أقرأ أيضاً
التاريخ: 10-10-2017
4543
التاريخ: 10-10-2017
5855
التاريخ: 11-10-2017
4776
التاريخ: 9-10-2017
49210
|
قال تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُو أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُو أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُو أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُو أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } [النجم: 27 - 32].
ذم سبحانه مقالتهم فقال {إن الذين لا يؤمنون بالآخرة} أي لا يصدقون بالبعث والثواب والعقاب {ليسمون الملائكة تسمية الأنثى} حين زعموا أنهم بنات الله {وما لهم به} أي بذلك التسمية {من علم} أي ما يستيقنون أنهم إناث وليسوا عالمين(2) {إن يتبعون إلا الظن} الذي يجوز أن يخطىء ويصيب في قولهم ذلك {وإن الظن لا يغني من الحق شيئا} الحق هنا معناه العلم أي الظن لا يغني عن العلم شيئا ولا يقوم مقام العلم.
ثم خاطب نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقال {فأعرض} يا محمد {عن من تولى عن ذكرنا} ولم يقر بتوحيدنا {ولم يرد إلا الحياة الدنيا} فمال إلى الدنيا ومنافعها أي لا تقابلهم على أفعالهم واحتملهم ولا تدع مع هذا وعظهم ودعاءهم إلى الحق {ذلك مبلغهم من العلم} أي الإعراض عن التدبر في أمور الآخرة وصرف الهمة إلى التمتع باللذات العاجلة منتهى علمهم وهو مبلغ خسيس لا يرضى به لنفسه عاقل لأنه من طباع البهائم أن يأكل في الحال ولا ينتظر العواقب وفي الدعاء ((اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا)) {إن ربك} يا محمد {هو أعلم} منك ومن جميع الخلق {بمن ضل عن سبيله} أي بمن جار وعدل عن سبيل الحق الذي هو سبيله {وهو أعلم بمن اهتدى} إليها فيجازي كلا منهم على حسب أعمالهم .
ثم أخبر سبحانه عن كمال قدرته وسعة ملكه فقال {ولله ما في السماوات وما في الأرض} وهذا اعتراض بين الآية الأولى وبين قوله {ليجزي الذين أساءوا بما عملوا} واللام في ليجزي تتعلق بمعنى الآية الأولى لأنه إذا كان أعلم بهم جازى كلا منهم بما يستحقه وذلك لام العاقبة وذلك أن علمه بالفريقين أدى إلى جزائهم باستحقاقهم وإنما يقدر على مجازاة المحسن والمسيء إذا كان كثير الملك ولذلك أخبر به في قوله {ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي} في الآخرة {الذين أساءوا} أي أشركوا {بما عملوا} من الشرك {ويجزي الذين أحسنوا} أي وحدوا ربهم {بالحسنى} أي بالجنة وقيل إن اللام في ليجزي يتعلق بما في قوله {ولله ما في السموات وما في الأرض} لأن المعنى في ذلك أنه خلقهم ليتعبدهم(3) فمنهم المحسن ومنهم المسيء وإنما كلفهم ليجزي كلا منهم بعلمه(4) عمله فتكون اللام للغرض.
ثم وصف سبحانه الذين أحسنوا فقال {الذين يجتنبون كبائر الإثم} أي عظائم الذنوب {والفواحش} جمع فاحشة وهي أقبح الذنوب وأفحشها وقد بينا اختلاف الناس في الكبائر في سورة النساء وقد قيل إن الكبيرة كل ذنب ختم بالنار والفاحشة كل ذنب فيه الحد ومن قرأ كبير الإثم فلأنه يضاف إلى واحد في اللفظ وإن كان يراد به الكثرة {إلا اللمم} اختلف في معناه فقيل هو صغار الذنوب كالنظر والقبلة وما كان دون الزنا عن ابن مسعود وأبي هريرة والشعبي وقيل هوما الموا به في الجاهلية من الإثم فهو معفو عنه في الإسلام عن زيد بن ثابت وعلى هذا فيكون الاستثناء منقطعا وقيل هو أن يلم بالذنب مرة ثم يتوب ولا يعود عن الحسن والسدي وهو اختيار الزجاج لأنه قال اللمم هو أن يكون الإنسان قد ألم بالمعصية ولم يقم على ذلك ويدل على ذلك قوله {إن ربك واسع المغفرة} قال ابن عباس لمن فعل ذلك وتاب ومعناه أن رحمته تسع (5) جميع الذنوب لا تضيق عنه وتم الكلام هنا.
ثم قال {هو أعلم بكم} يعني قبل أن خلقكم {إذ أنشأكم من الأرض} أي أنشأ أباكم آدم من أديم الأرض وقال البلخي يجوز أن يكون المراد به جميع الخلق أي خلقكم من الأرض عند تناول الأغذية المخصوصة التي خلقها من الأرض وأجرى العادة بخلق الأشياء عند ضرب من تركيبها فكأنه سبحانه أنشأهم منها {وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم} أي في وقت كونكم أجنة في الأرحام أي علم من كل نفس ما هي صانعة وإلى ما هي صائرة عن الحسن وقيل معناه أنه سبحانه علم ضعفكم وميل طباعكم إلى اللمم وعلم حين كنتم في الأرحام ما تفعلون إذا خرجتم وإذا علم ذلك منكم قبل وجوده فكيف لا يعلم ما حصل منكم {فلا تزكوا أنفسكم} أي لا تعظموها ولا تمدحوها بما ليس لها فإني أعلم بها وقيل معناه لا تزكوها بما فيها من الخير ليكون أقرب إلى النسك والخشوع وأبعد من الرياء {هو أعلم بمن اتقى} أي اتقى الشرك والكبائر وقيل هو أعلم بمن بر وأطاع وأخلص العمل
_______________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج9 ، ص296-300.
2- وفي نسخة : عالمين بذلك.
3- وفي نسخة : ليستبدهم .
4- ليس في النسخ لفظة (بعلمه).
5- وفي المخطوطة : واسعة تسع.
{ إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنْثى }. كذبوا بالحق جهلا أو عنادا ، وكل من الجهل والعناد يصلح تفسيرا وسببا لافترائهم على اللَّه بأن له شركاء وصاحبة وبنات . . ولم يكتفوا بنسبة البنات إليه تعالى حتى ابتدعوا لهن أسماء معينة {وما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} فيثبتون أشياء لا وجود لها ولا دليل عليها إلا صورة وهمية مرت بأذهانهم . . وفي الآية 18 من سورة يونس رد عليهم سبحانه بأنه لا يعلم ان له بنات وشركاء ، وذلك حيث قال
عز من قائل : {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهً بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ ولا فِي الأَرْضِ سُبْحانَهُ وتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} . . {وإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} . ولو اتبع الناس رجم الظنون لما استقام شيء في هذه الحياة . وتقدم مثله بالحرف الواحد في الآية 36 من سورة يونس ج 4 ص 159 .
{فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا ولَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا} . الخطاب لرسول اللَّه (صلى الله عليه واله وسلم) والمقصود كل من آمن باللَّه واليوم الآخر تماما مثل اتبع الحق وأقم الصلاة . والمعنى لا تجادل الذين يتراكضون في الغي والضلال ، ولا يؤمنون بشيء ولا يرون أية قيمة لشيء إلا لأنفسهم ومكاسبهم : {وإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها} - 25 الأنعام . فعلام - إذن - الجدال والنقاش ؟ . أنظر ج 2 ص 66 فقرة (الحق وأرباب المنافع) ، وج 5 ص 308 فقرة (جدال أهل الجهل والضلال) .
{ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} . منتهى العلم والحق عندهم انه لا علم ولا دين ولا ضمير ولا حق وقيم . . لا شيء إلا الملذات وتكديس الثروات . أنظر ج 5 ص 453 فقرة (منطق أرباب المال : بنك وعقار) {إِنَّ رَبَّكَ هُو أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وهُو أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى} . ان ربك يا محمد يعلم ان الذين كذبوا بنبوتك لا يرتدعون عن الضلال ، وأيضا يعلم انك على الهدى أنت ومن اتبعك من المؤمنين ، لأنه محيط بكل شيء ، وقادر على ثواب من آمن واهتدى ، وعذاب من ضل وغوى .
{ولِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وما فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُوا بِما عَمِلُوا ويَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى }. هذه الآية تهديد ووعيد لمن أشار إليه سبحانه بقوله :
{تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا ولَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا} . ووجه التهديد ان الدنيا والآخرة بيد اللَّه لأنه هو وحده مالك الكون بما فيه ، فمن أعرض عن الآخرة ، وطلب الدنيا ، وسعى لها سعيها يؤته منها ، وما له في الآخرة إلا العذاب ، حيث يلقى كل إنسان جزاء عمله ، ان خيرا فخير ، وان شرا فشرّ .
{الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الإِثْمِ والْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ } .
كبائر الإثم عظائم الذنوب كالكفر والشرك والظلم ، وكل ما تجاوز الحد في القبح فهو فحش كالزنا واللواط ، وذنب كبير أيضا ، أما اللمم فهي صغار الذنوب التي لا يكاد يخلو منها إنسان إلا من عصم اللَّه كالنظرة ومجرد الجلوس إلى مائدة الخمر . وتكلمنا عن ذلك مفصلا عند تفسير الآية 31 من سورة النساء ج 2 ص 306 . ومعنى الآية ان من أقلع عن الكبائر فإن اللَّه سبحانه يشمله بعفوه وإحسانه ، وان اقترف بعض الصغائر . . وليس معنى هذا ان للإنسان أن يقترف الصغائر . . كلا ، وإلا كانت من المباحات ، وانما المراد ان من اجتنب الكبائر فله أن يأمل العفو والصفح من ربه وان ارتكب بعض الهنات ، وإلا كانت الجنة وقفا على أهل العصمة دون غيرهم . وفي نهج البلاغة : أشد الذنوب ما استهان به صاحبه . . وان يستعظم الإنسان من معصية غيره ما يستقل أكثر منه من نفسه ، ويستكثر من طاعته ما يحقر من طاعة غيره .
{هُو أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُو أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى} . أجل ، ان اللَّه أعلم بالإنسان من نفسه بالغا ما بلغ من العلم . . ومستحيل أن يعلم من نفسه ما يعلمه اللَّه منه ، لأنه تعالى هو الذي أوجده وأحياه ، ويميته وينشره ، وهو معه بعلمه منذ تكوينه في بطن أمه إلى النفس الأخير . . يضاف إلى ذلك ان جميع جوارح الإنسان حتى قلبه هي شهود عليه عند خالقه . وأصدق شاهد ينطق بتزكية الإنسان وإخلاصه هو عمله الصالح . وتقدم مثله في الآية 49 من سورة النساء ج 2 ص 346 والآية 21 من سورة النور ج 5 ص 409 .
_______________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7 ، ص179-181.
قوله تعالى: {إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى} رد لقولهم بأنوثية الملائكة بعد رد قولهم بشفاعتهم.
والمراد بتسميتهم الملائكة تسمية الأنثى قولهم: إن الملائكة بنات الله فالمراد بالأنثى الجنس أعم من الواحد والكثير.
وقيل: إن الملائكة في معنى استغراق المفرد فيكون التقدير ليسمون كل واحد من الملائكة تسمية الأنثى أي يسمونه بنتا فالكلام على وزان كسانا الأمير حلة أي كسا كل واحد منا حلة.
قال بعضهم: في تعليق التسمية بعدم الإيمان بالآخرة إشعار بأنها في الشناعة والفظاعة واستتباع العقوبة في الآخرة بحيث لا يجترىء عليها إلا من لا يؤمن بها رأسا.
انتهى.
قوله تعالى: {وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا} العلم هو التصديق المانع من النقيض، والظن هو التصديق الراجح ويسمى المرجوح وهما، وقولهم بأنوثية الملائكة كما لم يكن معلوما لهم كذلك لم يكن مظنونا إذ لا سبيل إلى ترجيح القول به على خلافه لكنه لما كان عن هوى أنفسهم أثبته الهوى في أنفسهم وزينه لهم فلم يلتفتوا إلى خلافه، وكلما لاح لهم لائح خلافه أعرضوا عنه وتعلقوا بما يهوونه، وبهذه العناية سمي ظنا وهو في الحقيقة تصور فقط.
وبهذا يظهر استقامة قول من قال: إن الظن في هذه الآية وفي قوله السابق: {إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس} بمعنى التوهم دون الاعتقاد الراجح وأيد بما يظهر من كلام الراغب: إن الظن ربما يطلق على التوهم.
وقوله: {إن الظن لا يغني من الحق شيئا} الحق ما هو عليه الشيء وظاهر أنه لا يدرك إلا بالعلم الذي هو الاعتقاد المانع من النقيض لا غير وأما غير العلم مما فيه احتمال الخلاف فلا يتعين فيه المدرك على ما هو عليه في الواقع فلا مجوز لأن يعتمد عليه في الحقائق قال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36].
وأما العمل بالظن في الأحكام العملية فإنما هو لقيام دليل عليه يقيد به إطلاق الآية، وتبقى الأمور الاعتقادية تحت إطلاق الآية.
قال بعضهم: وضع الظاهر موضع المضمر في قوله: {إن الظن لا يغني} ليجري الكلام مجرى المثل.
قوله تعالى: {فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا} تفريع على اتباعهم الظن وهوى الأنفس، فقوله: {فأعرض عمن} إلخ، أمر بالإعراض عنهم وإنما لم يقل: فأعرض عنهم، ووضع قوله: {من تولى عن ذكرنا} إلخ، موضع الضمير للدلالة على علة الأمر بالإعراض كأنه قيل: إن هؤلاء يتركون العلم ويتبعون الظن وما تهوى الأنفس وإنما فعلوا ذلك لأنهم تولوا عن الذكر وأرادوا الحياة الدنيا فلا هم لهم إلا الدنيا فهي مبلغهم من العلم، وإذا كان كذلك فأعرض عنهم لأنهم في ضلال.
والمراد بالذكر إما القرآن الذي يهدي متبعيه إلى الحق الصريح ويرشدهم إلى سعادة الدار الآخرة التي وراء الدنيا بالحجج القاطعة والبراهين الساطعة التي لا تبقى معها وصمة شك.
وأما ذكر الله بالمعنى المقابل للغفلة فإن ذكره تعالى بما يليق بذاته المتعالية من الأسماء والصفات يهدي إلى سائر الحقائق العلمية في المبدأ والمعاد هداية علمية لا ريب معها.
قوله تعالى: {ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى} الإشارة بذلك إلى أمر الدنيا وهو معلوم من الآية السابقة وكونه مبلغ علمهم من قبيل الاستعارة كان العلم يسير إلى المعلوم وينتهي إليه وعلمهم انتهى في مسيره إلى الدنيا وبلغها ووقف عندها ولم يتجاوزها، ولازم ذلك أن تكون الدنيا متعلق إرادتهم وطلبهم، وموطن همهم، وغاية آمالهم لا يطمئنون إلى غيرها ولا يقبلون إلا عليها.
وقوله: {إن ربك هو أعلم} إلخ، تأكيد لمضمون الجملة السابقة وشهادة منه تعالى عليه.
قوله تعالى: {ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى} يمكن أن يكون صدر الآية حالا من فاعل {أعلم} في الآية السابقة والواو للحال، والمعنى: أن ربك هو أعلم بالفريقين الضالين والمهتدين والحال أنه يملك ما في السماوات وما في الأرض فكيف يمكن أن لا يعلم بهم وهو مالكهم؟.
وعلى هذا فالظاهر تعلق قوله: {ليجزي{ إلخ، بقوله السابق: {فأعرض عمن تولى} إلخ، والمعنى: أعرض عنهم وكل أمرهم إلى الله ليجزيهم كذا وكذا ويجزيك ويجزي المحسنين كذا وكذا.
ويمكن أن يكون قوله: {ولله ما في السماوات} إلخ، كلاما مستأنفا للدلالة على أن الأمر بالإعراض عنهم لا لإهمالهم وتركهم سدى بل الله سبحانه يجزي كلا بعمله إن سيئا وإن حسنا، ووضع اسم الجلالة وهو ظاهر موضع الضمير للدلالة على كمال العظمة.
وقوله: {لله ما في السماوات وما في الأرض} إشارة إلى ملكه تعالى للكل ومعناه قيام الأشياء به تعالى لكونه خالقهم الموجد لهم فالملك ناشىء من الخلق وهو مع ذلك منشأ للتدبير فالجملة دالة على الخلق والتدبير كأنه قيل: ولله الخلق والتدبير.
وبهذا المعنى يتعلق قوله: {ليجزي} إلخ، واللام للغاية، والمعنى: له الخلق والتدبير وغاية ذلك والغرض منه أن يجزي الذين أساءوا إلخ، والمراد بالجزاء ما يخبر عنه الكتاب من شئون يوم القيامة، والمراد بالإساءة والإحسان المعصية والطاعة، والمراد بما عملوا جزاء ما عملوا أو نفس ما عملوا، وبالحسنى المثوبة الحسنى.
والمعنى: ليجزي الله الذين عصوا بمعصيتهم أو بجزاء معصيتهم ويجزي الذين أطاعوا بالمثوبة الحسنى، وقد أوردوا في الآية احتمالات أخرى وما قدمناه هو أظهرها.
قوله تعالى: {الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة} إلخ، الإثم هو الذنب وأصله - كما ذكره الراغب - الفعل المبطىء عن الثواب والخير، وكبائر الإثم المعاصي الكبيرة وهو على ما في الرواية(2) ما أوعد الله عليه النار، وقد تقدم البحث عنها في تفسير قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31].
والفواحش الذنوب الشنيعة الفظيعة، وقد عد تعالى في كلامه الزنا واللواط من الفواحش ولا يبعد أن يستظهر من الآية اتحادها مع الكبائر.
وأما اللمم فقد اختلفوا في معناه فقيل: هو الصغيرة من المعاصي، وعليه فالاستثناء منقطع، وقيل: هو أن يلم بالمعصية ويقصدها ولا يفعل والاستثناء أيضا منقطع، وقيل: هو المعصية حينا بعد حين من غير عادة أي المعصية على سبيل الاتفاق فيكون أعم من الصغيرة والكبيرة وينطبق مضمون الآية على معنى قوله تعالى في وصف المتقين المحسنين: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 135].
وقد فسر في روايات أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بثالث المعاني(3).
والآية تفسر ما في الآية السابقة من قوله: {الذين أحسنوا} فهم الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش ومن الجائز أن يقع منهم لمم.
وفي قوله: {إن ربك واسع المغفرة} تطميعهم في التوبة رجاء المغفرة.
وقوله: {هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض} قال الراغب: النشء والنشأة إحداث الشيء وتربيته.
انتهى.
فأنشئوهم من الأرض ما جرى عليهم في بدء خلقهم طورا بعد طور من أخذهم من المواد العنصرية إلى أن يتكونوا في صورة المني ويردوا الأرحام.
وقوله: {وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم} الأجنة جمع جنين، والكلام معطوف على {إذ} السابق أي وهو أعلم بكم إذ كنتم أجنة في أرحام أمهاتكم يعلم ما حقيقتكم وما أنتم عليه من الحال وما في سركم وإلى ما يئول أمركم.
وقوله: فلا تزكوا أنفسكم} تفريع على العلم أي إذا كان الله أعلم من أول أمر فلا تزكوا أنفسكم بنسبتها إلى الطهارة هو أعلم بمن اتقى.
_______________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج19 ، ص35-38.
2- رواها في ثواب الاعمال عن عباد بن كثير النوا عن ابي جعفر عليه السلام.
3-ففي اصول الكافي عن ابن عمار عن الصادق عليه السلام قال ، ألمم الرجل يلم بالذنب فيستغفر الله منه ، وفيه باسناده عن محمد بن مسلم عن الصادق عليه السلام قال ، هو الذنب يلم به الرجل فيمكث ما شاء الله ثم يلم به بعد ، وفيه باسناده عن عمار عن الصادق عليه السلام قال ، اللمام العبد الذي يلم بالذنب بعد الذنب ليس من سليقته أي من طبعه .
إنّ الظنّ لا يغني من الحقّ شيئاً:
هذه الآيات ـ محلّ البحث ـ كالآيات المتقدّمة، تبحث موضوع نفي عقائد المشركين.
فتقول أوّلها: {إنّ الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمّون الملائكة تسمية الاُنثى}!
أجل، إنّ هذا الكلام القبيح والمخجل إنّما يصدر من اُناس لا يعتقدون بيوم الحساب ولا بجزاء أعمالهم، فلو كانوا يعتقدون بالآخرة لما تجاسروا فقالوا مثل هذا الكلام، وأي كلام؟! كلام ليس لهم فيه أدنى دليل .. بل الدلائل العقليّة تبرهن على أنّه ليس لله من ولد، وليس الملائكة اُناثاً، ولا هم بنات الله كذلك!
والتعبير بـ «تسمية الاُنثى» إشارة إلى ما نوّهنا عنه في الآيات المتقدّمة، وهو أنّ مثل هذا الكلام لا معنى له. وإنّ هذه الأسماء لا مسميّات لها، وبتعبير آخر إنّها لا تعدو حدود التسمية، ولا واقع لها أبداً.
ثمّ يتناول القرآن واحداً من الأدلّة الواضحة على بطلان هذه التسمية فيقول معقّباً: {وما لهم به من علم إن يتّبعون إلاّ الظنّ وإنّ الظنّ لا يغني من الحقّ شيئاً}.
فالإنسان الهادف والمعتقد لا يطلق كلامه دون علم ودراية، ولا ينسب أيّة نسبة لأحد دونما دليل .. فالتعويل عن الظنّ والتصوّر إنّما هومن عمل الشيطان أومن يتّصف بالشيطانيّة .. وقبول الخرافات والأشياء الموهومة دليل الإنحراف وعدم العقل!
وواضح أنّ كلمة «الظنّ» لها معنيان مختلفان، فتارةً تطلق هذه الكلمة على الأوهام التي لا أساس لها، وطبقاً لتعبير الآيات آنفة الذكر تعني الخرافات والأوهام وما تهوى الأنفس .. والمراد من هذه الكلمة في الآية هو هذا المعنى ذاته.
المعنى الآخر، الظنّ المعقول وهوما يخطر في الذهن، ويكون مطابقاً للواقع غالباً، وعليه يكون مبنى العمل في اليوم ـ مرةً أو أكثر ـ كشهادة الشهود في المحكمة وقول أهل الخبرة وظواهر الألفاظ وأمثال ذلك، فلو أعرضنا عن مثل هذه الاُمور وعوّلنا على اليقين القطعي لأضطربت الحياة واختلّ نظامها.
ولا شكّ أنّ هذا القسم من الظنّ غير داخل في هذه الآيات، وهناك شواهد كثيرة في الآيات ذاتها على ذلك .. وفي الحقيقة أنّ القسم الثاني نوع من العلم العرفي لا الظنّ، فبناءً على هذا لا يصحّ الإستدلال بالآية (إنّ الظنّ لا يغني من الحقّ شيئاً) وأمثالها على نفي حجيّة الظنّ بشكل مطلق.
وينبغي الإلتفات إلى هذه اللطيفة والمسألة الدقيقة .. وهي أنّ الظنّ في إصطلاح الفقهاء والاُصوليين معناه «الإعتقاد الراجح»، إلاّ أنّه في اللغة أوسع مفهوماً، فيشمل حتّى الوهم والإحتمالات الضعيفة، ومن هذا القبيل ظنّ عبدة الأوثان ـ إذ كان خرافة تظهر في أذهانهم بشكل إحتمال ضعيف. ثمّ ينهض هوى النفس فيزيّن ذلك الإحتمال، ويهمل الإحتمال الآخر الذي هو أقوى من هذا الإحتمال، ويصير الإحتمال الضعيف اعتقادا راسخاً مع أنّه لا أساس له أبداً.
ومن أجل أن يبيّن القرآن أنّ هؤلاء الجماعة ليسوا أهلا للاستدلال والمنطق الصحيح، وقد ألهاهم حبّ الدنيا عن ذكر الله وجرّهم إلى الوحل في خرافاتهم وأوهامهم يضيف قائلا: {فأعرض عمّن تولّى عن ذكرنا ولم يرد إلاّ الحياة الدنيا}.
والمراد من (ذكرنا) في إعتقاد أغلب المفسّرين هو «القرآن»، وقد يُفسّر بأنّه الدلائل المنطقية والعقلية التي توصل الإنسان إلى الله، كما احتملوا أن يكون المراد هو ذكر الله الذي يقابل الغفلة عند الإنسان.
إلاّ أنّ الظاهر أنّ هذا التعبير ذو مفهوم واسع بحيث يشمل كلّ توجّه نحو الله، سواء أكان ذلك عن طريق القرآن، أوعن طريق العقل، أوعن طريق السنّة، أو تذكّر القيامة وما إلى ذلك!
ويستفاد من هذه الآية ـ ضمناً ـ أنّ هناك علاقة بين الغفلة عن ذكر الله والإقبال على الماديات، وبين زخرف الدنيا وزبرجها وأنّ بينهما تأثيراً متلازماً!
فالغفلة عن ذكر الله تسوق الإنسان نحو عبادة الدنيا، كما أنّ عبادة الدنيا تصرف الإنسان عن ذكر الله، فيكون غافلا عنه ـ وهما جميعاً يقترنان مع هوى النفس، وبالطبع فإنّ الخرافات التي تنسجم مع هوى النفس تتزيّن في نظر الإنسان وتتبدّل تدريجاً إلى إعتقاد راسخ!
وربّما لا حاجة إلى التذكير أنّ الأمر بالإعراض عن هذه الفئة (أهل الدنيا) لا ينافي تبليغ الرسالة الذي هو وظيفة النّبي الأساسيّة، لأنّ التبليغ والإنذار والبشارة كلّها لا تكون إلاّ في موارد إحتمال التأثير، فحيث يعلم ويتيقّن عدم التأثير فلا يصحّ هدر الطاقات، وينبغي الإعراض بعد إتمام الحجّة.
كما ينبغي الإشارة إلى أنّ الأمر بالإعراض عمّن تولّى عن ذكر الله، ليس مختصّاً بالنّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بل هو شامل لجميع الدعاة في طريق الحقّ، ليصرفوا طاقاتهم الكريمة في ما يحتمل تأثيرها فيه، أمّا عبدة الدنيا وموتى القلوب الذين لا أمل في هدايتهم فينبغي ـ بعد إتمام الحجّة عليهم ـ الإعراض عنهم ليحكم الله حكمه فيهم!.
وفي آخر آية من الآيات محلّ البحث يثبت القرآن إنحطاط أفكار هذه الفئة فيقول مضيفاً: (ذلك مبلغهم من العلم).
أجل، إنّ أوج أفكارهم منته إلى هذا الحدّ وهو اُسطورتهم أنّ الملائكة بنات الله!! ـ وخبطهم في الخرافات .. وهذه آخر نقطة تبلغ إليه همّتهم، إذ نسوا الله وأقبلوا على الدنيا وإستعاضوا عن جميع شرفهم ووجودهم بالدينار والدرهم!
وهذه الجملة {ذلك مبلغهم من العلم} يمكن أن تكون إشارةً إلى خرافاتهم كعبادة الأصنام وجعلهم الملائكة بنات الله: أي أنّ منتهى علمهم هو هذه الأوهام!.
أو أنّها إشارة إلى حبّ الدنيا والأسر في قبضة الماديات، أي أن؟ منتهى إدراكهم هو قناعتهم بالأكل والشرب والنوم والمتاع الفاني في هذه الدنيا وزبرجها وزخرفها الخ.
وقد جاء في الدعاء المعروف في أعمال شعبان المنقول عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)أنّه قال: «ولا تجعل الدنيا أكبر همّنا ولا مبلغ علمنا»(2).
وتختتم الآية بالقول: {إنّ ربّك هو أعلم بمن ضلّ عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى} ختام الآية يشير إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ الله يعرف الضالّين جيّداً كما يعرف المهتدين أيضاً، فيصبّ غضبه على الضالّين ويسبغُ لطفه على المهتدين، ويجازي كلاًّ بعمله يوم القيامة.
وقوله تعالى : {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } [النجم: 31، 32]
لا تزكّوا أنفسكم:
لمّا كان الكلام في الآيات المتقدّمة عن علم الله بالضالّين والمهتدين، فإنّ الآيات أعلاه تتمّة لما جاء آنفاً، تقول: {ولله ما في السماوات وما في الأرض}.
فالمالكية المطلقة في عالم الوجود له وحده، والحاكمية المطلقة على هذا العالم له أيضاً، ولذلك فإنّ تدبير عالم الوجود بيده فحسب. ولمّا كان الأمر كذلك فهو وحده الجدير بالعبادة والشفاعة!
إنّ هدفه الكبير من هذا الخلق الواسع ليتألّف الإنسان في عالم الوجود وليسير في مسير التكامل في ضوء المناهج التكوينية والتشريعيّة وتعليم الأنبياء وتربيتهم، لذلك فإنّ القرآن يذكر نتيجة هذه المالكية فيختتم الآية بالقول: {ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى}(3).
ثمّ يصف القرآن المحسنين في الآية التالية فيقول: {الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلاّ اللمم}.
و«الكبائر» جمع كبيرة، و«الإثم» في الأصل هو العمل الذي يُبعد الإنسان عن الخير والثواب، لذلك يطلق على الذنب عادةً، و«اللمم» على وزن القلم ـ كما يقول الراغب في المفردات معناه الإقتراب من الذنب، وقد يعبّر عن الذنوب الصغيرة باللمم أيضاً، وهذه الكلمة في الأصل مأخوذة من الإلمام ومعناها الإقتراب من شيء دون أدائه، وقد يطلق «اللمم» على الأشياء القليلة أيضاً «وإطلاقه على الذنوب الصغيرة من هذا الباب».
وقد فسّر المفسّرون «اللمم» في هذه الحدود، فقال بعضهم: هو الذنوب الصغيرة، وقال آخرون هو نيّة المعصية دون أدائها، وفسّره غيرهم بأنّ اللمم معاص لا أهميّة لها.
وربّما قالوا بأنّ اللمم يشمل الذنوب الصغيرة والكبيرة على أن لا تكون معتادة والتي تقع أحياناً فيتذكّرها الإنسان فيتوب منها.
وهناك تفاسير متعدّدة لهذه الكلمة في الرّوايات الإسلامية، فقد جاء عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: اللمم الرجل يلمّ به الذنب فيستغفر الله منه(4) وورد عنه أيضاً أنّه قال: هو الذنب يلمّ به الرجل فيمكث ما شاء الله ثمّ يلمّ به بعد(5).
كما وردت روايات اُخرى في هذا المعنى أيضاً.
والقرائن الموجودة في هذه الآية تشهد على هذا المعنى أيضاً .. إذ قد تصدر من الإنسان بعض الذنوب، ثمّ يلتفت إليها فيتوب منها، لأنّ إستثناء اللمم من الكبائر (مع الإلتفات إلى أنّ ظاهر الإستثناء كونه إستثناءً متّصلا) يشهد على هذا المعنى.
أضف إلى ذلك فإنّ الجملة التالية بعد الآية في القرآن تقول: {إنّ ربّك واسع المغفرة}!.
وهذا يدلّ على أنّ ذنباً صدر من الإنسان وهو بحاجة إلى غفران الله، لا أنّه قصد الإقتراب منه ونواه دون أن يرتكبه.
وعلى كلٍّ فالمراد من الآية أنّ الذين أحسنوا من الممكن أن ينزلقوا في منزلق ما فيذنبوا، إلاّ أنّ الذنب على خلاف سجيّتهم وطبعهم وقلوبهم الطاهرة ـ وإنّما تقع الذنوب عَرضَاً، ولذلك فما أن يصدر منهم الذنب إلاّ ندموا وتذكّروا وطلبوا المغفرة من الله سبحانه كما نقرأ في الآية (201) من سورة الأعراف إذ تشير إلى هذا المعنى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 201].
ونظير هذا المعنى في الآية (135) من سورة آل عمران إذ تقول في وصف المحسنين والمتّقين: { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 135]!
فكلّ هذا شاهد على ما جاء من تفسير «اللّمم».
ونختتم بحثنا هنا بحديث للإمام الصادق (عليه السلام) إذ أجاب على سؤال حول تفسير الآية ـ محلّ البحث ـ فقال: «اللمام العبد الذي يلمّ بالذنب بعد الذنب ليس من سليقته أي من طبيعته»(6).
ويتحدّث القرآن في ذيل الآية عن علم الله المطلق مؤكّداً عدالته في مجازاة عباده حسب أعمالهم فيقول: {هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنّة في بطون اُمّهاتكم}(7).
وقوله «أنشأكم من الأرض» إمّا هو بإعتبار الخلق الأوّل عن طريق آدم (عليه السلام)الذي خلقه من تراب، أو بإعتبار أنّ ما يتشكّل منه وجود الإنسان كلّه من الأرض، حيث له الأثر الكبير في التغذية وتركيب النطفة، ثمّ بعد ذلك له الأثر في مراحل نمو الإنسان أيضاً.
وعلى كلّ حال، فإنّ الهدف من هذه الآية أنّ الله مطّلع على أحوالكم وعليم بكم منذ كنتم ذرّات في الأرض ومن يوم إنعقدت نطفتكم في أرحام الاُمّهات في أسجاف من الظلمات فكيف ـ مع هذه الحال ـ لا يعلم أعمالكم؟!
وهذا التعبير مقدّمة لما يليه من قوله تعالى: {فلا تزكّوا أنفسكم هو أعلم بمن أتقى}!
فلا حاجة لتعريفكم وتزكيتكم وبيان أعمالكم الصالحة، فهو مطّلع على أعمالكم وعلى ميزان خلوص نيّاتكم، وهو أعرف بكم منكم، ويعلم صفاتكم الداخلية والخارجية.
قال بعض المفسّرين أنّ الآيتين آنفتي الذكر نزلتا في جماعة كانوا يمدحون أنفسهم بعد أداء الصوم أو الصلاة فيقولون: إنّنا صلّينا وصمنا وقمنا بكذا وكذا .. فنزلت الآيتان ونهتهم عن تزكية الأنفس(8).
______________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج13 ، ص333-338.
2 ـ جاء هذا الدعاء من دون الإشارة إلى أنّه من أعمال شهر شعبان في مجمع البيان وفي تفاسير اُخرى ذيل الآية محلّ البحث.
3 ـ «اللام» في (ليجزي) هي لام الغاية، فبناًءً على ذلك الجزاء هو غاية الخلق، وإن كان بعضهم يعتقد بأنّ «ليجزي» متعلّق بأعلم في الآية السابقة، وأنّ جملة (ولله ما في السماوات والأرض) معترضة، إلاّ أنّ هذا الإحتمال يبدو بعيداً ..
4 ـ الكافي، ج2 ، ص320 (كتاب الإيمان والكفر باب اللمم ،ح1و3).
5 ـ المصدر السابق.
6 ـ الكافي، ج2، ص321، ( باب اللمم ) ح5.
7 ـ الأجنّة: جمع جنين: الطفل الذي في بطن اُمّه ..
8 ـ روح المعاني، ج7، ص55.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
وفد كلية الزراعة في جامعة كربلاء يشيد بمشروع الحزام الأخضر
|
|
|