أقرأ أيضاً
التاريخ: 10-10-2017
7900
التاريخ: 10-10-2017
8975
التاريخ: 10-10-2017
7772
التاريخ: 10-10-2017
9990
|
قال تعالى : {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق: 12 - 22].
ذكر سبحانه الأمم المكذبة تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) وتهديدا للكفار فقال {كذبت قبلهم} من الأمم الماضية {قوم نوح} فأغرقهم الله {وأصحاب الرس وهم أصحاب البئر التي رسوا نبيهم فيها بعد أن قتلوه عن عكرمة وقيل الرس بئر قتل فيها صاحب ياسين عن الضحاك وقيل هم قوم كانوا باليمامة على آبار لهم عن قتادة وقيل هم أصحاب الأخدود وقيل كان سحق النساء في أصحاب الرس وروي ذلك عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليه السلام) {وثمود} وهم قوم صالح {وعاد} وهم قوم هود {وفرعون وإخوان لوط} أي وكذب فرعون موسى وقوم لوط لوطا وسماهم إخوانه لكونهم من نسبه {وأصحاب الأيكة} وهم قوم شعيب {وقوم تبع} وهو تبع الحميري الذي ذكرناه عند قوله {أهم خير أم قوم تبع}.
{كل} من هؤلاء المذكورين {كذب الرسل} المبعوثة إليهم وجحدوا نبوتهم {فحق وعيد} أي وجب عليهم عذابي الذي أوعدتهم به فإذا كان م آل الأمم الخالية إذا كذبوا الرسل الهلاك والدمار وإنكم معاشر العرب قد سلكتم مسالكهم في التكذيب والإنكار فحالكم كحالهم في التباب والخسار .
ثم قال سبحانه جوابا لقولهم {ذلك رجع بعيد}: {أ فعيينا بالخلق الأول} أي أ فعجزنا حين خلقناهم أولا ولم يكونوا شيئا فكيف نعجز عن بعثهم وإعادتهم وهذا تقرير لهم لأنهم اعترفوا بأن الله هو الخالق ثم أنكروا البعث ويقال لكل من عجز عن شيء عيي به ثم ذكر أنهم في شك من البعث بعد الموت فقال {بل هم في لبس من خلق جديد} أي بل هم في ضلال وشك من إعادة الخلق جديدا واللبس منع من إدراك المعنى بما هو كالستر له والجديد القريب الإنشاء {ولقد خلقنا الإنسان} أراد به الجنس يعني ابن آدم {ونعلم ما توسوس به نفسه} أي ما يحدث به قلبه وما يخفي ويكن في نفسه ولا يظهره لأحد من المخلوقين {ونحن أقرب إليه} بالعلم {من حبل الوريد} وهو عرق يتفرق في البدن يخالط الإنسان في جميع أعضائه وقيل هو عرق الحلق عن ابن عباس ومجاهد وقيل هو عرق متعلق بالقلب يعني نحن أقرب إليه من قلبه عن الحسن وقيل معناه نحن أعلم به ممن كان منه بمنزلة حبل الوريد في القرب وقيل معناه نحن أملك له من حبل وريده مع استيلائه عليه وقربه منه وقيل معناه نحن أقرب إليه بالإدراك من حبل الوريد لوكان مدركا.
ثم ذكر سبحانه أنه مع علمه به وكل به ملكين يحفظان عليه عمله إلزاما للحجة فقال {إذ يتلقى المتلقيان} فإذ متعلقة بقوله ونحن أقرب إليه أي ونحن أعلم به وأملك له حين يتلقى المتلقيان وهما الملكان يأخذان منه عمله فيكتبانه كما يكتب المملى عليه {عن اليمين وعن الشمال قعيد} أراد عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد فاكتفى بأحدهما عن الآخر والمراد بالقعيد هنا الملازم الذي لا يبرح لا القاعد الذي هو ضد القائم وقيل عن اليمين كاتب الحسنات وعن الشمال كاتب السيئات عن الحسن ومجاهد وقيل الحفظة أربعة ملكان بالنهار وملكان بالليل عن الحسن.
{ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} أي ما يتكلم بكلام فيلفظه أي يرميه من فيه إلا لديه حافظ حاضر معه يعني الملك الموكل به إما صاحب اليمين وإما صاحب الشمال يحفظ عمله لا يغيب عنه والهاء في لديه تعود إلى القول أو إلى القائل وعن أبي أمامة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال (إن صاحب الشمال ليرفع القلم ست ساعات عن العبد المسلم المخطىء أو المسيء فإن ندم واستغفر الله منها ألقاها وإلا كتب واحدة) وفي رواية أخرى قال (صاحب اليمين أمير على صاحب الشمال فإذا عمل حسنة كتبها له صاحب اليمين بعشر أمثالها وإذا عمل سيئة فأراد صاحب الشمال أن يكتبها قال له صاحب اليمين أمسك فيمسك عنه سبع ساعات فإن استغفر الله منها لم يكتب عليه شيء وإن لم يستغفر الله كتب له سيئة واحدة ) وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) (إن الله تعالى وكل بعبده ملكين يكتبان عليه فإذا مات قالا يا رب قد قبضت عبدك فلانا فإلى أين قال سمائي مملوءة بملائكتي يعبدونني وأرضي مملوءة من خلقي يطيعونني اذهبا إلى قبر عبدي فسبحاني وكبراني وهللاني فاكتبا ذلك في حسنات عبدي إلى يوم القيامة).
{وجاءت سكرة الموت بالحق} أي جاءت غمرة الموت وشدته التي تغشى الإنسان وتغلب على عقله بالحق أي أمر الآخرة حتى عرفه صاحبه واضطر إليه وقيل معناه جاءت سكرة الموت بالحق الذي هو الموت قال مقاتل يعني أنه حق كائن والمراد أن هذه السكرة قد قربت منكم فاستعدوا لها فهي لقربها كالحاصلة مثل قوله تعالى أتى أمر الله وروي أن عائشة قالت عند وفاة أبي بكر :
فقال أبوبكر لا تقولي ذلك ولكنه كما قال الله تعالى {وجاءت سكرة الموت بالحق} ويقال لمن جاءته سكرة الموت {ذلك} أي ذلك الموت {ما كنت منه تحيد} أي تهرب وتميل {ونفخ في الصور} قد مر تفسيره {ذلك يوم الوعيد} أي ذلك اليوم يوم وقوع الوعيد الذي خوف الله به عباده ليستعدوا ويقدموا العمل الصالح له .
ثم أخبر سبحانه عن حال الناس بعد البعث فقال {وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد} أي وتجيء كل نفس من المكلفين في يوم الوعيد ومعها سائق من الملائكة يسوقها أي يحثها على السير إلى الحساب وشهيد من الملائكة يشهد عليها بما يعلم من حالها وشاهده منها وكتبه عليها فلا يجد إلى الهرب ولا إلى الجحود سبيلا وقيل السائق من الملائكة والشهيد الجوارح تشهد عليها عن الضحاك.
{لقد كنت في غفلة} أي يقال له لقد كنت في سهو ونسيان {من هذا} اليوم في الدنيا والغفلة ذهاب المعنى عن النفس {فكشفنا عنك غطاءك} الذي كان في الدنيا يغشي قلبك وسمعك وبصرك حتى ظهر لك الأمر وإنما تظهر الأمور في الآخرة بما يخلق الله تعالى من العلوم الضرورية فيهم فيصير بمنزلة كشف الغطاء لما يرى وإنما يراد به جميع المكلفين برهم وفاجرهم لأن معارف الجميع ضرورية {فبصرك اليوم حديد} أي فعينك اليوم حادة النظر لا يدخل عليها شك ولا شبهة وقيل معناه فعلمك بما كنت فيه من أحوال الدنيا نافذ ولا يراد به بصر العين كما يقال فلان بصير بالنحو والفقه وقيل هو خاص في الكافر أي فأنت اليوم عالم بما كنت تنكره في الدنيا ، عن ابن عباس .
______________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج9 ، ص238-243.
2- حشرج حشرجة : غرغر عند الموت ، وتردد نفسه.
{ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ } أي قبل الذين كذّبوا محمدا (صلى الله عليه واله وسلم) . { قَوْمُ نُوحٍ} تقدمت قصة نوح في ج 4 ص 222 وما بعدها {وأَصْحابُ الرَّسِّ } وهي بئر ، وتقدمت الإشارة إلى أصحاب الرس في ج 5 ص 468 ( وثَمُودُ ) وهم قوم صالح ، وقصتهم في ج 4 ص 243 ( وعادٌ ) قوم هود ، وتقدم الكلام عنهم في ج 4 ص 237 ( وفِرْعَوْنُ ) تكررت قصته مع موسى وبني إسرائيل مرات ومرات .
انظر ج 3 ص 370 إلى 386 {وإِخْوانُ لُوطٍ } . انظر ج 3 ص 352 { وأَصْحابُ الأَيْكَةِ } أي الغيضة الملتفة الشجر ، وتقدمت الإشارة إلى أصحاب الأيكة في ج 5 ص 515 {وقَوْمُ تُبَّعٍ} وهو تبع الحميري ، وسبق الكلام عنه عند تفسير الآية 37 من سورة الدخان { كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ } وهو العذاب الذي وعدهم اللَّه به على لسان رسله {أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ} ؟ هل عجزنا عن النشأة الأولى كي نعجز عن الثانية : {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ } [الأنبياء: 104] ) .
{بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} . اللبس الشك ، والخلق الجديد البعث ، والشك حسن بل هو ضروري على أن يكون باعثا على البحث والنظر ، أما النفي بلا دليل ولمجرد الشك فهو جهل وضلال .
{ولَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسانَ ونَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ونَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ }. اللَّه قريب من كل شيء بعلمه لأن ما من شيء إلا وهو منه ، إذن ، فلا شيء يبعد عنه ، وإنما خص سبحانه حبل الوريد بالذكر لأنه أقرب إلى الإنسان من أي عضو آخر ، ويضاف إلى ذلك ان فيه قوام الحياة { إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } . يدل ظاهر الآية على ان اللَّه يقيم على الإنسان رقيبين : يقعد أحدهما عن يمينه ، والآخر عن شماله يسجلان عليه كل ما يلفظ من قول . وقال كثير من المفسرين : ان هذين الرقيبين من الملائكة ، وان أحدهما يكتب الحسنات ، وهو الذي يجلس على يمين الإنسان ، والآخر يكتب السيئات ، وهو الذي يجلس على شماله . . ويصح تفسير الرقيبين بأنهما كناية عن ان الإنسان مسؤول عما يقول ويفعل ، وانه لا يستطيع عند نقاش الحساب أن يستر أو ينكر سيئة من سيئاته لقيام الحجة عليه .
وقلنا يصح هذا التفسير لأنه يلتقي مع التفسير الأول الذي دل عليه ظاهر الآية ، ونتيجتهما واحدة .
وتسأل : ان اللَّه غني بعلمه وحفظه عن الرقابة والرقباء والكتابة والكاتبين ، فما هو القصد من إقامة الرقباء ؟ .
الجواب : القصد أن يجابه سبحانه المجرمين بما لا يجدون لإنكاره حيلة ولا وسيلة . . وتومئ الآية من بعيد إلى ان القاضي لا يجوز أن يقضي بعلمه . أنظر تفسير الآية 20 من سورة فصلت ج 6 ص 485 .
{وجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} . سكرة الموت غمرته وشدته ، وقوله تعالى بالحق يومئ إلى انه عند نزول الموت تنكشف الحقيقة للمحتضر ، ويعلم علم اليقين ان البعث حق لا ريب فيه ، وذلك إشارة إلى البعث ، والخطاب في كنت لمن أنكر البعث ، وضمير منه يعود إلى البعث ، والمراد بتحيد تنكر ، والمعنى يقال لمن أنكر البعث حين ينزل به الموت : هذا هو البعث الذي كنت تنكره ، ومثله : {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [الصافات: 21].
{ونُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ} . يشير سبحانه بهذه النفخة إلى يوم القيامة : {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ } [يس: 51].
{وجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وشَهِيدٌ} . سائق يسوقها إلى محشرها ، وشاهد يشهد عليها بعملها {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} . هذا إشارة إلى يوم الحساب والجزاء ، أما البصر الحديد فالمراد به ان الحقيقة تتجلى عند الموت وبعده لمنكر البعث فيعرف ما أنكر وينكر ما عرف ، والمعنى يقال غدا للجاحد : أيها الشقي كفرت بهذا اليوم ، واتبعت أهواءك ، وذهلت عما يراد بك ، وقد انزاحت الأباطيل عنك الآن ، وعرفت الحقيقة ، ولكن حيث لا مهرب من عذاب الحريق .
-_______________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7 ، ص132-133.
قوله تعالى: {كذبت قبلهم قوم نوح - إلى قوله - كل كذب الرسل فحق وعيد} ، تهديد وإنذار لهم بما كذبوا بالحق لما جاءهم وتبين لهم عنادا كما أشرنا إليه قبل.
وقد تقدم ذكر أصحاب الرس في تفسير سورة الفرقان، وذكر أصحاب الأيكة وهم قوم شعيب في سور الحجر والشعراء و ص، وذكر قوم تبع في سورة الدخان.
وفي قوله: {كل كذب الرسل فحق وعيد} إشارة إلى أن هناك وعيدا بالهلاك ينجز عند تكذيب الرسل قال تعالى: { فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [النحل: 36].
وقوله تعالى : { أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوّلِ بَلْ هُمْ فى لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ } [ق: 16 - 22].
الآية الأولى متممة لما أورده في الآيات السابقة من الحجة على علمه وقدرته بما خلق السماء والأرض وما فيهما من خلق ودبر ذلك أكمل التدبير وأتمه وذلك كله هو الخلق الأول والنشأة الأولى.
فتمم ذلك بقوله: {أ فعيينا بالخلق الأول} واستنتج منه أن القادر على الخلق الأول العالم به قادر على خلق جديد ونشأة ثانية وعالم به لأنهما مثلان إذا جاز له خلق أحدهما جاز خلق الآخر وإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن.
ثم أضرب عنه أنهم في التباس من خلق جديد مع مماثلة الخلقين ثم أشار إلى نشأة الإنسان أول مرة وهو يعلم منه حتى خطرات قلبه وعليه رقباؤه يراقبونه أدق المراقبة ثم يجيئه سكرة الموت بالحق ثم البعث ثم دخول الجنة أو النار ثم أشار ثانيا إلى ما حل بالقرون الماضية المكذبة من السخط الإلهي وعذاب الاستئصال وهم أشد بطشا من هؤلاء فمن جازاهم بالهلاك قادر على أن يجازي هؤلاء.
قوله تعالى: {أ فعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد} العي عجز يلحق من تولي الأمر والكلام كذا، قال الراغب: يقال: أعياني كذا وعييت بكذا أي عجزت عنه والخلق الأول خلق هذه النشأة الطبيعية بنظامها الجاري ومنها الإنسان في حياته الدنيا فلا وجه لقصر الخلق الأول في خلق السماء والأرض فقط كما مال إليه الرازي في التفسير الكبير ولا لقصره في خلق الإنسان كما مال إليه بعضهم وذلك لأن الخلق الجديد يشمل السماء والأرض والإنسان جميعا كما قال تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } [إبراهيم: 48].
والخلق الجديد خلق النشأة الثانية وهي النشأة الآخرة، والاستفهام للإنكار.
والمعنى: أ عجزنا عن الخلق الأول حتى نعجز عن الخلق الجديد؟ أي لم نعجز عن الخلق الأول وهو إبداؤه فلا نعجز عن الخلق الجديد وهو إعادته.
ولو أخذ العي بمعنى التعب كما مال إليه بعضهم كان المعنى: هل تعبنا بسبب الخلق الأول حتى يتعذر أو يتعسر علينا الخلق الجديد؟ وذلك كما أن الإنسان وسائر الحيوان إذا أتى بشيء من الفعل وأكثر منه انتهي به إلى التعب البدني فيكفه ذلك عن الفعل بعد، فما لم يأت به من الفعل لكونه تعبان مثل ما أتى لكنه لا يؤتى به لأن الفاعل لا يستطيعه لتعبه وإن كان الفعل جائزا متشابه الأمثال.
وهذا معنى لا بأس به لكن قيل: إن استعمال العي بمعنى العجز أفصح.
على أن سوق الحجة من طريق العجز يفيد استحالة الإتيان ونفيها هو المطلوب بخلاف سوقها من طريق التعب فإنه يفيد تعسره دون استحالة الإتيان ومراد النافين للمعاد استحالته دون تعسره هذا.
وقوله: {بل هم في لبس من خلق جديد} اللبس هو الالتباس، والمراد بالخلق الجديد تبديل نشأتهم الدنيا من نشأة أخرى ذات نظام آخر وراء النظام الطبيعي الحاكم في الدنيا فإن في النشأة الأخرى وهي الخلق الجديد بقاء من غير فناء وحياة من غير موت ثم إن كان الإنسان من أهل السعادة فله نعمة من غير نقمة وإن كان من أهل الشقاء ففي نقمة لا نعمة معها، والنشأة الأولى وهي الخلق الأول والنظام الحاكم فيها على خلاف ذلك.
والمعنى: إذا كنا خلقنا العالم بسمائه وأرضه وما فيهما ودبرناه أحسن تدبير لأول مرة بقدرتنا وعلمنا ولم نعجز عن ذلك علما وقدرة فنحن غير عاجزين عن تجديد خلقه وهو تبديله خلقا جديدا فلا ريب في قدرتنا ولا التباس بل هم في التباس لا سبيل لهم مع ذلك إلى الإيمان بخلق جديد.
قوله تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد} قال الراغب: الوسوسة الخطرة الرديئة وأصله من الوسواس وهو صوت الحلي والهمس الخفي.
انتهى.
والمراد بخلق الإنسان وجوده المتدرج المتحول خلقا بعد خلق لا أول تكوينه إنسانا وإن عبر عنه بالماضي إذ قال: {ولقد خلقنا الإنسان} إذ الإنسان - وكذا كل مخلوق له حظ من البقاء - كما يحتاج إلى عطية ربه في أول وجوده كذلك يحتاج إليه في بقائه.
ولما ذكر من النكتة عطف قوله: {ونعلم ما توسوس به نفسه} وهو فعل مضارع مسوق للدلالة على الاستمرار على قوله: {ولقد خلقنا الإنسان} وهو فعل ماض لكنه مستمر المعنى، وكذا قوله: {ونحن أقرب إليه من حبل الوريد} مفيد للثبوت والدوام والاستمرار باستمرار وجود الإنسان.
وللآية اتصال بما تقدم من الاحتجاج على علمه وقدرته تعالى في الخلق الأول بقوله: {أ فلم ينظروا إلى السماء} واتصال أيضا بقوله تعالى في الآية السابقة: {بل هم في لبس من خلق جديد} فهي في سياق يذكر قدرته على الإنسان بخلقه، وعلمه به بلا واسطة وبواسطة الملائكة الحفظة الكتبة.
فقوله: {ولقد خلقنا الإنسان} - واللام للقسم - دال على القدرة عليه بإثبات الخلق.
وقوله: {ونعلم ما توسوس به نفسه} في ذكر أخفى أصناف العلم وهو العلم بالخطور النفساني الخفي إشارة إلى استيعاب العلم له كأنه قيل: ونعلم ظاهره وباطنه حتى ما توسوس به نفسه ومما توسوس به الشبهة في أمر المعاد: كيف يبعث الإنسان وقد صار بعد الموت ترابا متلاشي الأجزاء غير متميز بعضها من بعض.
وقد بان أن {ما} في {ما توسوس به} موصولة وضمير {به} عائد إليه والباء للآلة أو للسببية، ونسب الوسوسة إلى النفس دون الشيطان وإن كانت منسوبة إليه أيضا لأن الكلام في إحاطة العلم بالإنسان حتى بما في زوايا نفسه من هاجس ووسوسة.
وقوله: {ونحن أقرب إليه من حبل الوريد} الوريد عرق متفرق في البدن فيه مجاري الدم، وقيل: هو العرق الذي في الحلق، وكيف كان فتسميته حبلا لتشبيهه به، وإضافة حبل الوريد بيانية.
والمعنى: نحن أقرب إلى الإنسان من حبل وريده المخالط لأعضائه المستقر في داخل بدنه فكيف لا نعلم به وبما في نفسه.
وهذا تقريب للمقصود بجملة ساذجة يسهل تلقيها لعامة الأفهام وإلا فأمر قربه تعالى إليه أعظم من ذلك وأعظم فهو سبحانه الذي جعلها نفسا ورتب عليها آثارها فهو الواسطة بينها وبين نفسها وبينها وبين آثارها وأفعالها فهو أقرب إلى الإنسان من كل أمر مفروض حتى في نفسه، ولكون هذا المعنى دقيقا يشق تصوره على أكثر الأفهام عدل سبحانه إلى بيانه بنحو قوله: {ونحن أقرب إليه من حبل الوريد} وقريب منه بوجه قوله: {إن الله يحول بين المرء وقلبه}.
ولهم في معنى الآية وجوه كثيرة أخر لا جدوى في نقلها والبحث عنها من أرادها فليراجع كتبهم.
قوله تعالى: {إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد} التلقي الأخذ والتلقن، والمراد بالمتلقيان على ما يفيده السياق الملكان الموكلان على الإنسان اللذان يتلقيان عمله فيحفظانه بالكتابة.
وقوله: {عن اليمين وعن الشمال قعيد} تقديره عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد، والمراد باليمين والشمال يمين الإنسان وشماله، والقعيد القاعد.
والظرف في قوله: {إذ يتلقى المتلقيان} الظاهر أنه متعلق بمحذوف والتقدير اذكر إذ يتلقى المتلقيان، والمراد به الإشارة إلى علمه تعالى بأعمال الإنسان من طريق كتاب الأعمال من الملائكة وراء علمه تعالى بذاته من غير توسط الوسائط.
وقيل: الظرف متعلق بقوله في الآية السابقة: {أقرب} والمعنى: نحن أقرب إليه من حبل الوريد في حين يتلقى الملكان الموكلان عليه أعماله ليكتباها.
ولعل الوجه السابق أوفق للسياق فإن بناء هذا الوجه على كون العمدة في الغرض بيان أقربيته تعالى إليه وعلمه به والباقي مقصود لأجله، وظاهر السياق وخاصة بالنظر إلى الآية التالية كون كل من العلم من طريق القرب ومن طريق تلقي الملكين مقصودا بالاستقلال.
وقيل: {إذ{ تعليلية تعلل علمه تعالى المدلول عليه بقوله: {ونحن أقرب إليه} إلخ، بمفاد مدخولها.
وفيه أن من البعيد من مذاق القرآن أن يستدل على علمه تعالى بعلم الملائكة أو بحفظهم وكتابتهم.
وقوله: {عن اليمين وعن الشمال قعيد} تمثيل لموقعهما من الإنسان، واليمين والشمال جانبا الخير والشر ينتسب إليهما الحسنة والسيئة.
قوله تعالى: {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} اللفظ الرمي سمي به التكلم بنوع من التشبيه، والرقيب المحافظ، والعتيد المعد المهيأ للزوم الأمر.
والآية تذكر مراقبة الكتبة للإنسان فيما يتكلم به من كلام، وهي بعد قوله: {إذ يتلقى المتلقيان} إلخ، من ذكر الخاص بعد العام لمزيد العناية به.
قوله تعالى: {وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد} الحيد العدول والميل على سبيل الهرب، والمراد بسكرة الموت ما يعرض الإنسان حال النزع إذ يشتغل بنفسه وينقطع عن الناس كالسكران الذي لا يدري ما يقول ولا ما يقال له.
وفي تقييد مجيء سكرة الموت بالحق إشارة إلى أن الموت داخل في القضاء الإلهي مراد في نفسه في نظام الكون كما يستفاد من قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } [الأنبياء: 35] ، وقد مر تفسيره فالموت – وهو الانتقال من هذه الدار إلى دار بعدها - حق كما أن البعث حق والجنة حق والنار حق، وفي معنى كون الموت بالحق أقوال أخر لا جدوى في نقلها والتعرض لها.
وفي قوله: {ذلك ما كنت منه تحيد} إشارة إلى أن الإنسان يكره الموت بالطبع وذلك أن الله سبحانه زين الحياة الدنيا والتعلق بزخارفها للإنسان ابتلاء وامتحانا، قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا } [الكهف: 7، 8].
قوله تعالى: {ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد} هذه نقلة ثانية إلى عالم الخلود بنفخ الصور بعد النقلة الأولى، والمراد بنفخ الصور النفخة الثانية المقيمة للساعة أو مجموع النفختين بإرادة مطلق النفخ.
والمراد بيوم الوعيد يوم القيامة الذي ينجز الله تعالى فيه وعيده على المجرمين من عباده.
قوله تعالى: {وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد} السياقة حث الماشية على المسير من خلفها بعكس القيادة فهي جلبها من أمامها.
فقوله: {وجاءت كل نفس} أي جاءت إلى الله وحضرت عنده لفصل القضاء، والدليل عليه قوله تعالى: { إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ } [القيامة: 30].
والمعنى: وحضرت عنده تعالى كل نفس معها سائق يسوقها وشاهد يشهد بأعمالها ولم يصرح تعالى بكونهما من الملائكة أو بكونهما هما الكاتبين أومن غير الملائكة، غير أن السابق إلى الذهن من سياق الآيات أنهما من الملائكة، وسيجيء الروايات في ذلك.
وكذا لا تصريح بكون الشهادة منحصرة في هذا الشاهد المذكور في الآية بل الآيات الواردة في شهداء يوم القيامة تقضي بعدم الانحصار، وكذا الآيات التالية الذاكرة لاختصام الإنسان وقرينة دالة على أن مع الإنسان يومئذ غير السائق والشهيد.
قوله تعالى: {لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد{ وقوع الآية في سياق آيات القيامة واحتفافها بها يقضي بكونها من خطابات يوم القيامة، والمخاطب بها هو الله سبحانه، والذي خوطب بها هو الإنسان المذكور في قوله: {وجاءت كل نفس} وعليه فالخطاب عام متوجه إلى كل إنسان إلا أن التوبيخ والتقريع اللائح من سياق الآية ربما استدعى اختصاص الخطاب بمنكري المعاد، أضف إلى ذلك، كون الآيات مسوقة لرد منكري المعاد في قولهم: {أ أذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد}.
والإشارة بقوله: {هذا} إلى ما يشاهده يومئذ ويعاينه من تقطع الأسباب وبوار الأشياء ورجوع الكل إلى الله الواحد القهار، وقد كان تعلق الإنسان في الدنيا بالأسباب الظاهرية وركونه إليها أغفله عن ذلك حتى إذا كشف الله عنه حجاب الغفلة فبدت له حقيقة الأمر فشاهد ذلك مشاهدة عيان لا علما فكريا.
ولذا خوطب بقوله: {لقد كنت} في الدنيا {في غفلة} أحاطت بك {من هذا} الذي تشاهده وتعاينه وإن كان في الدنيا نصب عينيك لا يغيب لكن تعلقك بذيل الأسباب أذهلك وأغفلك عنه {فكشفنا عنك غطاءك} اليوم {فبصرك} وهو البصيرة وعين القلب {اليوم} وهو يوم القيامة {حديد} أي نافذ يبصر ما لم يكن يبصره في الدنيا.
ويتبين بالآية أولا: أن معرف يوم القيامة أنه يوم ينكشف فيه غطاء الغفلة عن الإنسان فيشاهد حقيقة الأمر، وفي هذا المعنى وما يقرب منه آيات كثيرة كقوله تعالى: {وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } [الانفطار: 19] ، وقوله: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: 16] ، إلى غير ذلك من الآيات.
وثانيا: أن ما يشاهده الإنسان يوم القيامة موجود مهيأ له وهو في الدنيا غير أنه في غفلة منه، وخاصة يوم القيامة أنه يوم انكشاف الغطاء ومعاينة ما وراءه، وذلك لأن الغفلة إنما يتصور فيما يكون هناك أمر موجود مغفول عنه، والغطاء يستلزم أمرا وراءه وهو يغطيه ويستره، وعدم حدة البصر إنما ينفع فيما إذا كان هناك مبصر دقيق لا ينفذ فيه البصر.
ومن أسخف القول ما قيل: إن الآية خطاب منه تعالى لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم)، والمعنى: لقد كنت قبل الرسالة في غفلة من هذا الذي نوحي إليك فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد يدرك الوحي أو يبصر ملك الوحي فيتلقى الوحي، وذلك لأن السياق لا يساعده ولا لفظ الآية ينطبق عليه.
_____________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج18، ص278-285.
لست وحدك المبتلى بالعدوّ:
تعالج هذه الآيات مسألة المعاد من خلال نوافذ متعدّدة! ففي البداية ومن أجل تثبيت قلب النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتسليته تقول: لست وحدك المرسل الذي كذّبه الكفّار وكذّبوا محتوى دعواته ولا سيّما المعاد فإنّه: {كذّبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرسّ وثمود}!.
وجماعة «ثمود» هم قوم صالح النّبي العظيم إذ كانوا يقطنون منطقة «الحجر» شمال الحجاز.
أمّا «أصحاب الرسّ» فهناك أقوال عند المفسّرين، فالكثير من المفسّرين يعتقدون أنّهم طائفة كانت تقطن اليمامة، وكان عندهم نبيّ يُدعى حنظلة فكذّبوه.
وألقوه في البئر في آخر الأمر «من معاني الرسّ هو البئر» والمعنى الآخر الأثر اليسير الباقي من الشيء، وقد بقي من هؤلاء القوم الشيء اليسير في ذاكرة التاريخ!.
ويرى بعض المفسّرين أنّهم «قوم شعيب» لأنّهم كانوا يحفرون الآبار، ولكن مع الإلتفات إلى أنّ «أصحاب الأيكة» المذكورين في الآيات التالية هم قوم شعيب أنفسهم ينتفي هذا الإحتمال أيضاً.
وقال بعض المفسّرين: هم بقايا قوم ـ صالح ـ أي ثمود، ومع الإلتفات إلى ذكر ثمود على حدة في الآية فإنّ هذا الإحتمال يبدو بعيداً أيضاً.
فعلى هذا يكون التّفسير الأوّل هو الأنسب، وهوما إشتهر على أقلام المفسّرين وألسنتهم!.
ثمّ يضيف القرآن قائلا: {وعاد وفرعون وإخوان لوط} والمراد بإخوان لوط هم قومه، وقد عبّر القرآن عن لوط بأنّه أخوهم، وهذا التعبير مستعمل في اللغة العربية بشكل عام.
وكذلك من بعدهم: (وأصحاب الأيكة وقوم تُبّع). والأيكة: معناها الأشجار الكثيرة المتداخلة بعضها ببعض ـ أو الملتفّة أغصانها ـ و«أصحاب الأيكة» هم طائفة من قوم شعيب كانوا يقطنون منطقة غير «مدين» وهي منطقة ذات أشجار كثيرة(2)!
والمراد من «قوم تبّع» طائفة من أهل اليمن، لأنّ «تبّع» لقب لملوك اليمن، باعتبار أنّ هؤلاء القوم يتبعون ملوكهم، وظاهر تعبير القرآن هنا وفي آية اُخرى منه (37 ـ الدخان) هو ملك مخصوص من ملوك اليمن إسمه (أسعد أبو كرب) كما نصّت عليه بعض الرّوايات، ويعتقد جماعة من المفسّرين بأنّه كان رجلا صالحاً مؤمناً يدعو قومه إلى اتّباع الأنبياء، إلاّ أنّهم خالفوه(3).
ثمّ إنّ الآية هذه أشارت إلى جميع من ذكرتهم من الأقوام الثمانية فقالت: {كلٌّ كذّب الرسل فحقّ وعيد}.
وما نراه في النصّ من أنّ جميع هؤلاء كذّبوا الرسل والحال أنّ كلّ قوم كذّبوا رسولهم فحسب لأنّ الفعل الصادر منهم جميعاً [التكذيب] نال الأنبياء جميعاً وإن كان كلّ قوم قد كذّبوا نبيّهم وحده في زمانهم.
أو لأنّ تكذيب أحد النّبيين والرسل يعدّ تكذيباً لجميع الرسل، لأنّ محتوى دعوتهم سواء.
وعلى كلّ حال، فإنّ هؤلاء الاُمم كذّبوا أنبياءهم وكذّبوا مسألة المعاد والتوحيد أيضاً، وكانت عاقبة أمرهم نُكراً ووبالا عليهم، فمنهم من اُبتلي بالطوفان، ومنهم من أخذته الصاعقة، ومنهم من غرق بالنيل، ومنهم من خُسفت به الأرض أو غير ذلك، وأخيراً فإنّهم ذاقوا ثمرة تكذيبهم المرّة!! فكن مطمئناً يارسول الله أنّه لو واصل هؤلاء تكذيبهم لك فلن يكونوا أحسن حالا من السابقين.
ثمّ يشير القرآن إلى دليل آخر من دلائل إمكان النشور ويوم القيامة فيقول: {أفعيينا بالخلق الأوّل}(4).
ثمّ يضيف القرآن: إنّهم لا يشكّون ولا يتردّدون في الخلق الأوّل لأنّهم يعلمون أنّ خالق الإنسان هو الله ولكنّهم يشكّون في المعاد مع كلّ تلك الدلائل الواضحة: {بل هم في لبس جديد}.
وفي الحقيقة إنّهم في تناقض بسبب هوى النفس والتعصّب الأعمى، فمن جهة يعتقدون بأنّ خالق الناس أوّلا هو الله إذ خلقهم من تراب، إلاّ أنّهم من جهة اُخرى حين يقع الكلام على المعاد وخلق الإنسان ثانية من التراب يعدّون ذلك أمراً عجيباً ولا يمكن تصوّره وقبوله، في حين أنّ الأمرين متماثلان: «وحكم الأمثال في ما يجوز وما لا يجوز واحد».
وهكذا فإنّ القرآن يستدلّ على المعاد في هذه الآيات والآيات الآنفة بأربعة طرق مختلفة، فتارةً عن طريق علم الله، واُخرى عن طريق قدرته، وثالثة عن طريق تكرّر صور المعاد ومشاهده في عالم النباتات، وأخيراً عن طريق الإلتفات إلى الخلق الأوّل.
ومتى ما عُدنا إلى آيات القرآن الاُخر في مجال المعاد وجدنا هذه الأدلّة بالإضافة إلى أدلّة اُخر وردت في آيات مختلفة وبصورة مستقلّة، وقد أثبت القرآن المعاد بالمنطق القويم والتعبير السليم والاُسلوب الرائع (القاطع) للمنكرين وبيّنه بأحسن وجه .. فلو خضعوا لمنطق العقل وتجنّبوا الأحكام المسبقة والتعصّب الأعمى والتقليد الساذج فسرعان ما يذعنوا لهذه المسألة وسيعلمون بأنّ المعاد أو يوم القيامة ليس أمراً ملتوياً وعسيراً.
وقوله تعالى : {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 16 - 18]:
كتابه جميع الأقوال:
يُثار في هذه الآيات قسم آخر من المسائل المتعلّقة بالمعاد، وهو ضبط أعمال الإنسان وإحصاؤها لتعرض على صاحبها عند يوم الحساب.
تبدأ الآيات فتتحدّث عن علم الله المطلق وإحاطته بكلّ شيء فتقول: {ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه}.
كلمة «توسوس» مشتقّة من الوسوسة وهي ـ كما يراه الراغب في مفرداته ـ الأفكار غير المطلوبة التي تخطر بقلب الإنسان، وأصل الكلمة «الوسواس» ومعناه الصوت الخفي وكذلك صوت أدوات الزينة وغيرها.
والمراد من الوسوسة في الآية هنا هي أنّ الله لمّا كان يعلم بما يخطر في قلب الإنسان والوساوس السابحة في أفكاره، فمن البديهي أنّه عالم بجميع عقائده وأعماله وأقواله، وسوف يحاسبه عليها يوم القيامة.
وجملة (ولقد خلقنا الإنسان) يمكن أن تكون إشارةً إلى أنّ خالق البشر محال أن لا يعلم بجزئيات خلقه؟! الخلق الدائم والمستمر، لأنّ الفيض أو الجود منه يبلغ البشر لحظة بعد لحظة، ولو إنقطع الفيض لحظة لهلكنا، كنور الشمس الذي ينتشر في الفضاء من منبع الفيض وهوالكرة الشمسية «بل كما سنبيّن فإنّ إرتباطنا بذاته المقدّسة أسمى ممّا مثّلنا ـ (بنور الشمس)».
أجل، هو الخالق، وخلقه دائم ومستمر ونحن مرتبطون به في جميع الحالات، فمع هذه الحال كيف يمكن أن لا يعلم باطننا وظاهرنا؟!
ويضيف القرآن لمزيد الإيضاح في ذيل الآية قائلا: (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد).
ما أبلغ هذا التعبير!! فحياتنا الجسمانية متعلّقة بعصب يوصل الدم إلى القلب ويخرجه منها بصورة منتظمة وينقله إلى جميع أعضاء البدن، ول وتوقّف هذا العمل لحظة واحدة لمات الإنسان .. فالله أقرب إلى الإنسان من هذا العصب المسمّى بحبل الوريد.
وهذا ما أشار إليه القرآن في مكان آخر إذ قال: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } [الأنفال: 24].
وبالطبع فإنّ هذا كلّه تشبيه تقريبي، والله سبحانه أقرب من ذلك وأسمى رغم كون المثال المذكور أبلغ تصوير محسوس على شدّة القرب، فمع هذه الإحاطة لله تعالى بمخلوقاته، وكوننا في قبضة قدرته، فإنّ تكليفنا واضح، فلا شيء يخفى عليه لا الأفعال ولا الأقوال ولا الأفكار والنيّات ولا تخفى عليه حتّى الوساوس التي تخطر في القلوب!
إنّ الإلتفات إلى هذه الحقيقة يوقظ الإنسان، ويكون على بيّنة من أمره وما هو مذخور له في صحيفة أعماله عند محكمة عدل الله .. فيتحوّل من إنسان غافل إلى موجود واع ملتزم ورع تقيّ .. ورد في حديث أنّ أبا حنيفة جاء إلى الصادق (عليه السلام) يوماً فقال: رأيت ولدك موسى يصلّي والناس يعبرون من أمامه إلاّ أنّه لم ينههم عن ذلك، مع أنّ هذا العمل غير صحيح!.
فقال الصادق (عليه السلام) ادعوا لي ولدي موسى فدُعي له فكرّر الإمام الصادق حديث أبي حنيفة لولده موسى بن جعفر فأجاب موسى بن جعفر قائلا: إنّ الذي كنت اُصلّي له كان أقرب إليّ منهم يقول الله عزّوجلّ: (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) .. فاحتضنه الإمام الصادق وقال: بأبي أنت واُمّي يا مستودع الأسرار(5).
وللمفسّرين آراء عديدة في معنى «الوريد» .. فمنهم من يعتقد بأنّ «الوريد» هو العصب المتّصل بقلب الإنسان أو كبده، ويعتقد بعضهم بأنّ الوريد جميع الأعصاب في بدن الإنسان .. في حين أنّ بعضهم يعتقد بأنّه عصب الرقبة فحسب!
إلاّ أنّ التّفسير الأوّل يبدو أكثر تناسباً، ولا سيّما إذا لاحظنا الآية 24 من سورة الأنفال آنفة الذكر!
وكلمة «الوريد» ـ ضمناً ـ مأخوذة من الورود، ومعناه الذهاب نحو الماء، وحيث أنّ الدم ـ يرد من هذا العصب إلى القلب ويخرج منه إلى سائر أعضاء بدن الإنسان سمّي بالوريد.
ولكن ينبغي الإلتفات إلى أنّ الإصطلاح المتداول في هذا العصر في شأن «الوريد والشريان» ـ يعني المجاري التي توصل الدم من سائر أعضاء الجسم إلى قلب الإنسان، وبالعكس ـ هذا الإصطلاح خاصّ بعلم الأحياء ولا علاقة له بالمفهوم اللغوي للوريد.
ويضيف القرآن في الآية التالية قائلا: {إذ يتلقّى المتلقّيان عن اليمين وعن الشمال قعيد}(6).
أي أنّه بالإضافة إلى إحاطة علم الله «التامّة» على ظاهر الإنسان وباطنه، فهنالك ملكان مأموران بحفظ ما يصدر منه عن يمينه وشماله، وهما معه دائماً ولا ينفصلان عنه لتتمّ الحجّة عليه عن هذا الطريق أكثر، ولتتأكّد مسألة الحساب (حساب الأعمال).
كلمة «تلقّى» معناها الأخذ والتسلّم، و«المتلقّيان» هما ملكان مأموران بثبت أعمال الناس.
وكلمة «قعيد» مأخوذة من القعود ومعناها «جالس»(7) والمراد بالقعيد هنا الرقيب والملازم للإنسان، وبتعبير آخر أنّ الآية هذه لا تعني أنّ الملكين جالسين عن يمين الإنسان وعن شماله، لأنّ الإنسان يكون في حال السير تارةً، واُخرى في حال الجلوس، بل التعبير هنا هو كناية عن وجودهما مع الإنسان وهما يترصدّان أعماله.
ويحتمل أيضاً أنّهما قعيدان على كتفي الإنسان الأيمن والأيسر، أو أنّهما قعيدان عند نابيه أو ناجذيه دائماً ويسجّلان أعماله، وهناك إشارة إلى هذا المعنى في بعض الرّوايات غير المعروفة «كما في بحار الأنوار ج59 ص186 رقم الرّواية 32».
وممّا يجدر التنويه عليه أنّه ورد في الرّوايات الإسلامية أنّ ملك اليمين كاتب الحسنات، وملك الشمال كاتب السيّئات، وصاحب اليمين أميرٌ على صاحب الشمال، فإذا عمل الإنسان حسنةً كتبها له صاحب اليمين بعشر أمثالها، وإذا عمل سيّئة فأراد صاحب الشمال أن يكتبها قال له صاحب اليمين أمسك فيمسك عنه سبع ساعات، فإذا إستغفر الله منها لم يكتب عليه شيء، وإن لم يستغفر الله كتب له سيّئة واحدة.
كما يظهر من بعض الرّوايات أنّهما يقولان بعد موت المؤمن: ربّنا قبضت روح عبدك فإلى أين؟ قال: سمائي مملوءة بملائكتي يعبدونني وأرضي مملوءة من خلقي يطيعونني إذهبا إلى قبر عبدي فسبّحاني وكبّراني وهلّلاني فاكتبا ذلك في حسنات عبدي(8).
وفي رواية اُخرى عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «ما من أحد من المسلمين يبتلى ببلاء في جسده إلاّ أمر الله تعالى الحفظة فقال: اكتبوا لعبدي ما كان يعمل وهو صحيح ما دام مشدوداً في وثاقي» ثمّ أضاف (صلى الله عليه وآله وسلم) من مرض أو سافر كتب الله تعالى له ما كان يعمل صحيحاً مقيماً»(9).
وهذه الرّوايات جميعها إشارة إلى لطف الله الواسع.
أمّا آخر آية من الآيات محلّ البحث فتتحدّث عن الملكين أيضاً فتقول: (ما يلفظ من قول إلاّ لديه رقيب عتيد)(10).
وكان الكلام في الآية الآنفة عن كتابة جميع أعمال الإنسان، وفي هذه الآية إهتمام بخصوص ألفاظه، وهذا الأمر هو للأهميّة القصوى للقول وأثره في حياة الناس، حتّى أنّ جملة واحدة أو عبارة قصيرة قد تؤدّي إلى تغيير مسير المجتمع نحو الخير أو الشرّ!! كما أنّ بعض الناس لا يعتقدون بأنّ الكلام جزء من أعمالهم .. ويرون أنفسهم أحراراً في الكلام مع أنّ أكثر الاُمور تأثيراً وأخطرها في حياة الناس هو الكلام!.
فبناءاً على ذلك فإن ذكر هذه الآية بعد الآية المتقدّمة هومن قبيل ذكر الخاص بعد العام.
كلمة «الرقيب» معناها المراقب و«العتيد» معناها المتهيء للعمل، لذلك يطلق على الفرس المعدّة للركض بأنّها فرس عتيد كما يطلق على من يعدّ شيئاً أو يدّخره بأنّه عتيد، وهي من مادّة العتاد على زنة الجهاد ومعناها الإدّخار!.
ويعتقد أغلب المفسّرين أنّ الرقيب والعتيد إسمان للملكين المذكورين في الآية المتقدّمة وهما «المتلقيان» فاسم ملك اليمين «رقيب» واسم ملك الشمال «عتيد»، وبالرغم من أنّ الآية محلّ البحث ليس فيها قول صريح على هذا الأمر، إلاّ أنّ هذا التّفسير وبملاحظة مجموع الآيات يبدو غير بعيد!
ولكن أيّ كلام يكتب هذان الملكان؟ هناك أقوال بين المفسّرين قال بعضهم يكتبان كلّ كلام حتّى الصرخات من الألم، في حين أنّ بعضهم الآخر يعتقد بأنّهما يكتبان ألفاظ الخير والشرّ والواجب والمستحبّ أو الحرام والمكروه، ولا يكتبان ما هو مباح!
إلاّ أنّ عموميّة التعبير يدلّ على أنّ الملكين يكتبان كلّ لفظ وقول يقوله الإنسان.
الطريف أنّنا نقرأ روايةً عن الإمام الصادق يقول فيها: « انّ المؤمنين إذا قعدا يتحدّثان قالت الحفظة بعضها لبعض اعتزلوا بنا فلعلّ لهما سرّاً وقد ستر الله عليهما!
يقول الراوي: ألم يقل الله تعالى {ما يلفظ من قول إلاّ لديه رقيب عتيد} فيجيب الإمام (عليه السلام): إن كانت الحفظة لا تسمع فإنّ عالم السرّ يسمع ويرى»(11).
ويستفاد من هذه الرّوايات أنّ الله سبحانه يكتم بعض أحاديث المؤمن التي فيها (جانب سرّي) إحتراماً وإكراماً له، إلاّ أنّه حافظ لجميع هذه الأسرار.
ويستفاد من بعض الرّوايات أنّ حفظة الليل غير حفظة النهار، كما بيّنا هذا المعنى في تفسير الآية 78 من سورة الإسراء من نفس هذا التّفسير.
وقوله تعالى : {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ } [ق: 19 - 22] :
القيامة ـ والبصر الحديد ـ:
تعكس الآيات أعلاه مسائل اُخرى تتعلّق بيوم المعاد: «مشهد الموت» و«النفخ في الصور» و«مشهد الحضور في المحشر»!
فتقول أوّلا: {وجاءت سكرة الموت بالحقّ}.
سكرة الموت: هي حال تشبه حالة الثمل السكران إذ تظهر على الإنسان بصورة الإضطراب والإنقلاب والتبدّل، وربّما إستولت هذه الحالة على عقل الإنسان وسلبت شعوره وإختياره.
وكيف لا تكون كذلك مع أنّ الموت مرحلة إنتقالية مهمّة ينبغي أن يقطع الإنسان فيها جميع علائقه بالدنيا التي تعلّق بها خلال سنين طويلة، وأن يخطو في عالم جديد عليه مليء بالأسرار، خاصّة أنّ الإنسان ـ لحظة الموت ـ يكون عنده إدراك جديد وبصر حديد ـ فهو يلاحظ عدم إستقرار هذا العالم بعينيه ويرى الحوادث التي بعد الموت، وهنا تتملّكه حالة الرعب والإستيحاش من قرنه إلى قدمه فتراه سَكِراً وليس بسكر(12).
حتّى الأنبياء وأولياء الله الذين يواجهون حالة النزع والموت بإطمئنان كامل ينالهم من شدائد هذه الحالة نصيب، ويصابون ببعض العقبات في حالة الإنتقال، كما قد ورد في حالات إنتقال روح النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى بارئها عند اللحظات الأخيرة من عمره الشريف المبارك أنّه كان يدخل يده في إناء فيه ماء ويضعها على وجهه ويقول: (لا إله إلاّ الله) ثمّ يقول: {إنّ للموت سكرات}(13).
وللإمام علي كلام بليغ يرسم لحظة الموت وسكراتها بعبارات حيّة بليغة إذ يقول: « إجتمعت عليهم سكرت الموت وحسرت الفوت ففترت لها أطرافهم وتغيّرت لها ألوانهم ثمّ إزداد الموت فيهم ولوجاً فحيل بين أحدهم ومنطقه وانّه لبيّن أهله ينظر ببصره ويسمع باُذنه على صحّة من عقله وبقاء من لبّه يفكّر فيم أفنى عمره؟ و فيم أذهب دهره؟ ويتذكّر أموالا جمعها أغمض في مطالبها وأخذها من مصرحاتها ومشتبهاتها قد لزمته تبعات جمعها وأشرف على فراقها تبقى لمن وراءه ينعمون فيها ويتمتّعون بها»(14).
كما أنّ هذا المعلّم الكبير ينذر في مكان آخر البشرية فيقول: «إنّكم لو عاينتم ما قد عاين من مات منكم لجزعتم ووهلتم وسمعتم وأطعتم ولكن محجوب عنكم ما قد عاينوا وقريب ما يطرح الحجاب»(15).
ثمّ يضيف القرآن في ذيل الآية قائلا: {ذلك ما كنت منه تحيد}(16) أجل إنّ الموت حقيقة يهرب منها أغلب الناس لأنّهم يحسبونه فناءً لا نافذةً إلى عالم البقاء، أو أنّهم لعلائقهم وإرتباطاتهم الشديدة بالدنيا والمواهب المادية التي لهم فيها لا يستطيعون أن يصرفوا قلوبهم عنها، أو لسواد صحيفة أعمالهم.
أيّاً كان فهم منه يهربون .. ولكن ما ينفعهم ومصيرهم المحتوم في إنتظار الجميع ولا مفرّ لأحد منه، ولابدّ أن ينزلوا إلى حفرة الموت ويقال لهم هذا ما كنتم منه تفرّون!!.
وقائل هذا الكلام ربّما هو الله أو الملائكة أو الضمائر اليقظة أو الجميع!.
والقرآن بيّن هذه الحقيقة في آيات اُخر كما هو في الآية (78) من سورة النساء إذ يقول: { أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: 78]!.
وقد ينسى الإنسان المغرور جميع الحقائق التي يراها باُمّ عينيه على أثر حبّ الدنيا وحبّ الذات حتّى يبلغ درجةً يقسم فيها أنّه خالد كما يقول القرآن في هذا الصدد: {أو لم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال}.
ولكن سواء أقسم أم لم يقسم، وصدّق أم لم يصدّق فإنّ الموت حقيقة تحدق بالجميع وتحيق بهم ولا مفرّ لهم منها.
ثمّ يتحدّث القرآن عن النفخ في الصور فيقول: (ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد).
والمراد من «النفخ في الصور» هنا هو النفخة الثانية، لأنّه كما نوّهنا آنفاً فإنّ الصور ينفخ فيه مرّتين: فالنفخة الاُولى تدعى بنفخة الفَزَع أو الصعَق وهي التي تكون في نهاية الدنيا ويموت عند سماعها جميع الخلق ويتلاشى نظام العالم الدنيوي، والنفخة الثانية هي نفخة «القيام والجمع والحضور» وتكون في بداية البعث والنشور والقيامة وبها يحيى الناس جميعهم ويخرجون «وينسلون» من الأجداث والقبور إلى ربّهم وحساب «عدله» وجزائه.
«النفخ» معناه معروف، و«النفخة» بمعنى المرّة منه، و«الصور» هو المزمار أو «البوق» والذي يستعمل في القضايا العسكرية عادةً لجمع الجنود أو تفريقهم أو الإستعداد أو الذهاب للراحة والنوم، وإستعماله في صور إسرافيل نوع من الكناية والتشبيه «وقد بيّنا تفصيل هذا الموضوع في ذيل الآية 68 من سورة الزمر».
وعلى كلّ حال، فمع الإلتفات وملاحظة جملة «ذلك يوم الوعيد» يتّضح أنّ المراد من نفخة الصور هنا هو النفخة الثانية ويوم النشور والقيامة.
وفي الآية التالية بيان لحال الناس يوم المحشر بهذه الصورة: {وجاءت كلّ نفس معها سائق وشهيد}.
فالسائق يسوقه نحو محكمة عدل الله، والشهيد يشهد على أعماله! وهي كمحاكم هذا العالم إذ يسوق المأمورون المتّهمين ويأتون معهم للمحكمة ويشهد عليهم الشهود.
وإحتمل بعض المفسّرين أنّ السائق هومن يسوق الصالحين نحو الجنّة والطالحين نحو جهنّم، ولكن مع ملاحظة كلمة «الشهيد» معها يكون المعنى الأوّل وهو السوق نحو محكمة عدل الله أنسب.
ولكن من هما السائق والشهيد؟ أهما «ملكان» من الملائكة أو سواهما، هناك تفاسير متعدّدة.
قال بعضهم: إنّ «السائق» هو الملك الذي يكتب الحسنات، و«الشهيد» هو الملك الذي يكتب السيّئات، فيكون المراد بهما الملكين الوارد ذكرهما في الآيات المتقدّمة.
ويستفاد من بعض الرّوايات أنّ «السائق» ملك الموت و«الشهيد» رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولكن هذه الرّواية مع ملاحظة لحن الآيات تبدو ضعيفة.
وقال بعضهم: «السائق» الملك الذي يسوق كلّ إنسان و«الشهيد» عمل الإنسان.
كما قيل أنّ «السائق» ملك و«الشهيد» أعضاء جسم الإنسان أو صحيفة أعماله أو الكتاب الذي في عنقه.
ويحتمل أنّ السائق والشهيد ملك واحد، وعطف اللفظين بعضهما على الآخر هو لإختلاف الوصفين، أي أنّ مع الإنسان ملكاً يسوقه إلى محكمة عدل الله ويشهد عليه أيضاً.
إلاّ أنّ أغلب هذه التفاسير مخالف لظاهر الآية، وظاهر الآية كما فهم منه أغلب المفسّرين أنّ ملكين يأتيان مع كلّ إنسان، فواحد يسوقه والآخر يشهد على أعماله.
ومن الواضح أنّ شهادة بعض الملائكة لا تنفي وجود شهادة اُخرى لبعض الشهود في يوم القيامة، الشهود الذين هم من قبيل الأنبياء وأعضاء البدن، وصحائف الأعمال والزمان والمكان الذين وقع عمل الإنسان فيهما أو أثم فيهما.
وعلى كلّ حال فالملك الأوّل يمنع الإنسان عن الفرار، والملك الثاني يمنع عن الإنكار، وهكذا فإنّ كلّ إنسان في ذلك اليوم مبتلى بأعماله ولا مفرّ له من جزاء أعماله أبداً.
وهنا يخاطب المجرمون أو جميع الناس (فرداً فرداً) فيقال: {لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد}.
أجل، إنّ أستار عالم المادّة من الآمال والعلاقة بالدنيا والأولاد والمرأة والأنانية والغرور والعصبية والجهل والعناد وحبّ الذات لم تكن تسمح أن تنظر إلى هذا اليوم مع وضوح دلائل المعاد والنشور، فهذا اليوم ينفض عنك غبار الغفلة، وتماط عنك حجب الجهل والتعصّب واللجاجة، وتنشقّ أستار الشهوات والآمال، وما كان مستوراً وراء حجاب الغيب يبدو ظاهراً اليوم، لأنّ هذا اليوم يوم البروز ويوم الشهود ويوم تبلى السرائر!
ولذلك فقد وجدت عيناً حادّة البصر ويمكن أن تدرك جميع الحقائق بصورة جيّدة.
أجل، إنّ وجه الحقيقة لم يكن مخفياً ولا لثام على جمال الحبيب، ولكن ينبغي أن ينفض غبار الطريق ليمكن رؤيته.
إلاّ أنّ الغرق في بحر الطبيعة والإبتلاء بأنواع الحجب لا يسمحان للإنسان أن يرى الحقائق بصورة واضحة، لكنّه في يوم القيامة حيث تنقطع كلّ هذه العلائق فمن البديهي أن يحصل للإنسان إدراك جديد ونظرة ثاقبة، وأساساً فإنّ يوم القيامة يوم الظهور وبروز الحقائق!
حتّى في هذه الدنيا إستطاع البعض تخليص أنفسهم من قبضة الأهواء واتّباع الشهوات وأن يلقوا الحجب عن عيون قلوبهم لرزقوا بصراً حديداً يرون به الحقائق، أمّا أبناء الدنيا فمحرومين منه.
وينبغي الإلتفات إلى أنّ الحديد نوع من المعدن كما يطلق على السيف والمُدية، ثمّ توسّعوا فيه فأطلقوه على حدّة البصر وحدّة الذكاء، ومن هنا يظهر أنّ المراد بالبصر ليس العين الحقيقية الظاهرة، بل بصر العقل والقلب.
يقول الإمام علي (عليه السلام) في أولياء الله في أرضه: «هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة، وباشروا روح اليقين واستلانوا ما استعوره المترفون وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلّقة بالمحل الأعلى اُولئك خلفاء الله في أرضه والدعاة إلى دينه»(17).
_________________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج13 ، ص156-169.
2 ـ لمزيد الإيضاح يراجع ذيل الآيات (78) من سورة الحجر و(176) من سورة الشعراء.
3 ـ لمزيد الإيضاح يراجع ذيل الآية (37) من سورة الدخان.
4 ـ في الجملة الآنفة إيجاز حذف وتقدير الكلام في تماميته أن يقال «أفعيينا بالخلق الأوّل حتّى
نعجز عن الثاني».
5 ـ نور الثقلين، ج5، ص108.
6 ـ كلمة إذ في جملة (إذ يتلقّى المتلقّيان) ظرف متعلّق بمحذوف وتقديره واذكروا إذ يتلقّى المتلقّيان ولهذا المعنى ذهب إليه جماعة من المفسّرين، إلاّ أنّ جماعة اُخرى يرون بأنّ إذ متعلّقة بكلمة أقرب الواردة في الآية الآنفة إلاّ أنّ التّفسير الأوّل يبدو أصحّ لأنّ كلا من الجملتين «ونحن أقرب إليه من حبل الوريد» و« إذ يتلقّى المتلقّيان» إلخ تحتفظ بإستقلالها دون أن يتقيّد كلّ بالاُخرى ولا يتناسب الصدر والذيل في التّفسير الثاني.
7 ـ كلمة قعيد مفردة مع أنّ كلمة المتلقّيان تثنية لأنّ في الآية حذفاً وتقديرها إذ يتلقّى المتلقّيان عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد» وقد وقع هذا الحذف بقرينة ذكر الآخر.
10 ـ المصدر السابق.
9 ـ روح المعاني، ج26، ص165 ذيل الآيات محل البحث، وهذا المضمون نفسه منقول عن الإمام الصادق في كتاب الكافي وكذلك بحار الأنوار، ج59، ص187 في الرّوايتين 34 و35».
10 ـ الضمير في لديه يرجع إلى كلمة قول كما يحتمل أن يكون عائداً على الذي يلفظ القول، إلاّ أنّ الإحتمال الأوّل أنسب.
11 ـ اُصول الكافي طبقاً لما نقل في نور الثقلين، ج5، ص110.
12 ـ السَكر ـ على زنة المكر ـ معناه في الأصل سدّ طريق الماء، والسِكر ـ على زنة الفكر ـ معناه المحلّ المسدود، وحيث أنّ حالة الثمل تقع حاجزاً وسدّاً بين الإنسان وعقله فقد سمّيت بالسُكر على زنة الشُكر.
13 ـ روح المعاني، ج9، ص118.
14 ـ نهج البلاغة، الخطبة 109.
15 ـ نهج البلاغة، الخطبة 200.
16 ـ كلمة تحيد مشتقّة من مادّة حيد ـ على وزن صيد ـ ومعناها العدول عن الشيء والفرار منه ..
17 ـ نهج البلاغة ـ الكلمات القصار ـ الكلمة 147.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|