أقرأ أيضاً
التاريخ: 9-11-2017
3306
التاريخ: 9-11-2017
7288
التاريخ: 9-11-2017
5868
|
قال تعالى : {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15) وَأَلَّو اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا}[الجن: 8 - 17].
حكى الله عز وجل عن الجن قولهم {وأنا لمسنا السماء} أي مسسناها وقيل معناه طلبنا الصعود إلى السماء فعبر عن ذلك باللمس مجازا عن الجبائي وقيل التمسنا قرب السماء لاستراق السمع عن أبي مسلم {فوجدناها ملئت حرسا شديدا} أي حفظة من الملائكة شدادا {وشهبا} والتقدير ملئت السماء من الحرس والشهب وهو جمع شهاب وهو نور يمتد من السماء كالنار {وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع} أي لاستراق السمع أي كان يتهيأ لنا فيما قبل القعود في مواضع الاستماع فنسمع منها صوت الملائكة وكلامهم {فمن يستمع} منا {الآن} ذلك {يجد له شهابا رصدا} يرمى به ويرصد له وشهبا مفعول به ورصدا صفته قال معمر قلت للزهري أ كان يرمى بالنجوم في الجاهلية قال نعم قلت أ فرأيت قوله {إنا كنا نقعد منها} الآية قال غلظ وشدد أمرها حين بعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال البلخي إن الشهب كانت لا محالة فيما مضى من الزمان غير أنه لم يكن يمنع بها الجن عن صعود السماء فلما بعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) منع بها الجن من الصعود.
{وأنا لا ندري أ شر أريد بمن في الأرض} أي بحدوث الرجم بالشهب وحراسة السماء جوزوا هجوم انقطاع التكليف أو تغيير الأمر بتصديق نبي من الأنبياء وذلك قوله {أم أراد بهم ربهم رشدا} أي صلاحا وقيل معناه إن هذا المنع لا يدري العذاب سينزل بأهل الأرض أم لنبي يبعث ويهدي إلى الرشد فإن مثل هذا لا يكون إلا لأحد هذين الأمرين وسمي العذاب شرا لأنه مضرة وسمي بعثة الرسول رشدا لأنه منفعة .
ثم قال سبحانه في تمام الحكاية عن الجن الذين آمنوا عند سماع القرآن {وأنا منا الصالحون} وهم الذين عملوا الصالحات المخلصون {ومنا دون ذلك} أي دون الصالحين في الرتبة عن ابن عباس وقتادة ومجاهد {كنا طرائق قددا} أي فرقا شتى على مذاهب مختلفة وأهواء متفرقة من مسلم وكافر وصالح ودون الصالح عن ابن عباس ومجاهد وقيل قددا ألوانا شتى مختلفين عن سعيد بن جبير والحسن وقيل فرقا متباينة كل فرقة تباين صاحبتها كما يبين المقدود بعضه من بعض قال السدي الجن أمثالكم فيهم قدرية ومرجئة ورافضة وشيعة.
{وأنا ظننا} أي علمنا وتيقنا {أن لن نعجز الله في الأرض} أي لن نفوته إذا أراد بنا أمرا {ولن نعجزه هربا} أي أنه يدركنا حيث كنا {وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به} اعترفوا بأنهم لما سمعوا القرآن الذي فيه الهدى صدقوا به ثم قالوا {فمن يؤمن بربه} أي يصدق بتوحيد ربه وعرفه على صفاته {فلا يخاف} تقديره فإنه لا يخاف {بخسا} أي نقصانا فيما يستحقه من الثواب {ولا رهقا} أي لحاق ظلم وغشيان مكروه وكأنه قال لا يخاف نقصا قليلا ولا كثيرا وذلك أن أجره وثوابه موفر على أتم ما يمكن فيه وقيل معناه فلا يخاف نقصا من حسناته ولا زيادة في سيئاته عن ابن عباس والحسن وقتادة وابن زيد قالوا لأن البخس النقصان والرهق العدوان وهذه حكاية عن قوة إيمان الجن وصحة إسلامهم.
ثم قالوا {وأنا منا المسلمون} الذين استسلموا لما أمرهم الله سبحانه به وانقادوا لذلك {ومنا القاسطون} أي الجائرون عن طريق الحق {فمن أسلم} لما أمره الله به {فأولئك تحروا رشدا} أي توجهوا الرشد والتمسوا الثواب والهدى وتعمدوا إصابة الحق وليسوا كالمشركين الذين ألفوا ما يدعوهم إليه الهوى وزاغوا عن طريق الهدى {وأما القاسطون} العادلون عن طريق الحق والدين {فكانوا} في علم الله وحكمه {لجهنم حطبا} يلقون فيها فتحرقهم كما تحرق النار الحطب أو يكون معناه فسيكونون لجهنم حطبا توقد بهم كما توقد النار بالحطب.
{وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا} هذا ابتداء حكم من الله سبحانه أي لو استقام الإنس والجن على طريقة الإيمان عن ابن عباس والسدي وقيل أراده مشركي مكة أي لو آمنوا واستقاموا على الهدى لأسقيناهم ماء كثيرا من السماء وذلك بعد ما رفع ماء المطر عنهم سبع سنين عن مقاتل وقيل لو آمنوا واستقاموا لوسعنا عليهم في الدنيا وضرب الماء الغدق مثلا لأن الخير كله والرزق يكون في المطر وهذا كقوله {ولو أنهم أقاموا التوراة} إلى قوله {لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم} وقوله {لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض} وقيل معناه لو استقاموا على طريقة الكفر فكانوا كفارا كلهم لأعطيناهم مالا كثيرا ولوسعنا عليهم تغليظا للمحنة في التكليف ولذلك قال {لنفتنهم فيه} أي لنختبرهم بذلك عن الفراء وهو قول الربيع والكلبي والثمالي وأبي مسلم وابن مجلز ودليله {فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم} الآية.
وقيل لنفتنهم معناه لنعاملهم معاملة المختبر في شدة التعبد بتكليف الانصراف عما تدعو شهواتهم إليه وفي ذلك المحنة الشديدة وهي الفتنة والمثوبة على قدر المشقة في الصبر عما تدعو إليه الشهوات وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال في هذه الآية أينما كان الماء كان المال وأينما كان المال كانت الفتنة وقيل معناه لتختبرهم كيف يكون شكرهم للنعم عن سعيد بن المسيب وقتادة ومقاتل والحسن والأولى أن تكون الاستقامة على الطريقة محمولة على الاستقامة في الدين والإيمان لأنها لا تطلق إلا على ذلك ولأنها في موضع التلطف والاستدعاء إلى الإيمان والحث على الطاعة وفي تفسير أهل البيت (عليهم السلام) عن أبي بصير قال قلت لأبي جعفر (عليه السلام) قول الله {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا} قال هو والله ما أنتم عليه ولو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا وعن بريد العجلي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال معناه لأفدناهم علما كثيرا يتعلمونه من الأئمة.
اي ذا ثم قال سبحانه على وجه التهديد والوعيد {ومن يعرض عن ذكر ربه} أي ومن يعدل عن الفكر فيما يؤديه إلى معرفة الله وتوحيده والإخلاص في عبادته وقيل عن شكر الله وطاعته {يسلكه عذابا صعدا} أي يدخله عذابا شاقا شديدا متصعدا في العظم وإنما قال يسلكه لأنه تقدم ذكر الطريقة وقيل معناه عذابا ذا صعد أي ذا مشقة .
_______________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج10 ، ص147-151.
1 - {وأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وشُهُباً} . عند تفسير الآية السابقة ، وهي {وأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ} عند تفسير هذه الآية قلنا : ان الكهان والمشعوذين كانوا يزعمون ان الجن ينقلون إليهم أخبار السماء . . والآية التي نفسرها ترد على هذا الزعم وتبطله بلسان الجن أنفسهم واعترافهم صراحة بأنهم لا يعلمون الغيب ، وانهم لا يستطيعون الوصول إلى السماء لاستراق السمع لأنها محصنة بالحفظة والشهب المحرقة . . وسواء أكان هذا حقيقة أم كناية عن جهل الجن بالغيب فإن الغرض الأول من ذلك هو التنبيه إلى ان الكهان والمشعوذين يفترون الكذب على اللَّه وعلى الجن لأن علم الغيب للَّه وحده :
{وما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} - 179 آل عمران : {وعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ} - 59 الأنعام . وتقدم مثله في الآية 18 من سورة الحجر ج 4 ص 470 والآية 7 من سورة الصافات ج 6 ص 330 والآية 5 من سورة الملك .
2 - {وأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً} .
تدل هذه الآية بظاهرها ان الجن صعدوا إلى مكان ما في السماء قبل الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله وسلم) وانهم كانوا يسمعون صوتا أو كلاما ، ثم منعوا من ذلك في عهد محمد (صلى الله عليه واله وسلم) . وليس معنى هذا ان الجن كانوا قبل محمد (صلى الله عليه واله وسلم) يطلعون على أخبار الغيب من السماء . . كلا ، وانما المراد انهم سمعوا شيئا في السماء ، وليس من الضروري أن يكون هذا الشيء غيبا ، بل من المستحيل أن يكون من نوع الغيب لأن الغيب للَّه وحده بنص القرآن الذي لا يقبل التأويل . . وبكلام آخر : ان صعود الجن أو غيرهم إلى السماء لا يستدعي علمهم بالغيب ، فالسماء هي موطن الملائكة المقربين ، ومع هذا {قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا} - 32 البقرة وهل في الأرض والسماء أعظم وأكرم على اللَّه من محمد ، ومع هذا أعلن على الأجيال : {ولَو كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وما مَسَّنِيَ السُّوءُ} - 188 الأعراف . وإذا كان أشرف خلق اللَّه لا يعلم الغيب حتى فيما يعود إلى نفسه فكيف يعرف الجن ما يحدث في مستقبل الناس من خير أوشر ؟ .
3 - {وأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} .
هذا من قول الجن ، ومعناه كيف يظن الحمقى ان عندنا علم الغيب وما يحدث لهم في المستقبل من خير أوشر ، وانّا نوحي بذلك إلى الكهان ، كيف يظن بنا هذا الظن ، ونحن لا نعلم ما ذا قدر اللَّه لأحد من أهل الأرض ولا لأنفسنا أيضا .
4 - {وأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ ومِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً} . يحكي الجن عن أنفسهم ان منهم الصالح والطالح ، وانهم متفرقون إلى طوائف ومذاهب تماما كالإنس .
5 - {وأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهً فِي الأَرْضِ ولَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً} . بعد ان سمع الجن القرآن آمنوا باللَّه وأيقنوا بأنه ، جلت عظمته ، لا يعجزه من طلب ، ولا يفوته من هرب .
6 - {وأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً ولا رَهَقاً} .
المراد بالهدى القرآن ، وبالبخس النقص ، وبالرهق الظلم ، والمعنى ان الجن سمعوا
القرآن فآمنوا به جملة وتفصيلا ، وهم على يقين من عدل اللَّه ، وان من يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما .
7 - {وأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ ومِنَّا الْقاسِطُونَ} . هذا تقسيم ثان للجن بعد الإسلام ، أما التقسيم الأول في الآية 11 إلى صالحين ودون ذلك فهو بالنظر إلى ما قبل الإسلام ، ولا فرق إلا في التسمية ، فقد أسموا الطيبين قبل الإسلام بالصالحين ، وأسموهم بعد الإسلام بالمسلمين {فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً} .
طلب الذين أسلموا الرشد فأصابوه ، واختاروا لأنفسهم الخير فسعدوا به .
أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً} . قال الشيخ إسماعيل حقي في تفسيره روح البيان : {القاسط هو الجائر العادل عن الحق ، والمقسط هو العادل إلى الحق ، يقال : قسط إذا جار ، وأقسط إذا عدل ، وقد غلب اسم القاسط على فرقة معاوية ، ومنه الحديث خطابا لعلي بن أبي طالب : {تقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين} فالناكثون أصحاب عائشة الذين نكثوا البيعة ، والقاسطون أصحاب معاوية لأنهم جاروا حين حاربوا الإمام الحق ، والمارقون الخوارج لأنهم خرجوا من دين اللَّه ، واستحلوا قتال خليفة رسول اللَّه (صلى الله عليه واله وسلم) .
{وأَنْ لَو اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً} . هذا كلام مستأنف منه تعالى ، والضمير في استقاموا يعود إلى الخلائق من الجن والسن ، والمراد بالطريقة شريعة الحق والعدل ، وماء غدقا كناية عن الرخاء والسعة في الرزق لأن الماء أصل الحياة ، والفتنة الاختبار ، والمعنى ان الناس لو آمنوا باللَّه حقا ، وعملوا بشريعة العدل ، وابتعدوا عن الجور والعدوان - لعاشوا في سعة ورخاء وأمن وأمان {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} أي في الرخاء ، واللام في لنفتنهم للعاقبة مثل لدوا للموت ، والمعنى ان اللَّه سبحانه يغدق النعم عليهم ، ثم ينظر : فإن ازدادوا ايمانا به وإخلاصا له كانوا من السعداء دنيا وآخرة ، وان غيّروا وبدّلوا فهولهم بالمرصاد {ومَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً} أي شديدا ، وكل من ذكّر بالحق فأعرض عنه عذبه اللَّه عذابا أليما .
________________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7 ، ص437-439.
قوله تعالى: {وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا} لمس السماء الاقتراب منها بالصعود إليها، والحرس - على ما قيل - اسم جمع لحارس ولذا وصف بالمفرد والمراد بالحرس الشديد الحفاظ الأقوياء في دفع من يريد الاستراق منها ولذا شفع بالشهب وهي سلاحهم.
قوله تعالى: {وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا} يفيد انضمام صدر الآية إلى الآية السابقة أن ملء السماء بالحرس الشديد والشهب مما حدث أخيرا وأنهم كانوا من قبل يقعدون من السماء مقاعد لاستماع كلام الملائكة ويفيد ذيل الآية بالتفريع على جميع ما تقدم أن من يستمع الآن منا بالقعود منها مقعدا للسمع يجد له شهابا من صفته أنه راصد له يرميه به الحرس.
فيتحصل من مجموع الآيتين الإخبار بأنهم عثروا على حادثة سماوية جديدة مقارنة لنزول القرآن وبعثة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهي منع الجن من تلقي أخبار السماء باستراق السمع.
فيتحصل من مجموع الآيتين الإخبار بأنهم عثروا على حادثة سماوية جديدة مقارنة لنزول القرآن وبعثة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهي منع الجن من تلقي أخبار السماء باستراق السمع.
ومن عجيب الاستدلال ما عن بعضهم أن في الآيتين ردا على من زعم أن الرجم حدث بعد مبعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لظهور قوله: {ملئت حرسا} في أن الحادث هو الملء وكثرة الحرس لا أصل الحرس، وظهور قوله: {نقعد منها مقاعد للسمع} في أنا كنا نجد فيها بعض المقاعد خاليا من الحرس والشهب، والآن ملئت المقاعد كلها فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا.
ويدفعه أنه لوكان المراد بالآيتين هو الإخبار عن ملء السماء بالحرس وتكثير عددهم بحيث لا يوجد فيها مقاعد خالية منهم وقد كانت توجد قبل ذلك كان الواجب أن يتوجه النفي في قوله: {فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا} إلى السمع عن جميع المقاعد قبال إثبات السمع من بعض تلك المقاعد لا نفي مجرد السمع.
سلمنا أن المراد نفي السمع على الإطلاق وهو يكفي في ذلك لكن تعلق الغرض في الكلام بالإخبار عن الامتلاء بالحرس مع كون بعض المقاعد خالية عنهم قبل ذلك، وكذا تقييد قوله: {فمن يستمع} إلخ، بقوله: {الآن} يدل على حدوث أمر جديد في رجم الجن وهو استيعاب الرجم لهم في أي مقعد قعدوا والمنع من السمع مطلقا بعد ما كانوا يستمعون من بعض المقاعد من غير منع، وهذا المقدار كاف للمدعي فيما يدعيه.
وليتنبه أن مدلول الآية حدوث رجم الجن بشهاب رصد وهو غير حدوث الشهاب السماوي وهو ظاهر فلا ورود لما قيل: إن الشهب السماوية كانت من الحوادث الجوية الموجودة قبل زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ونزول القرآن.
وجه عدم الورود أن الذي يظهر من القرآن حدوث رجم الشياطين من الجن بالشهب من غير تعرض لحدوث أصل الشهب، وقد تقدم في تفسير أول سورة الصافات بعض ما يتعلق بهذا المقام.
قوله تعالى: {وأنا لا ندري أ شر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا} الرشد بفتحتين والرشد بالضم فالسكون خلاف الغي وتنكير {رشدا} لإفادة النوع أي نوعا من الرشد.
هذا منهم إظهار للجهل والتحير فيما شاهدوه من أمر الرجم ومنع شياطين الجن من الاطلاع على أخبار السماء غير أنهم تنبهوا على أن ذلك لأمر ما يرجع إلى أهل الأرض إما خير أوشر وإذا كان خيرا فهو نوع هدى لهم وسعادة ولذا بدلوا الخير وهو المقابل للشر من الرشد، ويؤيده قولهم: {أراد بهم ربهم} المشعر بالرحمة والعناية.
وقد صرحوا بالفاعل لإرادة الرشد وحذفوه في جانب الشر أدبا ولا يراد شر من جانبه تعالى إلا لمن استحقه.
قوله تعالى: {وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا} الصلاح مقابل الطلاح، والمراد بدون ذلك ما يقرب منه رتبة - على ما قيل -، والظاهر أن دون بمعنى غير، ويؤيده قوله: {كنا طرائق قددا} الدال على التفرق والتشتت والطرائق جمع طريقة وهي الطريق المطروقة المسلوكة، والقدد القطع جمع قدة بمعنى قطعة من القد بمعنى القطع وصفت الطرائق بالقدد لأن كل واحدة منها مقطوعة عن غيرها تنتهي بسالكها إلى غاية غير ما ينتهي به إليه غيرها، وإلى هذا المعنى يرجع تفسير القدد بالطرائق المتفرقة المتشتتة.
والظاهر أن المراد بقوله: {الصالحون} الصالحون بحسب الطبع الأولي في المعاشرة والمعاملة دون الصالحين بحسب الإيمان، ولوكان المراد صلاح الإيمان لكان الأنسب أن يذكر بعد ما سيجيء من حديث إيمانهم لما سمعوا الهدى.
وذكر بعضهم أن قوله: {طرائق قددا} منصوب على الظرفية أي في طرائق قدد وهي المذاهب المتفرقة المتشتتة، وقال آخرون إنه على تقدير مضاف أي ذوي طرائق، ولا يبعد أن يكون من الاستعارة بتشبيههم أنفسهم في الاختلاف والتباين بالطرق المقطوع بعضها من بعض الموصلة إلى غايات متشتتة.
والمعنى: وأنا منا الصالحون طبعا ومنا غير ذلك كنا في مذاهب مختلفة أو ذوي مذاهب مختلفة أو كالطرق المقطوعة بعضها عن بعض.
قوله تعالى: {وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هربا} الظن هو العلم اليقيني، والأنسب أن يكون المراد بقوله: {لن نعجز الله في الأرض} إعجازه تعالى بالغلبة عليه فيما يشاء فيها وذلك بالإفساد في الأرض وإخلال النظام الذي يجري فيها فإن إفسادهم لو أفسدوا من القدر، والمراد بقوله: {ولن نعجزه هربا} إعجازه تعالى بالهرب منه إذا طلبهم حتى يفوتوه فلا يقدر على الظفر بهم وقيل: المعنى لن نعجزه تعالى كائنين في الأرض ولن نعجزه هربا إلى السماء أي لن نعجزه لا في الأرض ولا في السماء هذا وهوكما ترى.
قوله تعالى: {وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا} المراد بالهدى القرآن باعتبار ما يتضمنه من الهدى، والبخس النقص على سبيل الظلم، والرهق غشيان المكروه.
والفاء في قوله: {فمن يؤمن} للتفريع وهومن تفريع العلة على المعلول لإفادة الحجة في إيمانهم بالقرآن من دون ريث ولا مهل.
ومحصل المعنى: أنا لما سمعنا القرآن الذي هو الهدى بادرنا إلى الإيمان به من دون مكث لأن من آمن به فقد آمن بربه ومن يؤمن بربه فلا يخاف نقصانا في خير أو غشيانا من مكروه حتى يكف عن المبادرة والاستعجال ويتروى في الإقدام عليه لئلا يقع في بخس أو رهق.
قوله تعالى: {وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا} المراد بالإسلام تسليم الأمر لله تعالى فالمسلمون المسلمون له الأمر المطيعون له فيما يريده ويأمر به، والقاسطون هم المائلون إلى الباطل قال في المجمع،: القاسط هو العادل عن الحق والمقسط العادل إلى الحق، انتهى.
والمعنى: أنا معشر الجن منقسمون إلى من يسلم لأمر الله مطيعين له، وإلى من يعدل عن التسليم لأمر الله وهو الحق.
وقوله: {فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا} تحري الشيء توخيه وقصده، والمعنى فالذين أسلموا فأولئك قصدوا إصابة الواقع والظفر بالحق.
قوله تعالى: {وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا} فيعذبون بتسعرهم واشتعالهم بأنفسهم كالقاسطين من الإنس قال تعالى: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ} [البقرة: 24].
وقد عد كثير منهم قوله: {فمن أسلم فأولئك} - إلى قوله - لجهنم حطبا تتمة لكلام الجن يخاطبون به قومهم وقيل: إنه من كلامه تعالى يخاطب به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
قوله تعالى: {وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه}: {أن} مخففة من الثقيلة، والمراد بالطريقة طريقة الإسلام، والاستقامة عليها لزومها والثبات على ما تقتضيه من الإيمان بالله وآياته.
والماء الغدق الكثير منه، ولا يبعد أن يستفاد من السياق أن قوله: {لأسقيناهم ماء غدقا} مثل أريد به التوسعة في الرزق، ويؤيده قوله بعده: {لنفتنهم فيه}.
والمعنى: وأنه لو استقاموا أي الجن والإنس على طريقة الإسلام لله لرزقناهم رزقا كثيرا لنمتحنهم في رزقهم فالآية في معنى قوله: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 96].
والآية من كلامه تعالى معطوف على قوله في أول السورة: {أنه استمع} إلخ.
قوله تعالى: {ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا} العذاب الصعد هو الذي يتصعد على المعذب ويغلبه، وقيل: هو العذاب الشاق.
والإعراض عن ذكر الله لازم عدم الاستقامة على الطريقة وهو الأصل في سلوك العذاب، ولذا وضع موضعه ليدل على السبب الأصلي في دخول النار.
وهو الوجه أيضا في الالتفات عن التكلم مع الغير إلى الغيبة في قوله: {ذكر ربه} وكان مقتضى الظاهر أن يقال: ذكرنا وذلك أن صفة الربوبية هي المبدأ الأصلي لتعذيب المعرضين عن ذكره تعالى فوضعت موضع ضمير المتكلم مع الغير ليدل على المبدأ الأصلي كما وضع الإعراض عن الذكر موضع عدم الاستقامة ليدل على السبب.
قيل: وقوله: {يسلكه} مضمن معنى يدخله ولذا عدي إلى المفعول الثاني، والمعنى ظاهر.
______________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج20 ، ص38-41.
يشيرون الجن إلى علامة صدق قولهم وهوما يدركه الجن في عالم الطبيعة، فيقولون: {وأنّا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرساً شديداً وشهباً}(2)(3).
وكنّا في السابق نسترق السمع من السماء ونحصل على أخبار الغيب ونوصلها إلى أصدقائنا من الإنس ولكننا منعنا من ذلك الآن: {وأنّآ كنّا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهاباً رصداً}أليس هذا الوضع الجديد دليل على حقيقة التغيير العظيم الحاصل في العالم عند ظهور الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)وكتاب اللّه السماوي، لماذا كانت لكم القدرة على استراق السمع والآن سلبت منكم هذه القدرة؟ أليس معنى هذا انتهاء عصر الشيطنة والكهانة والخداع، وانتهاء ظلمة الجهل بشروق شمس الوحي والنّبوة؟
«شهاب» لهب من النار، ويطلق أيضاً على الأنوار النّارية الممتدة في السماء، وهي قطع حجرية صغيرة متحركة في الفضاء الخارجي للكرة الأرضية، كما يقول علماء الفلك، وتتأثر بجاذبية الأرض عند وصولها إلى مقربة منها فتسقط على شكل شعلة نارية حارقة، لأنّها عندما تصل إلى طبقات الهواء الكثيفة وتصطدم لها تتحول إلى شعلة نارية، ثمّ تصل إلى الأرض بصورة رماد، وقد ذكرت الشهب كراراً في القرآن المجيد، وأنّها كالسهام ترمى صوب الشياطين الذين يريدون أن يسترقوا السمع من السماء، وقد أوردنا بحوثاً مفصّلة حول كيفية إخراج الشياطين من السماء بالشهب، وما يراد من استراق السمع، وذلك في ذيل الآية (18) من سورة الحجر وما يليها، وفي ذيل الآية (10) من سورة الصافات وما يليها.
«رصد» على وزن حسد، وهو التهيؤ لانتظار شيء ويُعبّر عنه بـ (الكمين) وتعني أحياناً اسم فاعل بمعنى الشخص أو الشّيء الذي يكمن، وهذا ما أُريد به في هذه الآيات.
ثمّ قالوا: {وأنّا لا ندري أشرٌّ أُريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربّهم رشداً}.
أي مع كل هذا فإنّنا لا ندري أكان هذا المنع من استراق السمع دليل على مكيدة تراد بأهل الأرض، أم أراد اللّه بذلك المنع أن يهديهم، وبعبارة أُخرى أنّنا لا ندري هل هذه هو مقدمة لنزول البلاء والعذاب من اللّه، أم مقدمة لهدايتهم، ولكن لا يخفى على مؤمني الجن أنّ المنع من استراق السمع الذي تزامن مع ظهور نبيّنا الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) هو مقدمة لهداية البشرية، وانحلال جهاز الكهانة والخرافات الأُخرى، وليس هذا إلاّ إنتهاءً لعصر الظلام، وابتداء عصر النّور.
ومع هذا، فإنّ الجن ولعلاقتهم الخاصّة بمسألة استراق السمع لم يكونوا يصدقون بما في ذلك المنع من خير وبركة، وإلاّ فمن الواضح أنّ الكهنة في العصر الجاهلي كانوا يستغلون هذا العمل في تضليل الناس.
والجدير بالذكر أنّ مؤمني الجنّ صرّحوا بالفاعل لإرادة الهداية فنسبوه إلى اللّه، وجعلوا فاعل الشرّ مجهولاً، وهذا إشارة إلى أنّ ما يأتي من اللّه فهو خير، وما يصدر من الناس فهو الشرّ وفساد إذا ما أساءوا التصرف بالنعم الإلهية، ثمّ إنّ المفروض أن يذكر لفظ «الخير» في مقابل «الشرّ»، ولكن بما أنّ الخير هنا تعني الرّشد والهداية، لذا اكتفى بذكر المصداق فقط..
وقوله تعالى : { وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا } :
إنّ سمعنا الحقّ فأطعناه:
في هذه الآيات يستمر مؤمنو الجن في حديثهم وهم يبلغون قومهم الضالّين فيقولون: {وأنّا منّا الصّالحون ومنّا دون ذلك كنّا طرائق قدداً}.
ويحتمل أن يكون المراد من قولهم هذا هو أن وجود إبليس فيما بينهم قد أوجد شبهة لبعضهم، بأنّ الجن متطبّع على الشرّ والفساد والشيطنة، ومحال أن يشرق نور الهداية في قلوبهم.
ولكن مؤمني الجن يوضحون في قولهم هذا أنّهم يملكون الإختيار والحرية، وفيهم الصالح والطالح، وهذا يوفرّ لهم الأرضية للهداية، وأساساً فإنّ أحد العوامل المؤثرة في التبليغ هو إعطاء الشخصية للطرف المقابل، وتوجيهه إلى وجود عوامل الهداية والكمال في نفسه.
واحتمل أيضاً أنّ الجن قالوا ذلك لتبرئة ساحتهم من موضوع الإساءة في مسألة استراق السمع أي: وإن كان منّا من يحصل على الأخبار عن طريق استراق السمع ووضعها بأيدي الأشرار لتضليل الناس، ولكن لا يعني ذلك أنّ الجن كلهم كانوا كذلك، ولهذه الآية تأثير في إصلاح ما اشتبه علينا نحن البشر في عقائدنا حول الجن، لأنّ كثير من الناس يتصورون أنّ لفظة الجن تعني الشيطنة والفساد والضلال والإنحراف، وسياق هذا الآية يشير إلى أنّ الجن فصائل مختلفة، صالحون وطالحون.
«قدد» على وزن (ولد) وهو جمع قد، على وزن (ضد) وتعني المقطوع، وتطلق على الجماعات المختلفة، لأنّها تكون على شكل قطع منفصلة عن بعضها.
وفي إدامة حديثهم يحذرون الآخرين فيقولون: {وأنّا ظننا أن لن نعجز اللّه في الأرض ولن نعجزه هرباً} وإذا كنتم تتصورون أنّكم تستطيعون الفرار من جزاء وتلتجئون إلى زاوية من زوايا الأرض أو نقطة من نقاط السماوات فإنّكم في غاية الخطأ.
وعلى هذا الأساس، فإنّ الجملة الأُولى إشارة إلى الفرار من قبضة القدرة الإلهية في الأرض، والجملة الثّانية إشارة إلى الفرار المطلق، الأرض والسماء.
ويحتمل أن يكون تفسير الآية هو أنّه الجملة الأُولى إشارة إلى أنّه لا يمكن الغلبة على اللّه، والجملة الثّانية إشارة إلى أنّه لا يمكن الفرار من قبضة العدالة، فإذا لم يكن هناك طريق للغلبة ولا للفرار، فلا علاج إلاّ التسليم لأمر اللّه تعالى وعدالته .
وأضاف مؤمنو الجن في حديثهم قائلين: {وأنّا لمّا سمعنا الهدى آمنا به} وإذ ندعوكم لهدى القرآن فإنّنا ممّن عمل بذلك أوّلاً، ولذا نحن لا ندعو الآخرين إلى أمر لم نكن فاعليه.
ثمّ بيّنوا عاقبة الإيمان في جملة قصيرة واحدة فقالوا: {فمن يؤمن بربّه فلا يخاف بخساً ولا رهقاً}.
«بخس»: على وزن (شخص) ويراد به النقص على سبيل الظلم.
«رهق»: على وزن (سقف) يراد به ـ وكما أشرنا من قبل ـ غشيان السيء بالقهر، وقال البعض: إنّ البخس هو عدم نقصان شيء من حسناتهم، والرهق: هو عدم إضافة شيء إلى سيئاتهم، قيل البخس: هو نقص الحسنات، والرهق: التكاليف الشاقة، على كل حال فالمراد هو أن المؤمنين مهما يعملوا من عمل كبيراً كان أو صغيراً فإنّهم يستوفون أُجور ذلك بلا نقص أو قلّة، وصحيح أن العدالة الإلهية غير منحصرة بالمؤمنين، لكنّ الطالحين ليس لهم عمل صالح، فليس هناك ذكر لاُجورهم.
وفي الآية الأُخرى توضيح أكثر حول عاقبة المؤمنين والكافرين فيقولون: {وأنّا منّا المسلمون ومنّا القاسطون(4) فمن أسلم فأُولئك تحروا رشداً}.(5)
{وأمّا القاسطون فكانوا لجهنم حطباً}.
الملاحظ في الآيات أن كلمة «المسلم» جاءت مقابل كلمة «الظالم»، وإشارة إلى أن ما يقي الإنسان من الظلم هوالإيمان، وإذا لم يكن الفرد مؤمناً فإنّه سوف يظلم بأي شكل من الأشكال، وكذا تشير إلى أنّ المؤمن الحقيقي هو المؤمن الذي لا يظلم، كما في حديث النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم): «المؤمن من آمنه الناس على أنفسهم وأموالهم».(6)
وجاء في حديث آخر عنه(صلى الله عليه وآله وسلم): «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده».(7)
والتعبير بـ (تحروا رشداً) يشير إلى أنّ المؤمنين إنّما يتوجهون إلى الهدى بالتحقيق والتوجه الصادق، وليس بالغفلة والأغماض، وجزاءهم الأوفى هو نيلهم الحقائق التي بظلها ينالون النعم الإلهية، والظالمون هم في أسوأ حال، حيث إنّهم حطب لجهنم، أي أنّ النار تلتهب في أعماق وجودهم.
وقوله تعالى : {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا }
الفتنة باغدق النعمة:
هذه الآيات تشير ظاهراً إلى استمرار الجن في حديثهم مع قومهم: {وإن كان بعض المفسّرين يعتبرون هذه الآية معترضة بين كلام الجن) ولكن اعتراضها خلاف الظاهر، وسياق هذه الآيات يشابه السابقة والذي كان من كلام الجن، ولذا يستبعد أن يكون هذا الكلام هو لغير الجن.(8)
على كل حال فإنّ سياق الآيات السابقة يشير إلى ثواب المؤمنين في يوم القيامة، وفي هذه الآيات يتحدث عن ثوابهم الدّنيوي فيقول: {وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءً غدقاً}
ننزل عليهم مطر رحمتنا، ونذلل لهم منابع وعيون الماء الذي يهب الحياة وبوجود الماء يوجد كل شيء وعلى هذا فإنّنا نشملهم بأنواع النعم.
«غدق» على وزن شفق، وتعني الماء الكثير.
القرآن المجيد اكّد ولعدّة مرات على أنّ الإيمان والتقوى ليست فقط منبعاً للبركات المعنوية، بل تودّي إلى زيادة الأرزاق والنعم والعمران، أي (البركة والمادية).
(لنا بحث مفصل في هذا الباب في نفس المجلد في تفسير سورة نوح (عليه السلام) ذيل الآية 12 تحت عنوان الرابطة بين الإيمان والتقوى وبين العمران).
الملاحظ حسب هذا البيان أنّ سبب زيادة النعمة هو الإستقامة على الإيمان، وليس أصل الإيمان، لأنّ الإيمان المؤقت لا يستطيع أن يظهر هذه البركات، فالمهم هو الإستقامة والإستمرار على الإيمان والتقوى، ولكن هناك الكثير ممن تزل أقدامهم في هذا الطريق.
والآية الأُخرى إشارة إلى حقيقة أُخرى بنفس الشأن، فيضيف: (لنفتنهم)هل أنّ كثرة النعم تتسبب في غرورهم وغفلتهم؟ أم أنّها تجعلهم يفيقون ويشكرون ويتوجهون أكثر من ذي قبل إلى اللّه؟
ومن هنا يتّضح أن وفور النعمة من إحدى الأسباب المهمّة في الامتحان الإلهي، وما يُتفق عليه هو أنّ الإختبار بالنعمة أكثر صعوبة وتعقيداً من الإختبار بالعذاب، لأنّ طبيعة ازدياد النعم هو الانحلال والكسل والغفلة، والغرق في الملذات والشهوات، وهذا ما يُبعد الإنسان عن اللّه تعالى و يُهيء الأجواء لمكائد الشيطان، والذين يستطيعون أن يتخلصوا من شراك النعم الوافرة هو الذاكرون للّه على كلّ حال، غير الناسين له تعالى، حيث يحفظون قلوبهم بالذكر من نفوذ الشياطين(9).
ولذا يضيف تعقيباً على ذلك: {ومن يعرض عن ذكر ربّه يسلكه عذاباً صعداً}.
«صعد»: على وزن (سفر) وتعني الصعود إلى الأعلى، وأحياناً الشِعب المتعرجة في الجبل، وبما أنّ الصعود من الشعاب المتعرجة عمل شاق، فإنّ هذه اللفظة تستعمل بمعنى الأُمور الشّاقة، وفسّرها الكثير بمعنى العذاب الشّاق، وهو مماثل لما جاء في الآية (17) من سورة المدّثر حول بعض المشركين: {سأُرهقه صعوداً}.
ولكن، أنّه مع أنّ التعبير أعلاه يبيّن كون هذا العذاب شاقّاً شديداً فإنّه يحتمل أن يشير إلى اليوم الطويل، وعلى هذا الأساس فإنّه يبيّن في الآيات أعلاه رابطة الإيمان والتقوى بكثرة النعم من جهة، رابطة كثرة النعم بالإختبارات الإلهية من جهة أُخرى ورابطة الإعراض عن ذكر اللّه تعالى بالعذاب الشاق الطويل من جهة ثالثة، وهذه حقائق اُشير إليها في الآيات القرآنية الأُخرى كما نقرأ في الآية (124) من سورة طه: {ومن أعرض عن ذكري فإنّ له معيشة ضنكاً}.
وكذا في الآية (40) من سورة النمل عن لسان سليمان(عليه السلام): {هذا من فضل ربّي ليبلوني أأشكر أم أكفر}، وما جاء في الآية (28) من سورة الأنفال: {واعلموا أنّما أموالكم وأولادكم فتنة}.
_______________________
2 ـ «لمسنا» من لمس، وتعني هنا الطلب والبحث.
3 ـ «حرس» على وزن قفص، جمع حارس، وقيل اسم جمع لحارس، وتعني الشديد الحفاظ.
4 ـ «القاسط» من أصل (قسط) وتعني التقسيم العادل، فإن أتت على وزن (أفعال)، (أقساط) فإنّها تعني إجراء العدالة، وإذا استعملت بصورة الثّلاثي المجرّد كما في هذه الآية فإنّها تعطي معنى الظلم والإنحراف عن سبيل الحقّ.
5 ـ «تحروا»: من أصل تحري وتعني توخيه وقصده.
6 ـ تفسير روح البيان، ج10، ص195.
7 ـ اُصول الكافي، ج2، باب المؤمن وعلاماته وصفاته.
8 ـ من الملاحظ أنّ السبب الوحيد الذي دعا المفسّرين إلى أن يعتبروا هذا الكلام من كلام اللّه تعالى وأنّها جملة اعتراضية هو ضمائر (المتكلم مع الغير) ففي موضع يقول: لأسقيناهم ماءً غدقاً، وفي موضع آخر يقول: لنفتنهم فيه، ولكن لا ضمير عندما نعتبر هذه التعابير من باب النقل، كما لو تحدث شخص عن صاحبه فيقول: إنّ فلاناً يعتقد بأنّي شخص حسن، (بالطبع هو لم يستعمل كلمة (أنا) وإنّما استعمل كلمة (هو) ولكن القائل يختار مثل هذا التعبير).
9 ـ احتمل بعض المفسّرين أن يكون المراد من «الطريقة» هو سبيل الكفر وزيادة النعم الحاصلة نتيجة للإستقامة في هذه الطريقة في الحقيقة هي مقدمة العقوبات ومصداق الإستدراج في النعم، ولكن هذا التّفسير لا يتناسب أبداً مع سياق الآيات السابقة واللاحقة.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|