية لها، وهوما يشابه القسم الوارد في الآية (33) من سورة المدثر: {وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ} [المدثر: 33].
والليل، من النعم الإلهية الكبيرة، لأنّه: سكن للروح والجسم، معدّل لحرارة الشمس، وسبب لإدامة حياة الموجودات... أمّا التأكيد على نهايته فيمكن أنّ يكون بلحاظ كونه مقدمة استقبال نور الصباح، إضافة لما لهذا الوقت بالذات من فضل كبير في حال العبادة والمناجات والدعاء، ويمثل هذا الوقت أيضاً نقطة الشروع بالحركة والعمل في عالم الحياة.
ويأتي القسم الثّالث والأخير من الآيات: {والصبح إذا تنفّس}.
فما أروع الوصف وأجمله! فالصبح كموجود حي قد بدأ أوّل أنفاسه مع طلوع الفجر، ليدّب الروح من جديد في كلّ الموجودات، بعد أنْ تقطعت أنفاسه عند حلول ظلام الليل!
ويأتي هذا الوصف في سياق ما ورد في سورة المدّثّر، فبعد القسم بإدبار الليل، قال: {والصبح إذا أسفر}، فكأنّ الليل ستارة سوداء قد غطت وجه الصبح، فما أنْ أدبر الليل حتى رفعت تلك الستارة فبان وجه الصبح مشرقاً، وأسفر للحياة من جديد.
وتجسّد الآية التالية جواب القسم للآيات السابقة: {إنّه لقول رسول كريم}.
فالجواب موجّه لمن اتّهم النبّي(صلى الله عليه وآله وسلم)باختلاق القرآن ونسبته إلى الباري جلّ شأنه.
وقد تناولت وما بعدها خمسة أوصاف لأمين وحي اللّه جبرائيل(عليه السلام)، وهي الأوصاف التي ينبغي توفرها في كلّ رسول جامع لشرائط الرسالة...
فالصفة الأولى: إنّه «كريم»: إشارة إلى علو مرتبته وجلالة شأنه.
ومن صفاته أيضاً: {ذي قوّة عند ذي العرش مكين}(6).
«ذي العرش»: ذات اللّه المقدّسة. مع أنّ اللّه مالك كلّ عالم الوجود، فقد وصف «بذي العرش» لما للعرش من أهمية بالغة على على غيره (سواء كان العرش بمعنى عالم ما وراء الطبيعة، أو بمعنى مقام العلم المكنون).
أمّا وصفه بـ «ذي قوّة» (أي: صاحب قدرة)، لما للقدرة العظيمة والقوّة الفائقة من دور مهم وفعّال في عملية حمل وإبلاغ الرسالة، وعموماً... ينبغي لكل رسول أن يكون صاحب قدرة معينة تتناسب وحدود رسالته، وعلى الأخلاص في مجال عدم نسيان ما يُرسل به.
«مكين»: صاحب منزلة ومكانة، وبدون ذلك لا يتمكن الرسول من أداء رسالته على أتمّ وجه، فلا من كونه شخصاً جليلا، لائقاً، ومقرباً للمرسل.
وممّا لا شك فيه إنّ التعبير بـ «عند» لا يراد منه الحضور المكاني، لأنّ الباري جل شأنه لا يحده مكان، والمراد هو الحضور المقامي والقرب المعنوي.
وتتناول الآية التالية الصفة الرابعة والخامسة: {مطاع ثمّ أمين}.
«ثَمَّ»: إشارة إلى البعيد، ويراد بها: إنّ أمين الوحي الإلهي نافذ الكلمة في عالم الملائكة، ومطاع عندهم، وإنّه في ذروة الأمانة في عملية إبلاغ الرسالة.
وما نستشفّه من الرّوايات: إنّ جبرائيل(عليه السلام) ينزل أحياناً وبصحبته جمع كبير من الملائكة في حال ابلاغه للآيات القرآنية المباركة، وهوما يوحي بأنّه مطاع بينهم، وهوما ينبغي أنْ يكون في كل أمّة تتبع رسولا، فلابدّ من طاعتها له.
وروي... أن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم)قال لجبرائيل(عليه السلام) عند نزول هذه الآيات: «ما أحسن ما أثنى عليك ربّك!: ذي قوّة عند العرش مكين، مطاع ثّم أمين، فما كانت قوتك؟ وما كانت أمانتك؟
فقال: أمّا قوّتي فإنّي بعثت إلى مداين لوط وهي أربع مداين في كلّ مدينة أربعمائة ألف مقاتل سوى الذراري، فحملتهم من الأرض السفلى حتى سمع أهل السماوات أصواب الدجاج ونباح الكلاب، ثم هويت بهّن فقلبتهّن. وأمّا أمانتي، فإنّي لم أؤمر بشيء فعدوته إلى غيره» (7).
وينفي القرآن ما نُسب إلى النبّي(صلى الله عليه وآله وسلم): {وما صاحبكم بمجنون}.
«الصاحب»: هو الملازم والرفيق والجليس، والوصف هذا مضافاً الى أنّه يحكي عن تواضع النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) مع جميع الناس... فلم يرغب يوماً في الاستعلاء على أحد منكم، فإنّه قد عاش بينكم حقبة طويلة، وجالسكم، فلمستم عن قرب رجاحة عقله وحسن درايته وأمانته، فكيف تنسبون له الجنون؟!
وكلُّ ما في الأمر إنّه قد جاءكم بعد بعثته بتعاليم تخالف تعصبكم الأعمى وتحارب أهواءكم الجاهلية، فما راق لكم الإنضباط والترابط، وحبذتم الإنفلات والتراخي، فوليتم الأدبار عن تعاليمه الربانية ونسبتم إليه الجنون، فراراً من هدي دعوته المباركة!
ونسبة الجنون إلى النبّي(صلى الله عليه وآله وسلم) ليس بالشيء الجديد في مسير دعوة السماء
فقد واجه جميع أنبياء اللّه(عليهم السلام) هذا الإفتراء الفارغ من قبل جهلة وكفرة عصورهم، وقد حدثنا القرآن الكريم بتلك الوقائع: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [الذاريات: 52].
فالعاقل في منطق الجاهلية، من يخضع للعادات والتقاليد المعاشة وإنْ كانت فاسدة منحطة، ومَنْ يطلق لجماح أهواءه وشهواته العنان، ومَنْ لا يفكر بأيَّ إصلاح أو تغيير لأنّه خروج على السائد المتعارف عليه!
وبناء على هذا المقياس الأعمى... فكلُّ الأنبياء في نظر عبدة الدنيا مجانين...
ويؤكّد القرآن على الأرتباط الوثيق ما بين النبىّ(صلى الله عليه وآله وسلم) وجبرائيل(عليه السلام): (ولقد رآه في الأفق المبين)، وهو «الأفق الأعلى» الذي تظهر فيه الملائكة، حيث شاهد رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) جبرائيل(عليه السلام).
وقد استدلّ بعض المفسّرين بالآية (7) من سورة النجم على التفسير أعلاه، والتي تقول: {وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى} [النجم: 7].
ولكننا نرى أنّ الآية مع بقية آيات السورة تتحدث عن حقيقة أخرى، فراجع إلى ما ذكرناه في تفسيرنا هذا.
وقال بعض: إنّ النبىّ(صلى الله عليه وآله وسلم)قد رأى جبرائيل(عليه السلام) في صورته الحقيقية مرّتين، الأولى عند بداية البعثة النبوية المباركة، حيث ظهر له في الأفق الأعلى وقد غطى الشرق والغرب حتى بُهر النبيّ بعظمة هيئته، والثّانية رآه عند معراجه إلى السماوات العُلى واعتبروا الآية المبحوثة إشارة لتلك الرؤيتين.
وثمّة من يذهب في تفسير الآية من كونها تشير إلى مشاهدة اللّه عزَّوجلّ بالشهود الباطني، (ولمزيد من الإيضاح، راجع ذيل الآيات (5 ـ 13) من سورة النجم).
وتأتي الصفة الخامسة: {وما هو على الغيب بضنين}.
فهو ليس ممن يقبرون في صدورهم ممّا يوحى إليه، ولا يبخل ولا يتوانى عن الإبلاغ ويوصله إلى كلّ الناس كاملا وبأمانة.
«ضنين»: من (ضنّة) على وزن (مِنَّة)، أيْ: البخل بالأشياء الثمينة والنفيسة، فالأنبياء(عليهم السلام) منزّهون عن ذلك، وإذا ما بخل الآخرون بما صار في حوزتهم من علم محدود، فالنبّي فوق ذلك وأنزه مع ماله من منبع علم إلهي.
وتقول آخر الآيات المبحوثة: {وما هو بقول شيطان رجيم}.
فالآيات القرآنية ليست كحديث الكهنة الذي يأخذوه من الشياطين، ودليلها معها، حيث أنّ حديث الكهنة محشو بالأكاذيب والتناقضات، ويدور حول محور ميولهم ورغباتهم، في حين لا يشاهد ذلك في الآيات القرآنية إطلاقاً.
والآية تجيب على إحدى افتراءات المشركين، حين اتهموا النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)بأنّه كاهن وكلّ ما جاء به قد أخذه من الشياطين! فحديث الشيطان! لا يتعدى أنْ يكون باطلا وضلالا في حين أنّ الآيات الرّبانية كلّها نور وهداية، وهذا ما يشعر به كلُّ مَنْ يواجه القرآن ومنذ وهلته الأولى.
«رجيم»: من (الرجم)، و(رجام) على وزن (لجام) بمعنى أخذ الحجارة، وتطلق على رمي الحجار على الأشخاص أو الحيوانات، ويستعار الرجم للرمي بـ :الظّن، التوهم، الشتم والطرد، و«الشيطان الرجيم» بمعنى المطرود من رحمة اللّه.
وقوله تعالى : {فَأَيْنَ تُذْهَبُونَ(26) إِنْ هُو إِلاَّ ذِكْرٌ لِلعَلَمِينَ(27) لِمَن شَآءَ مِنْكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ(28) وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَآءَ اللّهُ رَبُّ العَلَمِينَ}
إلى اين... أيُّها الغافلون؟!
أكّدت الآيات السابقة ببيان جلي حقيقة كون القرآن كلام اللّه... فمحتواه ينطق عن كونه كلاماً رحمانياً وليس شيطانياً، وقد نزل به رسول كريم مقتدر وأمين، وقام بتبليغه النّبي الصادق الأمين(صلى الله عليه وآله وسلم) الذي لم يبخل في البلاغ في شيء، وما تهاون عن تعليم الناس فيما اُرسل به.
فيما توبخ الآيات أعلاه اُولئك الذين عادوا القرآن وانحرفوا عن خطّ سير الرسالة الربّانية الهادية، فتقول لهم بصيغة الإستفهام التوبيخي: {فأين تذهبون}.
لم تركتم طريق الهداية؟! أومِن العقل أنْ تصدّوا عن النور وتتجهوا صوب الظلام؟! ألاَ ترحمون أنفسكم؟! وكيف تعملون على هدم أركان سعادتكم وسلامتكم؟!...
وتأتي الآية الثّانية لتقول: {إنْ هو إلاّ ذكر للعالمين}
فالآية تتحدث بلسان الوعظ والتذكير، عسى أنْ يستيقظ مَن تملكه نوم غفلته.
لا يمكن للهداية والتربية أنْ تؤدّي فعلها بوجود المرشد الناجح فقط، بل لابدّ من توفر عنصر الإستعداد وتقبل الهداية من قبل الطرف الآخر، ولذلك... فبعد الوعظ والتذكير جاءت الآية التالية لتبيّن هذه الحقيقة: (لمن شاء منكم أنْ يستقيم}.
فالآية الاُولى: {إنْ هو إلاّ ذكر للعالمين} قد ذكرت عمومية الفيض الإلهي في القرآن الكريم، فيما خصصت الآية التالية: {لمن شاء منكم أن يستقيم} عملية الإستفادة من هذا الفيض الجزيل وحددته بشرط الإستقامة.
وهذه القاعدة جارية في جميع النعم والمواهب الإلهية في العالم، فإنّها عامّة التمكين، خاصّة الإستفادة، فمن لا يملك الإرادة والتصميم على ضوء الهدي القرآني لا يستحق فيض رحمة اللّه ونعمه.
والآية الثّانية من سورة البقرة: {ذلك الكتاب لا ريب فيه هدىً للمتقين} تدخل في سياق هذا المعنى.
وعلى أيّة حال، فالآية تؤكّد مرّة اُخرى على حرية الإنسان في اختياره الطريق الذي يرضاه، سواء كان طريق حقّ، أمْ طريق باطل.
ويفهم من «يستقيم»، أنّ طريق السعادة الحقّة، طريق مستقيم، وما دونه لا يكون كذلك، ولولا الإفراط والتفريط والوساوس الشيطانية وأغشية الضلال.. لسار الإنسان على هذه السبل المنجيَة، باستجابته لنداء الفطرة واتباعه الخط المستقيم، والخط المستقيم هو أقصر الطرق الموصلة للهدف المنشود.
ولكي لا يتصور بأنّ مشيئة وإرادة الإنسان مطلقة في سيره على طريق المستقيم، ولكي يربط الإنسان مشيئته بمشيئة وتوفيق اللّه عزّوجلّ، وجاءت الآية التالية ولتقول: {وما تشاؤون إلاّ أن يشاء اللّه ربّ العالمين}
والآيتان السابقتان تبيّنان فلسفة «أمر بين الأمرين» التي أشار إليها الإمام الصادق(عليه السلام)، فمن جهة، إنّ الإرادة والقرار بيدكم، ومن جهة اُخرى، يلزم تلك الإرادة وذلك القرارة ما يشاء اللّه ربّ العالمين... وإنّ خلقتم أحراراً مختارين، فالحرية والإختيار منه جلّ اسمه، ولولا إرادته ذلك لما كان.
فالإنسان ليس بمجبور على أعماله مطلقاً، ولا هو بمختار بكلّ معنى الإختيار، ولكنْ... كما روي عن الإمام الصادق(عليه السلام): «لا جبر ولا تفويض الأمر بين الامرين»، فكلّ ما للإنسان من: عقل، فهم قدرة بدنية، وقدرة على اتخاذ القرار، كلّ ذلك من اللّه عزّوجلّ، فهومن جهة في حالة الحاجة الدائمة للإتصال به جلّ شأنه، ولوشاء اللّه لتوقف كلّ شيء وانتهى، وهومن جهة اُخرى مسؤول عن أعماله لما له من حرية واختيار على تنفيذها.
ويفهم من «ربّ العالمين»، إنّ المشيئة الإلهية تقضي بهداية وتكامل الإنسان وكلّ الموجودات، فاللّه لا يريد أنْ يضل أو يذنب أحد من الخلق، بل يريد أن يسعد كلّ الخلق في جوار رحمته ورضوانه، وبمقتضى ربوبيته فهو الموفّق والمعين لكلّ من يريد أن يسلك طريق التكامل.
والخطأ القاتل الذي وقع فيه المتجبرة، إنّهم تمسّكوا بالآية الثّانية دون الاُولى وربّما كان المفوضة قد تمسّكوا بالآية الاُولى مفصولة عن الآية الثانية لها.. والفصل فيما بين آيات القرآن كثيراً ما يوقع في هاوية الضلال والخروج بنتائج خاطئة باطلة، وينبغي التعامل مع الآيات القرآنية على كونها كلٌّ مترابط، لا آيات فرادى.
وقيل: إنّه لمّا نزل قوله تعالى: {لمن يشاء منكم أنْ يستقيم}، قال أبو جهل: جعل الأمر إلينا إنْ شئنا استقمنا وإنْ شئنا لم نستقم، فأنزل اللّه تعالى: {وما تشاؤون إلاّ أنْ يشاء اللّه ربّ العالمين}(8).
_________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج15 ، ص126-135.
2 ـ تعرض المفسّرون في بحوث عديدة لكلمة «لا»، هل هي: نافية، زائدة، للتأكيد... وقد تناولنا ذلك مفصلا في أول سورة القيامة (في نفس هذا الجزء)، فراجع.
3 ـ لسان العرب: مادة (خنس).
4 ـ الفرق بين النجوم والكواكب، إنّ الأولى شموس كشمسنا، والثانية عبارة عن أجسام باردة كالأرض، تنعكس عليها أشعة الشمس فتضيء، ويمكن تمييزها على صفحة السماء بثبوت نورها، في حين تكون النجوم متلألئة بالنور.
5 ـ مجمع البيان: ج10، ص446.
6 ـ «مكين»: (المكانة)، وهي المقام والمنزلة، وما يستفاد من مفردات الراغب وغيره من المفسّرين، إنّه اسم مكان من (الكون) ولكثرته في الكلام فقد استعمل على صيغة الفعل فقيل: (تمكن) و(تمسكن).
7 ـ مجمع البيان، ج10، ص 446، وورد هذا المضمون في تفسير (الدر المنثور) في ذيل الآية المبحوثة.
8 ـ روح المعاني، ج30، ص62; وفي روح البيان، ج10، ص354.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
المجمع العلمي يصدرُ مجموعةَ أبحاثٍ علميَّةٍ محكَّمةٍ في مجلَّة الذِّكرِ
|
|
|