قال تعالى : { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة 1- 8].
{لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب} يعني اليهود والنصارى {والمشركين} أي ومن المشركين الذين هم عبدة الأوثان من العرب وغيرهم وهم الذين ليس لهم كتاب {منفكين} أي منفصلين وزائلين وقيل لم يكونوا منتهين عن كفرهم بالله وعبادتهم غير الله عن ابن عباس في رواية عطاء والكلبي {حتى تأتيهم} اللفظ لفظ الاستقبال ومعناه المضي كقوله ما تتلو الشياطين أي ما تلت وقوله {البينة} يريد محمدا (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن ابن عباس ومقاتل بين سبحانه لهم ضلالهم وشركهم وهذا إخبار من الله تعالى عن الكفار أنهم لم ينتهوا عن كفرهم وشركهم بالله حتى أتاهم محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) فبين لهم ضلالهم عن الحق ودعاهم إلى الإيمان وقيل معناه لم يكونوا ليتركوا منفكين من حجج الله حتى تأتيهم البينة التي تقوم بها الحجة عليهم.
وقوله {رسول من الله} بيان للبينة وتفسير لها أي رسول من قبل الله {يتلو} عليهم {صحفا مطهرة} يعني مطهرة في السماء لا يمسها إلا الملائكة المطهرون ومن الأنجاس عن الحسن والجبائي وهو محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) أتاهم بالقرآن ودعاهم إلى التوحيد والإيمان {فيها} أي في تلك الصحف {كتب قيمة} أي مستقيمة عادلة غير ذات عوج تبين الحق من الباطل وقيل مطهرة عن الباطل والكذب والزور يريد القرآن عن قتادة ويعني بالصحف ما تتضمنه الصحف من المكتوب فيها ويدل على ذلك أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) كان يتلو عن ظهر قلبه لا عن كتاب وقيل معناه رسول من الملائكة يتلو صحفا من اللوح المحفوظ عن أبي مسلم وقيل {فيها كتب قيمة} معناه في هذه الصحف التي هي القرآن كتب قيمة أي إن القرآن يشتمل على معاني الكتب المتقدمة فتاليها تالي الكتب القيمة كما قال مصدقا لما بين يديه فإذا كان مصدقا لها كان تاليا لها وقيل معناه في القرآن كتب قيمة بمعنى أنه يشتمل على أنواع من العلوم كل نوع كتاب قال السدي : فيها فرائض الله العادلة.
{وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة} يعني وما اختلف هؤلاء في أمر محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) إلا من بعد ما جاءتهم البشارة به في كتبهم وعلى السنة رسلهم فكانت الحجة قائمة عليهم فكذلك لا يترك المشركون من غير حجة تقوم عليهم وقيل معناه ولم يزل أهل الكتاب مجتمعين في تصديق محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) حتى بعثه الله فلما بعث تفرقوا في أمره واختلفوا ف آمن به بعضهم وكفر آخرون.
ثم ذكر سبحانه ما أمروا به في كتبهم فقال {وما أمروا إلا ليعبدوا الله} أي لم يأمرهم الله تعالى إلا لأن يعبدوا الله وحده لا يشركون بعبادته فهذا ما لا تختلف فيه ملة ولا يقع فيه تبدل {مخلصين له الدين} لا يخلطون بعبادته عبادة ما سواه {حنفاء} مائلين عن جميع الأديان إلى دين الإسلام مسلمين مؤمنين بالرسل كلهم قال عطية : إذا اجتمع الحنيف والمسلم كان معنى الحنيف الحاج وإذا انفرد كان معناه المسلم وهو قول ابن عباس لأنه قال حنفاء أي حجاجا وقال ابن جبير : لا تسمي العرب حنيفا إلا من حج واختتن قال قتادة : الحنيفية الختان وتحريم البنات والأمهات والأخوات والعمات والخالات وإقامة المناسك.
{ويقيموا الصلوة ويؤتوا الزكوة} أي ويداوموا على إقامة الصلاة ويخرجوا ما فرض عليهم في أموالهم من الزكاة {وذلك} يعني الدين الذي قدم ذكره {دين القيمة} أي دين الكتب القيمة التي تقدم ذكرها وقيل دين الملة القيمة والشريعة القيمة قال النضر بن شميل سألت الخليل عن هذا فقال القيمة جمع القيم والقيم والقائم واحد فالمراد وذلك دين القائمين لله بالتوحيد وفي هذه الآية دلالة على بطلان مذهب أهل الجبر لأن فيها تصريحا بأنه سبحانه إنما خلق الخلق ليعبدوه واستدل بهذه الآية أيضا على وجوب النية في الطهارة إذ أمر سبحانه بالعبادة على وجه الإخلاص ولا يمكن الإخلاص إلا بالنية والقربة والطهارة عبادة فلا تجزي بغير نية.
ثم ذكر سبحانه حال الفريقين فقال {إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين} يعني من جحد توحيد الله وأنكر نبوة نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) ومن أشرك معه إلها آخر في العبادة {في نار جهنم خالدين فيها} لا يفنى عقابهم {أولئك هم شر البرية} أي شر الخليقة ثم أخبر عن حال المؤمنين فقال {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية} أي خير الخليقة {جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار} مر معناه {خالدين فيها أبدا} أي مؤبدين فيها دائما {رضي الله عنهم} بما قدموه من الطاعات {ورضوا عنه} بما جازاهم من الثواب وقيل رضي الله عنهم إذ وحدوه ونزهوه عما لا يليق به وأطاعوه ورضوا عنه إذ فعل بهم ما رجوا من رحمته وفضله {ذلك} الرضاء والثواب {لمن خشي ربه} فترك معاصيه وفعل طاعاته.
وفي كتاب شواهد التنزيل للحاكم أبي القاسم الحسكاني {ره} قال أخبرنا أبوعبد الله الحافظ بالإسناد المرفوع إلى يزيد بن شراحيل الأنصاري كاتب علي (عليه السلام) قال سمعت عليا (عليه السلام) يقول قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) وأنا مسنده إلى صدري فقال يا علي أ لم تسمع قول الله تعالى {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية} هم شيعتك وموعدي وموعدكم الحوض إذا اجتمعت الأمم للحساب يدعون غرا محجلين وفيه عن مقاتل بن سليمان عن الضحاك عن ابن عباس في قوله {هم خير البرية} قال نزلت في علي (عليه السلام) وأهل بيته .
_____________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج10 ، ص413-415.
{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ والْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} .
المراد بأهل الكتاب اليهود والنصارى ، وبالمشركين عبدة الأوثان من العرب ، ومنفكين أي مفارقين . . وكان أهل الكتاب قد قرأوا في كتبهم ان اللَّه سيبعث نبيا يهدي إلى الحق ، وأيضا سمع المشركون بهذا النبي ، فكان بين الفريقين شبه اجماع على بعثة النبي الموعود ، وكثيرا ما كان يقع الخصام والعناد بين أهل الكتاب والمشركين ، ويدعي كل فريق انه المحق والآخر هو المبطل ، ثم يتفقون على ان يرجئوا حكم الفصل بينهم إلى مجيء النبي الموعود ، وانهم متى جاء آمنوا به وأذعنوا لحكمه ، وهو المقصود بالبينة التي بينها سبحانه بقوله : {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} . المراد برسول اللَّه هنا محمد (صلى الله عليه واله وسلم) وبالصحف القرآن ، والجمع باعتبار تعدد سوره أو أوراقه لأن كل ورقة مكتوبة يقال لها صحيفة ، ومطهرة أي منزهة عن الباطل والتحريف ، وضمير فيها يعود إلى الصحف ، والمراد بالكتب ان القرآن فيه تبيان الكثير مما أنزله اللَّه في الكتب السماوية السابقة كصحف إبراهيم والتوراة والإنجيل والزبور بل فيه تبيان ما نزل على جميع الأنبياء من الهدى وأصول الدين ، والمراد بالقيمة المستقيمة على نهج الحق ، والمعنى ان محمدا (صلى الله عليه واله وسلم) لما جاء بالقرآن الذي فيه تبيان كل شيء أعرض عنه المشركون وأهل الكتاب ، ونكثوا العهد الذي كانوا قد أبرموه على أن يتحاكموا لدى النبي الموعود .
{وما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} . هذه البينة جاءت أهل الكتاب على ألسنة أنبيائهم ، فالمراد بها غير المراد بالبينة في الآية السابقة ، والمعنى ان أهل الكتاب تمادوا في الغي والضلال بإعراضهم عن دعوة محمد (صلى الله عليه واله وسلم) الذي جاءهم بالبينات تماما كما تمادوا في السفاهة والضلالة بعد أنبيائهم الذين جاؤوهم بالأدلة والحجج ، وذلك ان اليهود انقسموا إلى فرق بعد موسى ، وكذلك النصارى تفرقوا شيعا بعد عيسى ، وما كان هذا الاختلاف والانقسام عن جهل بالدين ، وإنما فرقتهم الأهواء والمنافع . وتقدم مثله في الآية 105 من سورة آل عمران ج 2 ص 127 والآية 17 من سورة الجاثية .
{وما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهً مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ ويُقِيمُوا الصَّلاةَ ويُؤْتُوا الزَّكاةَ وذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} . حنفاء جمع حنيف ، وهومن استقام على الحق مائلا عن كل باطل ، والمعنى ان أهل الكتاب تفرقوا في دينهم مع ان دين اللَّه واحد وواضح ، وهو الإخلاص للَّه وحده ، والاستقامة على الحق والهدى ، وإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وهذا دين الكتب السماوية المستقيمة على الصراط القويم ، فمن أين جاء تعدد الأديان والطوائف والمذاهب ؟ . قال الشيخ محمد عبده : {هذا ما نعاه اللَّه من حال أهل الكتاب ، فما نقول نحن في حالنا ؟ ألا ينعى كتابنا الشاهد علينا بسوء أعمالنا في افتراقنا في الدين بعد أن صرنا فيه شيعا ، وملأناه بدعا ومحدثات} . أنظر ج 1 ص 180 فقرة {أيضا المسلمون يكفر بعضهم بعضا} .
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ والْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} . المراد بالكافرين هنا كل من جحد الحق الذي قام عليه الدليل ، سواء أجحده عنادا وبعد ان علم به ، أم لأنه يأبى البحث عن الحق والنظر إليه والى دليله ، وقد اتفق علماء المسلمين على ان حكم الجاهل المقصر في البحث عن الحق تماما كحكم العالم به التارك له عن قصد وعمد ، وليس من شك ان من أعرض عن الحق بلا مبرر هو شر أهل الأرض تماما كمن جعل للَّه شريكا ، ولا جزاء لهذا وذاك إلا الخزي والعذاب .
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ} . آمنوا بالحق وعملوا بموجب ايمانهم {أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} . كل من بحث عن الحق وعمل به لوجه الحق ولا تأخذه فيه لومة لائم - فلا أحد أفضل منه إلا من اختاره اللَّه لرسالته ، واصطفاه أمينا على وحيه {جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ورَضُوا عَنْهُ} . رضي عنهم لأنهم عملوا بمرضاته فأثابهم بملك دائم ، ونعيم قائم ، ورضوا عنه بما أفاضه عليهم من فضله ونعمه . وتقدم مثله في الآية 119 من سورة المائدة ج 3 ص 153 والآية 100 من سورة التوبة ج 4 ص 95 والآية 22 من سورة المجادلة .
{ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} . لقد أعد سبحانه الجزاء الحسن لمن خشي الرحمن بالغيب وقال صوابا . قال الشيخ محمد عبده : (أراد سبحانه بهذه الكلمة الرفيعة ان يدفع سوء الفهم الذي وقع فيه العامة والخاصة وهوان مجرد الاعتقاد الموروث من الأبوين ومعرفة ظواهر بعض الأحكام وأداء بعض العبادات ، مجرد هذا يكفي في نيل ما أعده اللَّه للمؤمنين ، وان امتلأت قلوبهم بالحقد والحسد والكبرياء والرياء ، وأفواههم بالكذب والنميمة والافتراء ، وسرائرهم بالرق والعبودية للأمراء بل لمن دون الأمراء . . كلا ، لا ينالون حسن الجزاء لأن خشية اللَّه لم تحل قلوبهم ، ولم تهذب شيئا من نفوسهم ، ولا يكون ذلك إلا لمن خشي ربه ، وأشعر خوفه قلبه) .
__________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7 ، ص594-596.
تسجل السورة رسالة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لعامة أهل الكتاب والمشركين وبعبارة أخرى للمليين وغيرهم وهم عامة البشر فتفيد عموم الرسالة وأنها مما كانت تقتضيه السنة الإلهية - سنة الهداية - التي تشير إليها أمثال قوله تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان: 3] ، وقوله: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24] ، وتحتج على عموم دعوته (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنها لا تتضمن إلا ما يصلح المجتمع الإنساني من الاعتقاد والعمل على ما سيتضح إن شاء الله.
والسورة تحتمل المكية والمدنية وإن كان سياقها بالمدنية أشبه.
قوله تعالى: {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة} ظاهر الآيات - وهي في سياق يشير إلى قيام الحجة على الذين كفروا بالدعوة الإسلامية من أهل الكتاب والمشركين وعلى الذين أوتوا الكتاب حينما بدا فيهم الاختلاف - أن المراد هو الإشارة إلى أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من مصاديق الحجة البينة القائمة على الناس التي تقتضي قيامها السنة الإلهية الجارية في عباده فقد كانت توجب مجيء البينة إليهم كما أوجبته من قبل ما تفرقوا في دينهم.
وعلى هذا فالمراد بالذين كفروا في الآية هم الكافرون بالدعوة النبوية الإسلامية من أهل الكتاب والمشركين، و{من} في قوله: {من أهل الكتاب} للتبعيض لا للتبيين، وقوله: و{المشركين} عطف على {أهل الكتاب} والمراد بهم غير أهل الكتاب من عبدة الأصنام وغيرهم.
وقوله: {منفكين} من الانفكاك وهو الانفصال عن شدة اتصال، والمراد به - على ما يستفاد من قوله: {حتى تأتيهم البينة} - انفكاكهم عما تقتضي سنة الهداية والبيان كان السنة الإلهية كانت قد أخذتهم ولم تكن تتركهم حتى تأتيهم البينة ولما أتتهم البينة تركتهم وشأنهم كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ } [التوبة: 115].
وقوله: {حتى تأتيهم البينة} على ظاهره من الاستقبال والبينة هي الحجة الظاهرة والمعنى لم يكن الذين كفروا برسالة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو بدعوته أو بالقرآن لينفكوا حتى تأتيهم البينة والبينة هي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
وللقوم اختلاف عجيب في تفسير الآية ومعاني مفرداتها حتى قال بعضهم - على ما نقل -: إن الآية من أصعب الآيات القرآنية نظما وتفسيرا.
انتهى، والذي أوردناه من المعنى هو الذي يلائمه سياقها من غير تناقض بين الآيات وتدافع بين الجمل والمفردات، ومن أراد الاطلاع على تفصيل ما قيل ويقال فعليه أن يراجع المطولات.
قوله تعالى: {رسول من الله يتلوا صحفا مطهرة فيها كتب قيمة} بيان للبينة والمراد به محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قطعا على ما يعطيه السياق.
والصحف جمع صحيفة وهي ما يكتب فيها، والمراد بها أجزاء القرآن النازلة وقد تكرر في كلامه تعالى إطلاق الصحف على أجزاء الكتب السماوية ومنها القرآن الكريم قال تعالى: { فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس: 13 - 16].
والمراد بكون الصحف مطهرة تقدسها من قذارة الباطل بمس الشياطين، وقد تكرر منه تعالى أنه حق مصون من مداخلة الشياطين وقال: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79].
وقوله: {فيها كتب قيمة} الكتب جمع كتاب ومعناه المكتوب ويطلق على اللوح والقرطاس ونحوهما المنقوشة فيها الألفاظ وعلى نفس الألفاظ التي تحكي عنها النقوش، وربما يطلق على المعاني بما أنها محكية بالألفاظ، ويطلق أيضا على الحكم والقضاء يقال كتب عليه كذا أي قضى أن يفعل كذا قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ } [البقرة: 183] وقال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} [البقرة: 216].
والظاهر أن المراد بالكتب التي في الصحف الأحكام والقضايا الإلهية المتعلقة بالاعتقاد والعمل، ومن الدليل عليه توصيفها بالقيامة فإنها من القيام بالشيء بمعنى حفظه ومراعاة مصلحته وضمان سعادته قال تعالى: { أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ } [يوسف: 40] ، ومعلوم أن الصحف السماوية إنما تقوم بأمر المجتمع الإنساني وتحفظ مصلحته بما فيها من الأحكام والقضايا المتعلقة بالاعتقاد والعمل.
فمعنى الآيتين: الحجة البينة التي أتتهم رسول من الله يقرأ صحائف سماوية مطهرة من دنس الباطل في تلك الصحائف أحكام وقضايا قائمة بأمر المجتمع الإنساني حافظة لمصالحه.
قوله تعالى: {وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة} كانت الآية الأولى {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب} إلخ تشير إلى كفرهم بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وكتابه المتضمن للدعوة الحقة وهذه الآية تشير إلى اختلافهم السابق على الدعوة الإسلامية وقد أشير إلى ذلك في مواضع من القرآن الكريم كما قال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [آل عمران: 19] إلى غير ذلك من الآيات.
ومجيء البينة لهم هو البيان النبوي الذي تبين لهم في كتابهم أو أوضحه لهم أنبياؤهم قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ } [الزخرف: 63 - 65].
فإن قلت: ما باله تعرض لاختلاف أهل الكتاب وتفرقهم في مذاهبهم ولم يتعرض لتفرق المشركين وإعراضهم عن دين التوحيد وإنكارهم الرسالة.
قلت: لا يبعد أن يكون قوله: {وما تفرق الذين أوتوا الكتاب} إلخ شاملا للمشركين كما هو شامل لأهل الكتاب فقد بدل أهل الكتاب - وهم في عرف القرآن اليهود والنصارى والصابئون والمجوس أو اليهود والنصارى - من الذين أوتوا الكتاب، والتعبيران متغايران، وقد صرح تعالى بأنه أنزل الكتاب – وهو الشريعة المفروضة عليهم الحاكمة في اختلافاتهم في أمور الحياة - أول ما بدا الاختلافات الحيوية بينهم ثم اختلفوا في الدين بعد تبين الحق لهم وقيام الحجة عليهم فعامة البشر آتاهم الله كتابا ثم اختلفوا فيه فمنهم من نسي ما أوتيه، ومنهم من أخذ به محرفا ومنهم من حفظه وآمن به، قال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ } [البقرة: 213] وقد مر تفسير الآية.
وفي هذا المعنى قوله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ } [البقرة: 253].
وبالجملة فالذين أوتوا الكتاب أعم من أهل الكتاب فقوله: {وما تفرق الذين أوتوا الكتاب} إلخ يشمل المشركين كما يشمل أهل الكتاب.
قوله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء} إلخ ضمير {أمروا} للذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين أي لم يتضمن رسالة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والكتب القيمة التي في صحف الوحي إلا أمرهم بعبادة الله تعالى بقيد الإخلاص في الدين فلا يشركوا به شيئا.
وقوله: {حنفاء} حال من ضمير الجمع وهو جمع حنيف من الحنف وهو الميل عن جانبي الإفراط والتفريط إلى حاق وسط الاعتدال وقد سمى الله تعالى الإسلام دينا حنيفا لأنه يأمر في جميع الأمور بلزوم الاعتدال والتحرز عن الإفراط وتفريط.
وقوله: {ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة} من قبيل ذكر الخاص بعد العام أو الجزء بعد الكل اهتماما بأمره فالصلاة والزكاة على أركان الإسلام وهما التوجه العبودي الخاص إلى الله وإنفاق المال في الله.
وقوله: {وذلك دين القيمة} أي دين الكتب القيمة على ما فسروا، والمراد بالكتب القيمة إن كان جميع الكتب السماوية أعني كتاب نوح ومن دونه من الأنبياء (عليهم السلام) فالمعنى أن هذا الذي أمروا به ودعوا إليه في الدعوة المحمدية هو الدين الذي كلفوا به في كتبهم القيمة وليس بأمر بدع فدين الله واحد وعليهم أن يدينوا به لأنه القيم.
وإن كان المراد به ما كان يتلوه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من الكتب القيمة التي في الصحف المطهرة فالمعنى أنهم لم يؤمروا في الدعوة الإسلامية إلا بأحكام وقضايا هي القيمة الحافظة لمصالح المجتمع الإنساني فلا يسعهم إلا أن يؤمنوا بها ويتدينوا.
فالآية على أي حال تشير إلى كون دين التوحيد الذي يتضمنه القرآن الكريم المصدق لما بين يديه من الكتاب والمهيمن عليه فيما يأمر المجتمع البشري قائما بأمرهم حافظا لمصالح حياتهم كما يبينه بأوفى البيان قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ } [الروم: 30].
وبهذه الآية يكمل بيان عموم رسالة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وشمول الدعوة الإسلامية لعامة البشر فقوله: {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين} إلخ يشير إلى أنه كان من الواجب في سنة الهداية الإلهية أن تتم الحجة على من كفر بالدعوة من أهل الكتاب والمشركين، وهؤلاء وإن كانوا بعض أهل الكتاب والمشركين لكن من الضروري أن لا فرق بين البعض والبعض في تعلق الدعوة فتعلقها بالبعض لا ينفك عن تعلقها بالكل.
وقوله: {رسول من الله} إلخ يشير إلى أن تلك البينة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقوله {وما تفرق} إلخ يشير إلى أن تفرقهم وكفرهم السابق بالحق أيضا كان بعد مجيء البينة.
وقوله: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله} إلخ يفيد أن الذي دعوا إليه وأمروا به دين قيم حافظ لمصالح المجتمع البشري فعليهم جميعا أن يؤمنوا به ولا يكفروا.
قوله تعالى: {إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية} لما فرغ من الإشارة إلى كفرهم بالبينة التي كانت توجبها سنة الهداية الإلهية وما كانت تدعو إليه من الدين القيم أخذ في الإنذار والتبشير بوعيد الكفار ووعد المؤمنين، والبرية الخلق، والمعنى ظاهر.
قوله تعالى: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية} فيه قصر الخيرية في المؤمنين الصالحين كما أن في الآية السابقة قصر الشرية في الكفار.
قوله تعالى: {جزاؤهم عند ربهم - إلى قوله - ذلك لمن خشي ربه} العدن الاستقرار والثبات فجنات عدن جنات خلود ودوام وتوصيفها بقوله: {خالدين فيها أبدا} تأكيد بما يدل عليه الاسم.
وقوله: {رضي الله عنهم} الرضى منه تعالى صفة فعل ومصداقه الثواب الذي أعطاهموه جزاء لإيمانهم وعملهم الصالح.
وقوله: {ذلك لمن خشي ربه} علامة مضروبة لسعادة الدار الآخرة وقد قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] فالعلم بالله يستتبع الخشية منه، والخشية منه تستتبع الإيمان به بمعنى الالتزام القلبي بربوبيته وألوهيته ثم العمل الصالح.
واعلم أن لهم في تفسير مفردات هذه الآيات اختلافا شديدا وأقوالا كثيرة لا جدوى في التعرض لها من أراد الوقوف عليها فليراجع المطولات.
__________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج20 ، ص308-312.
ذلك دين القيّمة:
في بداية السّورة ذكر لأهل الكتاب (اليهود والنصارى) ومشركي العرب قبل ظهور الإسلام، فهؤلاء كانوا يدّعون أنّهم غير منفكين عن دينهم إلاّ بدليل واضح قاطع.
{لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البيّنة}.
و «البيّنة» التي أرادوها: رسول من اللّه يتلو عليهم كتاباً مطهّراً من ربّ العالمين:
{رسول من اللّه يتلو صحفاً مطهّرة}.
وهذه الصحف فيها من الكتابة ما هو صحيح وثابت وذو قيمة.
{فيها كتب قيّمة}.
كان هذا ادعاؤهم قبل ظهور الإسلام، وحينما ظهر ونزلت آياته تغيّر هؤلاء، واختلفوا وتفرقوا. وما تفرقوا إلاّ بعد أن جاءهم الدليل الواضح والنبيّ الصادح بالحق.
{وما تفرق الذين اُوتوا الكتاب إلاّ من بعد ما جاءتهم البيّنة}.
ممّا تقدم، الآيات الاُولى لهذه السّورة المباركة تتحدث عن أهل الكتاب والمشركين الذين كانوا يدعون أنّهم سوف يقبلون الدعوة إنّ جاءهم نبيّ بالدلائل الساطعة.
لكنّهم أعرضوا حين ظهر، وجابهوه، إلاّ فريق منهم آمن واهتدى.
وهذا المعنى يشبه ما جاء في قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة: 89].
نعلم أنّ أهل الكتاب كانوا ينتظرون مثل هذا الظهور، ولابدّ أن يكون مشركو العرب مشاركين لأهل الكتاب في هذا الإنتظار لما كانوا يرون فيهم من علم ومعرفة، ولكن حين تحققت آمالهم غيّروا مسيرهم والتحقوا باعداء الدعوة.
جمع من المفسّرين لهم رأي آخر في تفسير الآية، يقولون: مقصود الآية هو أنّ أهل الكتاب والمشركين لم يكونوا منفكّين عن دينهم حقيقةً ـ لا إدعاءً ـ حتى تأتيهم البيّنة.
وهذا يعني أنّ هؤلاء آمنوا بعدما جاءتهم البيّنة، لكن الآيات التالية تدل على غير ذلك، اللّهم إلاّ إذا قيل أنّ المقصود إيمان مجموعة منهم وإن كانت قليلة وتكون المسألة من قبيل ما يسمى في المنطق «موجبة جزئية».
ولكن على أي حال نستبعد هذا التّفسير، ويبدو أنّ الفخر الرازي لهذا السبب وصف الآية الاُولى من هذه السّورة بأنّها أعقد آية في القرآن لتعارضها مع الآيات التالية، ولحل هذا التعارض ذكر طرقاً متعددة أفضلها هو الذي ذكرناه أعلاه.
ثمّة تفسير ثالث للآية هو أنّ اللّه لا يترك أهل الكتاب والمشركين لحالهم حتى يتمّ الحجّة عليهم ويرسل إليهم البيّنة ويبيّن لهم الطريق. ولذلك أرسل إليهم نبيّ الإسلام لهدايتهم.
بناء على هذا التّفسير، هذه الآية تشير إلى قاعدة اللطف التي يتناولها علم الكلام وتقرر أن اللّه يبعث إلى كلّ قوم دلائل واضحة ليتمّ الحجّة عليهم(2).
على أي حال، «البيّنة» في الآية هي الدليل الواضح، ومصداقها حسب الآية الثّانية شخص «رسول اللّه» وهو يتلو عليهم القرآن.
«صحف» جمع «صحيفة»، وتعني ما يكتب عليه من الورق، والمقصود بها هنا محتوى هذه الأوراق، إذ نعلم أنّ الرّسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن يتلو شيئاً عليهم من الأوراق.
و «مطهرّة» أي طاهرة من كلّ ألوان الشرك والكذب والباطل. ومن تلاعب شياطين الجن والإنس. كما جاء أيضاً في قوله تعالى: { لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ } [فصلت: 42] جملة (فيها كتب قيمة) إشارة إلى أنّ ما في هذه الصحف السماوية خال من الإنحراف والإعوجاج. من هنا فإنّ هذه «الكتب» تعني المكتوبات، أو تعني الأحكام والتشريعات المنصوصة من اللّه، لأنّ الكتابة جاءت بمعنى تعيين الحكم أيضاً، كقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183].
وبهذا يكون معنى «قيمة» السويّة والمستقيمة، أو الثابتة والمستحكمة، أو ذات قيمة، أوكل هذه المعاني مجتمعة.
ويحتمل أيضاً أن يكون المعنى هو أن القرآن فيه الكتب السماوية القيّمة السابقة لأنّه يضم جميع محتوياتها وزيادة.
ويلفت النظر تقدم ذكر أهل الكتاب على المشركين في الآية الاُولى، والإقتصار على ذكر أهل الكتاب في الآية الرابعة دون ذكر المشركين، بينما الآية تريد الإثنين.
وهذا يعود ظاهراً إلى أنّ أهل الكتاب كانوا هم الروّاد في هذه المواقف، وكان المشركون تابعين لهم. أو لأنّ أهل الكتاب كانوا أهلاً لذم أكثر لما عندهم من علماء كثيرين، وبذلك كانوا ذا مستوى أرفع من المشركين. معارضتهم ـ إذن ـ أفظع وأبشع وتستحق مزيداً من التقريع.
ثمّ يتوالى التقريع لأهل الكتاب، ومن بعدهم للمشركين، لأنّهم اختلفوا في الدين الجديد، منهم مؤمن ومنهم كافر، بينما: {وما اُمروا إلاّ ليعبدوا اللّه مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة}(3).
ثمّ تضيف الآية القول:
{وذلك دين القيمة}.
قيل في معنى «وما اُمروا...» أن المقصود هو: إنّ التوحيد والصلاة والزكاة من المسائل الثابتة في دين أهل الكتاب، لكنّهم لم يبقوا أوفياء لهذه التعاليم.
وقيل: المقصود هو إنّ دين الإسلام ليس فيه سوى التوحيد الخالص والصلاة والزكاة وأمثالها من التعاليم. وهذه اُمور معروفة فلماذا يعرضون عنها؟.
يبدو أنّ المعنى الثّاني أقرب. لأنّ الآية السابقة تتحدث عن الإختلاف في قبول الدين الجديد، والمناسب هنا أن يكون المراد في «اُمروا...» هو الدين الجديد أيضاً.
أضف إلى ذلك أنّ المعنى الأوّل يصدق على أهل الكتاب وحدهم، بينما المعنى الثّاني يشمل المشركين أيضاً.
المقصود بـ «الدين» في عبارة (مخلصين له الدين حنفاء) قد يكون «العبادة»، وعبارة «إلاّ ليعبدوا اللّه» في الآية تؤكّد هذا المعنى.
ويحتمل أيضاً أن يكون المقصود مجموع الدين والشريعة، أي أنّهم اُمروا أن يعبدوا اللّه وأن يخلصوا له الدين والتشريع في جميع المجالات. وهذا المعنى يتناسب أكثر مع المفهوم الواسع للدين. وجملة (وذلك دين القيمة) تؤيد هذا المعنى لأنّها طرحت الدين بمفهومه الواسع.
«حنفاء» جمع «حنيف»، من الفعل الثّلاثي حَنَفَ، أي عدل عن الضلال إلى الطريق المستقيم، كما يقول الراغب في المفردات. والعرب تسمي كلّ من حج أو خُتِنَ «خَنيفا» إشارة إلى أنّه على دين إبراهيم.
و«الأحنف» من كانت رجله عوجاء. ويبدو أنّ الكلمة كانت في الأصل تستعمل للإنحراف والإعوجاج، والنصوص الإسلاميّة استعملتها بمعنى الإنحراف عن الشرك إلى التوحيد والهداية.
ومن الممكن أن تكون المجتمعات الوثنية قد اطلقت على من يترك الأوثان ويتجه إلى التوحيد اسم «حنيف»، أي منحرف. ثمّ أصبحت الكلمة بالتدريج اسماً لسالكي طريق التوحيد ومن مستلزمات الكلمة الإخلاص في التوحيد والإعتدال التام واجتناب أي إفراط أو تفريط; غير أنّ هذه معان ثانوية للكلمة.
جملة {وذلك دين القيمة}(4) إشارة إلى أنّ الاُصول المذكورة في الآية وهي: التوحيد الخالص، والصلاة (الارتباط باللّه) والزكاة (الارتباط بالنّاس) من الاُصول الثابتة الخالدة في جميع الأديان، بل إنّها قائمة في أعماق فطرة الإنسان. ذلك لأنّ مصير الإنسان يرتبط بالتوحيد، وفطرته تدعوه إلى معرفة المنعم وشكره، ثمّ إنّ الروح الإجتماعية المدنية للإنسان تدعوه إلى مساعدة المحرومين.
من هنا، هذه التعاليم لها جذور في أعماق الفطرة، وهي لذلك كانت في تعاليم كلّ الأنبياء السابقين وتعاليم خاتم النبيين(صلى الله عليه وآله وسلم).
وقوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَبِ وَالْمُشرِكِينَ فِى نَارِ جَهَنَّمَ خَلِدِينَ فِيهَآ أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ(6) إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الْصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ(7) جَزَآؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّتُ عَدْن تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَرُ خَلِدِينَ فِيهَآ أَبَدَاً رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُم وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِىَ رَبَّهُ}
خير البريّة وشرّها:
الآيات السابقة تحدثت عن انتظار أهل الكتاب والمشركين لبيّنة تأتيهم من اللّه، لكنّهم تفرقوا من بعدما جاءتهم البيّنة.
هذه الآيات تذكر مجموعتين من النّاس مختلفتين في موقفهما من الدعوة «كافرة» و«مؤمنة» تذكر الكافرين أوّلاً بالقول: {إنّ الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنّم خالدين فيها اُولئك هم شرّ البريّة}.
وإنّما قال «كفروا» لكفرهم بالدين المبين، وإلاّ فإنّ كفرهم ليس بجديد.
وعبارة {اُولئك هم شرّ البريّة} عبارة قارعة مثيرة، تعني أنّه لا يوجد بين الأحياء وغير الأحياء موجود أضل واسوأ من الذين تركوا الطريق المستقيم بعد وضوح الحق وإتمام الحجّة، وساروا في طريق الضلال، مثل هذا المعنى ورد أيضاً في قوله تعالى: { إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} [الأنفال: 22].
وفي قوله سبحانه يصف أهل النّار: { أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ } [الأعراف: 179].
وهذه الآية التي نحن بصددها تذهب في وصف هؤلاء المعاندين إلى أبعد ممّا تذهب إليه غيرها، لأنّها تصفهم بأنّهم شرّ المخلوقات، وهذا بمثابة بيان الدليل على خلودهم في نار جهنم.
ولم لا يكونون شرّ المخلوقات وقد فتحت أمامهم جميع أبواب السعادة فاعرضوا عنها كبراً وغروراً وعناداً.
تقديم ذكر «أهل الكتاب» على «المشركين» في هذه الآية أيضاً، قد يعود إلى ما عندهم من كتاب سماوي وعلماء ومن صفات صريحة لنبيّ الإسلام(صلى الله عليه وآله وسلم)في كتبهم، لذلك كانت معارضتهم أفظع وأسوأ.
الآية التالية تذكر المجموعة الثّانية، وهم المؤمنون وتقول: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات اُولئك هم خير البريّة}.
والآية التالية تذكر جزاء هؤلاء المؤمنين، وما لهم عند اللّه من مثوبة:
{جزاؤهم عند ربّهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً، رضي اللّه عنهم ورضوا عنه، ذلك لمن خشي ربّه}.
يلاحظ أنّ الحديث عن المؤمنين مقرون بذكر الأعمال الصالحة، باعتبارها ثمرة دوحة الإيمان. وفي ذلك إشارة إلى أن ادعاء الإيمان وحده لا يكفي، بل لابدّ أن تشهد عليه الأعمال الصالحة. لكن الكفر وحده ـ وإن لم يقترن بالأعمال السيئة ـ مبعث السقوط والشقاء. أضف إلى أن الكفر عادة منطلق لانواع الذنوب والجرائم والإنحرافات.
عبارة {اُولئك هم خير البريّة} تبيّن بجلاء أن الإنسان المؤمن ذا الأعمال الصالحة أفضل من الملائكة، فعبارة الآية مطلقة وليس فيها استثناء والآيات الاُخرى تشهد على ذلك أيضاً، مثل آية سجود الملائكة لآدم، ومثل قوله سبحانه: { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70].
هذه الآية تحدثت عن الجزاء المادي الذي ينتظر المؤمنين، وعن الجزاء المعنوي الروحي لهم، وهو رضا اللّه عنهم ورضاهم عنه.
إنّهم راضون عن اللّه لأنّ اللّه أعطاهم ما أرادوه، واللّه راض عنهم لأنّهم أدّوا ما أراده منهم، وإنّ كانت هناك زلة فقد غفرها بلطفه وكرمه. وأية لذة أعظم من أن يشعر الإنسان أنّه نال رضا المحبوب ووصاله ولقاءه.
نعم، نعيم جسد الإنسان جنات الخلد، ونعيم روحه رضا اللّه ولقاؤه.
جملة {ذلك لمن خشي ربّه} تدل على أن كل هذه البركات تنطلق من «خشية اللّه». لأنّ هذه الخشية دافع للحركة صوب كلّ طاعة وتقوى وعمل صالح.
بعض المفسّرين قرن هذه الآية، بالآية (28) من سورة فاطر حيث يقول سبحانه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] وخرج بنتيجة هي أنّ الجنّة للعلماء طبعاً لابدّ أن نأخذ بنظر الإعتبار وجود مراتب ومراحل للخشية وهكذا مراتب للعلم.
قيل أيضاً أن «الخشية» أسمى من «الخوف»، لأنّها خوف مقرون بالتعظيم والإحترام.
___________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج15، ص447-454.
2 ـ يجب ملاحظة أن «منفكين» جمع (منفك) يمكن أن تكون اسم فاعل أواسم مفعول، فعلى
التّفسيرين الأوّل والثّاني تعطي معنى اسم الفاعل، وعلى التّفسير الثّالث معنى اسم المفعول،
فلاحظ.
3 ـ جملة «وما اُمروا» قد تكون حالية أو استثنافية. واللام في «ليعبدوا» لام الغرض، والمقصود هنا الغرض الذي يعود على العباد، لا الغرض الذي يعود على اللّه كما تصور بعض المفسّرين وأدى بهم هذا التصور إلى إنكار «لام الغرض» في مثل هذه المواضع. كل أفعال اللّه معللة بالأغراض، لكنّها أغراض تعود على العباد. بعضهم اعتبر اللام هنا بمعنى «أن» كما في قوله تعالى: (يريد اللّه ليبيّن لكم) النساء، الآية 26.
4 ـ دين القيمة، مضاف مضاف إليه، وليس صفة وموصوف ومفهومها أنّه دين ورد في الكتب السابقة مستقيم وذو قيمة أو أنّه دين فيه احكام وتعليمات ذات قيمة، فعلى هذا جاءت الكلمة بصيغة المؤنث لأنّها صفة للكتب أو الملة والشريعة.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
العتبة الحسينية تطلق فعاليات المخيم القرآني الثالث في جامعة البصرة
|
|
|