أقرأ أيضاً
التاريخ: 11-10-2017
5007
التاريخ: 11-10-2017
3276
التاريخ: 11-10-2017
3941
التاريخ: 11-10-2017
2715
|
قال تعالى : { مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوخَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} [محمد : 15 - 19].
وصف الجنات التي وعدها المؤمنين بقوله {مثل الجنة التي وعد المتقون} تقدم تفسيره في سورة الرعد {فيها أنهار من ماء غير آسن} أي غير متغير لطول المقام كما تتغير مياه الدنيا {وأنهار من لبن لم يتغير طعمه} فهو غير حامض ولا قارص ولا يعتريه شيء من العوارض التي تصيب الألبان في الدنيا {وأنهار من خمر لذة للشاربين} أي لذيذة يلتذون بشربها ولا يتأذون بها ولا بعاقبتها بخلاف خمر الدنيا التي لا تخلو من المزازة(2) والسكر والصداع {وأنهار من عسل مصفى} أي خالص من الشمع والرغوة والقذى ومن جميع الأذى والعيوب التي تكون لعسل الدنيا {ولهم فيها من كل الثمرات} أي مما يعرفون اسمها ومما لا يعرفون اسمها مبرأة من كل مكروه يكون لثمرات الدنيا {ومغفرة من ربهم} أي ولهم مع هذا مغفرة من ربهم وهو أنه يستر ذنوبهم وينسيهم سيئاتهم حتى لا يتنغص عليهم نعيم الجنة {كمن هو خالد في النار} أي من كان في هذه النعيم كمن هو خالد في النار {وسقوا ماء حميما} شديد الحر {فقطع أمعاءهم} إذا دخل أجوافهم وقيل أن قوله {كمن هو خالد في النار} معطوف على قوله {كمن زين له سوء عمله} أي كمن زين له سوء عمله ومن هو خالد في النار فحذف الواو كما يقال قصدني فلان شتمني ظلمني.
ثم بين سبحانه حال المنافقين فقال : {ومنهم من يستمع إليك} أي ومن الكافرين الذين تقدم ذكرهم من يستمع إلى قراءتك ودعوتك وكلامك لأن المنافق كافر {حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم} يعني الذين آتاهم الله العلم والفهم من المؤمنين قال ابن عباس أنا ممن أوتوا العلم بالقرآن وعن الأصبغ بن نباتة عن علي (عليه السلام) قال أنا كنا عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فيخبرنا بالوحي فأعيه أنا ومن يعيه فإذا خرجنا قالوا {ما ذا قال آنفا} وقولهم {ما ذا قال آنفا} أي أي شيء قال الساعة وإنما قالوه استهزاء أو إظهار أنا لم نشتغل أيضا بوعيه وفهمه وقيل إنما قالوا ذلك لأنهم لم يفهموا معناه ولم يعلموا ما سمعوه وقيل بل قالوا ذلك تحقيرا لقوله أي لم يقل شيئا فيه فائدة ويحتمل أيضا أن يكونوا سألوا رياء ونفاقا أي لم يذهب عني من قوله إلا هذا فما ذا قال أعده علي لأحفظه وإنما قال يستمع إليك ثم قال خرجوا من عندك لأن في الأول رد الضمير إلى لفظة من وفي الثاني إلى معناه فإنه موحد اللفظ مجموع المعنى.
ثم قال {أولئك الذين طبع الله على قلوبهم} أي وسم قلوبهم بسمة الكفار أو خلى بينهم وبين اختيارهم {واتبعوا أهواءهم} أي شهوات نفوسهم وما مالت إليه طباعهم دون ما قامت عليه الحجة ثم وصف سبحانه المؤمنين فقال {والذين اهتدوا} بما سمعوا من النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) {زادهم} الله أو قراءة القرآن أو النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) {هدى} وقيل زادهم استهزاء المنافقين إيمانا وعلما وبصيرة وتصديقا لنبيهم (صلى الله عليه وآله وسلّم) {وآتاهم تقواهم} أي وفقهم للتقوى وقيل معناه وآتاهم ثواب تقواهم عن سعيد بن جبير وأبي علي الجبائي وقيل بين لهم ما يتقون وهو ترك الرخص والأخذ بالعزائم {فهل ينظرون إلا الساعة} أي فليس ينتظرون إلا القيامة.
{أن تأتيهم بغتة} أي فجأة فقوله {أن تأتيهم} بدل من الساعة وتقديره إلا الساعة إتيانها بغتة والمعنى إلا إتيان الساعة إياهم بغتة {فقد جاء أشراطها} أي علاماتها قال ابن عباس معالمها والنبي من أشراطها ولقد قال ((بعثت أنا والساعة كهاتين)) وقيل هي إعلامها من انشقاق القمر والدخان وخروج النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) ونزول آخر الكتب عن مقاتل {فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم} أي فمن أين لهم الذكر والاتعاظ والتوبة إذا جاءتهم الساعة وموضع ذكراهم رفع مثله في قوله {يوم يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى} أي ليس تنفعه الذكرى والذكرى ما أمر الله سبحانه أن يتذكروا به ومعناه وكيف لهم بالنجاة إذا جاءتهم الساعة فإنه لا ينفعهم في ذلك الوقت الإيمان والطاعات لزوال التكليف عنهم.
ثم قال لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) والمراد به جميع المكلفين {فاعلم أنه لا إله إلا الله} قال الزجاج يجوز أن يكون المعنى أقم على هذا العلم واثبت عليه وأعلم في مستقبل عمرك ما تعلمه الآن ويدل عليه ما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة أورده مسلم في الصحيح وقيل أنه يتعلق بما قبله على معنى إذا جاءتهم الساعة فاعلم أنه لا إله إلا الله أي يبطل الملك عند ذلك فلا ملك ولا حكم لأحد إلا الله وقيل إن هذا إخبار بموته (صلى الله عليه وآله وسلّم) والمراد فاعلم أن الحي الذي لا يموت هو الله وحده وقيل أنه كان ضيق الصدر من أذى قومه فقيل له فاعلم أنه لا كاشف لذلك إلا الله.
{واستغفر لذنبك} الخطاب له والمراد به الأمة وإنما خوطب بذلك لتستن أمته بسنته وقيل إن المراد بذلك الانقطاع إلى الله تعالى فإن الاستغفار عبادة يستحق به الثواب وقد صح الحديث بالإسناد عن حذيفة بن اليمان قال كنت رجلا ذرب اللسان على أهلي فقلت يا رسول الله إني لأخشى أن يدخلني لساني في النار فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) : ((فأين أنت من الاستغفار إني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة)).
{وللمؤمنين والمؤمنات} أكرمهم الله سبحانه بهذا إذ أمر نبيهم أن يستغفر لذنوبهم وهو الشفيع المجاب فيهم ثم أخبر سبحانه عن علمه وأحوال الخلق ومآلهم فقال {والله يعلم متقلبكم ومثواكم} أي متصرفكم في أعمالكم في الدنيا ومصيركم في الآخرة إلى الجنة أو إلى النار عن ابن عباس وقيل يعلم متقلبكم في أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات ومثواكم أي مقامكم في الأرض عن عكرمة وقيل متقلبكم من ظهر إلى بطن ومثواكم في القبور عن ابن كيسان وقيل يعلم متقلبكم متصرفكم في النهار ومثواكم مضجعكم بالليل والمعنى أنه عالم بجميع أحوالكم فلا يخفى عليه شيء منها .
________________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج12، ص167-171.
2- وفي نسختين (المرارة) بدل (المزازة) : طعم بين الحموضة والحلاوة.
{مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ } . المراد بمثل الجنة صفتها ، والمعنى ان اللَّه أخبر عباده أن من أوصاف الجنة ، فيها أنهار من ماء باق على أصله وحقيقته لم يغيره شيء {وأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ } ولا لونه ولا رائحته { وأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} تلذ في الفم ولا تذهب بالعقل { وأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} من الشمع وغيره {ولَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ} ومنها ما لا يعرفون لها نظيرا في الدنيا . وفي بعض كتب الصوفية ان المراد بالماء هنا العلم ، وباللبن العمل ، وبالخمر لذة المحبة ، وبالعسل حلاوة المعرفة والقرب من اللَّه .
وسبق منا أكثر من مرة ان كل ما جاء في كتاب اللَّه وجب العمل بظاهره حتى يثبت العكس من النقل أو العقل ، والعقل لا يأبى شيئا من أوصاف الجنة التي دل عليها ظاهر الآيات فوجب الأخذ به وابقاؤه على حقيقته ودلالته.
وتسأل : ان اللَّه سبحانه ذكر في غير مكان من كتابه ان أهل الجنة يتنعمون فيها بلذة معنوية لا حسية ، كحب اللَّه لهم ، ومرضاته عنهم ، وارتفاع شأنهم عنده ، من ذلك قوله تعالى : {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} آخر القمر . وقوله :
{سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا} - 96 مريم . فما هو وجه الجمع بين ما دل من الآيات على ان نعيم الجنة يكون باللذة الحسية وما دل منها على انه يكون باللذة المعنوية ؟.
الجواب : لا مانع من الجمع بين اللذتين والعمل بالدلالتين . . فأهل الجنة يتنعمون بحب اللَّه وبعلو الشأن عنده ، وأيضا يتنعمون بالطيبات من المآكل والمشارب . قال الملا صدرا في الأسفار : {أما الجنة فهي كما دل عليه الكتاب والسنّة مطابقا للبرهان . . . فلا موت فيها ولا هرم ولا غم ولا سقم ولا دثور ولا زوال ، وهي دار المقامة والكرامة لا يمس أهلها نصب ولا لغوب ، وفيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين ، وهم فيها خالدون ، وأهلها جيران اللَّه وأولياؤه وأحباؤه ، وأهل كرامته ، وانهم على مراتب متفاضلة ، منهم المتنعمون بالتسبيح والتكبير ، ومنهم المتنعمون باللذات المحسوسة كأنواع المآكل والمشارب والفواكه والأرائك والحور العين واستخدام الولدان والجلوس على النمارق والزرابي ولبس السندس والحرير والإستبرق ، وكل منهم إنما يتلذذ بما يشتهي ويريد على حسب ما تعلقت به همته} .
{ومَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ } . الذين يتنعمون بملذات الدنيا وشهواتها يحاسبون عليها حسابا عسيرا : {أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ} - 56 المؤمنون . أما أهل الجنة فإنهم يتقلبون في نعيمها وهم في أمن وأمان من حساب اللَّه وعقابه { كَمَنْ هُو خالِدٌ فِي النَّارِ } . في الكلام حذف دل عليه السياق ، والتقدير أفمن هو خالد في الجنة كمن هو خالد في النار لا يستوون { وسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ } . كيف يستوون ، وأصحاب الجنة
يشربون الماء العذب واللبن والخمر والعسل المصفى ، وأصحاب النار يشربون حميما وصديدا يغلي في البطون ؟.
{ ومِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً } ؟ . ضمير منهم يعود إلى الناس ، ومن للتبعيض ، والبعض المقصودون هم الكافرون أو المنافقون ، والخطاب في إليك للرسول ( صلى الله عليه واله ) ، والذين أوتوا العلم هم علماء أهل الكتاب ، والمعنى ان الذين يحضرون مجلسك يا محمد من الكافرين أو المنافقين يقولون ساخرين حين يخرجون من عندك وبعد أن استمعوا إلى كلام اللَّه ، يقولون لمن حضر معهم من علماء أهل الكتاب : لم نفهم ما ذا قال محمد ونحن في مجلسه الذي فارقناه قريبا ، فهل فهمتم أنتم شيئا ؟ . . وهذا ديدن من لا يعجبه شيء إلا ما يعبر عن نزواته وشهواته .
{ أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ واتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ }. وقوله سبحانه : اتبعوا أهواءهم : يشير إلى جواب عن سؤال مقدر ، وهو لماذا طبع اللَّه على قلوبهم ؟
فأجاب لأن الأهواء رانت على قلوبهم حتى كأن اللَّه قد ختم عليها أو خلقهم من غير قلوب ، وبتعبير الآية 5 من سورة الصف : {فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}.
{والَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً} . طلب المؤمنون الهداية بصدق وإخلاص ، فكان اللَّه دليلهم وكفيلهم ، وزادهم علما بالخيرات ، وشملهم بعنايته وتوفيقه إلى ما يعود عليهم بالخير دنيا وآخرة ، وهذا هو المراد بقوله تعالى : {وآتاهُمْ تَقْواهُمْ } .
( فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً ) . ضمير ينظرون يعود إلى الذين قالوا ساخرين بالرسول الأعظم ( صلى الله عليه واله ) : ما ذا قال آنفا . قالوا هذا ذاهلين عن يوم القيامة الذي يأخذهم على الغرة ، ويقفون فيه أمام اللَّه لنقاش الحساب وفصل الخطاب {فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها } الضمير للساعة ، والمراد بالأشراط هنا الدلائل والحجج القاطعة على البعث ، وقد جاءت في كتاب اللَّه وعلى لسان محمد ( صلى الله عليه واله ) بشتى الأساليب ، ولم تدع عذرا لمنكر .
{فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ } . في الكلام تقديم وتأخير ، والأصل فأنّى لهم ذكراهم إذا جاءتهم الساعة ، والمعنى لقد ذكرهم في الدنيا الرسول الأعظم فلم يتذكروا ، وحين بعثوا ورأوا العذاب تذكروا وندموا ، ولكن حيث لا ينتفعون
بشيء { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهً إِلَّا اللَّهُ } هو يحيي ويميت ويعاقب ويثيب . . وغير بعيد أن يكون معنى فاعلم انه لا إله إلا اللَّه هنا ادع إلى اللَّه ووحدانيته {واسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ولِلْمُؤْمِنِينَ والْمُؤْمِناتِ } . والاستغفار من الذنب محبوب للَّه تعالى ، ومطلوب بالذات ، سواء أكان هناك ذنب أم لم يكن { واللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ } في الأعمال { ومَثْواكُمْ } مقركم حين تتركون العمل أو مصيركم في الآخرة كما قيل ، وأيا ما كان فإن اللَّه سبحانه يعلم حال عباده في الدنيا والآخرة ، وحين يتحركون ويسكنون .
____________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7،ص69-71.
قوله تعالى: {مثل الجنة التي وعد المتقون} إلى آخر الآية يفرق بين الفريقين ببيان مآل أمرهما وهو في الحقيقة توضيح ما مر في قوله: {إن الله يدخل الذين آمنوا} إلخ من الفرق بينهما فهذه الآية في الحقيقة تفصيل تلك الآية.
فقوله: {مثل الجنة التي وعد المتقون} المثل بمعنى الصفة - كما قيل - أي صفة الجنة التي وعد الله المتقين أن يدخلهم فيها، وربما حمل المثل على معناه المعروف واستفيد منه أن الجنة أرفع وأعلى من أن يحيط بها الوصف ويحدها اللفظ وإنما تقرب إلى الأذهان نوع تقريب بأمثال مضروبة كما يلوح إليه قوله تعالى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17].
وقد بدل قوله في الآية السابقة: {الذين آمنوا وعملوا الصالحات} في هذه الآية من قوله: {المتقون} تبديل اللازم من الملزوم فإن تقوى الله يستلزم الإيمان به وعمل الصالحات من الأعمال.
وقوله: {فيها أنهار من ماء غير آسن} أي غير متغير بطول المقام، وقوله: {وأنهار من لبن لم يتغير طعمه} كما في ألبان الدنيا، وقوله: {وأنهار من خمر لذة للشاربين} أي لذيذة للشاربين، واللذة إما صفة مشبهة مؤنثة وصف للخمر، وإما مصدر وصفت به الخمر مبالغة، وإما بتقدير مضاف أي ذات لذة، وقوله: {وأنهار من عسل مصفى} أي خالص من الشمع والرغوة والقذى وسائر ما في عسل الدنيا من الأذى والعيوب، وقوله : {ولهم فيها من كل الثمرات} جمع للتعميم.
وقوله: {ومغفرة من ربهم} ينمحي بها عنهم كل ذنب وسيئة فلا تتكدر عيشتهم بمكدر ولا ينتغص بمنغص، وفي التعبير عنه تعالى بربهم إشارة إلى غشيان الرحمة وشمول الحنان والرأفة الإلهية.
وقوله: {كمن هو خالد في النار} قياس محذوف أحد طرفيه أي أ من يدخل الجنة التي هذا مثلها كمن هو خالد في النار وشرابهم الماء الشديد الحرارة الذي يقطع أمعاءهم وما في جوفهم من الأحشاء إذا سقوه، وإنما يسقونه وهم مكرهون كما في قوله: {وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم} وقيل: قوله: {كمن هو خالد} إلخ، بيان لقوله في الآية السابقة: {كمن زين} إلخ، وهوكما ترى.
بيان الآيات جارية على السياق السابق، وفيها تعرض لحال الذين في قلوبهم مرض والمنافقين ومن ارتد بعد إيمانه.
قوله تعالى: {ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ما ذا قال آنفا} إلخ، آنفا اسم فاعل منصوب على الظرفية أو لكونه مفعولا فيه، ومعناه الساعة التي قبيل ساعتك، وقيل: معناه هذه الساعة وهو على أي حال مأخوذ من الأنف بمعنى الجارحة.
وقوله: {ومنهم من يستمع إليك} الضمير للذين كفروا، والمراد باستماعهم إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إصغاؤهم إلى ما يتلوه من القرآن وما يبين لهم من أصول المعارف وشرائع الدين.
وقوله: {حتى إذا خرجوا من عندك} الضمير للموصول وجمع الضمير باعتبار المعنى كما أن إفراده في {يستمع{ باعتبار اللفظ. وقوله : {قالوا للذين أوتوا العلم ما ذا قال آنفا} المراد بالذين أوتوا العلم العلماء بالله من الصحابة، والضمير في {ماذا قال} للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
والاستفهام في قولهم : {ما ذا قال آنفا} قيل : للاستعلام حقيقة لأن استغراقهم في الكبر والغرور واتباع الأهواء ما كان يدعهم أن يفقهوا القول الحق كما قال تعالى : {فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا } [النساء: 78] ، وقيل: للاستهزاء، وقيل: للتحقير كأن القول لكونه مشحونا بالأباطيل لا يرجع إلى معنى محصل، ولكل من المعاني الثلاثة وجه.
وقوله : {أولئك الذين طبع الله على قلوبهم} تعريف لهم، وقوله : {واتبعوا أهواءهم} تعريف بعد تعريف فهو كعطف التفسير، ويتحصل منه أن اتباع الأهواء أمارة الطبع على القلب فالقلب غير المطبوع عليه الباقي على طهارة الفطرة الأصلية لا يتوقف في فهم المعارف الدينية والحقائق الإلهية.
قوله تعالى : {والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم} المقابلة الظاهرة بين الآية وبين الآية السابقة يعطي أن المراد بالاهتداء ما يقابل الضلال الملازم للطبع على القلب وهو التسليم لما تهدي إليه الفطرة السليمة واتباع الحق، وزيادة هداهم من الله سبحانه رفعه تعالى درجة إيمانهم، وقد تقدم أن الهدى والإيمان ذو مراتب مختلفة، والمراد بالتقوى ما يقابل اتباع الأهواء وهو الورع عن محارم الله والتجنب عن ارتكاب المعاصي.
وبذلك يظهر أن زيادة الهدى راجع إلى تكميلهم في ناحية العلم وإيتاء التقوى إلى تكميلهم في ناحية العمل، ويظهر أيضا بالمقابلة أن الطبع على القلوب راجع إلى فقدانهم كمال العلم واتباع الأهواء راجع إلى فقدانهم العمل الصالح وحرمانهم منه وهذا لا ينافي ما قدمنا أن اتباع الأهواء كعطف التفسير بالنسبة إلى الطبع على القلوب.
قوله تعالى: {فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها{ إلخ، النظر هو الانتظار، والأشراط جمع شرط بمعنى العلامة، والأصل في معناه الشرط بمعنى ما يتوقف عليه وجود الشيء لأن تحققه علامة تحقق الشيء فأشراط الساعة علاماتها الدالة عليها.
وسياق الآية سياق التهكم كأنهم واقفون موقفا عليهم إما أن يتبعوا الحق فتسعد بذلك عاقبتهم، وإما أن ينتظروا الساعة حتى إذا أيقنوا بوقوعها وأشرفوا عليها تذكروا وآمنوا واتبعوا الحق أما اتباع الحق اليوم فلم يخضعوا له بحجة أو بموعظة أو عبرة، وأما انتظارهم مجيء الساعة ليتذكروا عنده فلا ينفعهم شيئا فإنها تجيء بغتة ولا تمهلهم شيئا حتى يستعدوا لها بالذكرى وإذا وقعت لم ينفعهم الذكرى لأن اليوم يوم جزاء لا يوم عمل قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي } [الفجر: 23].
مضافا إلى أن أشراطها وعلاماتها قد جاءت وتحققت، ولعل المراد بأشراطها خلق الإنسان وانقسام نوعه إلى صلحاء ومفسدين ومتقين وفجار المستدعي للحكم الفصل بينهم ونزول الموت عليهم فإن ذلك كله من شرائط وقوع الواقعة وإتيان الساعة، وقيل: المراد بأشراط الساعة ظهور النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو خاتم الأنبياء وانشقاق القمر ونزول القرآن وهو آخر الكتب السماوية.
هذا ما يعطيه التدبر في الآية من المعنى وهي - كما ترى - حجة برهانية في عين أنها مسوقة سوق التهكم.
وعليه فقوله : {بغتة} حال من الإتيان جيء به لبيان الواقع وليتفرع عليه قوله الآتي: {فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم} وليس قيدا للانتظار حتى يفيد أنهم إنما ينتظرون إتيانها بغتة، ولدفع هذا التوهم قيل: {إلا الساعة أن تأتيهم بغتة} ولم يقل: إلا أن تأتيهم الساعة بغتة.
وقوله: {فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم} أنى خبر مقدم و{ذكراهم} مبتدأ مؤخر و{إذا جاءتهم} معترضة بينهما، والمعنى: فكيف يكون لهم أن يتذكروا إذا جاءتهم؟ أي كيف ينتفعون بالذكرى في يوم لا ينفع العمل الذي يعمل فيه وإنما هو يوم الجزاء.
وللقوم في معنى جمل الآية ومعناها بالجملة أقوال مختلفة تركنا إيرادها من أرادها فليراجع كتبهم المفصلة.
قوله تعالى : {فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات} إلخ، قيل: هو متفرع على جميع ما تقدم في السورة من سعادة المؤمنين وشقاوة الكفار كأنه قيل: إذا علمت أن الأمر كما ذكر من سعادة هؤلاء وشقاوة أولئك فاثبت على ما أنت عليه من العلم بوحدانية الله سبحانه فمعنى الأمر بالعلم على هذا هو الأمر بالثبات على العلم.
ويمكن أن يكون تفريعا على ما بينه في الآيتين السابقتين أعني قوله : {ومنهم من يستمع إليك - إلى قوله - وآتاهم تقواهم} من أنه تعالى يطبع على قلوب المشركين ويتركهم وذنوبهم ويعكس الأمر في الذين اهتدوا إلى توحيده والإيمان به فكأنه قيل: إذا كان الأمر على ذلك فاستمسك بعلمك بوحدانية الإله واطلب مغفرة ذنبك ومغفرة أمتك من المؤمنين بك والمؤمنات حتى لا تكون ممن يطبع الله على قلبه ويحرمه التقوى بتركه وذنوبه، ويؤيد هذا الوجه قوله في ذيل الآية: {والله يعلم متقلبكم ومثواكم}.
فقوله: {فاعلم أنه لا إله إلا الله} معناه على ما يؤيده السياق فاستمسك بعلمك أنه لا إله إلا الله، وقوله : {واستغفر لذنبك{ تقدم الكلام في معنى الذنب المنسوب إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) وسيأتي أيضا في تفسير أول سورة الفتح إن شاء الله تعالى.
وقوله : {وللمؤمنين والمؤمنات { أمر بطلب المغفرة للأمة من المؤمنين والمؤمنات وحاشا أن يأمر تعالى بالاستغفار ولا يواجهه بالمغفرة أو بالدعاء ولا يقابله بالاستجابة.
وقوله : {والله يعلم متقلبكم ومثواكم} تعليل لما في صدر الآية : {فاعلم أنه} إلخ، والظاهر أن المتقلب مصدر ميمي بمعنى الانتقال من حال إلى حال، وكذلك المثوى بمعنى الاستقرار والسكون، والمراد أنه تعالى يعلم كل أحوالكم من متغير وثابت وحركة وسكون فاثبتوا على توحيده واطلبوا مغفرته، واحذروا أن يطبع على قلوبكم ويترككم وأهواءكم.
وقيل: المراد بالمتقلب والمثوى التصرف في الحياة الدنيا والاستقرار في الآخرة وقيل: المتقلب هو التقلب من الأصلاب إلى الأرحام والمثوى السكون في الأرض.
وقيل: المتقلب التصرف في اليقظة والمثوى المنام، وقيل: المتقلب التصرف في المعايش والمكاسب والمثوى الاستقرار في المنازل، وما قدمناه أظهر وأعم.
________________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج18، ص190-195.
وصف آخر للجنّة :
إنّ هذه الآية وصف لمصير كلّ من المؤمنين والكافرين، فالفئة الأولى الذين يعملون الصالحات، والثانية زيّن لهم سوء أعمالهم.
وقد رفعت هذه الآية الغطاء عن ستة أنواع من نعم أهل النعيم، وعن نوعين من أنواع العذاب الأليم لأصحاب الجحيم، وهي تحدد عاقبة كلا الفريقين وتوضحها.
تتحدث الآية عن أربعة أنهار في الجنّة، لكلّ منها سائله ومحتواه الخاص، ثمّ تتحدث عن فواكه الجنّة، وأخيراً عن بعض المواهب المعنوية.
تقول الآية أوّلاً: {مثل الجنّة التي وعد المتقون فيها أنها من ماء غير آسن}(2).
«الآسن» يعني النتن، وبناءاً على هذا، فإنّ (ماء غير آسن) تعني الماء الذي لا يتغيّر طعمه ورائحته لطول بقائه وغيره ذلك، وهذا أوّل نهر من أنهار الجنّة، وفيه ماء زلال جار طيب الطعم والرائحة.
ثمّ تضيف : {وأنهار من لبن لم يتغيّر طعمه} وذلك أنّ الجنّة مكان لا يعتريه الفساد، ولا تتغيّر أطعمة الجنّة بمرور الزمن، وإنّما تتغيّر الأطعمة في هذه الحياة الدنيا، لوجود أنواع الميكروبات التي تفسد المواد الغذائية بسرعة.
ثمّ تطرّقت إلى ثالث نهر من أنهار الجنّة، فقالت : {وأنهار من خمر لذّة للشاربين}.
وأخيراً تبيّن الآية رابع أنهار الجنّة بأنّه : {وأنهار من عسل مصفّى}.
وعلاوة على هذه الأنهار المختلفة التي خلق كلّ منها لغرض، فقد تحدّثت الآية عن فواكه الجنّة في الموهبة الخامسة، فقالت الآية: {ولهم فيها من كلّ الثمرات}(3) فستوضع بين أيديهم وتحت تصرفهم كلّ الثمرات والفواكه المتنوّعة الطعم والرائحة، سواء التي يمكن تصوّرها، أو التي لا يمكن أن تخطر على أذهاننا اليوم ويصعب تصوّرها.
وأخيراً تتحدث عن الموهبة السادسة التي تختلف عن المواهب المادية السابقة، إذ أنّ هذه الهبة معنوية روحية، فتقول: (ومغفرة من ربّهم) إذ ستمحو رحمته الواسعة كل هفواتهم وسقطاتهم، وسيمنحهم الله الإطمئنان والهدوء والرضى، ويجعلهم من المرضيين عنده والمحبّبين إليه، وسيكونون مصداق لقوله تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [المائدة: 119].
وبذلك فإنّ المؤمنين الطاهرين الصالحين يتمتّعون بأنواع المواهب المادية والمعنوية في الجنان الخالدة، وفي جوار رحمة الله.
ولنرَ الآن ماذا سيكون مصير الفريق المقابل للمؤمنين، أي الكفار؟
تقول الآية متابعة لحديثها: {كمن هو خالد في النّار وسقوا ماءً حميماً فقطّع أمعاءهم}(4).
«الأمعاء» جمع «معي» ـ على وزن سعي ـ و«مِعا» ـ على وزن غنا ـ وتطلق أحياناً على كلّ ما في البطن، وتقطيعها إشارة إلى شدّة حرارة هذا الشراب الجهنّمي المرعب، وقوّة إحراقه.
ظهرت علامات القيامة!
تعكس هذه الآيات صورة عن وضع المنافقين، وطريق تعاملهم مع الوحي الإلهي، وكلمات النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)، ومسألة قتال أعداء الإسلام ومحاربتهم.
وقد ورد الحديث حول المنافقين في السور المدنية كثيراً، في حين لا نرى أثراً للحديث حولهم في السور المكية، وذلك لأنّ مسألة النفاق ظهرت بعد انتصار الإسلام وتسلّمه السلطة والقوّة، حيث أصبح المشركون في موقع ضعف وانهيار، بحيث لم يكن باستطاعتهم إظهار مخالفتهم، ولذلك اضطروا إلى التلبّس بالإسلام ليأمنوا غضب المسلمين الحقيقيين، أمّا في الباطن فإنّهم لم يألوا جهداً في التآمر ضد الإسلام، وكان يهود المدينة الذين كانوا يتمتّعون بقوة عسكرية واقتصادية لا يستهان بها، يعتبرون سنداً للمنافقين.
وعلى أي حال، فقد توغّل هؤلاء بين المسلمين المخلصين، وكانوا يحضرون عند النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ويشاركون في صلاة الجمعة، إلاّ أنّ تعاملهم تجاه آيات القرآن كان يفضح ما تنطوي عليه سرائرهم وقلوبهم المريضة.
تقول الآية الأولى من الآيات مورد البحث: {ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفاً} وكان مرادهم من ذلك الرجل هو النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم).
إنّ تعبير هؤلاء في شأن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وكلماته البليغة، كان من القبح والبذاءة إلى درجة تدل على أنّهم لم يؤمنوا بالوحي السماوي قط.
«آنفاً» من مادة (أنف)، ولما كان للأنف بروزاً متميّزاً في وجه الإنسان، فإنّ هذه الكلمة تستعمل في شأن أشراف القوم، وكذلك تستعمل في مورد الزمان المتقدم على زمان الحال، كما جاء في الآية مورد البحث.
ثمّ إنّ التعبير بـ{الذين أوتوا العلم} يوحي بأنّ إحدى علامات المؤمن امتلاكه الوعي الكافي، فكما أنّ العلم مصدر الإيمان، فكذلك هو وليد الإيمان وحاصله.
إلاّ أنّ القرآن الكريم قد أجابهم جواباً قاطعاً، فقال: إنّ كلام النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن غامضاً ولا معقّداً، بل {أُولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم}.
وفي الحقيقة فإنّ الجملة الثّانية علّة للجملة الاُولى، أي إنّ اتباع الهوى يسلب الإنسان القدرة على إدراك الحقائق وتمييزها، ويلقي الحجاب على قلبه، بحيث أنّ قلوب متبعي الهوى تصبح كالظرف المختوم، فلا يدخله شيء، ولا يخرج منه شيء.
ويقف المؤمنون الحقيقيون في الطرف المقابل لهؤلاء، وعنهم تتحدّث الآية التالية فتقول: {والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم}.
نعم، لقد خطا هؤلاء الخطوة الأولى بأنفسهم، واستخدموا عقلهم وفطرتهم في هذا المسير، ثمّ أخذ الله سبحانه بيدهم كما وعدهم من قبل، فزادهم هدى إلى هداهم، وألقى نور الإيمان في قلوبهم، وشرح صدورهم ورزقهم حسن الفكرة والنظر. هذا من الناحية العقائدية.
وأمّا من الناحية العملية فإنّه سبحانه يحيي فيهم روح التقوى، حتى أنّهم يشمئزون من الذنب والمعصية، ويعشقون الطاعة والعمل الصالح.
إنّ هؤلاء يقفون من الناحيتين في الطرف المقابل للمنافقين الذين أشارت إليهم الآية السابقة، فقد طبع على قلوبهم فلا يفقهون شيئاً من جهة، ومن جهة اُخرى فإنّهم يتّبعون أهواءهم في العمل، أمّا المؤمنون فإنّ هدايتهم تعظم يوماً بعد يوم، وتتضاعف تقواهم في مجال العمل.
وتحذّر الآية التالية أُولئك المستهزئين الذين لا إيمان لهم، فتقول: {فهل ينظرون إلاّ ساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها فأنّى لهم إذا جاءتهم ذكراهم}.
أجل، إنّ هؤلاء لم يذعنوا للحق حيث كان الإيمان واجباً عليهم، ومفيداً لهم، بل كانوا في طغيانهم يعمهون، وبآيات الله يستهزئون، غير أنّهم يوم يرون الحوادث المرعبة وبداية القيامة تهزّ العالم وتزلزله، يصيبهم الفزع ويظهرون خضوعهم ويؤمنون، ولا ينفعهم يومئذ إيمانهم وخضوعهم.
إنّ هذه العبارة تشبه تماماً أن نقول لإنسان: أتنتظر حتى يشرف بك مرضك على الموت، ولا ينفع حينئذ علاج، ثمّ تدعو الطبيب وتأتي بالدواء؟ انهض واسرع إلى المعالجة وتناول الدواء قبل أن تفقد هذه الفرصة، فإنّ السعي الآن ذو فائدة، وبعد اليوم لا ينفع.
«الأشراط» جمع (شَرَط)، وهي العلامة، وعلى هذا فإنّ أشراط الساعة إشارة إلى علامات اقتراب القيامة.
وللمفسرين أقوال كثيرة حول المراد من علامات اقتراب القيامة هنا، حتى كتبت رسائل مختصرة ومفصّلة، في هذا الباب. إلاّ أنّ الكثير يعتقدون أنّ المراد من «أشراط الساعة» في الآية ـ مورد البحث ـ هو ظهور شخص النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)، ويشهد لذلك الحديث المروي عنه(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «بعثت أنا والساعة كهاتين» وضمّ إصبعيه السبابة والوسطى(5).
وعدّ البعض مسألة «شقّ القمر»، وقسماً آخر من حوادث عصر النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)من أشراط الساعة أيضاً.
لقد وردت أحاديث عديدة في هذا الباب، وقد اعتبرت شيوع كثير من المعاصي بين الناس بالذات من علامات اقتراب القيامة، كالحديث الذي يرويه «الفتال النيسابوري» (ره) في روضة الواعظين، عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «من أشراط الساعة أن يرفع العلم، ويظهر الجهل، ويشرب الخمر، ويفشو الزنا»(6).
بل، حتى الحوادث المهمّة والمؤثرة، كقيام المهدي ـ أرواحنا له الفداء ـ عدّت من أشراط الساعة.
لكن ينبغي أن نذكر أنّنا نبحث تارةً في أشراط الساعة بصورة مطلقة، فنسأل: ما هي علامات اقتراب القيامة؟ وأُخرى نبحث في مورد خصوص الآية. والمطلب في مورد الآية هوما قلناه. وأمّا حول علامات اقتراب القيامة بصورة مطلقة فقد وردت بحوث وروايات كثيرة في الكتب الإسلامية المعروفة، وسنشير إليها فيما يأتي(7).
هل أنّ ظهور النّبي من علامات قرب القيامة؟
يطرح هنا سؤال، وهو : كيف عدوا ظهور النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من علامات اقتراب القيامة، وقد مرّ إلى الآن خمسة عشر قرناً ولا أثر للقيامة؟
والإجابة عن هذا السؤال تتّضح بملاحظة واحدة، وهي أنّنا يجب أن نقارن بين ما مرّ من الدنيا وما بقي منها، وسيظهر من خلال هذه المقارنة أن ما بقي من عمر الدنيا قليل جداً، وهو سريع الإنقضاء، كما ورد في حديث عن النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، أنّه كان يخطب في أصحابه قبيل الغروب، فقال : «والذي نفس محمّد بيده ما مثل ما مضى من الدنيا فيما بقي منها إلاّ مثل ما مضى من يومكم هذا فيما بقي منه، وما بقي منه إلاّ اليسير»(8).
وتقول آخر آية من هذه الآيات وكاستخلاص لنتيجة البحوث التي وردت في الآيات السابقة حول الإيمان والكفر، ومصير المؤمنين والكفّار: {فاعلم أنّه لا إله إلاّ الله} أي: اثبت على خط التوحيد، فإنّه الدواء الشافي، واعلم أنّ أفضل وسيلة للنجاة هو التوحيد الذي بيّنت الآيات السالفة آثاره.
وبناءً على هذا، فلا يعني هذا الكلام أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن عالماً بالتوحيد بل المراد الإستمرار في هذا الخط، وهذا يشبه تماماً ما ذكروه في تفسير الآية : {إهدنا الصراط المستقيم} في سورة الحمد، بأنّها لا تعني عدم الهداية من قبل، بل تعني : ثبّتنا على خط الهداية.
ويحتمل أيضاً أن يكون المراد التدبّر في أمر التوحيد أكثر، والإرتقاء إلى المقامات الأسمى، حيث أنّه كلمّا تدبّر البشر فيه أكثر، وطالعوا آيات الله بدقّة أكبر، فإنّهم سيصلون إلى مراتب أرقى، والتدبّر بما قيل في الآيات السالفة في مورد الإيمان والكفر، عامل يؤثر بحدِّ ذاته في زيادة الإيمان والكفر.
والتّفسير الثّالث أنّ المراد: الجوانب العملية للتوحيد، أي: اعلم أنّ الملجأ والمأوى الوحيد في العالم هو الله تعالى، فالتجئ إليه، ولا تطلب حل معضلاتك إلاّ منه، ولا تخف سيل المشاكل، ولا تخشَ كثرة الأعداء.
ولا تنافي بين هذه التفاسير الثلاثة، فمن الممكن أن تجمع في معنى الآية.
وبعد هذه المسألة العقائدية، تعود الآية إلى مسألة التقوى والعفّة عن المعصية، فتقول: {واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات}.
لا يخفى أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يرتكب ذنباً قط بحكم مقام العصمة، وأمثال هذه التعابير إشارة إلى ترك الأولى، فإنّ حسنات الأبرار سيئات المقرّبين(9) ، أو إلى أنّه قدوة للمسلمين.
وجاء في حديث : أنّ حذيفة بن اليمان يقول : كنت رجلاً ذرب اللسان على أهلي، فقلت : يا رسول الله إنّي لأخشى أن يدخلني لساني في النّار، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : «فأين أنت من الإستغفار؟ إنّي لأستغفر الله في اليوم مائة مرّة»(9). وجاء في بعض الروايات أنّه كان يستغفر في اليوم سبعين مرّة.
إذا كان الآخرون يستغفرون ممّا ارتكبوا من المعاصي والذنوب، فإنّ النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) يستغفر الله من تلك اللحظة التي شغل فيها عن ذكره، أو أنّه ترك فعل الأحسن وفعل الحسن.
وهنا نكتة جديرة بالانتباه، وهي أنّ الله سبحانه قد شفع للمؤمنين والمؤمنات، وأمر نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يستغفر لهم لتسعهم رحمته، ومن هنا يتبيّن عمق مسألة «الشفاعة» في الدنيا والآخرة، وكذلك تتبيّن أهمية التوسّل وكونه مشروعاً.
ويقول سبحانه في ذيل الآية، وكتبيان للعلّة (والله يعلم متقلّبكم ومثواكم) فهو يعلم ظاهركم وباطنكم، كتمانكم وعلانيتكم، سرّكم ونجواكم، بل ويعلم حتى نيّاتكم، وما توسوس به أنفسكم، ويخطر على أذهانكم، وما يجري في ضمائركم، ويعلم حركاتكم وسكناتكم، ولهذا وجب عليكم التوجّه إليه ورفع الأكف بين يديه وطلب العفو والمغفرة والرحمة منه.
«المتقلّب»: هو المكان الذي يكثر التردّد عليه، و«المثوى» هو محل الإستقرار(11).
والظاهر أنّ لهاتين الكلمتين معنى واسعاً يشمل كلّ حركات ابن آدم وسكناته، سواء التي في الدنيا أم في الآخرة، في فترة كونه جنيناً أم كونه من سكان القبور، وإن كان كثير من المفسّرين قد ذكر لهما معاني محددة:
فقال بعضهم: إنّ المراد حركة الإنسان في النهار، وسكونه في الليل.
وقال آخرون: إنّ المراد مسير الإنسان في الحياة الدنيا، واستقراره في الآخرة.
وقال بعض آخر: إنّ المراد تقلّب الإنسان في أصلاب الآباء وأرحام الأمهات، وثباته في القبر.
وأخيراً ذكر البعض أنّ المراد: حركاته في السفر، وسكناته في الحضر.
ولكن كما قلنا، فإنّ للآية معنى واسعاً يشمل كلّ هذه المعاني.
__________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي، ج12 ، ص625-634.
2 ـ للمفسّرين بحوث كثيرة حول تركيب هذه الآية الشريفة، والأنسب منها جميعاً أن يقال: (مثل الجنّة) مبتدأ، وخبره محذوف، والتقدير: مثل الجنّة التي وعد المتقون جنّة فيها أنهار، وهذه الآية تشبه ـ في الحقيقة ـ الآية (35) من سورة الرعد التي تقول: (مثل الجنّة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار).
3 ـ للجملة محذوف، وللتقدير: لهم فيها أنواع من كل الثمرات.
4 ـ لقد وردت أبحاث كثيرة في تركيب هذه الآية أيضاً، والأنسب منها جميعاً أنّ للآية تقديراً
هو: أفمن هو خالد في الجنّة التي هذه صفاتها كمن هو خالد في النّار؟
5 ـ مجمع البيان، تفسير القرطبي، تفسير في ظلال القرآن، وتفاسير أخرى، في ذيل الآيات
مورد البحث، بتفاوت يسير في التعبير.
6 ـ نور الثقلين، المجلد 5، صفحة 37.
7 ـ يتّضح ممّا قلناه أنّ ليس المراد من جملة: (فقد جاء أشراطها) تحقق كلّ علامات القيامة
وظهورها في عصر النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)بل المراد أنّ بعضها قد ظهر، وهو يخبر
عن اقتراب القيامة، وإنّ كانت بعض الأشراط ستتحقق وتتّضح فيما بعد.
8 ـ روح المعاني، المجلد 26، صفحة 48.
9- بحار الانوار ، ج11 ، ص256، وج25 ، ص205.
10 ـ مجمع البيان، المجلد 9، صفحة 102، ذيل الآيات مورد البحث.
11 ـ بناءً على هذا، فإنّ (متقلّب) اسم مفعول جاء هنا بمعنى المكان، إلاّ أنّ جماعة يعتبرونه مصدراً ميمياً يعني الإنتقال من حال الى حال. غير أنّ المعنى الأوّل هو الأنسب بملاحظة قرينة مقابلته بالمثوى الذي لا ريب في كونه اسم مكان.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|