أقرأ أيضاً
التاريخ: 22-9-2017
1126
التاريخ: 22-9-2017
1137
التاريخ: 22-9-2017
837
التاريخ: 22-9-2017
927
|
قال تعالى : {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُو الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ } [الحديد: 7 - 11].
خاطب سبحانه المكلفين فقال {آمنوا بالله} معاشر العقلاء أي صدقوا الله وأقروا بوحدانيته وإخلاص العبادة له {ورسوله} أي وصدقوا رسوله واعترفوا بنبوته {وأنفقوا} في طاعة الله والوجوه التي أمركم بالإنفاق فيها {مما جعلكم مستخلفين فيه} أي من المال الذي استخلفكم الله فيه بوراثتكم إياه عمن قبلكم عن الحسن ونبه سبحانه بهذا على أن ما في أيدينا يصير لغيرنا كما صار إلينا ممن قبلنا وحثنا على استيفاء الحظ منه قبل أن يصير(2) لغيرنا.
ثم بين سبحانه ما يكافيهم على ذلك إذا فعلوه فقال {فالذين آمنوا منكم} بالله ورسوله {وأنفقوا} في سبيله {لهم أجر كبير} أي جزاء وثواب عظيم دائم لا يشوبه كدر ولا تنغيص ثم وبخهم سبحانه فقال {وما لكم لا تؤمنون بالله} أي وأي شيء يمنعكم من الإيمان بالله مع وضوح الدلائل على وحدانيته {والرسول يدعوكم} إلى ما ركب الله في عقولكم من معرفة الصانع وصفاته {لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثاقكم} بما أودع الله في قلوبكم من دلالات العقل الموصلة إلى الإيمان به فإن الميثاق هو الأمر المؤكد الذي يجب العمل به.
{إن كنتم مؤمنين} أي إن كنتم مصدقين بحق فالآن فقد ظهرت أعلامه ووضحت براهينه والمعنى أي عذر لكم في ترك الإيمان وقد أزاحت(3) العلل وارتفعت الشبه ولزمتكم الحجج العقلية والسمعية فالعقلية ما في فطرة العقول والسمعية دعوة الرسول المؤيدة بالأدلة المؤدية إلى المدلول والذي يبين هذا قوله {هو الذي ينزل على عبده} يعني محمدا (صلى الله عليه وآله وسلّم) {آيات بينات} أي حججا منيرة وبراهين واضحة {ليخرجكم} الله بالقرآن والأدلة وقيل ليخرجكم الرسول بالدعوة وقيل ليخرجكم المنزل والأول أوجه {من الظلمات إلى النور} أي من الكفر إلى الإيمان بالتوفيق والهداية والألطاف والأدلة {وإن الله بكم لرءوف رحيم} حين بعث الرسول ونصب الأدلة والرأفة والرحمة واحد وإنما جمع بينهما للتأكيد وقيل الرأفة النعمة على المضرور والرحمة النعمة على المحتاج وفي هذا دلالة على بطلان مذهب أهل الجبر فإنه بين أن الغرض في إنزال القرآن الإيمان به.
ثم حثهم سبحانه على الإنفاق فقال {وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله} أي أي شيء لكم في ترك الإنفاق فيما يقرب إلى الله تعالى {ولله ميراث السماوات والأرض} يعني يفني الخلق ويبقى هو والمعنى فيه أن الدنيا وأموالها ترجع إلى الله فلا يبقى لأحد فيها ملك ولا أمر كما يرجع الميراث إلى مستحقيه فاستوفوا حظكم من أموالكم قبل أن تخرج من أيديكم ثم بين سبحانه فضل من سبق بالإنفاق في سبيل الله فقال {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا} بين سبحانه أن الإنفاق قبل فتح مكة إذا انضم إليه الجهاد أكثر ثوابا عند الله من النفقة والجهاد بعد ذلك وذلك أن القتال قبل الفتح كان أشد والحاجة إلى النفقة وإلى الجهاد كان أكثر وأمس وفي الكلام حذف تقديره لا يستوي هؤلاء مع الذين أنفقوا بعد الفتح فحذف لدلالة الكلام عليه وقال الشعبي أراد فتح الحديبية.
ثم سوى سبحانه بين الجميع في الوعد بالخير والثواب في الجنة فقال {وكلا وعد الله الحسنى} أي الجنة والثواب فيها وأن تفاضلوا في مقادير ذلك {والله بما تعملون خبير} أي لا يخفى عليه شيء من إنفاقكم وجهادكم فيجازيكم بحسب نياتكم وبصائركم وإخلاصكم في سرائركم .
ثم حث سبحانه على الإنفاق فقال {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا} أي طيبة به نفسه عن مقاتل وقد تقدم تفسيره في سورة البقرة {فيضاعفه له} أي يضاعف له لجزاء من بين سبع إلى سبعين إلى سبعمائة وقال أهل التحقيق القرض الحسن أن يجمع عشرة أوصاف أن يكون من الحلال لأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال ((إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا الطيب)). وأن يكون من أكرم ما يملكه دون أن يقصد الرديء بالإنفاق لقول {ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون}.
وأن يتصدق وهو يحب المال ويرجو الحياة لقوله لما سئل عن (4)الصدقة : ((أفضل الصدقة أن تعطيه وأنت صحيح شحيح تأمل العيش وتخشى الفقر ولا تمهل حتى إذا بلغت النفس التراقي قلت لفلان كذا ولفلان كذا)) وأن يضعه في الأخل الأحوج الأولى بأخذه ولذلك خص الله أقواما بأخذ الصدقات وهم أهل السهمان وأن يكتمه ما أمكن لقوله وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم وأن لا يتبعه المن والأذى لقوله {لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى} وأن يقصد به وجه الله ولا يرائي بذلك لأن الرياء مذموم وأن يستحقر ما يعطي وإن كثر لأن متاع الدنيا قليل وأن يكون من أحب ماله إليه لقوله {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} فهذه الأوصاف العشرة إذا استكملتها الصدقة كان ذلك قرضا حسنا.
{وله أجر كريم} أي جزاء خالص لا يشوبه صفة نقص فالكريم الذي من شأنه أن يعطي الخير الكثير فلما كان ذلك الأجر يعطي النفع العظيم وصف بالكريم والأجر الكريم هو الجنة.
____________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج9 ، ص385-390.
2- في نسخة : ((يصير الامر لغيرنا)).
3- في نسختين : ((وقد انزاحت)).
4- في نسختين : عن افضل ..
قال تعالى :{آمِنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ وأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} . حث سبحانه على الإنفاق ورغَّب فيه بشتى الأساليب ، وهدد من بخل وأمسك بأشد العذاب . . ومن أساليب القرآن في الحث على الإنفاق في سبيل اللَّه هذه الآية التي ساوت بين الأمر بالايمان باللَّه ورسوله وبين الأمر بالإنفاق ، وتومئ هذه المساواة إلى ان من يبخل ويمسك فهو كافر - عمليا - باللَّه ورسوله وان آمن بهما نظريا . . وأيضا تشير الآية إلى أن الأغنياء لا ينفقون من ملكهم وأموالهم ، وانما ينفقون مما هم وكلاء فيه .
وروى الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري انه خرج مرة مع رسول اللَّه (صلى الله عليه واله وسلم) نحو أحد فقال له الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) : يا أبا ذر أتبصر هذا الجبل ؟ . فقال : نعم يا رسول اللَّه . قال : ما أحب أن يكون لي مثله ذهبا أنفقه في سبيل اللَّه ، أموت وأترك منه قيراطين . فقال أبو ذر : أو قنطارين يا رسول اللَّه . قال : بل قيراطين .
أنظر تفسير الآية 180 من سورة آل عمران ج 2 ص 217 فقرة {الغني وكيل لا أصيل} .
{وما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} . المراد بالميثاق هنا وجوب العمل بما دل عليه الدليل القاطع ، وما أكثر الأدلة على وجوب الايمان باللَّه . . وتقدم بيان الكثير منها عند تفسير
الآيات الكونية ، من ذلك ما ذكرناه عند تفسير الآية 83 من سورة الإسراء ج 5 ص 79 فقرة {علم الخلايا} ، كما تقدم ذكر الأدلة على نبوة محمد (صلى الله عليه واله وسلم) عند تفسير الآيات التي تشير إلى ذلك ، ومنها ما ذكرناه قريبا عند تفسير الآية 77 من سورة الواقعة فقرة (الإسلام وقادة الفكر الأوروبي) .
ومحصل الآية التي نحن بصددها : كيف تعرضون عن دعوة الرسول إلى الايمان باللَّه والى ما يحييكم ، وقد قامت الأدلة الكافية الوافية على وجود اللَّه ووحدانيته ، وصدق الرسول في نبوته ودعوته ؟ . قال الرازي : ان تلك الدلائل لما اقتضت وجوب العمل بها كانت أوكد من الحلف واليمين ، ولذلك سمّاه سبحانه ميثاقا .
{هُو الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ} .
أرسل سبحانه محمدا (صلى الله عليه واله وسلم) بالحجة الكافية والموعظة الشافية ليخرج الناس من طاعة الشيطان إلى طاعة الرحمن ، من الضلال والفساد إلى الهدى والصلاح ، وخوّفهم الرسول من سطوة اللَّه وعذابه إذا أعرضوا ، ووعدهم بالحسنى وجزيل الثواب إذا استجابوا وأطاعوا وقال لهم : {وإِنَّ اللَّهً بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} . ان اللَّه بعباده رؤوف رحيم ، وبرّ كريم ، يلطف بهم من حيث لا يعلمون ، ويمهد لهم سبل الخير من حيث لا يحتسبون ، وينعم عليهم وهم يتمردون .
{وما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ولِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ والأَرْضِ} ؟ .
كل ما في يد الإنسان من مال وحطام فهو عارية يتركه لمن بعده . . وهكذا حتى الإنسان الأخير ، فإذا ذهب إلى ربه فلا وارث حينئذ إلا اللَّه وحده : {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ ومَنْ عَلَيْها وإِلَيْنا يُرْجَعُونَ} - 40 مريم وما دام الأمر كذلك ، فلما ذا الشح بالمال والإمساك عن البذل في سبيل اللَّه ؟ . وفي نهج البلاغة : عجبت للبخيل يستعجل الفقر الذي منه هرب ، ويفوته الغنى الذي إياه طلب ، فيعيش في الدنيا عيش الفقراء ، ويحاسب في الآخرة حساب الأغنياء ! .
{لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وقاتَلَ} . المقابل الثاني لقوله : لا يستوي محذوف أي ومن أنفق وقاتل بعد فتح مكة ، وتوضيح المعنى ان الشيء قد يقاس بالكم والكيف معا كالأطعمة والأشربة والألبسة والمجوهرات ، فإن ثمن
هذه وما إليها يقدر بالحجم والمنفعة معا ، وقد يقاس بالكم فقط كأصوات الذين ينتخبون المخاتير والنواب ومن إليهم من الرؤساء ، فإن صوت العالم والجاهل والعادل والفاجر سواء بالنسبة لفوز المرشح أو فشله ، وقد يقاس بالكيف فقط كالدواء حيث يقدر بأثره شفاء ووقاية . . والبذل من هذا الباب فقد ينفق الإنسان على معبد - مثلا - عشرات الألوف ولا يكون له من الأجر عند اللَّه ما لرغيف ينقذ به جائعا من الهلاك . . ومن هنا نفى سبحانه المساواة بين من أنفق وقاتل قبل فتح مكة وبين من أنفق وقاتل بعده حيث كان المسلمون قبل الفتح في ضيق وحرج ، وكان الكافرون في سعة وقوة ، أما بعد الفتح فعلى العكس ، ضعف الكفر ، وقوي الإسلام .
{أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وقاتَلُوا وكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى واللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} . أولئك إشارة إلى السابقين الأولين ، والمعنى ان لكل من السابق واللاحق في الخيرات أجره وثوابه عند اللَّه ، ولكن مع التفاوت في الدرجات والمراتب : {ولِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ولِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وهُمْ لا يُظْلَمُونَ} - 19 الأحقاف . وبكلمة ان السابقين المقربين هم من الصنف الأول الذين ذكرهم سبحانه وما أعد لهم في الآية 10 وما بعدها من سورة الواقعة ، وأصحاب اليمين من الصنف الثاني ، وقد ذكر سبحانه ما أعده لهم في الآية 67 وما بعدها من سورة الواقعة أيضا {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهً قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ ولَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} . المراد بالإقراض هنا النفقة لأن اللَّه غني عن العالمين . وفي نهج البلاغة : (لم يستنصركم اللَّه من ذل ، ولم يستقرضكم من قلّ ، استنصركم وله جنود السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم ، واستقرضكم وله خزائن السماوات والأرض وهو الغني الحميد . أراد أن يبلوكم أيكم أحسن عملا) . وتقدم مثله مع التفسير مفصلا في الآية 245 من سورة البقرة ج 1 ص 374 .
_______________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7 ، ص241-243.
أمر مؤكد بالإنفاق في سبيل الله وخاصة الجهاد على ما يؤيده قوله: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل} الآية، ويتأيد بذلك ما قيل: إن قوله: {آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا} إلخ، نزل في غزوة تبوك.
قوله تعالى: {آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه} إلخ، المستفاد من سياق الآيات أن الخطاب في الآية للمؤمنين بالله ورسوله لا للكفار ولا للمؤمنين والكفار جميعا كما قيل، وأمر الذين تلبسوا بالإيمان بالله ورسوله بالإيمان معناه الأمر بتحقيق الإيمان بترتيب آثاره عليه إذ لو كانت صفة من الصفات كالسخاء والعفة والشجاعة ثابتة في نفس الإنسان حق ثبوتها لم يتخلف عنها أثرها الخاص ومن آثار الإيمان بالله ورسوله الطاعة فيما أمر الله ورسوله به.
ومن هنا يظهر أولا: أن أمر المؤمن بالإيمان في الحقيقة أمر للمتحقق بمرتبة من الإيمان أن يتلبس بمرتبة هي أعلى منها، وهذا النوع من الأمر فيه إيماء إلى أن الذي عند المأمور من المأمور به لا يرضي الآمر كل الإرضاء.
وثانيا: أن قوله: {آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا} أمر بالإنفاق مع التلويح إلى أنه أثر صفة هم متلبسون بها فعليهم أن ينفقوا لما اتصفوا بها فيئول إلى تعليل الإنفاق بإيمانهم.
وقوله: {وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه} استخلاف الإنسان جعله خليفة، والمراد به إما خلافتهم عن الله سبحانه يخلفونه في الأرض كما يشير إليه قوله: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً } [البقرة: 30] ، والتعبير عما بأيديهم من المال بهذا التعبير لبيان الواقع ولترغيبهم في الإنفاق فإنهم إذا أيقنوا أن المال لله وهم مستخلفون عليه وكلاء من ناحيته يتصرفون فيه كما أذن لهم سهل عليهم إنفاقه ولم تتحرج نفوسهم من ذلك.
وإما خلافتهم عمن سبقهم من الأجيال كما يخلف كل جيل سابقه، وفي التعبير به أيضا ترغيب في الإنفاق فإنهم إذا تذكروا أن هذا المال كان لغيرهم فلم يدم عليهم علموا أنه كذلك لا يدوم لهم وسيتركونه لغيرهم وهان عليهم إنفاقه وسخت بذلك نفوسهم.
وقوله: {فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير} وعد للأجر على الإنفاق تأكيدا للترغيب، والمراد بالإيمان الإيمان بالله ورسوله.
قوله تعالى: {وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم} إلخ، المراد بالإيمان الإيمان بحيث يترتب عليه آثاره ومنها الإنفاق في سبيل الله - وإن شئت فقل: المراد ترتيب آثار ما عندهم من الإيمان عليه -.
وقوله: {والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم} عبر الرب بالرب وإضافة إليهم تلويحا إلى علة توجه الدعوة والأمر كأنه قيل: يدعوكم لتؤمنوا بالله لأنه ربكم يجب عليكم أن تؤمنوا به.
وقوله: {وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين} تأكيد للتوبيخ المفهوم من أول الآية، وضمير {أخذ} لله سبحانه أو للرسول وعلى أي حال المراد بالميثاق المأخوذ هو الذي تدل عليه شهادتهم على وحدانية الله ورسالة رسوله يوم آمنوا به (صلى الله عليه وآله وسلم) من أنهم على السمع والطاعة.
وقيل: المراد بالميثاق هو الميثاق المأخوذ منهم في الذر، وعلى هذا فضمير {أخذ} لله سبحانه، وفيه أنه بعيد عن سياق الاحتجاج عليهم فإنهم غافلون عنه، على أن أخذ الميثاق في الذر لا يختص بالمؤمنين بل يعم المنافقين والكفار.
قوله تعالى: {هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور} إلخ، المراد بالآيات البينات آيات القرآن الكريم المبينة لهم ما عليهم من فرائض الدين، وفاعل {ليخرجكم} الضمير العائد إلى الله أو إلى رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومرجع الثاني أيضا هو الأول فالميثاق ميثاقه وقد أخذه بواسطة رسوله أو بغير واسطته كما أن الإيمان به وبرسوله إيمان به ولذلك قال في صدر الآية: {وما لكم لا تؤمنون بالله} فذكر نفسه ولم يذكر رسوله إشارة إلى أن الإيمان برسوله إيمان به.
وقوله: {وإن الله بكم لرءوف رحيم} في تذييل الآية برأفته تعالى ورحمته إشارة إلى أن الإيمان الذي يدعوهم إليه رسوله خير لهم وأصلح وهم الذين ينتفعون به دون الله ورسوله، ففيه تأكيد ترغيبهم على الإيمان والإنفاق.
قوله تعالى: {وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السماوات والأرض} الميراث والتراث المال الذي ينتقل من الميت إلى من بقي بعده من وراثه، وإضافة الميراث إلى السماوات والأرض بيانية فالسماوات والأرض هي الميراث بما فيهما من الأشياء التي خلق منهما مما يمتلكه ذوو الشعور من سكنتهما فالسماوات والأرض شاملة لما فيهما مما خلق منهما ويتصرف فيها ذوو الشعور كالإنسان مثلا بتخصيص ما يتصرفون فيه لأنفسهم وهو الملك الاعتباري الذي هداهم الله سبحانه إلى اعتباره فيما بينهم لينتظم بذلك جهات حياتهم الدنيا.
غير أنهم لا يبقون ولا يبقى لهم بل يذهبهم الموت المقدر بينهم فينتقل ما في أيديهم إلى من بعدهم وهكذا حتى يفنى الجميع ولا يبقى إلا هو سبحانه.
فالأرض مثلا وما فيها وعليها من مال ميراث من جهة أن كل جيل من سكانها يرثها ممن قبله فكانت ميراثا دائما دائرا بينهم خلفا عن سلف، وميراث من جهة أنهم سيفنون جميعا ولا يبقى لها إلا الله الذي استخلفهم عليها.
ولله سبحانه ميراث السماوات والأرض بكلا المعنيين، أما الأول: فلأنه الذي يملكهم المال وهو المالك لما ملكهم، قال تعالى: { لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [لقمان: 26] ، وقال: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور: 42] ، وقال: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ } [النور: 33].
وأما الثاني: فظاهر آيات القيامة كقوله تعالى: { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } [الرحمن: 26] وغيره، والذي يسبق إلى الذهن أن المراد بكونهما ميراثا هو المعنى الثاني.
وكيف كان ففي الآية توبيخ شديد لهم على عدم إنفاقهم في سبيل الله من المال الذي لا يرثه بالحقيقة إلا هو تعالى ولا يبقى لهم ولا لغيرهم، والإظهار في موضع الإضمار في قوله: {ولله} لتشديد التوبيخ.
قوله تعالى: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا} إلخ، الاستواء بمعنى التساوي، وقسيم قوله: {من أنفق من قبل الفتح وقاتل} محذوف إيجازا لدلالة قوله: {أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا} عليه.
والمراد بالفتح - كما قيل - فتح مكة أو فتح الحديبية وعطف القتال على الإنفاق لا يخلو من إشعار بل دلالة على أن المراد بالإنفاق في سبيل الله المندوب إليه في الآيات هو الإنفاق في الجهاد.
وكان الآية مسوقة لبيان أن الإنفاق في سبيل الله كلما عجل إليها كان أحب عند الله وأعظم درجة ومنزلة وإلا فظاهر أن هذه الآيات نزلت بعد الفتح والقتال الذي بادروا إليه قبل الفتح وبعض المقاتل التي بعده.
وقوله: {وكلا وعد الله الحسنى} أي وعد الله المثوبة الحسنى كل من أنفق وقاتل قبل الفتح أو أنفق وقاتل بعده وإن كانت الطائفة الأولى أعظم درجة من الثانية، وفيه تطييب لقلوب المتأخرين إنفاقا وقتالا أن لهم نيلا من رحمته وليسوا بمحرومين مطلقا فلا موجب لأن ييأسوا منها وإن تأخروا.
وقوله: {والله بما تعملون خبير} تذييل متعلق بجميع ما تقدم ففيه تشديد للتوبيخ وتقرير وتثبيت لقوله: {لا يستوي منكم} إلخ، ولقوله: {وكلا وعد الله الحسنى} ويمكن أن يتعلق بالجملة الأخيرة لكن تعلقه بالجميع أعم وأشمل.
قوله تعالى: {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له وله أجر كريم} قال الراغب: وسمي ما يدفع إلى الإنسان من المال بشرط رد بدله قرضا.
انتهى، وقال في المجمع،: وأصله القطع فهو قطعة عن مالكه بإذنه على ضمان رد مثله.
قال: والمضاعفة الزيادة على المقدار مثله أو أمثاله.
انتهى، وقال الراغب: الأجر والأجرة ما يعود من ثواب العمل دنيويا كان أو أخرويا قال: ولا يقال إلا في النفع دون الضر بخلاف الجزاء فإنه يقال في النفع والضر.
انتهى ملخصا.
وما يعطيه تعالى من الثواب على عمل العبد تفضل منه من غير استحقاق من العبد فإن العبد وما يأتيه من عمل ملك طلق له سبحانه ملكا لا يقبل النقل والانتقال غير أنه اعتبر اعتبارا تشريعيا العبد مالكا وملكه عمله، وهو المالك لما ملكه وهو تفضل آخر ثم اختار ما أحبه من عمله فوعده ثوابا على عمله وسماه أجرا وجزاء وهو تفضل آخر، ولا ينتفع به في الدنيا والآخرة إلا العبد قال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ } [آل عمران: 172] ، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } [فصلت: 8] ، وقال بعد وصف الجنة ونعيمها: { إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا} [الإنسان: 22] ، وما وعده من الشكر وعدم المن عند إيتاء الثواب تمام التفضل.
وفي الآية حث بليغ على ما ندب إليه من الإنفاق في سبيل الله حيث استفهم عن الذي ينفق منهم في سبيل الله ومثل إنفاقه بأنه قرض يقرضه الله سبحانه وعليه أن يرده ثم قطع أنه لا يرد مثله إليه بل يضاعفه ولم يكتف بذلك بل أضاف إليه أجرا كريما في الآخرة والأجر الكريم هو المرضي في نوعه والأجر الأخروي كذلك لأنه غاية ما يتصور من النعمة عند غاية ما يتصور من الحاجة.
_______________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج19 ، ص132-136.
الإيمان والإنفاق أساسان للنجاة
بعد البيان الذي تقدّم حول دلائل عظمة الله في عالم الوجود وأوصاف جماله وجلاله، تلك الصفات المحفّزة للحركة باتّجاه الله تعالى، ننتقل الآن إلى جو هذه الآيات المفعم بالدعوة للإيمان والعمل ..
يقول سبحانه في البداية {آمنوا بالله ورسوله} إنّ هذه الدعوة دعوة عامّة لجميع البشر، فهي تدعو المؤمنين إلى إيمان أكمل وأرسخ، وتدعوـ أيضاً ـ غير المؤمنين إلى التصديق والإيمان بما جاء به الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهذه الدعوة إلى الإيمان جاءت توأماً مع أدلّة التوحيد التي تناولتها الآيات التوحيدية السابقة.
ثمّ يدعو إلى أحد الإلتزامات المهمّة للإيمان وهي: (الإنفاق في سبيل الله) حيث يقول تعالى: {وأنفقوا ممّا جعلكم مستخلفين فيه}.
إنّها دعوة إلى الإيثار والتضحية، وذلك بالإنفاق والعطاء ممّا منّ الله به على الإنسان، ولكن هذه الدعوة مصحوبة بملاحظة، وهي أنّ المالك الحقيقي هو الله عزّوجلّ، وهذه الأموال والممتلكات قد وضعها الله عند الإنسان بعنوان أمانة لفترة محدودة، كما وضعت كذلك بإختيار الأقوام السابقة.
والحقيقة أنّها كذلك، إذ مرّ بنا في الآيات السابقة أنّ المالك الحقيقي لكلّ العالم هو الله سبحانه، وأنّ الإيمان بهذه الحقيقة والعمل بها تبيّن أنّنا اُمناء على ما إستخلفنا به من قبل الله تعالى، ولابدّ للمؤمن من أن يأخذ بنظر الإعتبار أمر صاحب الأمانة.
الإيمان بهذه الحقيقة يمنح الإنسان روح السخاء والإيثار ويفتح قلبه ويديه على الإنفاق.
عبارة (مستخلفين) قد تكون إشارة إلى أنّ الإنسان خليفة الله تعالى على الأرض، أو أنّه مستخلف عن الأقوام السابقة أوكلا المعنيين.
وتعبير (ممّا) تعبير عام ولا يشمل الأموال فحسب بل كلّ الممتلكات والهبات الإلهيّة. وهنا يعني أنّ للإنفاق مفهوماً واسعاً ولا ينحصر بالمال فقط، بل يشمل ـ أيضاً ـ العلم والهداية والسمعة الإجتماعية ورؤوس الأموال المعنوية والمادية.
ثمّ يقول تعالى في الحثّ على الإنفاق: {فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير}.
إنّ وصف الأجر بأنّه «كبير» إشارة إلى عظمة الألطاف الإلهية والهبات الإلهية، وأبديّتها وخلوصها ودوامها ليس في الآخرة فحسب، بل في عالم الدنيا أيضاً حيث أنّ قسماً من الأجر سوف يكون من نصيب الإنسان في الدنيا.
وبعد الأمر بالإيمان والإنفاق يعطي بياناً لكلّ منهما، وهو بمثابة الإستدلال والبرهان، وذلك بصورة إستفهام توبيخي إبتداءاً، حيث يستفسر عن علّة عدم قبول دعوة الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حول الإيمان بالله فيقول سبحانه: {وما لكم لا تؤمنون بالله والرّسول يدعوكم لتؤمنوا بربّكم وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين) يعني أنّكم إذا كنتم مستعدّين حقيقة وصدقاً لقبول الحقّ، فإنّ دلائله واضحة عن طريق الفطرة والعقل، وكذلك عن طريق النقل.
وهذا رسول الله قد أتى لكم بدلائل واضحة وآيات ومعجزات باهرة، وهذه آثار الله سبحانه في عالم الخلق وفي أنفسكم وقد أخذ نوعاً من العهد التكويني منكم، فآمنوا به، إلاّ أنّكم ـ مع الأسف ـ لا تقيمون وزناً لعقلكم وفطرتكم، وكذلك لا تعيرون إهتماماً لتوجيهات الوحي، ويبدو أنّكم غير مستعدّين ومهيّئين للإيمان أصلا، وقد غلب الجهل والتعصّب والتقليد الأعمى على أفكاركم ونفوسكم.
ويتوضّح ممّا قلناه أنّ المقصود من جملة {إن كنتم مؤمنين} هو أنّكم إذا كنتم مستعدّين للإيمان بشيء وتقبلون أدلّته فهذا هو محلّه، لأنّ دلائله واضحة من كلّ جهة.
والنقطة الجديرة بالملاحظة هنا هي معرفة السبب الذي يمنع هؤلاء الذين شاهدوا الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وسمعوا دعوته مباشرةً وبلا واسطة، وشاهدوا معجزاته بأعينهم، من الإيمان بدعوته.
في هذا الصدد نقرأ الحديث التالي: أنّ الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لأصحابه يوماً: (أيّ المؤمنين أعجب إليكم إيماناً؟» قالوا: الملائكة. قال: «وما لهم لا يؤمنون وهم عند ربّهم؟» قالوا: الأنبياء. قال: «وما لهم لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم؟» قالوا: نحن. قال: «وما لكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم؟ ولكن أعجب المؤمنين إيماناً قوم يجيئون بعدكم يجدون صحفاً يؤمنون بها»(2).
وهذه حقيقة لا غبار عليها، وهي أنّ الأشخاص الذين يطلّون على عالم الوجود بعد سنوات طويلة من رحلة الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ويشاهدون آثاره في الكتب ـ فقط ـ ويؤمنون بأحقيّة دعوته، فإنّ لهم ميزة كبيرة على الآخرين.
إنّ التعبير بـ «الميثاق» يمكن أن يكون إشارة إلى الفطرة التوحيدية أو الدلائل العقلية التي بمعرفتها يتبيّن للإنسان (نظام الخلقة)، وعبارة (بربّكم) إشارة إلى التدبير الإلهي في عالم الخلقة، وهو شاهد على هذا المعنى أيضاً.
واعتبر البعض كلمة (ميثاق) إشارة إلى (عالم الذرّ) إلاّ أنّ هذا المعنى مستبعد إلاّ أن يراد به التّفسير الذي ذكرناه سابقاً لعالم الذرّ(2).
وجاءت الآية اللاحقة لتأكيد وتوضيح نفس هذا المعنى حيث تقول: {هو الذي ينزّل على عبده آيات بيّنات ليخرجكم من الظلمات إلى النور وإنّ الله بكم لرؤوف رحيم}.
فسّر البعض {آيات بيّنات) هنا بكلّ المعجزات، وقال قسم آخر: إنّه (القرآن الكريم) إلاّ أنّ مفهوم الآية واسع يستوعب كلّ ذلك، بالرغم من أنّ التعبير {ينزّل)يناسب (القرآن) أكثر، هذا الكتاب العظيم الذي يمزّق حجب ظلام الكفر والجهل والضلال ويشرق شمس الوعي والإيمان في النفوس، والذي هو رحمة ونعمة إلهيّة عظيمة.
أمّا التعبير بـ {لرؤوف رحيم) فهو إشارة لطيفة إلى حقيقة أنّ هذه الدعوة الإلهية العظيمة إلى الإيمان والإنفاق تمثّل مظهراً من مظاهر الرحمة الإلهيّة التي جاءت إليكم جميعاً، كما أنّ جميع بركاتها في هذا العالم والعالم الآخر ترجع إليكم.
وسؤال يثار هنا وهو: هل يوجد إختلاف بين (الرؤوف) وبين (الرحيم)؟ وما هي خصوصيات كلّ منهما؟
ذكر المفسّرون في ذلك آراء، والمناسب من بين كلّ الآراء التي ذكرت هو: أنّ كلمة (رؤوف) جاءت هنا إشارة إلى محبّته ولطفه الخاص بالنسبة إلى المطيعين، في حين أنّ كلمة (رحيم) إشارة إلى رحمته بخصوص العاصين.
قال البعض: إنّ «الرأفة» تقال للرحمة قبل ظهورها، و«الرحمة» تعبير يطلق على الحالة بعد ظهورها.
ثمّ يأتي إستدلال آخر على ضرورة الإنفاق حيث يقول تعالى: {وما لكم ألاّ تنفقوا في سبيل الله، ولله ميراث السماوات والأرض} أي أنّكم سترحلون عن هذه الدنيا وتتركون كلّ ما منحكم الله فيها، وتذهبون إلى عالم آخر، فلماذا لا تستفيدون من هذه الأموال التي جعلها الله تحت تصرفكم بتنفيذ أمره بالإنفاق؟.
(ميراث) في الأصل ـ كما قال الراغب في المفردات ـ هي الأموال التي تنتقل للإنسان بدون إتّفاق مسبق، وما ينتقل من الميّت إلى ورثته هو أحد مصاديق ذلك، ولكن لكثرة إستعمالها بهذا المعنى يتداعى لسامعها هذا المعنى عند إطلاقها.
وجملة {لله ميراث السماوات والأرض} بمعنى ليست جميع الأموال والثروات الموجودة فوق الأرض، بل كلّ ما هو في السماء والأرض وعالم الوجود يرجع إليه، حيث تموت جميع الخلائق والله سبحانه هو الوارث لها جميعاً.
ولأنّ للإنفاق قيماً مختلفة وأحوالا متفاوتة الشرائط والظروف، يضيف سبحانه: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل}(4).
هناك إختلاف بين المفسّرين حول المقصود من كلمة «الفتح» التي وردت في الآية، فقد إعتبرها البعض إشارة لفتح مكّة في السنة الثامنة للهجرة، وإعتبرها آخرون إشارة إلى فتح الحديبية في السنة السادسة للهجرة.
وبالنظر إلى أنّ كلمة «الفتح» فسّرت (بفتح الحديبية) في سورة: {إنّا فتحنا لك فتحاً مبيناً} فالمناسب هنا أن يكون المقصود بها فتح الحديبية أيضاً. إلاّ أنّ كلمة (قاتل) تناسب فتح مكّة، لأنّه لم يحصل قتال في صلح الحديبية، بعكس فتح مكّة الذي حصل فيه قتال سريع وقصير، إذ لم يواجه بمقاومة شديدة.
ويحتمل أيضاً أن يكون المراد من «الفتح» في هذه الآية هو جنس الفتح، والذي يمثّل إنتصار كلّ المسلمين في الحروب الإسلامية. والمقصود إجمالا أنّ الذين بذلوا المال والنفس في الظروف الحرجة مفضّلون على الذين ساعدوا الإسلام بعد سكون الموج وهدوء العاصفة، لذلك وللتأكيد أكثر يضيف تعالى: {اُولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا}.
والعجيب هنا أنّ بعض المفسّرين الذين اعتبروا مقصود الآية هو فتح مكّة، أو فتح الحديبية، اعتبروا مصداق المنفق في هذه الآية هو «أبوبكر». في حين أنّه ممّا لا شكّ فيه أنّ عدّة حروب وغزوات حصلت بين هجرة الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ونزول آية الفتح والذي إستغرق من (6 ـ 8) سنوات، وفي هذه الفترة قاتل وأنفق الآلاف من الأشخاص في طريق الإسلام، إذ شارك في فتح مكّة فقط عشرة آلاف شخص، طبقاً لما ورد في كتب التاريخ. ومن الواضح أنّ أعداداً كبيرة في هذه المجموعة قدّمت الكثير من الأموال في سبيل الله وأعانت الإسلام في المجهود الحربي، وواضح أنّ كلمة (قبل) تعني الإنفاق في مشارف هذا الفتح وليس في بداية الإسلام وقبل إحدى وعشرين سنة.
يجدر الإنتباه إلى أنّ بعض المفسّرين يصرّون على أنّ الإنفاق أفضل من الجهاد، وذلك إنسجاماً مع رأيهم السابق، ويدلّلون على صحّته من خلال ما ورد في الآية أعلاه من تقديم الإنفاق المالي على الجهاد بإعتبار أنّ الوسائل والمقدّمات والآلات الحربية، تتهيّأ بواسطته. إلاّ أنّ ممّا لا شكّ فيه أنّ بذل النفس والتهيّؤ للشهادة أعلى وأفضل من الإنفاق المالي.
وعلى كلّ حال، بما أنّ القسمين (الإنفاق والجهاد) مشمولان بعناية الحقّ تعالى مع إختلاف الدرجة، فيضيف في النهاية {وعد الله الحسنى).
وهذا تقدير لعموم الأشخاص الذين ساهموا في هذا الطريق.
وكلمة (حسنى) لها مفهوم واسع، حيث تشمل كلّ ثواب وجزاء وخير في الدنيا والآخرة.
ولكون قيمة العمل بإخلاصه لله سبحانه فيضيف في نهاية الآية: {والله بما تعملون خبير}.
نعم، إنّه يعلم بكيفية وكميّة أعمالكم. وكذلك نيّاتكم ومقدار خلوصكم. ولغرض الحثّ على ضرورة الإنفاق في سبيل الله، ومن خلال تعبير رائع يؤكّد سبحانه ذلك في الآية مورد البحث بقوله: {من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً} فينفق ممّا آتاه الله في سبيل الله {فيضاعفه له وله أجر كريم}.
إنّه تعبير عجيب حقّاً، حيث إنّ الله الواهب لكلّ النعم وجميع ذرّات وجودنا ـ هي من بحر فيضه اللامتناهي. وبالإضافة إلى أنّنا عبيد له يعبّر عنّا بأنّنا أصحاب الأموال، ويدعونا لإقراضه ضمن شروط مغرية، حيث أنّ السائد أنّ الديون العادية تسترجع بنفس مقاديرها، إلاّ أنّه سبحانه ـ بفضل منه ـ يضاعفها لنا بالمئات أحياناً وبالآلاف أحياناً اُخرى.
وإضافة إلى ذلك فإنّه قد وعدنا بأجر كريم أيضاً، وهو جزاء عظيم لا يعلمه إلاّ هو.
__________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج13 ، ص565-570.
2 ـ صحيح البخاري طبقاً لنقل تفسير المراغي تفسير ظلال القرآن في نهاية الآيات مورد البحث.
3 ـ راجع هذا التّفسير، نهاية الآية (172) من سورة الأعراف.
4 ـ للآية محذوف يستفاد من المذكور، وتقديره (لا يستوي من أنفق من قبل الفتح وقاتل والذين أنفقوا بعد الفتح وقاتلوا).
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
المجمع العلمي ينظّم ندوة حوارية حول مفهوم العولمة الرقمية في بابل
|
|
|