أقرأ أيضاً
التاريخ: 28-2-2017
3049
التاريخ: 28-2-2017
7156
التاريخ: 28-2-2017
15181
التاريخ: 28-2-2017
15181
|
قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [المائدة : 94 ، 96].
لما تقدم في أول السورة تحريم الصيد على المحرم مجملا ، بين سبحانه ذلك هنا فقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} خص المؤمنين بالذكر ، وإن كان الكفار أيضا مخاطبين بالشرائع ، لأنهم القابلون لذلك ، المنتفعون به . وقيل : لأنه لم يعتد بالكفار {لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ} أي : ليختبرن الله طاعتكم عن معصيتكم {بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ} أي : بتحريم شيء من الصيد ، وإنما بعض لأنه عنى صيد البر خاصة ، عن الكلبي.
وقد ذكرناه قبل مفسرا . ومعنى الاختبار من الله : أن يأمر وينهى ، ليظهر المعلوم ، ويصح الجزاء . قال أصحاب المعاني : امتحن الله أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصيد البر ، كما امتحن أمة موسى عليه السلام بصيد البحر {تناله أيديكم ورماحكم} قيل فيه أقوال :
أحدها : إن المراد به تحريم صيد البر ، والذي تناله الأيدي من فراخ الطير ، وصغار الوحش ، والبيض ، والذي تناله الرماح الكبار من الصيد ، عن ابن عباس ، ومجاهد ، وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام . وثانيها : إن المراد به صيد الحرم ، ينال بالأيدي والرماح ، لأنه يأنس بالناس ، ولا ينفر منهم فيه ، كما ينفر في الحل ، وذلك آية من آيات الله ، عن أبي علي الجبائي . وثالثها : إن المراد به : ما قرب من الصيد ، وما بعد {ليعلم الله من يخافه بالغيب} معناه : ليعاملكم معاملة من يطلب منكم أن يعلم مظاهرة في العدل ، ووجه آخر ليظهر المعلوم ، وهو أن يخاف بظهر الغيب ، فينتهي عن صيد الحرم طاعة له تعالى . وقيل : ليعلم وجود خوف من يخافه بالوجود لأنه لم يزل عالما بأنه سيخاف ، فإذا وجد الخوف علم ذلك موجودا ، وهما معلوم واحد ، وإن اختلفت العبارة عنه ، فالحدوث إنما يدخل على الخوف ، لا على العلم .
وقوله {بالغيب} معناه : في حال الخلوة والتفرد . وقيل : معناه أن يخشى عقابه إذا توارى بحيث لا يقع عليه الحس ، عن الحسن . وقال أبو القاسم البلخي :
إن الله تعالى ، وإن كان عالما بما يفعلونه فيما لم يزل ، فإنه لا يجوز أن يثيبهم ، ولا يعاقبهم على ما يعلمه منهم ، وإنما يستحقون ذلك إذا علمه واقعا منهم على الوجه الذي كلفهم عليه ، فإذا لا بد من التكليف والابتلاء {فمن اعتدى بعد ذلك} أي :
من تجاوز حد الله ، وخالف أمره بالصيد في الحرم ، وفي حال الإحرام {فله عذاب أليم} أي : مؤلم . ثم ذكر سبحانه عقيب ذلك ما يجب على ذلك الاعتداء من الجزاء ، فقال : {يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد} اختلف في المعني بالصيد ، فقيل : هو كل الوحش ، أكل أو لم يؤكل ، وهو قول أهل العراق ، واستدلوا بقول علي عليه السلام :
صيد الملوك أرانب وثعالب * فإذا ركبت فصيدي الابطال
وهو مذهب أصحابنا ، رضي الله عنهم . وقيل : هو كل ما يؤكل لحمه ، وهو قول الشافعي . {وأنتم حرم} أي : وأنتم محرمون بحج أو عمرة . وقيل : معناه وأنتم في الحرم . قال الجبائي : الآية تدل على تحريم قتل الصيد على الوجهين معا ، وهو الصحيح . وقال علي بن عيسى : تدل على الإحرام بالحج أو العمرة فقط {ومن قتله منكم متعمدا} قيل : هو أن يتعمد القتل ناسيا لإحرامه ، عن الحسن ، ومجاهد ، وابن زيد ، وابن جريج ، وإبراهيم ، قالوا : فأما إذا تعمد القتل ذاكرا لإحرامه ، فلا جزاء فيه ، لأنه أعظم من أن يكون له كفارة . وقيل : هو أن يتعمد القتل وإن كان ذاكرا لإحرامه ، عن ابن عباس ، وعطاء ، والزهري ، وهو قول أكثر الفقهاء .
فأما إذا قتل الصيد خطأ ، أو ناسيا ، فهو كالمتعمد في وجوب الجزاء عليه ، وهو مذهب عامة أهل التفسير والعلم وهو المروي عن أئمتنا عليه السلام . قال الزهري :
نزل القرآن بالعمد ، وجرت السنة في الخطأ {فجزاء مثل ما قتل من النعم} قد ذكرنا معناه في القراءتين ، قال الزجاج : ويجوز أن يكون المعنى فجزاء ذلك الفعل مثل ما قتل ، فيكون جزاء مبتدأ ، ومثل خبره . واختلف في هذه المماثلة ، أهي في القيمة ، أو الخلقة : فالذي عليه معظم أهل العلم أن المماثلة معتبرة في الخلقة : ففي النعامة بدنة ، وفي حمار الوحش وشبهه بقرة ، وفي الظبي والأرنب شاة ، وهو المروي عن أهل البيت عليه السلام ، وهو قول ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، والسدي ، وعطاء ، والضحاك ، وغيرهم . وقال إبراهيم النخعي : " يقوم الصيد قيمة عادلة ، ثم يشترى بثمنه مثله من النعم " . فاعتبر المماثلة بالقيمة ، والصحيح القول الأول .
{يحكم به ذوا عدل منكم} قال ابن عباس : يريد يحكم في الصيد بالجزاء : رجلان صالحان منكم أي : من أهل ملتكم ودينكم ، فقيهان عدلان ، فينظران إلى أشبه الأشياء به من النعم ، فيحكمان به {هديا بالغ الكعبة} أي يهديه هديا يبلغ الكعبة . قال ابن عباس : يريد إذا أتى مكة ، ذبحه وتصدق به . وقال أصحابنا : إن كان أصاب الصيد وهو محرم بالعمرة ، ذبح جزاءه ، أو نحره بمكة قبالة الكعبة ، وإن كان محرما بالحج ، ذبحه أو نحره بمنى {أو كفارة طعام مسكين} : قيل في معناه قولان أحدهما : أن يقوم عدله من النعم ، ثم يجعل قيمته طعاما ، ويتصدق به ، عن عطاء ، وهو الصحيح والآخر : أن يقوم الصيد المقتول حيا ، ثم يجعل طعاما ، عن قتادة .
{أو عدل ذلك صياما} وفيه أيضا قولان أحدهما : أن يصوم عن كل مد يقوم من الطعام يوما ، عن عطاء ، وهو مذهب الشافعي والآخر : أن يصوم عن كل مدين يوما ، وهو المروي عن أئمتنا عليهم السلام ، وهو مذهب أبي حنيفة . واختلفوا في هذه الكفارات الثلاث ، فقيل : إنها مرتبة عن ابن عباس ، والشعبي ، والسدي قالوا :
وإنما دخلت أو لأنه لا يخرج حكمه عن إحدى الثلاث . وقيل : إنها على التخيير ، عن ابن عباس في رواية أخرى ، وعطاء ، والحسن وإبراهيم ، وهو مذهب أبي حنيفة ، والشافعي ، وكلا القولين رواه أصحابنا {ليذوق وبال أمره} أي : عقوبة ما فعله في الآخرة إن لم يتب . وقيل معناه ليذوق وخامة عاقبة أمره ، وثقله بما يلزمه من الجزاء .
فإن سأل سائل فقال : كيف يسمى الجزاء وبالا ، وإنما هي عبادة ، فإذا كانت عبادة فهي نعمة ومصلحة ؟ فالجواب : إن الله سبحانه شدد عليه التكليف بعد أن عصاه ، فثقل ذلك عليه ، كما حرم الشحم على بني إسرائيل ، لما اعتدوا في السبت ، فثقل ذلك عليهم ، وإن كان مصلحة لهم {عفا الله عما سلف} من أمر الجاهلية ، عن الحسن (2) . وقيل : عفا الله عما سلف من الدفعة الأولى في الاسلام اي : قبل التحريم {ومن عاد فينتقم الله منه} أي : من عاد إلى قتل الصيد محرما فالله سبحانه يكافيه عقوبة بما صنع ، واختلف في لزوم الجزاء بالمعاودة ، فقيل : إنه لا جزاء عليه ، عن ابن عباس ، والحسن ، وهو الظاهر في روايات أصحابنا . وقيل : إنه يلزمه الجزاء ، عن عطاء وسعيد بن جبير ، وإبراهيم ، وبه قال بعض أصحابنا {والله عزيز ذو انتقام} معناه قادر لا يغلب ، ذو انتقام : ينتقم ممن يتعدى أمره ، ويرتكب نهيه .
{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [المائدة : 96].
ثم بين سبحانه ما يحل من الصيد ، وما لا يحل ، فقال : {أحل لكم صيد البحر} أي : أبيح لكم صيد الماء ، وإنما أحل بهذه الآية الطري من صيد البحر ، لان العتيق لا خلاف في كونه حلالا ، عن ابن عباس ، وزيد بن ثابت ، وسعيد بن جبير ، وسعيد بن المسيب ، وقتادة ، ومجاهد . {وطعامه} يعني : طعام البحر . ثم اختلف فيه ، فقيل : يريد به ما قذفه البحر ميتا ، عن ابن عباس ، وابن عمر ، وقتادة . وقيل : يريد به المملوح ، عن ابن عباس في رواية أخرى ، وسعيد بن المسيب ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، وهو الذي يليق بمذهبنا ، وإنما سمي طعاما لأنه يدخر ليطعم ، فصار كالمقتات من الأغذية ، فيكون المراد بصيد البحر : الطري ، وبطعامه : المملوح ، لان عندنا لا يجوز أكل ما يقذف به البحر ميتا للمحرم وغير المحرم . وقيل : المراد بطعامه ما ينبت بمائه من الزرع والثمار .
{متاعا لكم وللسيارة} قيل : معناه منفعة للمقيم والمسافر ، عن قتادة ، وابن عباس ، والحسن . وقيل : لأهل الأمصار ، وأهل القرى . وقيل : للمحل والمحرم {وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما} هذا يقتضي تحريم الاصطياد في حال الإحرام ، وتحريم أكل ما صاده الغير ، وبه قال علي ، وابن عباس ، وابن عمر ، وسعيد بن جبير . وقيل : إن لحم الصيد لا يحرم على المحرم ، إذا صاده غيره ، عن عمر ، وعثمان ، والحسن . والصيد : قد يكون عبارة عن الاصطياد ، فيكون مصدرا ، ويكون عبارة عن المصيد ، فيكون اسما ، ويجب حمل الآية على الأمرين وتحريم الجميع {واتقوا الله الذي إليه تحشرون} هذا أمر منه تعالى بأن يتقي جميع معاصيه ، ويجتنب جميع محارمه ، لأن إليه الرجوع في الوقت الذي لا يملك أحد فيه الضر والنفع سواه ، وهو يوم القيامة ، فيجازي المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته .
_____________________________
1. تفسير مجمع البيان ، ج3 ، ص 418-422 .
2. [وعطاء] .
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ ورِماحُكُمْ}.
المراد بشيء من الصيد نوع منه ، وهو صيد البر فقط ، وقوله : تناله أيديكم ورماحكم كناية عن صيده بلا مشقة ، والمعنى إن اللَّه سبحانه حرّم صيد البر في الحرم ، وحال الإحرام ، وهو سهل التناول ، تماما كما حرم على بني إسرائيل صيد الحيتان يوم السبت ، وهي بمرأى منهم {لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ} أي إن اللَّه ابتلاكم بتحريم الصيد في هذه الحال ليميز بين من يخافه ويطيعه في السر كما يطيعه في العلانية ، وبين من يتظاهر بطاعته والخوف منه أمام الناس ، ويعصيه في الخفاء {فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ} أي من خالف أمر اللَّه بالصيد بعد هذا البيان وإقامة الحجة - استحق عذاب اللَّه وعقابه .
معنى الاختبار من اللَّه :
وتسأل : إن اللَّه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ، فما هو الوجه لقوله تعالى : {لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ} . وقوله : {لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ} ؟
الجواب : إن اللَّه سبحانه لا يختبر عبده ليعلم منه ما لم يكن يعلم . . كلا ، فإنه أعلم به من نفسه ، وإنما يمتحنه لأمور :
« منها » : أن يترجم العبد ما هو كامن في نفسه إلى عمل ملموس ، حيث اقتضت حكمته جل ثناؤه أن لا يحاسب الناس على ما يعلمه منهم ، ولا على ما هو كامن في نفوسهم من القوى والغرائز ، وإنما يحاسبهم على ما يقع منهم من أعمال . . إن الغرائز النفسية من حيث هي لا تستدعي حسابا ولا عقابا ، ما دامت كامنة في باطن الإنسان ، ولا يظهر لها أثر يرى بالعين ، أو يسمع بالأذن . قال الإمام علي (عابه السلام) : يقول اللَّه : « واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة » . ومعنى ذلك إنه يختبرهم بالأموال والأولاد ليتبين الساخط لرزقه والراضي بقسمه ، وإن كان سبحانه أعلم بهم من أنفسهم ، ولكن لتظهر الأفعال التي بها يستحق الثواب والعقاب .
و « منها » : أن يتميز الخبيث من الطيب ، وتظهر حقيقته أمام الناس ، فيعاملونه بما يستحق : {ولِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا ويَمْحَقَ الْكافِرِينَ} [آل عمران - 140] . وكثيرا ما بقع هذا في حياة الناس - مثلا - أنت تعلم ان زيدا من أهل العلم والمعرفة ، وصادف وجوده بين قوم لا يعرفون منه ما تعرف ، وأردت أن يعلموا مكانه من الوعي والعلم ، فتسأله بمحضر منهم ليتكلم ويعرف . . أو تعلم انه سخيف جاهل ، وهم يظنون انه عالم حكيم ، فتمثل نفس الدور لتظهر لهم سخفه وجهله .
و « منها » : إن كثيرا من الناس يجهلون حقيقة أنفسهم ، ويقولون : لو سمحت لنا الظروف لكنا كذا وكيت ، فيمنحهم اللَّه الاستطاعة ليلقي الحجة عليهم ، ويعرفهم بحقيقتهم وواقعهم : {ومِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهً لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ ولَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وتَوَلَّوْا وهُمْ مُعْرِضُونَ} [التوبة - 77].
وطلب بنو إسرائيل من موسى (عليه السلام) أن يجعل لهم يوما للراحة والعبادة ، فجعل اللَّه لهم يوم السبت ، وأخذ عليهم العهد أن لا يفعلوا فيه شيئا ، كما طلبوا . . ولكن ساق إليهم الحيتان في هذا اليوم ، حتى إذا ذهب السبت اختفت الحيتان ، فاحتال بنو إسرائيل لصيدها ونقضوا العهد .
وعلى الوجه الأول ، أي ظهور الأفعال التي بها يستحق الثواب والعقاب ، على هذا يحمل قوله تعالى : ليبلونكم اللَّه . . وقوله : ليعلم اللَّه من يخافه . . وقوله : وليعلم اللَّه الذين آمنوا ، ونحو هذه من الآيات .
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وأَنْتُمْ حُرُمٌ} . اتفق الفقهاء على ان الصيد في الحرم لا يجوز للمحل ولا للمحرم على السواء ، أما خارج الحرم فيجوز للمحل ، دون المحرم ، ولو ذبح المحرم الصيد يصير ميتة ، ويحرم أكله على جميع الناس .
وجاء في كتاب فقه السنة للسيد سابق : ان حد الحرم المكي من جهة الشمال مكان يدعى « التنعيم » وبينه وبين مكة 6 كيلومترات . ومن الجنوب « أرضاه » وبينها وبين مكة 12 كيلومترا . ومن جهة الشرق « الجعرانة » وبينها وبين مكة 15 كيلومترا .
{ومَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً} . إذا قتل المحرم أو المحل في الحرم شيئا من الصيد البري ، وكان للمقتول مثل من الأنعام الأهلية الثلاثة ، وهي الإبل والبقر والضأن ، ان كان الأمر كذلك تخير القاتل بين أن يذبح مثل المقتول ويتصدق به ، وبين أن يقوّم المثل بدراهم يشتري بها طعاما ، ثم يتصدق بالطعام على المساكين لكل مسكين مدان ، أي 1600 غرام على التقريب ، وقيل : مد ، وبين أن يصوم يوما عن كل مدّين ، أو عن كل مد على قول . ومعنى قوله : « يحكم به ذوا عدل » أن يشهد اثنان من أهل العدالة بأن هذا الحيوان الأهلي هو مثل الحيوان الوحشي المقتول . ومعنى « هديا بالغ الكعبة » ان يذبح المماثل في جوار الكعبة ، ويفرق لحمه على المساكين .
وان لم يوجد المماثل من النعم قوّم المماثل الأهلي من غير النعم ، واشترى بثمنه طعاما ، وتصدق به ، أو صام على التفصيل المتقدم .
{لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ} ان الصيد في الحرم ، أو في حال الإحرام هتك لحرمات اللَّه فعوقب الصائد عليه بالكفارة المذكورة ، ومعنى وبال أمره عاقبة فعله السيء {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ} من الصيد قبل التحريم {ومَنْ عادَ} إلى الصيد {فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} لإصراره على الذنب .
{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ ولِلسَّيَّارَةِ} . الضمير في طعامه يعود إلى البحر ، لأن فيه ما يؤكل غير الصيد ، ويجوز أن يعود إلى الصيد ، ويكون المعنى ان اللَّه سبحانه أحل صيده ، وأحل أكله أيضا .
والمراد بالسيارة المسافرون غير المحرمين {وحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً} . أي ان صيد البحر حلال مطلقا ، أما صيد البر فهو حلال في غير الحرم ، وغير حال الإحرام . قال الإمام جعفر الصادق ( عليه السلام ) : لا تستحلن شيئا من الصيد - أي البري - وأنت حرام ، ولا أنت حلال في الحرم ، ولا تدلن عليه محلا ، ولا محرما ، فيصطاده ، ولا تشر إليه ، فيستحل من أجلك ، فان فيه فداء لمن تعمده . {واتَّقُوا اللَّهً الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} . أي اجتهدوا في طاعته وطلب مرضاته ، ليجزيكم يوم الحشر بالإحسان إحسانا .
___________________________
1. تفسير الكاشف ، ج3 ، ص 125-128 .
قوله تعالى : {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ} البلاء هو الامتحان والاختبار ، ولام القسم والنون المشددة للتأكيد ، وقوله : {بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ} يفيد التحقير ليكون تلقينه للمخاطبين عونا لهم على انتهائهم إلى ما سيواجههم من النهي في الآية الآتية ، وقوله : {تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ} تعميم للصيد من حيث سهولة الاصطياد كما في فراخ الطير وصغار الوحش والبيض تنالها الأيدي فتصطاد بسهولة ، ومن حيث صعوبة الاصطياد ككبار الوحش لا تصطاد عادة إلا بالسلاح.
وظاهر الآية أنها مسوقة كالتوطئة لما ينزل من الحكم المشدد في الآية التالية ، ولذلك عقب الكلام بقوله : {لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ} فإن فيه إشعارا بأن هناك حكما من قبيل المنع والتحريم ثم عقبه بقوله : {فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ}.
قوله تعالى : {لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ} لا يبعد أن يكون قوله : ليبلونكم الله ليعلم كذا كناية عن أنه سيقدر كذا ليتميز منكم من يخاف الله بالغيب عمن لا يخافه لأن الله سبحانه لا يجوز عليه الجهل حتى يرفعه بالعلم ، وقد تقدم البحث المستوفى عن معنى الامتحان في تفسير قوله تعالى : {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ} الآية [ آل عمران : 142] في الجزء الرابع من هذا الكتاب ، وتقدم أيضا معنى آخر لهذا العلم.
وأما قوله : {مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ} فالظرف متعلق بالخوف ، ومعنى الخوف بالغيب أن يخاف الإنسان ربه ويحترز ما ينذره به من عذاب الآخرة وأليم عقابه ، وكل ذلك في غيب من الإنسان لا يشاهد شيئا منه بظاهر مشاعره ، قال تعالى : {إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ} [ يس : 11 ] ، وقال : {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ ، هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ ، مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ ق : 33 ] ، وقال : {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ} [ الأنبياء : 49] .
وقوله : {فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ} أي تجاوز الحد الذي يحده الله بعد البلاء المذكور فله عذاب أليم .
قوله تعالى : {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} (إلخ) ، الحرم بضمتين جمع الحرام صفة مشبهة ، قال في المجمع : ورجل حرام ومحرم بمعنى ، وحلال ومحل كذلك ، وأحرم الرجل دخل في الشهر الحرام ، وأحرم أيضا دخل في الحرم ، وأحرم أهل بالحج ، والحرم الإحرام ، ومنه الحديث : كنت أطيب النبي لحرمه ، وأصل الباب ، المنع وسميت النساء حرما لأنها تمنع ، والمحروم الممنوع الرزق .
قال : والمثل والمثل والشبه والشبه واحد ، قال : والنعم في اللغة الإبل والبقر والغنم ، وإن انفردت الإبل قيل لها : نعم ، وإن انفردت البقر والغنم لم تسم نعما ذكره الزجاج.
قال : قال الفراء : العدل بفتح العين ما عادل الشيء من غير جنسه ، والعدل بالكسر المثل تقول : عندي عدل (بالكسر) غلامك أو شاتك إذا كانت شاة تعدل شاة أو غلام يعدل غلاما فإذا أردت قيمته من غير جنسه فتحت وقلت : عدل ، وقال البصريون : العدل والعدل في معنى المثل كان من الجنس أو غير الجنس .
قال : والوبال ثقل الشيء في المكروه ، ومنه قولهم : طعام وبيل وماء وبيل إذا كانا ثقيلين غير ناميين في المال ، ومنه : {فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً} أي ثقيلا شديدا ، ويقال لخشبة القصار : وبيل من هذا ، انتهى.
وقوله : {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} نهي عن قتل الصيد لكن يفسره بعض التفسير قوله بعد : {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} هذا من جهة الصيد ، ويفسره من جهة معنى القتل قوله : {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ} (إلخ) ، فقوله : {مُتَعَمِّداً} حال من قوله : {مَنْ قَتَلَهُ} وظاهر التعمد ما يقابل الخطأ الذي هو القتل من غير أن يريد بفعله ذلك كمن يرمي إلى هدف فأصاب صيدا ، ولازمه وجوب الكفارة إذا كان قاصدا لقتل الصيد سواء كان على ذكر من إحرامه أو ناسيا أو ساهيا.
وقوله : {فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ} لظاهر معناه : فعليه جزاء ذلك الجزاء مثل ما قتل من الصيد ، وذلك الجزاء من النعم المماثلة لما قتله يحكم به أي بذلك الجزاء المماثل رجلان منكم ذوا عدل في الدين حال كون الجزاء المذكور هديا يهدي به بالغ الكعبة ينحر أو يذبح في الحرم بمكة أو بمنى على ما يبينه السنة النبوية.
فقوله : {فَجَزاءٌ} بالرفع مبتدأ لخبر محذوف يدل عليه الكلام ، وقوله : {مِثْلُ ما قَتَلَ} وقوله : {مِنَ النَّعَمِ} وقوله : {يَحْكُمُ بِهِ} {إلخ} ، أوصاف للجزاء ، وقوله : {هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ} موصوف وصفة ، والهدي حال من الجزاء تقدم ، هذا ، وقد قيل : غير ذلك.
وقوله : {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً} خصلتان أخريان من خصال كفارة قتل الصيد ، وكلمة {أَوْ} لا يدل على أزيد من مطلق الترديد ، والشارح السنة ، غير أن قوله : {أَوْ كَفَّارَةٌ} حيث سمى طعام المساكين كفارة ثم اعتبر ما يعادل الطعام من الصيام لا يخلو من إشعار بالترتيب بين الخصال.
وقوله : {لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ} اللام للغاية ، وهي ومدخولها متعلق بقوله : {فَجَزاءٌ} فالكلام يدل على أن ذلك نوع مجازاة.
قوله تعالى : {عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) ، إلى آخر الآية تعلق العفو بما سلف قرينة على أن المراد بما سلف هو ما تحقق من قتل الصيد قبل نزول الحكم بنزول الآية فإن تعلق العفو بما يتحقق حين نزول الآية أو بعده يناقض جعل الحكم وهو ظاهر ، فالجملة لدفع توهم شمول حكم الكفارة للحوادث السابقة على زمان النزول.
والآية من الدليل على جواز تعلق العفو بما ليس بمعصية من الأفعال إذا كان من طبعها اقتضاء النهي المولوي لاشتمالها على المفسدة ، وأما قوله : {وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ} فظاهر العود تكرر الفعل ، وهذا التكرر ليس تكرر ما سلف من الفعل بأن يكون المعنى : ومن عاد إلى مثل ما سلف منه من الفعل فينتقم الله منه لأنه حينئذ ينطبق على الفعل الذي يتعلق به الحكم في قوله : {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ} (إلخ) ويكون المراد بالانتقام هو الحكم بالكفارة ، وهو حكم ثابت بالفعل لكن ظاهر قوله : {فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ} أنه إخبار عن أمر مستقبل لا عن حكم حال فعلي.
وهذا شاهد على أن المراد بالعود العود ثانيا إلى فعل تعلق به الكفارة ، والمراد بالانتقام العذاب الإلهي غير الكفارة المجعولة.
وعلى هذا فالآية بصدرها وذيلها تتعرض لجهات مسألة قتل الصيد ، أما ما وقع منه قبل نزول الحكم فقد عفا الله عنه ، وأما بعد جعل الحكم فمن قتله فعليه جزاء مثل ما قتل في المرة الأولى فإن عاد فينتقم الله منه ولا كفارة عليه ، وعلى هذا يدل معظم الأخبار المروية عن أئمة أهل البيت عليه السلام في تفسير الآية.
ولو لا هذا المعنى كان كالمتعين حمل الانتقام في قوله : {فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ} على ما يعم الحكم بوجوب الكفارة ، وحمل العود على فعل ما يماثل ما سلف منهم من قتل الصيد أي ومن عاد إلى مثل ما كانوا عليه من قتل الصيد قبل هذا الحكم ، أي ومن قتل الصيد فينتقم الله منه أي يؤاخذه بإيجاب الكفارة ، وهذا ـ كما ترى ـ معنى بعيد من اللفظ.
قوله تعالى : {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} إلى آخر الآية ، الآيات في مقام بيان حكم الاصطياد من بحر أو ، بر وهو الشاهد على أن متعلق الحل هو الاصطياد في قوله : {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} دون أكله ، وبهذه القرينة يتعين قوله : {وَطَعامُهُ} في أن المراد به ما يؤكل دون المعنى المصدري الذي هو الأكل والمراد بحل طعام البحر حل أكله فمحصل المراد من حل صيد البحر وطعامه جواز اصطياد حيوان البحر وحل أكل ما يؤخذ منه.
وما يؤخذ من طعام البحر وإن كان أعم مما يؤخذ منه صيدا كالعتيق من لحم الصيد أو ما قذفته البحر من ميتة حيوان ونحوه إلا أن الوارد من أخبار أئمة أهل البيت عليه السلام تفسيره بالمملوح ونحوه من عتيق الصيد ، وقوله : {مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} كأنه حال من صيد البحر وطعامه ، وفيه شيء من معنى الامتنان.
وحيث كان الخطاب للمؤمنين من حيث كونهم محرمين كانت المقابلة بينهم وبين السيارة في قوة قولنا : متاعا للمحرمين وغيرهم.
واعلم أن في الآيات أبحاثا فرعية كثيرة معنونة في الكتب الفقهية من أرادها فليراجعها.
___________________________
1. تفسير الميزان ، ج6 ، ص 114-117 .
أحكام الصّيد عند الإحرام :
تبيّن هذه الآيات أحكام صيد البر والبحر أثناء الإحرام للحج أو للعمرة .
في البداية إشارة إلى ما حدث للمسلمين في عمرة الحديبية ، فيقول سبحانه وتعالى : {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ} .
يستفاد من تعبير الآية أنّ الله تعالى يريد إنباء الناس عن قضية سوف تقع في المستقبل ، كما يظهر أيضا أنّ وفرة الصيد في ذلك المكان لم يكن أمرا مألوفا ، فكان هذا امتحانا للمسلمين ، على الأخص إذا أخذنا بنظر الاعتبار حاجتهم الماسة إلى الحصول على طعامهم من لحوم ذلك الصيد الذي كان موفورا وفي متناول أيديهم ، إنّ تحمل الناس في ذلك العصر الحرمان من ذلك الغذاء القريب يعتبر امتحانا كبيرا لهم .
قال بعضهم : أنّ المقصود من عبارة : {تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ} هو أنّهم كانوا قادرين على صيدها بالشباك أو بالفخاخ ، ولكن ظاهر الآية يشير إلى أنّهم كانوا حقّا قادرين على صيدها باليد .
ثمّ يقول من باب التوكيد : {لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ} سبق أن أوضحنا في المجلد الأوّل من هذا التّفسير في ذيل الآية (143) من سورة البقرة أنّ تعبير «لنعلم» أو «ليعلم» وأمثالها لا يقصد بها ، أن الله لم يكن يعلم شيئا ، وأنّه يريد أن يعلمه عن طريق اختبار الناس ، بل المقصود هو البأس الحقيقة المعلومة لدى الله لباس العمل والتحقق الخارجي ، وذلك لأنّ الاعتماد على نوايا الأشخاص الداخلية واستعدادهم غير كاف للتكامل وللمعاقبة والإثابة ، بل يجب أن ينكشف كل ذلك خلال أعمال خارجية لكي يكون لها تلك الآثار (لمزيد من التوضيح انظر ذيل الآية المذكورة).
والآية في الخاتمة تتوعد الذين يخالفون هذا الحكم الإلهي بعذاب شديد : {فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ}.
على الرّغم من أنّ الجملة الأخيرة في الآية تدل على تحريم الصيد أثناء الإحرام ، ولكن الآية التّالية لها تصدر حكما قاطعا وصريحا وعاما بشأن تحريم الصيد أثناء الإحرام ، إذ تقول : {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}.
وهل تحريم الصيد (وهو صيد البر بدلالة الآية التي تليها) يشمل جميع أنواع الحيوانات البرية ، سواء أكان لحمها حلالا أم حراما ، أم أنّه يختص بحلال اللحم منها؟
لا تتفق آراء المفسّرين والفقهاء بهذا الشأن ، إلّا أنّ المشهور بين فقهاء الإمامية ومفسريهم أنّ الحكم عام ، ويؤيد ذلك الرّوايات المروية عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام ، أمّا فقهاء أهل السنة فمنهم ـ مثل أبي حنيفة ـ من يتفق مع الإمامية في ذلك ، ومنهم ـ كالشافعي ـ من يرى الحكم مقصورا على الحيوانات المحللة اللحوم ولكن الحكم ، على كل حال ، لا يشمل الحيوانات الأهلية ، لأنّ الحيوانات الأهلية لا توصف بالصيد ، إنّ ممّا يستلفت النظر في رواياتنا هو أنّ الصيد ليس وحده المحرم أثناء الإحرام ، بل التحريم يشمل حتى الإعانة على الصيد ، والإشارة أو الدلالة عليه أيضا .
قد يظن بعض أنّ الصيد لا يشمل ذوات اللحم الحرام ، إلّا أنّ الأمر ليس كذلك ، لأنّ الغرض من صيد الحيوان متنوع ، فمرّة يكون الغرض لحمها ، وأخرى جلدها ، وثالثة لدفع أذاها ، ثمّة بيت ينسب إلى الإمام علي عليه السلام من الممكن أن يكون شاهدا على هذا التعميم : يقول :
وللاستزادة من المعرفة بشأن أحكام الصيد الحلال والحرام يمكن الرجوع إلى الكتب الفقهية.
ثمّ بعد ذلك يشار إلى كفارة الصيد في حال الإحرام ، فيقول : {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ}.
فهل المقصود من «مثل» هو التماثل في الشكل والحجم أي إذا قتل أحد حيوانا وحشيا كبيرا مثل النعامة ـ مثلا ـ فهل يجب عليه أنّ يختار الكفارة من الحيوانات الكبيرة ، كالبعير مثلا أو إذا صاد غزالا ، فهل كفارته تكون شاة تقاربه في الحجم والشكل؟ أم أنّ «مثل» هو التماثل في القيمة ؟
إنّ المشهور والمعروف بين الفقهاء والمفسّرين هو الرأي الأوّل ، كما أنّ ظاهر الآية أقرب إلى هذا المعنى ، وذلك لأنّه بالنظر لعمومية الحكم على الحيوانات ذوات اللحم الحلال وذوات اللحم الحرام ، فإنّ أكثر هذه الحيوانات ليس لها قيمة ثابتة لكي يمكن اختيار مثيلاتها من الحيوانات الأهلية .
وهذا ـ على كلّ حال ـ قد يكون ممكنا في حالة وجود المثيل من حيث الشكل والحجم ، أمّا حالة انعدام المثيل ، فلا مندوحة من تقدير قيمة للصيد بشكل من الأشكال ، وليمكن اختيار حيوان أهلي حلال اللحم يقاربه في القيمة .
ولمّا كان من الممكن أن تكون قضية التماثل موضع شك عند بعضهم فقد أصدر القرآن حكمه بأن ذلك ينبغي أنّ يكون بتحكيم شخصين مطلعين وعادلين : {يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ}.
أمّا عن مكان ذبح الكفارة ، فيبيّن القرآن أنّه يكون بصورة «هدي» يبلغ أرض الكعبة : {هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ}.والمشهور بين فقهائنا هو أنّ «كفارة الصيد أثناء الإحرام للعمرة» يجب أنّ تذبح في «مكّة» و «كفارة الصيد أثناء الإحرام للحج» يجب أن تذبح في «منى» ، وهذا لا يتعارض مع الآية المذكورة ، لأنّها نزلت في إحرام العمرة ، كما قلنا.
ثمّ يضيف أنّه ليس ضروريا أنّ تكون الكفارة بصورة أضحية ، بل يمكن الاستعاضة عنها بواحد من اثنين آخرين : {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ} و {أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً}.
مع أنّ الآية لا تذكر عدد المساكين الذين يجب إطعامهم ، ولا عدد الأيّام التي يجب أنّ تصام ، فإن اقتران الاثنين معا من جهة ، والتصريح بلزوم الموازنة في الصيام ، يدل على أنّ المقصود ليس إطلاق عدد المساكين الذين يجب إطعامهم بحسب رغبتنا ، بل المقصود تحديد ذلك بمقدار قيمة الأضحية.
أمّا كيف يتمّ التوازن بين الصيام وإطعام المسكين ، فيستفاد من بعض الرّوايات أنّ مقابل كلّ «مدّ» من الطعام (ما يعادل نحو 750 غراما من الحنطة وأمثالها) يصوم يوما واحدا ، ويستفاد من روايات أخرى أنّه يصوم يوما واحدا في مقابل كلّ «مدّين» من الطعام ، وهذا يعود في الواقع إلى أن الذي لا يستطيع صوم رمضان يكفّر عن كل يوم منه بمدّ واحد أو بمدّين اثنين من الطعام للمحتاجين (لمزيد من الاطلاع بهذا الخصوص انظر الكتب الفقهية).
أمّا إذا ارتكب محرم صيدا فهل له أن يختار أيّا من هذه الكفارات الثلاث ، أو أنّ عليه أن يختار بالترتيب واحدة منها ، أي الذبيحة أوّلا ، فإن لم يستطع فإطعام المسكين ، فإنّ لم يستطع فالصيام ، فالفقهاء مختلفون في هذا ، ولكن ظاهر الآية يدل على حرية الاختيار .
إنّ الهدف من هذه الكفارات هو {لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ} (2) .
ثمّ لما لم يكن لأي حكم أثر رجعي يعود إلى الماضي ، فيقول : {عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ}.
أمّا من لم يعتن بهذه التحذيرات المتكررة ولم يلتفت إلى أحكام الكفارة وكرر مخالفاته لحكم الصيد وهو محرم فإنّ الله سوف ينتقم منه في الوقت المناسب : {وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ}.
ثمّة نقاش بين المفسّرين عمّا إذا كانت كفارة صيد المحرم تتكرر بتكرره ، أو لا ، ظاهر الآية يدل على أنّ التكرار يستوجب انتقام الله ، فلو استلزم تكرار الكفارة لوجب أنّ لا يكتفي بذكر الانتقام الإلهي ، وللزم ذكر تكرار الكفارة صراحة ، وهذا ما جاء في الرّوايات التي وصلتنا عن أهل البيت عليهم السلام .
بعد ذلك يتناول الكلام صيد البحر : {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ}.
لكن ما المقصود من الطعام؟ فإن بعض المفسّرين يرون أنّه ذلك النوع من السمك الذي يموت بدون صيد ويطفو على سطح الماء ، مع أنّنا نعلم أنّ هذا الكلام ليس صحيحا ، لأنّ السمك الميت بهذا الشكل حرام مع أنّ بعض الرّوايات التي يرويها أهل السنّة تدل على حليته.
إنّ ما يستفاد من التعمق في ظهور الآية هو أنّ القصد من الطعام ما يهيأ للأكل من سمك الصيد إذ أنّ الآية تريد أن تحلل أمرين ، الأوّل هو الصيد ، والثّاني هو الطعام المتخذ من هذا الصيد.
وبهذه المناسبة ، ثمّة فتوى معروفة بين فقهائنا تعتمد مفهوم هذا التعبير ، وذلك فيما يتعلق بصيد البر ، فإن هذا الصيد ليس وحده حراما ، بل أنّ طعامه حرام أيضا.
ثمّ تشير الآية إلى الحكمة في هذا الحكم وتقول : {مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} ، أي لكيلا تعانوا المشقّة في طعامكم وأنتم محرومون ، فلكم أن تستفيدوا من نوع واحد من الصيد ، ذلك هو صيد البحر.
ولمّا كان من المألوف أن يكون السمك الذي يحمله المسافر معه هو السمك المملح ، فقد ذهب بعض المفسّرين إلى تفسير العبارة المذكورة في الآية بأنّه يجوز «للمقيمين» أن يطعموا السمك الطازج و «للمسافرين» السمك المملح.
ولا بدّ من التنبيه إلى أنّ حكم {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ} ليس حكما مطلقا وعاما في حلّية صيد البحر كافة كما يظن بعضهم ، وذلك لأنّ الآية ليست في معرض بيان أصل حكم صيد البحر ، بل هدف الآية هو أنّ تبيّن للمحرم أنّ صيد البحر (الذي كان حلالا قبل الإحرام له أن يطعمه في حال الإحرام أيضا) ، وبعبارة أخرى : لتبيّن الآية أصل تشريع القانون ، وإنّما تشير إلى خصائص قانون سبق تشريعه فليست الآية في معرض عمومية الحكم ، بل هي تبيّن حكم المحرم فحسب.
وللتوكيد تعود الآية إلى الحكم السابق مرّة أخرى وتقول : {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً}.
ولتوكيد جميع الأحكام التي ذكرت ، تقول الآية في الخاتمة : {وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}.
__________________________
1. تفسير الأمثل ، ج3 ، ص 628-633 .
2. في «مفردات الراغب» أنّ «وبال» من «الوبل والوابل» وهو المطر الغزير ، ثمّ أطلق على العمل الشاق الجسيم ، ولمّا كان العقاب شديدا وثقيلا عادة ، فقد وصف بأنّه «وبال».
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|