أقرأ أيضاً
التاريخ: 31-10-2017
7498
التاريخ: 31-10-2017
5257
التاريخ: 31-10-2017
14505
|
قال تعالى : {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُو عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُو الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُو حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوكُنَّا نَسْمَعُ أَو نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 1 - 11].
أخبر سبحانه عن عظمته وعلو شأنه وكمال قدرته فقال {تبارك} أي تعالى وجل عما لا يجوز عليه في ذاته وأفعاله عن أبي مسلم وقيل معناه تعالى بأنه الثابت الذي لم يزل ولا يزال وقيل معناه تعاظم بالحق من ثبوت الأشياء به إذ لولاه لبطل كل شيء لأنه لا يصح سواه شيء إلا وهو مقدوره أو مقدور مقدوره الذي هو القدرة وقيل معناه تعالى من جميع البركات منه إلا أن هذا المعنى مضمر في الصفة غير مصرح به وإنما المصرح به أنه تعالى باستحقاق التعظيم {الذي بيده الملك} والملك هو اتساع المقدور لمن له السياسة والتدبير ومعناه الذي هو المالك وله الملك يؤتيه من يشاء ويتصرف فيه كما يشاء وإنما ذكر اليد تأكيدا ولأن أكثر التصرفات والعطايا باليد.
{وهو على كل شيء قدير} من إنعام وانتقام وقيل معناه أنه قادر على كل شيء يصح أن يكون مقدورا له وهو أخص من قولنا وهو بكل شيء عليم لأنه لا شيء إلا ويجب أن يعلمه إذ لا شيء إلا ويصح أن يكون معلوما في نفسه ولا يوصف سبحانه بكونه قادرا على ما لا يصح أن يكون مقدورا في نفسه مثل ما تقضي وقته مما لا يبقى ثم وصف سبحانه نفسه فقال {الذي خلق الموت والحياة} أي خلق الموت للتعبد بالصبر عليه والحياة للتعبد بالشكر عليها وقيل خلق الموت للاعتبار والحياة للتزود وقيل إنما قدم ذكر الموت على الحياة لأنه إلى القهر أقرب كما قدم البنات على البنين في قوله {يهب لمن يشاء إناثا} الآية وقيل إنما قدمه لأنه أقدم فإن الأشياء في الابتداء كانت في حكم الأموات كالنطفة والتراب ثم اعترضت الحياة.
{ليبلوكم أيكم أحسن عملا} أي ليعاملكم معاملة المختبر بالأمر والنهي فيجازي كل عامل بقدر عمله وقيل ليبلوكم أيكم أكثر للموت ذكرا وأحسن له استعدادا وأحسن صبرا على موته وموت غيره وأيكم أكثر امتثالا للأوامر واجتنابا عن النواهي في حال حياته قال أبو قتادة سألت النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن قوله تعالى {أيكم أحسن عملا} ما عنى به فقال يقول أيكم أحسن عقلا ثم قال أتمكم عقلا وأشدكم لله خوفا وأحسنكم فيما أمر الله به ونهى عنه نظرا وإن كان أقلكم تطوعا وعن ابن عمر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه تلا قوله تعالى {تبارك الذي بيده الملك} إلى قوله {أيكم أحسن عملا} ثم قال أيكم أحسن عقلا وأورع عن محارم الله وأسرع في طاعة الله وعن الحسن أيكم أزهد في الدنيا وأترك لها {وهو العزيز} في انتقاله ممن عصاه {الغفور} لمن تاب إليه أولمن أراد التفضل عليه بإسقاط عقابه والتكليف إنما يصح بالترغيب والترهيب لأن معناه تحمل المشقة في الأمر والنهي.
ثم عاد سبحانه إلى وصف نفسه فقال {الذي خلق سبع سماوات} أي أنشأهن واخترعهن {طباقا} واحدة فوق الأخرى وقيل أراد بالمطابقة المشابهة أي يشبه بعضها بعضا في الإتقان والأحكام والاتساق والانتظام {ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت} أي اختلاف وتناقض من طريق الحكمة بل ترى أفعاله كلها سواء في الحكمة وإن كانت متفاوتة في الصور والهيئات يعني في خلق الأشياء على العموم وفي هذا دلالة على أن الكفر والمعاصي لا يكون من خلق الله تعالى لكثرة التفاوت في ذلك وقيل معناه ما ترى يا ابن آدم في خلق السماوات من عيب واعوجاج بل هي مستقيمة مستوية كلها مع عظمها.
{فارجع البصر} أي فرد البصر وأدره في خلق الله واستقص في النظر مرة بعد أخرى والتقدير أنظر ثم ارجع النظر في السماء {هل ترى من فطور} أي شقوق وفتوق عن سفيان وقيل من وهن وخلل عن ابن عباس وقتادة {ثم ارجع البصر كرتين} أي ثم كرر النظر مرتين لأن من نظر في الشيء كرة بعد أخرى بأن له ما لم يكن بائنا وقيل معناه أدم النظر والتقدير ارجع البصر مرة بعد أخرى ولا يريد حقيقة التثنية لقوله {وهو حسير} ولا يصير حسيرا بمرتين ونظيره قولهم لبيك وسعديك أي إلبابا بعد إلباب وإسعادا بعد إسعاد يعني كلما دعوتني فأنا ذو إجابة بعد إجابة وذو ثبات بمكاني بعد ثبات من قولهم لب بالمكان وألب إذا ثبت وأقام وهو نصب على المصدر أي أجيبك إجابة بعد إجابة.
{ينقلب إليك البصر خاسئا} أي يرجع إليك بصرك بعيدا عن نيل المراد ذليلا صاغرا عن ابن عباس كأنه ذل كذلة من طلب شيئا فلم يجده وأبعد عنه {وهو حسير} أي كال معي عن قتادة والتحقيق أن بصر هذا الناظر بعد الإعياء يرجع إليه بعيدا عن طلبته خائبا في بغيته ثم أقسم سبحانه فقال {ولقد زينا السماء الدنيا} لأن هذه اللام هي التي يتلقى بها القسم أي حسنا السماء الدنيا يعني التي هي أدنى إلى الأرض وهي التي يراها الناس {بمصابيح} واحدها مصباح يعني الكواكب سماها المصابيح لإضاءتها وهي السرج {وجعلناها رجوما للشياطين} الذين يسترقون السمع وقيل ينفصل من الكواكب شهب تكون رجوما للشياطين فأما الكواكب أنفسها فليست تزول إلى أن يريد الله تعالى إفناءها عن الجبائي {وأعتدنا لهم عذاب السعير} يعني أنا جعلنا مع الكواكب رجوما للشياطين هيأنا لهم وادخرنا لأجلهم عذاب النار المسعرة المشعلة وفي هذا دلالة على أن الشياطين مكلفة.
ولما تقدم وعيد الشياطين الذين دعوا إلى الكفر والضلال أتبعه سبحانه بذكر الكفار الضلال فقال {وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم وبئس المصير} أي بئس المال والمرجع وإنما وصف ببئس وهومن صفات الذم والعقاب حسن لما في ذلك من الضرر الذي يجب على كل عاقل أن يتقيه بغاية الجهد ولا يجوز قياسا على ذلك أن يوصف به فاعل العقاب لأنه لا يقال بئس الرجل إلا على وجه الذم ووجه الحكمة في فعل العقاب ما فيه من الزجر المتقدم للمكلف ولا يمكن أن يكون مزجورا إلا به ولولاه لكان مغرى بالقبيح {إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا} أي إذا طرح الكفار في النار سمعوا للنار صوتا فظيعا مثل صوت القدر عند فورانها وغليانها فيعظم بسماع ذلك عذابهم لما يرد على قلوبهم من هوله.
{وهي تفور} أي تغلي بهم كغلي المرجل {تكاد تميز} أي تتقطع وتتفرق {من الغيظ} أي شدة الغضب سمى سبحانه شدة التهاب النار غيظا على الكفار لأن المغتاظ هو المتقطع مما يجد من الألم الباعث على الإيقاع بغيره فحال جهنم كحال المتغيظ {كلما ألقي فيها} أي كلما طرح في النار {فوج} من الكفار {سألهم خزنتها أ لم يأتكم نذير} أي تقول لهم الملائكة الموكلون بالنار على وجه التبكيت لهم في صيغة الاستفهام أ لم يجئكم مخوف من جهة الله سبحانه يخوفكم عذاب هذه النار.
{قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء} أي فيقولون في جوابهم بلى قد جاءنا مخوف فلم نصدقه وكذبناه ولم نقبل منه بل قلنا له ما نزل الله شيئا مما تدعونا إليه وتحذرنا منه فتقول لهم الملائكة {إن أنتم إلا في ضلال كبير} أي لستم اليوم إلا في عذاب عظيم وقيل معناه قلنا للرسل ما أنتم إلا في ضلال أي ذهاب عن الصواب كبير في قولكم أنزل الله علينا كتابا {وقالوا لوكنا نسمع أو نعقل} من النذر ما جاءونا به ودعونا إليه وعملنا بذلك {ما كنا في أصحاب السعير} وقال الزجاج لوكنا نسمع سمع من يعي ويفكر ونعقل عقل من يميز وينظر ما كنا من أهل النار وفي الحديث عن ابن عمر أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال إن الرجل ليكون من أهل الجهاد ومن أهل الصلاة والصيام وممن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وما يجزي يوم القيامة إلا على قدر عقله وعن أنس بن مالك قال أثنى قوم على رجل عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) كيف عقل الرجل قالوا يا رسول الله نخبرك عن اجتهاده في العبادة وأصناف الخير وتسألنا عن عقله فقال إن الأحمق يصيب بحمقه أعظم من فجور الفاجر وإنما يرتفع العباد غدا في الدرجات وينالون الزلفى من ربهم على قدر عقولهم.
ثم قال سبحانه {فاعترفوا بذنبهم} في ذلك الوقت الذي لا ينفعهم فيه الإقرار والاعتراف والإقرار مشتق من قر الشيء يقر قرارا إذا ثبت والاعتراف مأخوذ من المعرفة والذنب مصدر لا يثنى ولا يجمع ومتى جمع فلاختلاف جنسه {فسحقا لأصحاب السعير} هذا دعاء عليهم أي أسحقهم الله وأبعدهم من النجاة سحقا وإذا قيل ما وجه اعترافهم بالذنب مع ما عليهم من الفضيحة به فالجواب أنهم قد علموا حصولهم على الفضيحة اعترفوا أم لم يعترفوا فليس يدعوهم إلى أحد الأمرين إلا مثل ما يدعوهم إلى الآخر في أنه لا فرج فيه فاستوى الأمران عليهم الاعتراف وترك الاعتراف والجزع وترك الجزع .
______________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج10 ، ص68-73.
{ تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وهُو عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . علا سبحانه بحوله على كل شيء وهيمن على كل شيء ، ولا يعجزه شيء . . ومن آثار هذه العظمة انه {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ والْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وهُو الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} . من أين جاءت الحياة ؟ وكيف ذهبت ؟ لا تفسير لذلك إلا بوجود الحي الذي لا يموت . أنظر ج 3 ص 231 فقرة {من أين جاءت الحياة} ؟ . أما الحكمة من الحياة في الدنيا ثم الموت ثم البعث فهي ان تظهر أفعال الإنسان في دنياه ، ويثاب عليها أو يعاقب في آخرته . وفي الحديث ان رسول اللَّه (صلى الله عليه واله وسلم) حين تلا هذه الآية فسرها بقوله : (أيكم أحسن عقلا ، وأورع عن محارم اللَّه ، وأسرع إلى طاعته) .
وأيضا من آثار عظمته تعالى انه {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وهُو حَسِيرٌ} وذكر السماوات السبع لا يفيد الحصر .
انظر آخر سورة الطلاق فقرة {سبع سماوات ومن الأرض مثلهن} . وطباقا أي يطابق بعضها بعضا في دقة الصنع ، والمعنى حقّق وتفحص وتأمل جيدا ، وعاود النظر مرات ومرات في خلق الكائنات فإنك لا ترى ولن ترى إلا الحكمة والدقة والا النظام والانسجام والتناسب والتناسق في كل شيء . . أبدا لا تفاوت في إتقان الصنع ، ولا خلل ولا نقص في شيء من أصغر صغير إلى أكبر كبير . .
سل العقول مجتمعة : من الذي أعطى كل شيء خلقه فقدره تقديرا ؟ . هل الصدفة أتت بكل هذه الأسرار والعجائب ؟ وهل هي قاعدة تطرد في كل شيء ومبدأ لا ينقضه شيء ؟ ومتى بهرت الصدفة الألباب وحيرت ؟ ولا جواب عند العقول العليمة السليمة إلا بالرجوع إلى قوة تكمن وراء الطبيعة والاعتراف بالعجز عن ادراك حقيقتها وكنه عظمتها .
وهنا يكمن السر لتاريخ الايمان باللَّه الذي وجد بوجود الإنسان بل بوجود كل كائن يحس ويشعر ، ونحن على علم اليقين بأن الجاحد لو فكر وتدبر خلق السماوات والأرض لآمن باللَّه من حيث يريد أولا يريد . قال (لورد كيلفن) أحد علماء الطبيعة البارزين : (إذا فكرت تفكيرا عميقا فإن العلوم سوف تضطرك إلى الاعتقاد بوجود اللَّه . وهذا ما أعلنه القرآن بقوله : {إِنَّما يَخْشَى اللَّهً مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ} 28 فاطر .
{ولَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ} . الدنيا هنا تأنيث الأدنى ، وهي صفة للسماء أي انه تعالى زيّن بالمصابيح السماء التي هي أقرب إلينا من سائر السماوات ، والمراد بالمصابيح النجوم ، أما الرجم فقد يكون بالشهب التي تحترق - غالبا - في الفضاء قبل أن تصل إلى الأرض ، وقد يكون بالحجارة المتساقطة من النجوم - النيازك - وكل عات متمرد فهو شيطان قال تعالى : {وإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} - 14 البقرة واعتدنا أي أعددنا . وتقدم مثله مع التفسير في الآية 6 من سورة الصافات ج 6 ص 330 والآية 12 من سورة فصلت ص 480 من المجلد المذكور.
وقال البعض في تفسير هذه الآية : ان الدجالين يوهمون انهم يعلمون الغيب من النظر إلى النجوم ، وان اللَّه سبحانه سوف يرجمهم يوم القيامة بشرر من نار جهنم لأنهم كانوا يقولون رجما بالغيب ! . . وهذا التفسير أيضا رجم بالغيب .
{ولِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وبِئْسَ الْمَصِيرُ إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وهِيَ تَفُورُ تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} . قال صاحب الظلال : قد يظن ان هذا تعبير مجازي . . ولكن جهنم مخلوقة حية تكظم غيظها ، وتنطوي على بغض وكره ! . . وأكثر المفسرين على ان المراد ان لجهنم لجبا وكلبا عظيمين ، يكاد من يراها يحسبها غضبى على الكافرين بحيث توشك أن تتقطع أوصالها من الحنق عليهم .
وهذا التفسير أقرب إلى الافهام والتصديق من تفسير صاحب الظلال الذي يشبه تفسير أهل الظاهر.
{ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} . المراد بخزنة جهنم الموكلون بها ، والقصد من سؤال الخزنة هو توبيخ المجرمين وإيلامهم تماما كقولك لمن أخذ بجريمته : هذا ما جنته يداك .
( قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ} . الأنبياء في ضلال كبير ! . . ولما ذا لأنهم يدعون إلى التوحيد والعدل . . أما العتاة الطغاة الذين يعبدون الحطام والأصنام فهم على بصيرة من أمرهم . . هذا هو منطق أهل الضلال والفساد في كل زمان ومكان {وقالُوا لَوكُنَّا نَسْمَعُ أَو نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لأَصْحابِ السَّعِيرِ} . جاءهم الرسل بالبينات من عند اللَّه ، فكذبوا علوا واستكبارا ، وقالوا لهم : أنتم ضالون مضلون تفترون على اللَّه الكذب . . ولما أحاط بهم العذاب ذلوا وندموا واعترفوا بأنهم هم الضالون عن الهدى المكذبون بالحق . . ولكن جاء هذا بعد فوات الأوان ، فكان جزاؤهم الشهيق والحريق . وتقدم مثله في الآية 130 من سورة الأنعام ج 3 ص 265 والآية 71 من سورة الزمر ج 6 ص 433 .
______________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7 ، ص374-376.
غرض السورة بيان عموم ربوبيته تعالى للعالمين تجاه قول الوثنية إن لكل شطر من العالم ربا من الملائكة وغيرهم وإنه تعالى رب الأرباب فقط.
ولذا يعد سبحانه كثيرا من نعمه في الخلق والتدبير – وهو في معنى الاحتجاج على ربوبيته - ويفتتح الكلام بتباركه وهو كثرة صدور البركات عنه، ويكرر توصيفه بالرحمن وهو مبالغة في الرحمة التي هي العطية قبال الاستدعاء فقرا وفيها إنذار ينتهي إلى ذكر الحشر والبعث.
وتتلخص مضامين آياتها في الدعوة إلى توحيد الربوبية والقول بالمعاد.
والسورة مكية بشهادة سياق آياتها.
قوله تعالى: {تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير} تبارك الشيء كثرة صدور الخيرات والبركات عنه.
وقوله: {الذي بيده الملك} يشمل بإطلاقه كل ملك، وجعل الملك في يده استعارة بالكناية عن كمال تسلطه عليه وكونه متصرفا فيه كيف يشاء كما يتصرف ذو اليد فيما بيده ويقلبه كيف يشاء فهو تعالى يملك بنفسه كل شيء من جميع جهاته، ويملك ما يملكه كل شيء.
فتوصيفه تعالى بالذي بيده الملك أوسع من توصيفه بالمليك في قوله: {عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 55] ، وأصرح وآكد من توصيفه في قوله: {لَهُ الْمُلْكُ} [البقرة: 247].
وقوله: {وهو على كل شيء قدير} إشارة إلى كون قدرته غير محدودة بحد ولا منتهية إلى نهاية وهو لازم إطلاق الملك بحسب السياق، وإن كان إطلاق الملك وهومن صفات الفعل من لوازم إطلاق القدرة وهي من صفات الذات.
وفي الآية مع ذلك إيماء إلى الحجة على إمكان ما سيأتي من أمر المعاد.
قوله تعالى: {الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور} الحياة كون الشيء بحيث يشعر ويريد، والموت عدم ذلك لكن الموت على ما يظهر من تعليم القرآن انتقال من نشأة من نشآت الحياة إلى نشأة أخرى كما تقدم استفادة ذلك من قوله تعالى: {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الواقعة: 60، 61] ، فلا مانع من تعلق الخلق بالموت كالحياة.
على أنه لو أخذ عدميا كما عند العرف فهو عدم ملكة الحياة وله حظ من الوجود يصحح تعلق الخلق به كالعمى من البصر والظلمة من النور.
وقوله: {ليبلوكم أيكم أحسن عملا} غاية خلقه تعالى الموت والحياة، والبلاء الامتحان والمراد أن خلقكم هذا النوع من الخلق وهو أنكم تحيون ثم تموتون خلق مقدمي امتحاني يمتاز به منكم من هو أحسن عملا من غيره ومن المعلوم أن الامتحان والتمييز لا يكون إلا لأمر ما يستقبلكم بعد ذلك وهو جزاء كل بحسب عمله.
وفي الكلام مع ذلك إشارة إلى أن المقصود بالذات من الخلقة هو إيصال الخير من الجزاء حيث ذكر حسن العمل وامتياز من جاء بأحسنه فالمحسنون عملا هم المقصودون بالخلقة وغيرهم مقصودون لأجلهم.
وقد ذيل الكلام بقوله: {وهو العزيز الغفور} فهو العزيز لأن الملك والقدرة المطلقين له وحده فلا يغلبه غالب وما أقدر أحدا على مخالفته إلا بلاء وامتحانا وسينتقم منهم وهو الغفور لأنه يعفو عن كثير من سيئاتهم في الدنيا وسيغفر كثيرا منها في الآخرة كما وعد.
وفي التذييل بالاسمين مع ذلك تخويف وتطميع على ما يدعو إلى ذلك سياق الدعوة.
واعلم أن مضمون الآية ليس مجرد دعوى خالية عن الحجة يراد به التلقين كما ربما يتوهم بل هي مقدمة قريبة من الضرورة - أوهي ضرورية - تستدعي الحكم بضرورة البعث للجزاء فإن الإنسان المتلبس بهذه الحياة الدنيوية الملحوقة للموت لا يخلو من أن يحصل له وصف حسن العمل أو خلافه وهو مجهز بحسب الفطرة بما لولا عروض عارض السوء لساقه إلى حسن العمل، وقلما يخلو إنسان من حصول أحد الوصفين كالأطفال ومن في حكمهم.
والوصف الحاصل المترتب على وجود الشيء الساري في أغلب أفراده غاية في وجوده مقصودة في إيجاده فكما أن الحياة النباتية لشجرة كذا إذ كانت تؤدي في الغالب إلى أثمارها ثمرة كذا يعد ذلك غاية لوجودها مقصودة منها كذلك حسن العمل والصلاح غاية لخلق الإنسان، ومن المعلوم أيضا أن الصلاح وحسن العمل لوكان مطلوبا لكان مطلوبا لغيره لا لنفسه، والمطلوب بالذات الحياة الطيبة التي لا يشوبها نقص ولا يعرضها لغو ولا تأثيم فالآية في معنى قوله: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35].
قوله تعالى: {الذي خلق سبع سماوات طباقا} إلخ، أي مطابقة بعضها فوق بعض أو بعضها يشبه البعض - على ما احتمل - وقد مر في تفسير حم السجدة بعض ما يمكننا من القول فيها.
وقوله: {ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت} قال الراغب: الفوت بعد الشيء عن الإنسان بحيث يتعذر إدراكه، قال تعالى: {وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار}.
قال: والتفاوت الاختلاف في الأوصاف كأنه يفوت وصف أحدهما الآخر أو وصف كل واحد منهما الآخر، قال تعالى: {ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت} أي ليس فيها ما يخرج عن مقتضى الحكمة.
انتهى.
فالمراد بنفي التفاوت اتصال التدبير وارتباط الأشياء بعضها ببعض من حيث الغايات والمنافع المترتبة على تفاعل بعضها في بعض، فاصطكاك الأسباب المختلفة في الخلقة وتنازعها كتشاجر كفتي الميزان وتصارعهما بالثقل والخفة والارتفاع والانخفاض فإنهما في عين أنهما تختلفان تنفقان في إعانة من بيده الميزان فيما يريده من تشخيص وزن السلعة الموزونة.
فقد رتب الله أجزاء الخلقة بحيث تؤدي إلى مقاصدها من غير أن يفوت بعضها غرض بعض أو يفوت من بعضها الوصف اللازم فيه لحصول الغاية المطلوبة.
والخطاب في {ما ترى} خطاب عام لكل من يمكنه الرؤية وفي إضافة الخلق إلى الرحمن إشارة إلى أن الغاية منه هي الرحمة العامة، وتنكير {تفاوت} وهو في سياق النفي وإدخال {من} عليه لإفادة العموم.
وقوله: {فارجع البصر هل ترى من فطور} الفطور الاختلال والوهي، والمراد بإرجاع البصر النظر ثانيا وهو كناية عن المداقة في النظر والإمعان فيه.
قوله تعالى: {ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير} الخاسئ من خسأ البصر إذا انقبض عن مهانة كما قال الراغب، وقال أيضا: الخاسر المعيا لانكشاف قواه، ويقال للمعيا: حاسر ومحسور: أما الحاسر فتصور أنه بنفسه قد حسر قوته، وأما المحسور فتصور أن التعب قد حسره، وقوله عز وجل: {ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير} يصح أن يكون بمعنى حاسر وأن يكون بمعنى محسور.
انتهى.
وقوله: {كرتين} الكرة الرجعة والمراد بالتثنية التكثير والتكرير، والمعنى: ثم ارجع البصر رجعة بعد رجعة أي رجعات كثيرة ينقلب إليك البصر منقبضة مهينة والحال أنه كليل معيا لم يجد فطورا.
فقد أشير في الآيتين إلى أن النظام الجاري في الكون نظام واحد متصل الأجزاء مرتبط الأبعاض.
قوله تعالى: {ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح} إلى آخر الآية، المصابيح جمع مصباح وهو السراج سمي الكواكب مصابيح لإنارتها وإضاءتها وقد تقدم كلام في ذلك في تفسير سورة حم السجدة.
وقوله: {وجعلناها رجوما للشياطين} أي وجعلنا الكواكب التي زينا بها السماء رجوما يرجم بها من استرق السمع من الشياطين كما قال تعالى: {إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ} [الحجر: 18] ، وقال: {إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات: 10].
قيل: إن الجملة دليل أن المراد بالكواكب المزينة بها السماء مجموع الكواكب الأصلية والشهب السماوية فإن الكواكب الأصلية لا تزول عن مستقرها والكواكب والنجم يطلقان على الشهب كما يطلقان على الأجرام الأصلية.
وقيل: تنفصل من الكواكب شهب تكون رجوما للشياطين أما الكواكب أنفسها فليست تزول إلا أن يريد الله إفناءها.
وهذا الوجه أوفق للأنظار العلمية الحاضرة، وقد تقدم بعض الكلام في معنى رمي الشياطين بالشهب.
وقوله: {وأعتدنا لهم عذاب السعير} أي وهيأنا للشياطين وهم أشرار الجن عذاب النار المسعرة المشتعلة.
قوله تعالى: {وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم وبئس المصير} لما أورد بعض آيات ربوبيته تعالى عقبها بالوعيد على من كفر بربوبيته على ما هو شأن هذه السورة من تداخل الحجج والوعيد والإنذار.
والمراد بالذين كفروا بربوبيته أعم من الوثنيين النافين لربوبيته لغير أربابهم القائلين بأنه تعالى رب الأرباب فقط، والنافين لها مطلقا والمثبتين لربوبيته مع التفريق بينه وبين رسله كاليهود والنصارى حيث آمنوا ببعض رسله وكفروا ببعض.
والآية مع ذلك متصلة بقوله: {الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور} لما فيها من الإشارة إلى البعث والجزاء متصلة بما قبلها كالتعميم بعد التخصيص.
قوله تعالى: {إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا وهي تفور تكاد تميز من الغيظ} قال الراغب: الشهيق طول الزفير وهو رد النفس والزفير مدة انتهى، والفوران كما في المجمع، ارتفاع الغليان، والتميز: التقطع والتفرق، والغيظ: شدة الغضب، والمعنى: إذا طرح الكفار في جهنم سمعوا لها شهيقا - أي تجذبهم إلى داخلها كما يجذب الهواء بالشهيق إلى داخل الصدر - وهي تغلي بهم فترفعهم وتخفضهم تكاد تتلاشى من شدة الغضب.
قوله تعالى: {كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها أ لم يأتكم نذير} الفوج - كما قاله الراغب - الجماعة المارة المسرعة، وفي قوله: {كلما ألقي فيها فوج} إشارة إلى أن الكفار يلقون في النار جماعة جماعة كما يشير إليه قوله: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا } [الزمر: 71] ، وإنما يلقون كذلك بلحوق التابعين لمتبوعيهم في الضلال كما قال تعالى: {وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ} [الأنفال: 37] ، وقد تقدم بعض توضيحه في ذيل الآية من سورة الأنفال.
والخزنة جمع خازن وهو الحافظ على الشيء المدخر والمراد بهم الملائكة الموكلون على النار المدبرون لأنواع عذابها قال تعالى: {عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ } [التحريم: 6] ، وقال: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً } [المدثر: 27 - 31].
والمعنى: كلما طرح في جهنم جماعة من جماعات الكفار المسوقين إليها سألهم الملائكة الموكلون على النار الحافظون لها - توبيخا - أ لم يأتكم نذير؟ وهو النبي المنذر.
قوله تعالى: {قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا} إلى آخر الآية حكاية جوابهم لسؤال الخزنة، وفيه تصديق أنهم قد جاءهم نذير فنسبوه إلى الكذب واعتراف.
وقوله: {ما نزل الله من شيء} بيان لتكذيبهم، وكذا قوله: {إن أنتم إلا في ضلال كبير} وقيل: قوله: {إن أنتم} إلخ، كلام الملائكة يخاطبون به الكفار بعد جوابهم عن سؤالهم بما أجابوا، وهو بعيد من السياق، وكذا احتمال كونه من كلام الرسل الذين كذبوهم تحكيه الملائكة لأولئك الكفار.
قوله تعالى: {وقالوا لوكنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير} يطلق السمع ويراد به إدراك الصوت والقول بالجارحة وربما يراد به ما هو الغاية منه عند العقلاء وهو الالتزام بمقتضاه من الفعل والترك، ويطلق العقل على تمييز الخير من الشر والنافع من الضار، وربما يراد به ما هو الغاية منه وهو الالتزام بمقتضاه من طلب الخير والنفع واجتناب الشر والضر، قال تعالى: { لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف: 179].
وأكثر ما ينتفع بالسمع عامة الناس لقصورهم عن تعقل دقائق الأمور وإدراك حقيقتها والاهتداء إلى مصالحها ومفاسدها وإنما ينتفع بالعقل الخاصة.
فقوله: {لوكنا نسمع أو نعقل} أريد بالسمع استجابة دعوة الرسل والالتزام بمقتضى قولهم وهم النصحاء الأمناء، وبالعقل الالتزام بمقتضى ما يدعون إليه من الحق بتعقله والاهتداء العقلي إلى أنه حق ومن الواجب أن يخضع الإنسان للحق.
وإنما قدم السمع على العقل لأن استعماله من شأن عامة الناس وهم الأكثرون والعقل شأن الخاصة وهم آحاد قليلون.
والمعنى: لوكنا في الدنيا نطيع الرسل في نصائحهم ومواعظهم أو عقلنا حجة الحق ما كنا اليوم في أصحاب السعير وهم مصاحبو النار المخلدون فيها.
وقيل: إنما جمع بين السمع والعقل لأن مدار التكليف على أدلة السمع والعقل.
قوله تعالى: {فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير} كانوا إنما قالوا: {لوكنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير} ندامة على ما فرطوا في جنب الله وفوتوا على أنفسهم من الخير فاعترفوا بأن ما أتوا به كان تبعته دخول النار وكان عليهم أن لا يأتوا به، وهذا هو الذنب فقد اعترفوا بذنبهم.
وإنما أفرد الذنب بناء على إرادة معنى المصدر منه وهو في الأصل مصدر.
وقوله: {فسحقا لأصحاب السعير} السحق تفتيت الشيء كما ذكره الراغب وهو دعاء عليهم.
______________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج19 ، ص308-312.
عالم الوجود المتكامل :
تبدأ آيات هذه السورة بمسألة مالكية وحاكمية الله سبحانه ، وخلود ذاته المقدسة ، وهي في الواقع مفتاح جميع أبحاث هذه السورة المباركة (2) .
يقول تعالى : {تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير}.
" تبارك " : من مادة ( بركة ) في الأصل من ( برك ) على وزن ( ترك ) بمعنى ( صدر البعير ) ، وعندما يقال : ( برك البعير ) يعني وضع صدره على الأرض . ثم استعملت الكلمة بمعنى الدوام والبقاء وعدم الزوال ، وأطلقت كذلك على كل نعمة باقية ودائمة ، ومن هنا يقال لمحل خزن الماء ( بركة ) لأن الماء يبقى فيها مدة طويلة .
وقد ذكرت الآية أعلاه دليلا ضمنيا على أن الذات الإلهية مباركة ، وهو مالكيته وحاكميته على الوجود ، وقدرته على كل شيء ، ولهذا السبب فإن وجوده تعالى كثير البركة ولا يعتريه الزوال .
ثم يشير سبحانه في الآية اللاحقة إلى الهدف من خلق الإنسان وموته وحياته ، وهي من شؤون مالكيته وحاكميته تعالى فيقول : {الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا} .
" الموت " : حقيقته الانتقال من عالم إلى عالم آخر ، وهذا الأمر وجودي يمكن أن يكون مخلوقا ، لأن الخلقة ترتبط بالأمور الوجودية ، وهذا هو المقصود من الموت في الآية الشريفة ، أما الموت بمعنى الفناء والعدم فليس مخلوقا ، لذا فإنه غير مقصود .
ثم إن ذكر الموت هنا قبل الحياة هو بلحاظ التأثير العميق الذي يتركه الالتفات إلى الموت ، وما يترتب على ذلك من سلوك قويم وأعمال مقترنة بالطاعة والالتزام ، إضافة إلى أن الموت كان في حقيقته قبل الحياة .
أما الهدف من الامتحان فهو تربية الإنسان كي يجسد الاستقامة والتقوى والطهر في الميدان العملي ليكون لائقا للقرب من الله سبحانه ، وقد بحثنا ذلك مفصلا فيما سبق (3) .
كما أن الجدير بالملاحظة في قوله " أحسن عملا " هو التأكيد على جانب ( حسن العمل ) ، ولم تؤكد الآية على كثرته ، وهذا دليل على أن الإسلام يعير اهتماما ( للكيفية ) لا ( للكمية ) ، فالمهم أن يكون العمل خالصا لوجهه الكريم ، ونافعا للجميع حتى ولو كان محدود الكمية .
لذا ورد في تفسير ( أحسن عملا ) ، روايات عدة ، فعن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال : " أتمكم عقلا ، أشدكم لله خوفا ، وأحسنكم فيما أمر الله به ، ونهى عنه نظرا ، وإن كان أقلكم تطوعا " (4) .
حيث أن العقل الكامل يطهر العمل ، ويجعل النية أكثر خلوصا لله عز وجل ويضاعف الأجر .
وجاء في حديث عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) أنه قال حول تفسير ( أحسن عملا ) :
" ليس يعني أكثر عملا ، ولكن أصوبكم عملا ، وإنا الإصابة خشية الله والنية الصادقة . ثم قال : الإبقاء على العمل حتى يخلص ، أشد من العمل ، والعمل الخالص هو الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلا الله عز وجل " (5) .
وتحدثنا في تفسير الآية : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] ، وقلنا : أن الهدف من خلق الإنسان في تلك الآية هو العبودية لله عز وجل ، وهنا نجد الهدف : ( اختباره بحسن العمل ) . ومما لا شك فيه أن مسألة الاختبار والإمتحان لا تنفك عن مسألة العبودية لله سبحانه ، كما أن لكمال العقل والخوف من الله تعالى والنية الخالصة لوجهه الكريم - والتي أشير لها في الروايات أعلاه ، أثرا في تكامل روح العبودية .
ومن هنا نعلم أن العالم ميدان الامتحان الكبير لجميع البشر ، ووسيلة هذا الامتحان هو الموت والحياة ، والهدف منه هو الوصول إلى حسن العمل الذي مفهومه تكامل المعرفة ، وإخلاص النية ، وإنجاز كل عمل خير .
وإذا لاحظنا أن بعض المفسرين فسر ( أحسن عملا ) بمعنى ذكر الموت أو التهيؤ وما شابه ذلك ، فإن هذا في الحقيقة إشارة إلى مصاديق من المعنى الكلي .
وبما أن الإنسان يتعرض لأخطاء كثيرة في مرحلة الامتحان الكبير الذي يمر به ، فيجدر به ألا يكون متشائما ويائسا من عون الله سبحانه ومغفرته له ، وذلك من خلال العزم على معالجة أخطائه ونزواته النفسية وإصلاحها ، حيث يقول تعالى : {وهو العزيز الغفور} .
نعم ، إنه قادر على كل شيء ، وغفار لكل من يتوب إليه .
وبعد استعراض نظام الموت والحياة الذي تناولته الآية السابقة ، تتناول الآية اللاحقة النظام الكلي للعالم ، وتدعو الإنسان إلى التأمل في عالم الوجود ، والتهيؤ لمخاض الامتحان الكبير عن طريق التدبر في آيات هذا الكون العظيم ، يقول تعالى : {الذي خلق سبع سماوات طباقا} .
بالنسبة إلى موضوع السماوات السبع فقد استعرضنا شيئا حولها في تفسير الآية ( 12 ) من سورة الطلاق ، ونضيف هنا أن المقصود من ( طباقا ) هو أن السماوات السبع ، كلا منها فوق الأخرى ، إذ أن معنى ( المطابقة ) في الأصل هو الشيء فوق شيء آخر .
ويمكن اعتبار " السماوات السبع " إشارة إلى الكرات السبع للمنظومة الشمسية ، والتي يمكن رؤيتها بالعين المجردة ، حيث تبعد كل منها مسافة معينة عن الشمس أو تكون كل منها فوق الأخرى .
أما إذا اعتبرنا أن جميع ما نراه من النجوم الثابتة والسيارة ضمن السماء الأولى ، فيتضح لنا أن هنالك عوالم أخرى في المراحل العليا ، حيث أن كل واحد منها يكون فوق الآخر .
ثم يضيف سبحانه : {ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت} .
إن الآية أعلاه تبين لنا أن عالم الوجود - بكل ما يحيطه من العظمة – قائم وفق نظام مستحكم ، وقوانين منسجمة ، ومقادير محسوبة ، ودقة متناهية ، ولو وقع أي خلل في جزء من هذا العالم الفسيح لأدى إلى دماره وفنائه .
وهذه الدقة المتناهية ، والنظام المحير ، والخلق العجيب ، يتجسد لنا في كل شيء ، ابتداء من الذرة الصغيرة وما تحويه من الإلكترونات والنيوترونات والبروتونات ، وانتهاء بالنظم الحاكمة على جميع المنظومة الشمسية والمنظومات الأخرى ، كالمجرات وغيرها . . إذ أن جميع ذلك يخضع لسيطرة قوانين متناهية في الدقة ، ويسير وفق نظام خاص .
وخلاصة القول أن كل شيء في الوجود له قانون وبرنامج ، وكل شيء له نظام محسوب .
ثم يضيف تعالى مؤكدا : {فارجع البصر هل ترى من فطور} .
" فطور " من مادة ( فطر ) ، على وزن ( سطر ) بمعنى الشق من الطول ، كما تأتي بمعنى الكسر ( كإفطار الصيام ) والخلل والإفساد ، وقد جاءت بهذا المعنى في الآية مورد البحث .
ويقصد بذلك أن الإنسان كلما دقق وتدبر في عالم الخلق والوجود ، فإنه لا يستطيع أن يرى أي خلل أو اضطراب فيه .
لذا يضيف سبحانه مؤكدا هذا المعنى في الآية اللاحقة حيث يقول : {ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير} .
" كرتين " من مادة ( كر ) على وزن ( شر ) بمعنى التوجه والرجوع إلى شيء معين ، و ( كرة ) بمعنى التكرار و ( كرتين ) مثناها .
إلا أن بعض المفسرين ذكر أن المقصود من ال ( كرتين ) هنا ليس التثنية ، بل الالتفات والتوجه المتكرر المتعاقب والمتعدد .
وبناء على هذا فإن القرآن الكريم يأمر الناس في هذه الآيات أن يتطلعوا ويتأملوا ويدققوا النظر في عالم الوجود ثلاث مرات - كحد أدنى – ويتدبروا أسرار الخلق . وبمعنى آخر فإن على الإنسان أن يدقق في خلق الله سبحانه مرات ومرات ، وعندما لا يجد أي خلل أو نقص في هذا النظام العجيب والمحير لخلق الكون ، فإن ذلك سيؤدي إلى معرفة خالق هذا الوجود العظيم ومدى علمه وقدرته اللامتناهية ، مما يؤدي إلى عمق الإيمان به سبحانه والقرب من حضرته المقدسة .
" خاسئ " من مادة ( خسأ ) و ( خسوء ) على وزن ( مدح ، وخشوع ) وإذا كان مورد استعمالها العين ، فيقصد بهما التعب والعجز ، أما إذا استعملت للكلب فيقصد منها طرده وإبعاده .
" حسير " من مادة ( حسر ) ، على وزن ( قصر ) بمعنى جعل الشيء عاريا ، وإذا ما فقد الإنسان قدرته واستطاعته بسبب التعب ، فإنه يكون عاريا من قواه ، لذا فإنها جاءت بمعنى التعب والعجز .
وبناء على هذا فإن كلمتي ( خاسئ ) و ( حسير ) اللتين وردتا في الآية أعلاه ، تعطيان معنى واحدا في التأكيد على عجز العين ، وبيان عدم مقدرتها على مشاهدة أي خلل أو نقص في نظام عالم الوجود .
وفرق البعض بين معنى الكلمتين ، إذ قال : إن ( خاسئ ) تعني المحروم وغير الموفق ، و ( حسير ) بمعنى العاجز .
وعلى كل حال فيمكن استنتاج أساسين من الآيات المتقدمة :
الأول : أن القرآن الكريم يأمر جميع السائرين في درب الحق أن يتدبروا ويتأملوا كثيرا في أسرار عالم الوجود وما فيه من عجائب الخلق ، وأن لا يكتفوا بالنظر إلى هذه المخلوقات مرة واحدة أو مرتين ، حيث أن هنالك أسرارا كثيرة وعظيمة لا تتجلى ولا تظهر من خلال النظرة الأولى أو الثانية . بل تستدعي النظر الثاقب والمتعاقب والدقة الكثيرة ، حتى تتضح الأسرار وتتبين الحقائق .
الأمر الثاني : الذي يتبين لنا من خلال التدقيق في هذا النظام ، هو إدراك طبيعة الانسجام العظيم بين مختلف جوانب الوجود ، بالإضافة إلى خلوه من كل نقص وعيب وخلل .
وإذا ما لوحظ في النظرة الأولية لبعض الظواهر الموجودة في هذا العالم ( كالزلازل والسيول ، والأمراض ، والكوارث الطبيعية الأخرى ، والتي تصيب البشر أحيانا في حياتهم ) واعتبرت شرورا وآفات وفسادا ، فإنه من خلال الدراسات والتدقيقات المتأملة يتبين لنا أن هذه الأمور هي الأخرى تمثل أسرارا أساسية غاية في الدقة (6) .
إن لهذه الآيات دلالة واضحة على دقة النظام الكوني ، حيث معناها أن وجود النظام في كل شيء دليل على وجود العلم والقدرة على خلق ذلك الشيء ، وإلا ، فإن حصول حوادث عشوائية غير محسوبة لا يمكن أبدا أن تكون منطلقا للنظام ومبدأ للحساب .
يقول الإمام الصادق ( عليه السلام ) في حديث مفضل المعروف عنه " إن الإهمال لا يأتي بالصواب ، والتضاد لا يأتي بالنظام " (7) .
ثم تتناول الآية التالية صفحة السماء التي يتجسد فيها الجمال والروعة ، حيث النجوم المتلألئة في جو السماء ، المشعة بضوئها الساحر في جمال ولطافة ، حيث يقول سبحانه : {ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين وأعتدنا لهم عذاب السعير} .
إن نظرة متأملة في ليلة مظلمة خالية من الغيوم إلى جو السماء الملئ بالنجوم كاف لإثارة الانتباه فينا إلى تلك العوالم العظيمة ، وخاصة طبيعة النظم الحاكمة عليها ، والروعة المتناهية في جمالها ولطافتها وعظمتها ، وسكونها المقترن بالأسرار العجيبة ، والهيبة التي تلقي بظلالها على جميع العوالم ، مما يجعل الإنسان أمام عالم ملئ بالمعرفة ونور الحق ، ويدفعه باتجاه عشق البارئ عز وجل الذي لا يمكن وصفه والتعبير عنه بأي لسان .
وتؤكد الآية الكريمة - مرة أخرى - الحقيقة القائلة بأن جميع النجوم التي نشاهدها ما هي إلا جزء من السماء الأولى ، والتي هي أقرب إلينا من أي سماء أخرى من السماوات السبع ، لذا أطلق عليها اسم ( السماء الدنيا ) أي السماء القريبة والتي هي أسفل جميع السماوات الأخرى .
" الرجوم " بمعنى ( الرصاص ) وهي إشارة إلى الشهب التي تقذف كرصاصة من جهة إلى أخرى من السماء ، كما أن ( الشهب ) هي بقايا النجوم المتلاشية والتي تأثرت بحوادث معينة ، وبناء على هذا ، فإن المقصود بجعل الكواكب رجوما للشياطين ، هو هذه الصخور المتبقية .
أما كيفية رجم الشياطين برصاصات الشهب ( الأحجار الصغيرة ) التي تسير بصورة غير هادفة في جو السماء ، فقد بيناه بشكل تفصيلي في التفسير الأمثل في تفسير الآية ( 18 ) من سورة الحجر ، وكذلك في تفسير الآية ( 20 ) من سورة الصافات .
وقوله تعالى { وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم وبئس المصير ( 6 ) إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا وهي تفور (7) تكاد تميز من الغيظ كلما ألقى فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير ( 8 ) قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلل كبير ( 9 ) وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحب السعير ( 10 ) فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير}
لو كنا نسمع أو نعقل :
كان الحديث في الآيات السابقة عن معالم العظمة والقدرة الإلهية ودلائلها في عالم الوجود ، أما في الآيات مورد البحث فإنه تعالى يتحدث عن الأشخاص الذين يعرضون ويتنكبون عن أدلة الحق ، ويكابرون في تحدي البراهين الدامغة ، ويسلكون طريق الكفر والشرك ، ويقذفون أنفسهم كالشياطين في أتون العذاب الإلهي .
يقول تعالى في البداية : {وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم وبئس المصير} .
ثم يستعرض توضيحا لهذا اللون من العذاب الرهيب فيقول تعالى : {إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا وهي تفور} .
نعم ، إنهم عندما يلقون فيها بمنتهى الذل والحقارة تقترن حالة إلقائهم بصدور صوت مرعب وشديد من جهنم ، حيث يسيطر الرعب والخوف على جميع وجودهم .
" شهيق " في الأصل بمعنى صوت قبيح ومنكر كصوت الحمار ، ويقال أنه مأخوذ من مادة ( شهوق ) بمعنى كونه طويلا ( لذا يطلق على الجبل العالي بأنه شاهق ) ومن هنا فإنه ( شهيق ) جاءت بمعنى الأنين الطويل .
وقال البعض : إن ( الزفير ) هو الصوت الذي يتردد في الحلق ، أما ( الشهيق ) فهو الصوت الذي يتردد في الصدر ، وفي كل الأحوال فإنها إشارة إلى الأصوات المرعبة والمؤلمة .
ثم يضيف تعالى مستعرضا شدة غضب ( جهنم ) وشدة هيجانها وانزعاجها بقوله تعالى : {تكاد تميز من الغيظ} (8) .
إنها حرارة هائلة جدا ونار حارقة مزمجرة كما لو وضعنا إناء كبير على نار محتدمة فإنه لا يلبث أن يفور ويغلي بشكل يكاد فيه أن يتلاشى ويذوب ، أو كإنسان يكاد أن يتفجر من شدة الغضب والثورة والانفعال ، هكذا هو منظر جهنم ، مركز الغضب الإلهي .
ثم يستمر تعالى بقوله : {كلما القي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير} .
فلماذا إذن أوقعتم أنفسكم في هذا المصير البائس ، وهذا البلاء العظيم والساعة الرهيبة ، إن الملائكة ( خزنة جهنم ) يستغربون ويكادون أن يصعقوا لما أصابكم وما أوقعتم به أنفسكم ، في مثل هذه الداهية مع الوعي الذي حباكم به الله سبحانه وما تفضل به عليكم من نعمة الرسل الإلهيين والقادة من الأنبياء والمرسلين . . فكيف اخترتم لأنفسكم مقرا كهذا ؟
{قالوا بلى قد جاءنا نذير ، فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير} .
وهكذا يأتي الاعتراف : نعم قد جاءنا الرسل إلا أننا كذبناهم ولم نسمع نداءهم المحيي للنفوس بل خالفناهم وعارضناهم واعتبرناهم ضالين ، وأخرجناهم من بين صفوفنا ، وأبعدناهم عنا . .
ثم يذكر القرآن الدليل الأصلي على شقائهم وتعاستهم ولكن على لسانهم فيقول : {وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير} ، أجل هكذا يأتي اعترافهم بذنوبهم بعد فوات الأوان {فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير} . وفي هذه الآيات وضمن بيان المصير المرعب لهؤلاء يشير إلى السبب الحقيقي لذلك ، فمن جهة أعطاهم الله تعالى الاذن السامعة والعقل ، ومن جهة أخرى بعث إليهم الرسل والأنبياء بالدلائل الواضحة فلو اقترن هذان الأمران فالنتيجة هي ضمان سعادة الإنسان ، أما لو كان للإنسان اذن لا يسمع بها ، وعين لا يبصر بها ، وعقل لا يفكر به ، فلو جاءه جميع الأنبياء والمرسلين بكافة معاجزهم وكتبهم ، لم ينتفع بشئ . وقد ورد في الحديث الشريف ، أن بعض المسلمين ذكروا شخصا عند رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأثنوا عليه ، فقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : " كيف عقل الرجل " فقيل :
يا رسول الله نحن نسأل عن سعيه وعبادته وخيراته وأنت تسأل عن عقله ؟ ! فقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : " إن الأحمق يصيب بحمقه أعظم من فجور الفاجر ، وإنما يرتفع العباد غدا في الدرجات وينالون الزلفى من ربهم على قدر عقولهم ! "(9) .
" سحق " على وزن ( قفل ) وهي في الأصل بمعنى طحن الشيء وجعله ناعما كما تطلق على الملابس القديمة ، إلا أنها هنا بمعنى البعد عن رحمة الله ، وبناء على هذا فإن مفهوم قوله تعالى : فسحقا لأصحاب السعير هو : فبعدا لأصحاب النار عن رحمة الله ، ولأن لعنة وغضب الله تعالى يكون توأما مع التجسيد الخارجي له ، فإن هذه الجملة بمثابة الدليل على أن هذه المجموعة بعيدة عن رحمة الله بشكل كلي .
____________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج14 ، ص307-316.
2 - هذه السورة هي ثاني سورة تبدأ بكلمة ( تبارك ) وسورة الفرقان هي الأخرى بدأت ب تبارك الذي نزل الفرقان على
عبده ليكون للعالمين نذيرا .
3 - يمكن مراجعة الشرح الوافي حول الامتحانات الإلهية في تفسير الآية ( 155 ) من سورة
البقرة .
4 - مجمع البيان ، ج 10 ، ص 322 .
5 - تفسير الصافي ، الآيات مورد البحث .
6 - ذكرنا شرحا لهذا الموضوع في مباحث ( إثبات وجود الله ) وذلك عند جوابنا على أدلة
الماديين في موضوع ( الآفات
والبلايا ) ، يرجى مراجعة كتاب ( خالق العالم ) .
7 - بحار الأنوار ، ج 3 ، ص 63 .
8 - ( تميز ) بمعنى التلاشي والتشتت وكانت في الأصل ( تتميز ) .
9- مجمع البيان ، ج10 ، ص324.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|