أقرأ أيضاً
التاريخ: 31-10-2017
458
التاريخ: 31-10-2017
229
|
{إن الإنسان خلق هلوعا} أي ضجورا شحيحا جزوعا من الهلع وهو شدة الحرص وقال أهل البيان تفسيره فيما بعده {إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا} يعني إذا أصابه الفقر لا يحتسب لا يصبر وإذا أصابه الغنى منعه من البر ثم استثنى سبحانه الموحدين المطيعين فقال {إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون} مستمرون على أدائها لا يخلون بها ولا يتركونها وروي عن أبي جعفر (عليه السلام) أن هذا في النوافل وقوله {والذين هم على صلاتهم يحافظون} في الفرائض والواجبات وقيل هم الذين لا يزيلون وجوههم عن سمت القبلة عن عقبة عن عامر والزجاج.
{والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم} يعني الزكاة المفروضة والسائل الذي يسأل والمحروم الفقير الذي يتعفف ولا يسأل وقد سبق تفسيرها وروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال الحق المعلوم ليس من الزكاة وهو الشيء الذي تخرجه من مالك إن شئت كل جمعة وإن شئت كل يوم ولكل ذي فضل فضله وروي عنه أيضا أنه قال هو أن تصل القرابة وتعطي من حرمك وتصدق على من عاداك.
{والذين يصدقون بيوم الدين} أي يؤمنون بأن يوم الجزاء والحساب حق لا يشكون في ذلك {والذين هم من عذاب ربهم مشفقون} أي خائفون {إن عذاب ربهم غير مأمون} أي لا يؤمن حلوله بمستحقيه وهم العصاة وقيل معناه يخافون أن لا تقبل حسناتهم ويؤخذون بسيئاتهم وقيل غير مأمون لأن المكلف لا يدري هل أدى الواجب كما أمر به وهل انتهى عن المحظور على ما نهي عنه ولو قدرنا أن إنسانا يعلم ذلك من نفسه لكان آمنا {والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم} يعني الذين يحفظون فروجهم عن المناكح على كل وجه وسبب إلا على الأزواج أو ملك الأيمان من الإماء {فإنهم غير ملومين} على ترك حفظ الفروج عنهم.
{فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون} فمن طلب وراء ما أباحه الله له من الفروج فأولئك هم الذين تعدوا حدود الله وخرجوا عما أباحه لهم ومعنى وراء ذلك ما خرج عن حده من أي جهة كان {والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون} أي حافظون والأمانة ما يؤتمن المرء عليه مثل الوصايا والودائع والحكومات ونحوها وقيل الأمانة الإيمان وما أخذ الله عباده من التصديق بما أوجبه عليهم والعمل بما يجب عليهم العمل به {والذين هم بشهاداتهم قائمون} أي يقيمون الشهادات التي تلزمهم إقامتها والشهادة الإخبار بالشيء أنه على ما شاهدوه ذلك أنه قد يكون عن مشاهدة للمخبر به وقد يكون عن مشاهدة ما يدعو إليه {والذين هم على صلاتهم يحافظون} أي يحفظون أوقاتها وأركانها فيؤدونها بتمامها ولا يضيعون شيئا منها وروى محمد بن الفضيل عن أبي الحسن (عليه السلام) أنه قال أولئك أصحاب الخمسين صلاة من شيعتنا وروى زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال هذه الفريضة من صلاها لوقتها عارفا بحقها لا يؤثر عليها غيرها كتب الله له بها براءة لا يعذبه ومن صلاها لغير وقتها مؤثرا عليها غيرها فإن ذلك إليه إن شاء غفر له وإن إن شاء عذبه و{أولئك} من وصفوا بهذه الصفات {في جنات} أي بساتين يجنها الشجر {مكرمون} معظمون مبجلون بما يفعل بهم من الثواب .
___________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج10 ، ص124-126.
{إِنَّ الإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً} .
يشير سبحانه بهذا إلى ان الإنسان ضعيف بطبعه كما قال في الآية 28 من سورة النساء : {وخُلِقَ الإِنْسانُ ضَعِيفاً} والآية 54 من سورة الروم : {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ} . ويظهر هذا الضعف عند وجود أسبابه كالغنى والفقر ، فان استغنى ضنّ بماله خوفا من الفقر ، وان افتقر استولى عليه اليأس والقنوط . .
ولكن من آمن باللَّه حقا ، ووثق به وبرحمته يتغلب على هذا الضعف ، ويصبر عند الشدائد صبر الأحرار متطلعا إلى اليسر والفرج ، ويجود بالعطية مؤمنا بأن ما عند اللَّه خير وأبقى . وفيما يلي ذكر سبحانه طرفا من أوصاف المؤمنين .
1 - {إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ} . ويدل هذا الاستثناء من الإنسان الجزوع الهلوع ، يدل دلالة واضحة وقاطعة على ان المصلين للَّه حقا هم الذين يثقون به وحده ، ولا يخضعون لأحد سواه {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} أما الذين يكبرون ويهللون تم يركعون ويسجدون لأهل الجاه والمال طمعا بما في أيديهم ، أما هؤلاء فليسوا من المصلين في شيء حتى ولو داوموا على الفرائض والنوافل ، ولم يشغلهم عنها أي شاغل .
2 - {والَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ والْمَحْرُومِ} . يبذلون في سبيل الطاعات والخيرات لوجه اللَّه تعالى لا يبتغون جزاء ولا شكورا . وتقدم مثله في الآية 19 من سورة الذاريات .
3 - {والَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} . يؤمنون باللَّه واليوم الآخر ، ويعملون بموجب هذا الايمان ، وإلا فإن الايمان النظري لا يجدي شيئا .
4 - {والَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ} .
المؤمن يرجو ويخاف ، ينظر إلى الجنة بعين ، والى النار بعين ، يخاف من هذه ، ولا ييأس من تلك . قال سبحانه : {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ} 99 الأعراف . وقال : {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ} 88 يوسف . وأحسن الناس ظنا باللَّه أشدهم خوفا منه كما قال الإمام علي (عليه السلام) أي ان الخوف منه تعالى يأتي على قدر العلم بعظمته .
5 - {والَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَو ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ} . على المؤمن ان يصبر ويرضى بما قسّم اللَّه له من بنات حواء ، وعلى المؤمنة أن ترضى وتصبر على ما آتاها اللَّه من أبناء آدم ، ومن صبر وشكر فأجره على اللَّه ، وإلا فعقابه الحرمان من الحور والجنان . وتقدم بالحرف الواحد في الآية 8 من سورة المؤمنون ج 5 ص 358 .
6 - {والَّذِينَ هُمْ لأَماناتِهِمْ وعَهْدِهِمْ راعُونَ} . المؤمن إذا عاهد وفي ، وإذا اؤتمن لم يخن ، ومن لا وفاء له لا دين له ولا ضمير . وأيضا تقدم بالحرف في الآية 8 من سورة المؤمنون ج 5 ص 359 .
7 - {والَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ} . الشهادة أمانة اللَّه عند الشاهد ، فمن كتمها أو حرفها فقد خان اللَّه : {ومَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ ومَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} - 140 البقرة .
8 - {والَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ} . وتسأل : أليست هذه الآية تكرارا للآية السابقة ، وهي قوله تعالى : {الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ} ؟
وأجاب بعض المفسرين بأن الدوام غير المحافظة ، فمعنى دوام الصلاة تكرارها في أوقاتها ومعنى المحافظة عليها الإتيان بها بشرطها وشروطها ! اما نحن فلا نرى أي فرق بين الدوام والمحافظة لأن الصلاة لا تكون صلاة إلا مع المحافظة على جميع الأجزاء والشرائط ، فإذا فقدت واحدا منها بطلت ، ولا يكون تكرارها تكرارا للصلاة . . والأقرب إلى الصواب ان اللَّه سبحانه أعاد الآية لمجرد الاهتمام بالصلاة والتنبيه إلى أنها عمود الإسلام .
{أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} . أولئك إشارة إلى من اجتمعت فيهم الصفات المذكورة ، وانهم عند اللَّه سبحانه في منازل العز والكرامة .
____________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7 ، ص417-419.
تشير الآيات إلى السبب الأولي الذي يدعو الإنسان إلى رذيلة الإدبار والتولي والجمع و الإيعاء التي تؤديه إلى دخول النار الخالدة التي هي لظى نزاعة للشوى على ما تذكره الآيات.
وذلك السبب صفة الهلع التي اقتضت الحكمة الإلهية أن يخلق الإنسان عليها ليهتدي بها إلى ما فيه خيره وسعادته غير أن الإنسان يفسدها على نفسه ويسيء استعمالها في سبيل سعادته فتسلك به إلى هلكة دائمة إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في جنات مكرمون.
قوله تعالى: {إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا} الهلوع صفة مشتقة من الهلع بفتحتين وهو شدة الحرص، وذكروا أيضا أن الهلوع تفسره الآيتان بعده فهو الجزوع عند الشر والمنوع عند الخير وهو تفسير سديد والسياق يناسبه.
وذلك أن الحرص الشديد الذي جبل عليه الإنسان ليس حرصا منه على كل شيء خيرا كان أوشرا أو نافعا أوضارا بل حرصا على الخير والنافع ولا حرصا على كل خير أو نافع سواء ارتبط به أولم يرتبط وكان له أو لغيره بل حرصا منه على ما يراه خيرا لنفسه أو نافعا في سبيل الخير، ولازم هذا الحرص أن يظهر منه التزعزع والاضطراب عند مس الشر وهو خلاف الخير وأن يمتنع عن ترك الخير عند مسه ويؤثر نفسه على غيره إلا أن يرى الترك أكثر خيرا وأنفع بحاله فالجزع عند مس الشر والمنع عند مس الخير من لوازم الهلع وشدة الحرص.
وليس الهلع وشدة الحرص المجبول عليه الإنسان - وهومن فروع حب الذات - في حد نفسه من الرذائل المذمومة كيف؟ وهي الوسيلة الوحيدة التي تدعو الإنسان إلى بلوغ سعادته وكمال وجوده، وإنما تكون رذيلة مذمومة إذا أساء الإنسان في تدبيرها فاستعملها فيما ينبغي وفيما لا ينبغي وبالحق وبغير حق كسائر الصفات النفسانية التي هي كريمة ما لزمت حد الاعتدال وإذا انحرفت إلى جانب الإفراط أو التفريط عادت رذيلة ذميمة.
فالإنسان في بدء نشأته وهو طفل يرى ما يراه خيرا لنفسه أوشرا لنفسه بما جهز به من الغرائز العاطفة وهي التي تهواه نفسه وتشتهيه قواه من غير أن يحده بحد أو يقدره بقدر فيجزع إذا مسه ألم أو أي مكروه، ويمنع من يزاحمه فيما أمسك به بكل ما يقدر عليه من بكاء ونحوه.
وهو على هذه الحال حتى إذا رزق العقل والرشد أدرك الحق والباطل والخير والشر واعترفت نفسه بما أدرك وحينئذ يتبدل عنده كثير من مصاديق الحق والباطل والخير والشر فعاد كثير مما كان يراه خيرا لنفسه شرا عنده وبالعكس.
فإن أقام على ما كان عليه من اتباع أهواء النفس والعكوف على المشتهيات واشتغل بها عن اتباع الحق وغفل عنه، طبع على قلبه فلم يواجه حقا إلا دحضه ولا ذا حق إلا اضطهده وإن أدركته العناية الإلهية عاد ما كان عنده من الحرص على ما تهواه النفس حرصا على الحق فلم يستكبر على حق واجهه ولا منع ذا حق حقه.
فالإنسان في بادئ أمره وهو عهد الصبي قبل البلوغ والرشد مجهز بالحرص الشديد على الخير وهو صفة كمالية له بحسب حاله بها ينبعث إلى جلب الخير واتقاء الشر قال تعالى: { وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ } [العاديات: 8].
ثم إذا رزق البلوغ والرشد زاد تجهيزا آخر وهو العقل الذي بها يدرك حقائق الأمور على ما هي عليها فيدرك ما هو الاعتقاد الحق وما هو الخير في العمل، ويتبدل حرصه الشديد على الخير وكونه جزوعا عند مس الشر ومنوعا عند مس الخير من الحرص الشديد على الخير الواقعي من الفزع والخوف إذا مسه شر أخروي وهو المعصية والمسابقة إلى مغفرة ربه إذا مسه خير أخروي وهو مواجهة الحسنة، وأما الشر والخير الدنيويان فإنه لا يتعدى فيهما ما حده الله له من الصبر عند المصيبة والصبر على الطاعة والصبر عن المعصية وهذه الصفة صفة كمالية لهذا الإنسان.
وأما إذا أعرض الإنسان عما يدركه عقله ويعترف به فطرته وعكف على اتباع الهوى واعتنق الباطل وتعدى إلى حق كل ذي حق ولم يقف في حرصه على الخير على حد فقد بدل نعمة الله نقمة وأخذ صفة غريزية خلقها الله وسيلة له يتوسل بها إلى سعادة الدنيا والآخرة وسيلة إلى الشقوة والهلكة تسوقه إلى الإدبار والتولي والجمع والإيعاء كما في الآيات.
وقد بان مما تقدم أنه لا ضير في نسبة هلع الإنسان في الآيات إلى الخلقة والكلام مسوق للذم وقد قال تعالى: { الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ } [السجدة: 7] ، وذلك أن ما يلحقه من الذم إنما هومن قبل الإنسان وسوء تدبيره لا من قبله تعالى فهو كسائر نعمه تعالى على الإنسان التي يصيرها نقما بسوء اختياره.
وذكر الزمخشري فرارا من الإشكال أن في الكلام استعارة، والمعنى أن الإنسان لإيثاره الجزع والمنع وتمكنهما منه كأنه مجبول مطبوع عليهما، وكأنه أمر مخلوق فيه ضروري غير اختياري فالكلام موضوع على التشبيه لا لإفادة كونه مخلوقا لله حقيقة لأن الكلام مسوق للذم والله سبحانه لا يذم فعل نفسه، ومن الدليل عليه استثناء المؤمنين الذين جاهدوا أنفسهم فنجوا عن الجزع والمنع جميعا.
وفيه أن الصفة مخلوقة نعمة وفضيلة والإنسان هو الذي يخرجها من الفضيلة إلى الرذيلة ومن النعمة إلى النقمة والذم راجع إلى الصفة من جهة سوء تدبيره لا من حيث إنها فعله تعالى.
واستثناء المؤمنين ليس لأجل أن الصفة غير مخلوقة فيهم بل لأجل أنهم أبقوها على كمالها ولم يبدلوها رذيلة ونقمة.
وأجيب أيضا عن الاستثناء بأنه منقطع وهوكما ترى.
قوله تعالى: {إلا المصلين} استثناء من الإنسان الموصوف بالهلع، وفي تقديم الصلاة على سائر الأعمال الصالحة المعدودة في الآيات التالية دلالة على شرفها وأنها خير الأعمال.
على أن لها الأثر البارز في دفع رذيلة الهلع المذموم وقد قال تعالى: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر{: العنكبوت 45.
قوله تعالى: {الذين هم على صلاتهم دائمون} في إضافة الصلاة إلى الضمير دلالة على أنهم مداومون على ما يأتون به من الصلاة كائنة ما كانت لا أنهم دائما في الصلاة، وفيه إشارة إلى أن العمل إنما يكمل أثره بالمداومة.
قوله تعالى: {والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم} فسره بعضهم بالزكاة المفروضة، وفي الحديث عن الصادق (عليه السلام): أن الحق المعلوم ليس من الزكاة وإنما هو مقدار معلوم ينفقونه للفقراء، والسائل هو الفقير الذي يسأل، والمحروم الفقير الذي يتعفف ولا يسأل والسياق لا يخلو من تأييده فإن للزكاة موارد مسماة في قوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ } [التوبة: 60] وليست مختصة بالسائل والمحروم على ما هو ظاهر الآية.
قوله تعالى: {والذين يصدقون بيوم الدين} الذي يفيده سياق عد الأعمال الصالحة أن المراد بتصديقهم يوم الدين التصديق العملي دون التصديق الاعتقادي وذلك بأن تكون سيرتهم في الحياة سيرة من يرى أن ما يأتي به من عمل سيحاسب عليه فيجازي به إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا.
وفي التعبير بقوله: {يصدقون} دلالة على الاستمرار فهو المراقبة الدائمة بذكره تعالى عند كل عمل يواجهونه فيأتون بما يريده ويتركون ما يكرهه.
قوله تعالى: {والذين هم من عذاب ربهم مشفقون} أي خائفون، والكلام في إشفاقهم من عذاب ربهم نظير الكلام في تصديقهم بيوم الدين فهو الإشفاق العملي الظاهر من حالهم.
ولازم إشفاقهم من عذاب ربهم مع لزومهم الأعمال الصالحة ومجاهدتهم في الله أن لا يثقوا بما يأتون به من الأعمال الصالحة ولا يأمنوا عذاب الله فإن الأمن لا يجامع الخوف.
والملاك في الإشفاق من العذاب أن العذاب على المخالفة فلا منجى منه إلا بالطاعة من النفس ولا ثقة بالنفس إذ لا قدرة لها في ذاتها إلا ما أقدرها الله عليه والله سبحانه مالك غير مملوك، قال تعالى: { قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [المائدة: 17].
على أن الله سبحانه وإن وعد أهل الطاعة النجاة وذكر أنه لا يخلف الميعاد لكن الوعد لا يقيد إطلاق قدرته فهو مع ذلك قادر على ما يريد ومشيته نافذة فلا أمن بمعنى انتفاء القدرة على ما يخالف الوعد فالخوف على حاله ولذلك نرى أنه تعالى يقول في ملائكته: {يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون} فيصفهم بالخوف وهو يصرح بعصمتهم، ويقول في أنبيائه: {وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ } [الأحزاب: 39] ، ويصف المؤمنين في هذه الآية بالإشفاق وهو يعدهم في آخر الآيات بقول جازم فيقول: {أولئك في جنات مكرمون}.
قوله تعالى: {إن عذاب ربهم غير مأمون} تعليل لإشفاقهم من عذاب ربهم فيتبين به أنهم مصيبون في إشفاقهم من العذاب وقد تقدم وجهه.
قوله تعالى: {والذين هم لفروجهم حافظون - إلى قوله - هم العادون} تقدم تفسير الآيات الثلاث في أول سورة المؤمنون.
قوله تعالى: {والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون} المتبادر من الأمانات أنواع الأمانة التي يؤتمنون عليها من المال وسائر ما يوصى به من نفس أو عرض ورعايتهم لها أن يحفظوها ولا يخونوها قيل: ولكثرة أنواعها جيء بلفظ الجمع بخلاف العهد.
وقيل: المراد بها جميع ما كلفهم الله من اعتقاد وعمل فتعم حقوق الله وحقوق الناس فلو ضيعوا شيئا منها فقد خانوه.
وقيل: كل نعمة أعطاها الله عبده من الأعضاء وغيرها أمانة فمن استعمل شيئا منها في غير ما أعطاه الله لأجله وأذن له في استعماله فقد خانه.
وظاهر العهد عقد الإنسان مع غيره قولا أو فعلا على أمر ورعايته أن يحفظه ولا ينقضه من غير مجوز.
وقيل: العهد كل ما التزم به الإنسان لغيره فإيمان العبد لربه عهد منه عاهد به ربه أن يطيعه في كل ما كلفه به فلو عصاه في شيء مما أمره به أو نهاه عنه فقد نقض عهده.
قوله تعالى: {والذين هم بشهاداتهم قائمون} الشهادة معروفة، والقيام بالشهادة عدم الاستنكاف عن تحملها وأداء ما تحمل منها كما تحمل من غير كتمان ولا تغيير، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
قوله تعالى: {والذين هم على صلاتهم يحافظون} المراد بالمحافظة على الصلاة رعاية صفات كمالها على ما ندب إليه الشرع.
قيل: والمحافظة على الصلاة غير الدوام عليها فإن الدوام متعلق بنفس الصلاة والمحافظة بكيفيتها فلا تكرار في ذكر المحافظة عليها بعد ذكر الدوام عليها.
قوله تعالى: {أولئك في جنات مكرمون} الإشارة إلى المصلين في قوله: {إلا المصلين} وتنكير جنات للتفخيم، و{في جنات} خبر و{مكرمون} خبر بعد خبر أو ظرف لقوله: {مكرمون}.
________________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج20 ، ص12-16.
أوصاف المؤمنين :
بعد ذكر أوصاف الطالحين وجوانب من أنواع العذاب في يوم القيامة، يأتي هنا وصف المؤمنين للتعرف عن سبب انقسام النّاس إلى صنفين، وهنا: المعذبون والناجون، يقول أوّلاً: {إنّ الإنسان خلق هلوعاً}.
{إذا مسّه الشرّ جزوعاً}.
يراد بـ «الهلوع» كما يقول المفسّرون وأصحاب اللغة «الحريص»، وآخرون فسّروه بالجزع، وبناءً على التّفسير الأوّل فإنّه يشار إلى ثلاثة أُمور رذيلة يتصف بها هؤلاء وهي: الحرص، والجزع، والبخل، وللتّفسير الثّاني صفتان هما: الجزع، والبخل، لأنّ الثّانية والثّالثة هي تفسير لمعنى الهلوع.
وهنا احتمال آخر وهو أنّ المعنيين يجتمعان في هذه الكلمة، لأنّ هاتين الصفتين متلازمتان مع بعضهما، فالناس الحريصون غالباً ما يكونون بخلاء، ويجزعون عند الشدائد، بالعكس أيضاً صحيح.
وهنا يطرح هذا السؤال، وهو كيف أنّ اللّه خلق الإنسان للسعادة والكمال وجعل فيه الشرّ والسوء؟
وهل بمكن أن يخلق اللّه شيئاً ذا متصفاً بصفة، ثمّ وبعد يذم خلقه؟ بالإضافة إلى ذلك فإنّ القرآن الكريم يصرّح في سورة التين الآية (4): {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم}.
بالتأكيد ليس من أن ظاهر الإنسان حسن وباطنه سيء، بل إنّ الخلقة الكلية للإنسان هي في صورة «أحسن تقويم»، وهناك كذلك آيات أُخرى تمدح المقام الرفيع للإنسان، فكيف تتفق هذه الآيات مع الآية التي نحن بصددها؟
أجوبة هذه الأسئلة تتّضح بالإلتفات إلى نقطة واحدة، وهي أنّ اللّه خلق القوى والغرائز والصفات في الإنسان كوسائل لتكامل الإنسان وبلوغ سعادته، لكن عندما يستخدمها الإنسان في الطريق المنحرف ويسيء تدبيرها والإستفادة منها فستكون العاقبة هي التعاسة والشرّ والفساد، فمثلاً الحرص هو الذي لا يتيح فرصة للإنسان للتوقف عن السعي والحركة والاكتفاء بما لديه من نعمة وهو العطش المحرق الذي يسيطر على الإنسان، فلو أنّ هذه الصفة وقعت في طريق العلم لوجدنا الإنسان حريصاً على التعلم، أو بعبارة اُخرى يتعطش العلم ويعشقه، وبذلك سوف يكون سبباً لكماله، وأمّا إذا أخذت مسيرها في الماديات فإنّها ستكون سبباً للتعاسة والبخل، و بتعيبر آخر: إنّ هذا الصفة فرع من فروع حبّ الذات، وحبّ الذات غريزة توصل الإنسان إلى الكمال، ولكن إذا انحرف في مسيرة فإنّه سوف يجرّه إلى الحسد والبخل وإلى غير ذلك.
وفي هذا الشأن هناك مواهب أُخرى أيضاً بهذا الشكل: إنّ اللّه أودع قدرة عظيمة في قلب الذرة، من المؤكد أنّها نافعة ومفيدة، ولكن إذا ما اُسيء استخدام هذه القدرة وصنع من ذلك القنابل الفتاكة ولم يستخدم في توليد الطاقة الكهربائية والوسائل الصناعية والسلية الاُخرى، فسيكون مدعاة للشرّ والفساد، وبالتمعق فيما ذكرنا يمكن أن الجمع في ما ورد في الانسان وذلك من خلال الآيات القرآنية المبيّنة لحالات الإنسان(2).
ثمّ تذكر الآيات الكريمة صفات الأشخاص الجيدين على شكل استثناء، وتبيّن لهم تسع صفات ايجابية بارزة، فيقول تعالى: {إلاّ المُصلّين}.
{الذين هم على صلاتهم دائمون}.
هذا هي الخصوصية الأُولى لهم وأنّهم مرتبطين باللّه بشكل دائم، وهذه الرابطة تتوثق بالصلاة، الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، والصلاة التي تربي روح الإنسان وتذكره دائماً باللّه تعالى، والسير بهذا الإتجاه سوف يمنعه من الغفلة والغرور، والغرق في بحر الشهوات، والوقوع في قبضة الشيطان وهوى النفس.
ومن الطبيعي أنّ المراد من الإدامة على الصلاة ليس أن يكون دائماً في حال الصلاة، بل هو المحافظة على أوقات الصلاة المعينة.
من المعروف أنّ كل عمل جيد يقوم به الإنسان إنّما يترك فيه أثراً صالحاً فيما لوكان مستديماً، ولهذا نقرأ في الحديث عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «إنّ أحبّ الأعمال إلى اللّه ما دام وإنّ قلّ»(3).
ونلاحظ في حديث عن الإمام الباقر(عليه السلام) أنّه قال: «إذا فرض على نفسه شيئاً من النوافل دام عليه»(4).
وورد في حديث عنه (عليه السلام) أنّه قال: «هذه الآية تعني النافلة، آية {والذين هم على صلاته يحافظون} {والتي تأتي فيما بعد} تعني صلاة الفريضة». وتجوز هذه المراعاة هنا، إذ أنّ التعبير بالمحافظة هوما يناسب الصلاة الواجبة والتي يجب المحافظة على أوقاتها المعينة، وأمّا التعبير بالمداومة فهوما يناسب الصلاة المستحبة وذلك بأنّ الإنسان يمكنه الإتيان بها أحياناً وتركها أحياناً أُخرى.
على كل حال بعد توضيح أهميّة الصلاة وأنّها من أهم الأعمال ومن أهم أوصاف المؤمنين تنتقل الآيات إلى ذكر الصفة الصّانية فيضيف تعالى: {والذين في أموالهم حقّ معلوم للسّائل والمحروم}
وبهذا سوف يحافظون على ارتباطهم بالخالق من جهة، وعلاقتهم بخلق اللّه من جهة اُخرى.
ويعتقد بعض المفسّرين أنّ المراد هنا من «حقّ المعلوم» هو الزّكاة المفروضة التي فيها المقدار المعين، وموارد صرف ذلك المقدار هو السائل والمحروم، ولكن هذه السورة مكّيه وحكم الزّكاة لم يكن قد نزل في مكّة، ولو فرض نزوله لم يكن هناك تعيّن للمقدار، ولذا يعتقد البعض أنّ المراد من حقّ المعلوم هو شيء غير الزّكاة والذي يجب على الإنسان منحه للمحتاجين، والشّاهد على هذا ما نقل عن الإمام الصّادق (عليه السلام) عندما سئل عن تفسير هذه الآية وهل هذا شيء غير الزّكاة فقال(عليه السلام): «هو الرجل يؤتيه اللّه الثروة من المال، فيخرج منه الألف والألفين والثلاثة والآف والأقل والأكثر، فيصل به رحمه، ويحمل به الكَلّ عن قومه»(5).
والفرق بين «السائل» و«المحروم» هو أنّ السائل يفصح عن حاجته ويسأل، والمحروم هو الذي لا يسأل لتعففه وحيائه، وجاء في حديث عن الإمام الصّادق(عليه السلام): «المحروم من يجد المشقّة في كسبه وعمله وهو محارف»(6).
هذا الحديث هو أيضاً يوافق ذلك التّفسير المذكور سلفاً، لأن مثل هؤلاء يكونون متعففين.
في جاء في تفسيرنا هذا في ذيل الآية (19) من سورة الذاريات بحث حول الحقّ المذكور وتفسير السائل والمحروم.
على كلّ، فإنّ هذا العمل له أثره الاجتماعي في مجاهدة الفقر والحرمان من جهة، ومن جهة أُخرى يترك آثاراً خُلقية جيدة على الذين يؤدّون ذلك العمل، وينتزع ما في قلوبهم وأرواحهم من أدران الحرص والبخل وحبّ الدنيا.
الآية الأُخرى أشارت الى الخصوصية الثّالثة لهم فيضيف: {والذين يصدقون بيوم الدين}
والخصوصية الرّابعة هي: {والذين هم عن عذاب ربّهم مشفقون).
{إنّ عذاب ربّهم غير مأمون}.
إنّهم يؤمنون من جهة بيوم الدين، ومع الإلتفات الى كلمة «يصدقون» وهو فعل مضارع يدل على الإستمرارية، فهذا يعني إنّهم بإستمرار يدركون أنّ في الأمر حساباً وجزاءً، بعض المفسّرين فسّر ذلك المعنى «بالتصديق العملي» أي الإتيان بالواجبات وترك المحرمات، ولكن الآية ظاهرها الإطلاق، أي أنّها تشمل التصديق العلمي والعملي.
ولكن من الممكن أن هناك من يؤمن بيوم الدين ويرى نفسه ممن لا يعاقب، لذا تقول: {والذين هم من عذاب ربّهم مشفقون} يعني أنّهم يدركون أهمية الأمر، فلا يستكثرون حسناتهم ولا يستصغرون سيئاتهم، ولهذا ورد في الحديث عن أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو ينصح ولده: «بني خف اللّه أنّك لو أتيته بحسنات أهل الأرض لم يقبلها منك، وأرج اللّه رجاءً أنّك لو أتيته بسيئات أهل الأرض غفرها لك»(7).
وحتى أنّ الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقول: «لن يدخل الجنّة أحداً عمله».
قالوا: ولا أنت يا رسول اللّه؟
قال: «ولا أنا، إلاّ أن يتغمدني اللّه برحمته».
وقوله تعالى : {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظِونَ(29) إِلاّ عَلَى أَزْوَجِهِمْ أَو مَا مَلَكَتْ أَيْمَنُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ(30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرآءَ ذَلِكَ فَأُلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ(31) وَالَّذِينَ هُمْ لاِمَنَتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَدتِهِمْ قَآئِمُونَ(33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ(34) أوْلَئِكَ فِى جَنَّت مُّكْرَمُونَ}
القسم الآخر من صفات أهل الجنّة:
في الآيات السابقة ذكرت أربعة أوصاف من الأوصاف الخاصّة بالمؤمنين الصادقين من أهل الجنان، وفي هذه الآيات ذكر لخمسة من الأوصاف الأُخرى فيكون المجموع تسعة أوصاف.
في الوصف الأوّل يقول اللّه عزّوجلّ: {والذين هم لفروجهم(8) حافظون إلاّ على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنّهم غير ملومين}.
لا شك في أنّ الغريزة الجنسية من غرائز الإنسان الشديدة والطاغية، والكثير من الجرائم الكبيرة سببها هي هذه الغريزة، ولذا كانت السيطرة على هذه الغريزة وحفظ حدودها من العلامات المهمّة للتقوى، وبهذا ذكرت أهمية السيطرة على هذه الغريزة بعد تبيان أهمية الصلاة وإعانة المحتاجين والإيمان بيوم القيامة والإشفاق من عذاب اللّه.
وقد جاء في الذيل الآية إستثناء يدلّ على أنّ منطق الإسلام يرفض أن يقف الإنسان موقفاً سلبياً تماماً من هذه الغريزة ويكون كالرهبان والقسيسين يسير بخلاف قانون الخلقة، وهذا العمل غالباً ما يكون محالاً وعلى فرض امكانه فهو أمرٌ غير منطقي، ولهذا نجد الرهبان من لم يستطيعوا أيضاً حذف هذه الغريزة من حياتهم، وإذا لم يكونوا قد تزوجوا بالطريقة الرسمية فإنّ الكثير منهم ينصرف إلى ارتكاب الفحشاء عند الإختلاء.
الفضائح الناتجة من هذا المسلك ليست قليلة، فقد كشف المؤرخون المسيحيون مثل (ول دورانت) وغيره النقاب عن ذلك.
المراد بـ «الأزواج» الزوجات الدائمة والمؤقتة فإنّه يشمل الإثنين، وقد ظنّ البعض أنّ هذه الآية تنهى عن الزواج المؤقت وللم يعلموا أنّ ذلك هو نوع من الزواج.
وفي الآية الأُخرى يؤكّد بشكل أكثر على نفس الموضوع فيضيف: {فمن ابتغى وراء ذلك فأُولئك هم العادون}
وبهذه الطريقة فإنّ الاسلام يخطط لمجتمع يحافظ على غرائزه الفطرية، ولا يؤدّي به إلى الغرق بالفحشاء والفساد الجنسي والمضارّ الناتجة منه، وبالطبع أنّ للجواري في نظر الإسلام كثيراً من شرائط الزوجة والضوابط القانونية للزوج وإن كان الموضوع منتف أساساً في زماننا الحاضر.
عندئذ يشير إلى الصفات السادسة والسابعة، فيقول: {والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون}
من الطبيعي أنّ لأمانة معنىً واسع وليست هي الأمانات المادية المتنوعة للناس فحسب، بل أنّها تشمل الأمانات الإلهية وأمانات الأنبياء وكلّ الأئمّة المعصومين(عليهم السلام).
إنّ كلّ نعمه من النعم الإلهية هي من أماناته تعالى، منها المقامات الإجتماعية وبالخصوص المسؤولون في الدولة فإنّها تعتبر من أهم الأمانات، ولهذا ورد في الحديث عن الإمام الباقر والإمام الصّادق(عليهما السلام) في تفسير الآية{أنّ اللّه يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها}، بأنّ المراد من الأمانات هنا «الولاية والحاكمية»(9)، وقرأنا كذلك في سورة الأحزاب (72)، إنّ التكليف والمسؤولية تعني الأمانة الإلهية الكبيرة. {إنا عرضنا الأمانة على السماوات والارض} والأهم من ذلك كله هو الدين والشريعة الإلهية وكتاب اللّه، وهومن الأمانات الكبيرة التي يجب الحفاظ عليها بالسعي.
«العهد»: وله مفهوم واسع أيضاً، يشمل العهود الإنسانية وكذلك العهود الإلهية، لأنّ العهد هو كل ما التزم به الإنسان لغيره، وممّا لا شك فيه أنّ الإيمان باللّه وبرسوله يعني الالتزام بما كلّف به.
الإسلام أعطى أهمية بالغة لحفظ الأمانات والعهود والالتزام بها، وقد عرف ذلك بأنّه أهمّ علامات الإيمان.
ولمزيد من الإطلاع راجع تفسيرنا هذا، ذيل الآية (58) من سورة النساء.
ويضيف في الوصف الثامن: {والذين هم بشهاداتهم قائمون} لأنّ القيام بالشهادة العادلة وترك كتمانها من أهم بنود إقامة العدل في المجتمع البشري.
وقد يرفض بعض الناس أداء الشهادة بحجّة إننا لماذا نشتري عداوة هذا وذاك، ونسبب المتاعب لأنفسنا بإدلاء الشهادة، هؤلاء أشخاص لا يبالون بالحقوق الإنسانية ويفقدون الروح الإجتماعية، ولا يؤمنون بتطبيق العدالة، ولهذا نرى القرآن الكريم في كثير من آياته يدعو المسلمين إلى أداء الشهادة ويعدّ كتمانها ذنباً(10).
وفي الوصف الأخير، وهو الوصف التاسع من هذه المجموعة، يعود مرّة أُخرى إلى موضوع الصلاة، كما كان البدء بالصلاة، يقول تعالى: {والذين هم على صلاتهم يحافظون}.
وكما أشرنا سابقاً أنّ الصلاة هنا بملاحظة القرائن تشير إلى الفريضة، وفي الآية السابقة تشير إلى النافلة.
ومن الطبيعي أن الوصف الأوّل كان إشارة إلى المداومة، ولكن الخطاب هنا حول حفظ آداب وشروط الصلاة وخصائصها، والآداب التي تكمن في ظاهر الصلاة والتي تنهى عن الفحشاء والمنكر من جهة، وتقوي روح الصلاة بحضور القلب من جهة أُخرى وتمحو الأخلاق الرذيلة التي تكون كحجر عثرة أمام قبولها، ولهذا لا يعتبر ذكرها مرّة اُخرى من قبيل التكرار.
هذه البداية والنهاية تشير إلى أنّ الصلاة من بين الصفات الحميدة المذكورة هي الأهم، ولم لا تكون كذلك والصلاة هي المدرسة العالية للتربية، وأهم وسيلة لتهذيب النفوس المجتمع.
وفي النهاية تبيّن الآية الأخيرة عاقبة المتّصفين بهذه الأوصاف، كما بيّنت في الآيات السابقة المسير النهائي للمجرمين، فيقول تعالى هنا في جملة مختصرة وغنية بالمعاني: {أُولئك في جنات مكرمون}.(11)
لماذا لا يكونون مكرمين؟ وهم ضيوف اللّه، وقد وفرّ اللّه القادر الرحمن لهم جميع وسائل الضيافة، وفي الحقيقة أنّ هذين التعبيرين «جنات» و«مكرمون» إشارة إلى النعم المادية والمعنوية التي يغرق فيها هؤلاء المكرمين.
______________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج14 ، ص434-442.
2 ـ هناك توضيح آخر أوردناه تحت عنوان «الإنسان في القرآن الكريم» في ذيل الآية (13) لسورة يونس من هذا التّفسير.
3 ـ المعجم المفهرس لألفاظ الحديث، ج2، ص160.
4 ـ نور الثقلين، ج5، ص415.
5 ـ نور الثقلين، ج5، ص417، حديث 25 ـ 27.
6 ـ المصدر السابق.
7 ـ جامع الأخبار، ص113.
8 ـ «فروج» جمع «فرج» وهو كناية عن الآلة التناسلية.
9 ـ تفسير البرهان، ج1، ص380.
10 ـ البقرة، 283 و140، المائدة، 106، الطلاق، 2.
11 ـ «في جنات» خبر بـ «أُولئك» و«مكرمون» خبر ثان أو أنّه خبر و «في جنات» متعلق به «تمعن».
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|